الوصاية السورية على لبنان بين الممكن والمستحيل
يتصرف الموالون للنظام السوري في لبنان بما يوحي أن الوصاية السورية عائدة إلى البلد. تتناغم مع الدعوة جماعات من أركان النظام، في شكل واثق من العودة. ليس خافياً أن محصلة سيطرة النظام على معظم الأراضي السورية، واعتبار نفسه منتصراً على الانتفاضة المسلحة، يضاف إليها ما استطاع مناصروه في لبنان تحقيقه من نجاحات، خصوصاً في الانتخابات النيابية الأخيرة، كلها عوامل تجعل من طموح النظام السوري عودة هيمنة ما على الساحة اللبنانية، أمراً في متناول اليد.
في المقابل، تبدو الهواجس من احتمالات عودة الوصاية وأخطارها هواجس مشروعة، بالنظر إلى ما عاناه اللبنانيون على امتداد ثلاثة عقود منها ومن نتائجها الكارثية على لبنان. أين يكمن الخطر الحقيقي من هذه العودة، وأين يقع في باب المستحيل؟
تشكل العلاقات اللبنانية السورية مدخلاً للبحث في الوصاية وطبيعتها في المحطة الراهنة بين البلدين. لا شك في أن هذه العلاقة تعيش توتراً منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري واتهام النظام السوري بالضلوع فيه، بشكل مباشر ام غير مباشر. ازداد توتر العلاقات مع الانتفاضة السورية ودخول قوى لبنانية في الصراع ضد النظام. يستحيل أن تبقى العلاقات بين البلدين على الحال التي هي عليه راهنا. فقسم من لبنان الرسمي يقيم هذه العلاقة من دون موافقة الحكومة اللبنانية، فيما قسم آخر يرفض التطبيع مع النظام.
إن عودة العلاقة بين البلدين أمر حيوي لما فيه مصلحة مشتركة، لكن شرط عودتها يجب ان يقوم على قاعدة الاستقلالية ومنع السيطرة أو التدخل في شؤون أي بلد تجاه الآخر، ما يعني استحالة الوضع الراهن في المستقبل.
يملك النظام السوري ورقة النازحين السوريين إلى لبنان، وهو موضوع يضغط به على الحكم اللبناني من اجل إعادة العلاقة. حتى الآن، يرفض النظام عودة النازحين إلا من خلال التنسيق الرسمي مع الحكومة اللبنانية، ويضع هذا الشرط في طليعة أهدافه التي يتوخى من خلالها فرض شروط يرى انها ستشكل مفتاح عودة شيء من سلطته على الحكم اللبناني. يستفيد النظام من المطالبات اللبنانية بضرورة التنسيق من اجل التشدد في مطالبه. في المقابل، يدرك النظام أن لبنان يحتاج إلى هذه العلاقة في جانبها الاقتصادي. فسورية تشكل المعبر الوحيد البري للصادرات اللبنانية إلى الدول العربية وبعض الدول الإقليمية. معروف حجم الخسائر الكبير الذي تكبده الاقتصاد اللبناني بعد إقفال المعابر السورية مع لبنان والأردن والعراق. هذه الحاجة اللبنانية تشكل ضغطا فعليا على الحكم اللبناني، يمارسه رجال أعمال لبنانيون لهم مصلحة في إعادة فتح المعابر.
لم يكن التدخل السوري في أي يوم من الأيام تدخلاً خارجياً فقط، بل كانت له ممرات لبنانية داخلية شكلت دوما غطاء لهذا التدخل، أعطته شرعية كاملة. خلافاً لنظرية حروب الآخرين، كان التدخل السوري في الحرب الأهلية يستند إلى قوى داخلية لجأت اليه للحماية ولدعمها في الصراع ضد قوى لبنانية. الأمر نفسه يكاد يتجدد اليوم، فالطموح السوري في العودة يستند إلى قوى سياسية واسعة. أول هذه القوى يتمثل في العهد القائم والتيار السياسي الذي يمثله، حيث يدين العهد إلى النظام في تبوئه رئاسة الجمهورية، وحيث أيضا يمهد رئيس تيار العهد إلى الوصول للرئاسة لاحقا، مما يجعله يقدم أوراق اعتماده منذ اليوم إلى الرئاسة السورية، باعتبار انها ستكون أحد الناخبين المقررين في رئاسة الجمهورية. إضافة إلى هذه القوة المسيحية الأساسية، يملك النظام السوري موقعا مهما لدى سائر القوى الممثلة للطائفة المسيحية. اما في الجانب الشيعي، فإن القوى السياسية الممثلة للطائفة يصب ولاؤها بالكامل إلى جانب النظام، وهي قوى ذات نفوذ مقرر اليوم على الساحة اللبنانية، سواء من خلال نفوذها الشعبي، أو الأهم عبر وجود قوة مسلحة لدى أحد أطرافها، بما يجعل الطائفة مرتكزاً لهذه الهيمنة، وعنصراً حاسماً في ردع قوى الاعتراض بشتى الوسائل. في الطائفة السنية، حيث يرفع بعض قادتها الأساسيين لواء رفض التطبيع، فإن الانتخابات النيابية الأخيرة أفرزت قوى غير قليلة في حجمها النيابي والشعبي، وهي من الداعين إلى العلاقة المتينة مع النظام، بل ان بعضها يغالي في ولائه وانتمائه ودعوته إلى عودة الوصاية. في الجانب الدرزي، يسود الانقسام بين رافض للعلاقة وبين داع لها بقوة، ما يجعل الطائفة في حال من الاضطراب الذي برز في شكل واسع في الأسابيع الماضية بعد المجزرة التي ارتكبها تنظيم «داعش» المتهم فيها النظام السوري.
على رغم كل ما اشير اليه، فان الوصاية السورية في شكلها الذي عرفه لبنان سابقاً تبدو غير ممكنة. فهذه الوصاية استندت إلى الجيش السوري المتواجد في لبنان، الذي استخدم هراوة في قمع كل معارض، والذي اجبر قوى سياسية على الولاء. كما ان هذه الوصاية كانت مشرعة إقليمياً ودولياً، فهي أتت لضرب قوى الاعتراض اللبناني والفلسطيني، واستخدمت في إدارة الحرب الأهلية اللبنانية. هذه الشرعية غير متوفرة الآن، ناهيك بأن البلد لا يعيش حرباً أهلية ساخنة كما كان عليه الأمر سابقاً. من حق اللبنانيين التوجس من عودة الوصاية، فقد شكلت عائقاً في وجه تطور لبنان الديموقراطي، ومانعاً للتسوية الحقيقية بين اللبنانيين، وساهمت في نهب ثروات البلد. فهل يعي اللبنانيون أخطارهذه العودة؟