أنان الذي أطلق أساس الحل السياسي في سوريا
لم يكن كوفي أنان، الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة، الذي توفي مؤخراً، مثل غيره ممن تسلموا المنصب الأول في المنظمة الأممية منذ تأسيسها في العام 1945، رغم السمات العامة التي تجمعه معهم، والحكم في ذلك يستند إلى وقائع وظروف عايشها الرجل في منصبه طوال ثماني سنوات، وفي المهمات التي تابعها لاحقاً، وبينها مهمة المبعوث المشترك للأمم المتحدة ولجامعة الدول العربية في سوريا.
جاء الرجل من داخل البنية الوظيفية للمنظمة الدولية، وقد عمل في العديد من أجهزتها موظفاً ومديراً ومنظماً لسنوات طويلة، مما جعله عارفاً ومحيطاً، لا بعمل الأجهزة وبنيتها، إنما أيضاً بطبيعة وظائفها واحتياجاتها، ولأنه جاء من غانا من قلب القارة السمراء، فقد كان يحمل همومها، التي تمثل القلب في هموم الدول الأقل تطوراً، وسط عالم تؤثر في رسم سياساته ومستقبله قلة من الدول الأكثر نمواً وفاعلية، وكان في الوقت ذاته مدركاً الروابط المشتركة لكل الدول الأعضاء، وضرورة توافقها، دون أن يتجاهل حقيقة أن الأمم المتحدة، لا تعنى بشؤون الدول وعلاقاتها فحسب، وإنما تهتم أيضاً بمصالح الشعوب، وسعيها من أجل مستقبل أفضل، وهو ما يمثل مصلحة مشتركة للجميع.
لقد أدار أنان عمل الأمم المتحدة طوال ثمان سنوات بهذه الخلفية الوظيفية، مستنداً إلى فهم عميق لدور الأمم المتحدة وقدراتها في معالجة القضايا والتوترات الدولية، وفقاً لقاعدة أساسية، يقوم عليها عمل الأمم المتحدة في أنها «قوية حين يعيرها الكبار من قوتهم عبر توافقهم». وأنها «مشلولة حين يتحول مجلس الأمن حلبة لتسديد الحسابات وتحريك سيف الفيتو لقطع أعناق مشاريع القرارات»، ومدركاً «أن لا قدرة للمنظمة الدولية على فرض تطبيق قراراتها إلا بقوة الكبار وأحياناً جيوشهم. وأن الدول الكبرى ليست جمعيات خيرية، وأن بوصلتها تعمل وفق شبكة المصالح لا نصوص المبادئ». وقد عمل الرجل بجهد ودأب من أجل تحقيق أهداف المنظمة الدولية وسط عواصف دولية وإقليمية، أحاطت بعهد أنان في الأمم المتحدة، دون أن تفقده اتجاهه في البحث عن «عالم أكثر إنسانية أو أقل وحشية».
لم يكن تعيين كوفي أنان مبعوثاً للأمم المتحدة وجامعة الدول العربية إلى سوريا في فبراير (شباط) 2012 مستنداً إلى مسيرته العميقة في المنظمة الدولية فحسب، إنما كان يستند إلى ما اكتسبه من خبرات في التعامل مع أزمات سابقة، شهدها عهده في رواندا وسريبرينيتسا والعراق وغيرها، تقارب ما كان يحدث في سوريا، ولعل ذلك في مقدمة أسباب جعلته يقبل دوره الجديد في معالجة القضية السورية، وقد رسمه مع فريقه في ثلاث خطوات عملية، أولها متابعة الواقع الميداني بما فيه من تطورات سياسية وعسكرية، والثاني إجراء لقاءات ومشاورات مع الأطراف السورية، بما فيها لقاءات مع مسؤولي نظام الأسد، وأخرى مع ممثلي الفعاليات الاجتماعية وقادة المعارضة في داخل سوريا وخارجها، إضافة إلى لقاءات مع ممثلي الأطراف الدولية والإقليمية ذات العلاقة والدول المهتمة بالقضية السورية، والثالث وضع خطة لحل سياسي للقضية، تتضمن المشتركات من جهة وتحقق المصالح المتقاطعة لمختلف الأطراف، فأعلن خطته في أبريل (نيسان) 2012، وتضمنت وقف إطلاق النار وإرسال بعثة من مراقبين دوليين لتثبيتها، والسماح بوصول المنظمات الإنسانية واللجنة الدولية للصليب الأحمر، وإطلاق سراح المعتقلين، والبدء في حوار سياسي مفتوح لا
يستثنى منه أي طرف، وهي الخطة، التي وافقت عليها المجموعة الدولية، وأعلنتها بموجب بيان جنيف في يونيو (حزيران) 2012 باعتبارها الطريق لحل القضية السورية.
وسط مسار الأحداث والتطورات السورية، اكتشف أنان وفريقه الأممي مراوغة نظام الأسد، وإصراره على الحل الأمني العسكري ودعم حلفائه الروس والإيرانيين له، مما عطل الإرادة الدولية، التي بدت مرتبكة وغير حاسمة إزاء التطورات السورية، ولا سيما حيال مجازر النظام المتكررة، فشدد مرات على خروقات النظام لخطته، وأعاد النقاش فيها مرات مع ممثلي نظام الأسد، دون الوصول إلى تغييرات عملية وإجرائية في سياسات النظام في الأحداث السورية.
أذكر أني كنت مع زميلين آخرين بين آخر من التقاهم كوفي أنان بدمشق في زيارته الأخيرة، وقتها حضر للموعد متأخراً بعض الوقت، لأنه كان في لقائه الأخير مع الأسد، وجاء محبطاً من نتيجة اللقاء لإصرار الأسد على القمع بما فيه قمع المظاهرات السلمية، لأن من شأن المظاهرات أن تملأ الساحات والشوارع، وتؤدي إلى إسقاط النظام، كما نقل أنان عن الأسد، وبعد تلك الزيارة بقليل في أغسطس (آب) 2012 أعلن أنان اعتزاله من مهمته، نتيجة «استخفاف» نظام الأسد بقرارات الأمم المتحدة، وبسبب «التصعيد العسكري والانقسام في مجلس الأمن»، وأكد أن العملية الانتقالية تعني تنحي بشار الأسد «عاجلاً أم أجلاً».
بعد أنان تقلب على المهمة اثنان من مبعوثي الأمم المتحدة، أولهما الأخضر الإبراهيمي الذي توصل إلى نتيجة مشابهة، فأنهى مهمته، وستيفان دي مستورا الذي تحول إلى مدير لـ«الأزمة»، وجرت تطورات كثيرة بما فيها محاولات المجموعة الدولية الخروج عن خطة أنان وبيان جنيف بعد مؤتمر جنيف 1 وسلسلته، كما جرب الروس وحلفاؤهم بالتزامن مع استمرار الحل الأمني العسكري جهودهم لحل في آستانة وسوتشي دون الوصول إلى نتيجة، الأمر الذي يفسر طلب كثير من الأطراف العودة إلى جنيف من أجل حل للقضية السورية.
لقد دفع السوريون والعالم أيضاً أثماناً باهظة من أجل حل ما في سوريا، لكن دون جدوى. فليس من حل خارج حل سياسي، يأخذ بعين الاعتبار مصالح السوريين أصحاب القضية، وأساسه الخطة التي كان أنان قد وضعها نهاية العام الأول لثورة السوريين.