تداعي اقتصادَيْ الحرب في سورية
يعيش إقليمنا على وقع أزمتين اقتصاديتين هائلتين، في إيران وفي تركيا، ولكل من الدولتين المأزومتين حضور كبير في المأساة السورية. هذه المعادلة تفرض بدورها تساؤلاً عن ارتدادات انهيار الاقتصادين على حضور كل من طهران وأنقرة في الحدث السوري، ومدى تأثر دورهما في هذه اللحظة السورية التي تشهد تحولات بدأت تظهر ملامحها الميدانية!
ليس في سورية من يمكن أن يستثمر في وهن أصاب نفوذ كل من إيران وتركيا. لا قوى سورية يمكنها أن تطمح إلى ذلك. النظام الذي يتراءى لنا أنه في صدد إعادة التقاط أنفاسه لا يمكنه فعل ذلك، وما يجري اليوم هو إعادة تموضع جناحيه الدوليين حول خريطة نفوذه المستجدة. موسكو تتقدم على حساب طهران. المعادلة نفسها تصح، وعلى نحو أوضح في حالة المعارضة، والمعادلة هنا هي أن موسكو تتقدم على حساب أنقرة.
لكن ثمة لاعباً آخر بدأت الوقائع تكشف عن تقدمه جراء مؤشرات تأزم كل من أنقرة وطهران، وهذا الأخير ستكون حصته محفوظة في جمهورية الأسد الثانية. إنه تل أبيب التي جرى تثبيت الوضع في جنوب سورية وفق رغباتها، وتولت موسكو المهمة بصمت لكن بمثابرة. والآن صار بإمكاننا معرفة سر الدفء الذي يسود العلاقة بين بنيامين نتانياهو وفلاديمير بوتين، ذاك أن المرء وكلما لاحا له في لقاءاتهما الكثيرة، مبتسمين ومطمئنين، شعر أنه أمام لغز ليس بيده ما يساعده على تفسيره.
لكن للمشهد في ظل تداعي اقتصادي الحرب السورية، أي الاقتصاد الإيراني والاقتصاد التركي، بعداً غرائبياً. فواشنطن هي من يتولى نحر الاقتصادين وموسكو هي من يستثمر. ما جرى في جنوب سورية وما يبدو أنه سيجري في شمالها، سيكون جزءاً من خريطة يتولى الضباط الروس رسمها. الشرطة الروسية هي الضمانة في الجنوب لكل من إسرائيل وعمان وضمانة للسكان أيضاً، ويبدو أن ثمة سيناريو موازياً يُعد للمناطق الكردية، تكون فيه موسكو ضامناً لأكراد سورية، وقناة لتصريف توتر أنقرة من طموحاتهم بإقليم وبفيدرالية على حدودها الطويلة مع سورية.
الأرجح أن موسكو تعد العدة لدور في الإدارة المحلية تلعبه «وحدات حماية الشعب» الكردية في شمال سورية، سيكون موازياً وربما فاق قليلاً دور «الشرطة المحلية» في جنوب سورية. وما الزيارة الثانية التي قامت بها قيادة هذه الوحدات إلى دمشق إلا جزء من عملية تحضير لهذا السيناريو.
لكن علينا الآن أن نبدأ رصد الحدث السوري انطلاقاً من الاحتمالات التي تمليها أزمتا طهران وأنقرة وتداعي اقتصادهما. فالانهيار ما زال في مراحله الأولى، ونتائج انخفاض قيمتي التومان الإيراني والليرة التركية لم تصل بعد إلى العمق السوري. قدرة أنقرة على رعاية ثلاثة ملايين لاجئ سوري وتوظيفهم في حضورها في تلك الحرب ستتراجع، وتمويل طهران الميليشيات الشيعية المقاتلة في سورية بدأ ينضب. قد لا يعني هذا تراجعاً لفرص استمرار الحرب، لكنه يعني من دون شك تغيراً في معادلات النفوذ في سورية على المستويين الميداني والسياسي على حدٍ سواء.
كان من الصعب على طهران أن تقبل بهذا الانكفاء «الناعم» عن الحدود مع إسرائيل هي التي شقت الطريق إلى هناك عبر الكثير من الدماء والحروب الأهلية والمذهبية، لولا شعورها بصعوبة خوض حربين في الوقت نفسه، الأولى عسكرية مع تل أبيب في سورية، والثانية اقتصادية مع واشنطن في إيران. والأرجح أن يصيب أنقرة في شمال سورية ما أصاب طهران في جنوبها. على أن موسكو تعرف في الحالين أن هزيمة أنقرة وطهران يجب أن لا تكون نهائية، وأن المنتصر يجب أن لا يكون سورياً.
في جنوب سورية تحول ما تبقى من فصائل معارضة إلى شرطة محلية لا يضير النظام وجودها، ومن المرجح أن يكون هذا مصير الوحدات الكردية في الشمال. أما النظام «المنتصر» فسيكون بدوره شبه «شرطة محلية» تدير مناطق «سورية المفيدة»، مع معدل قسوة تدرك موسكو أنها «ضرورية» لكي يحمي النظام نفسه من محكوميه.