سلوك النظام الإيراني وألاعيبه
انتقل النظام الإيراني من توجيه التهديد إلى الولايات المتحدة و«لا تلعبوا بذنب الأسد»، الذي ردّ عليه دونالد ترمب بتهديد أقوى، إلى توجيه التهديد إلى أوروبا، عندما استغلّ محمد جواد ظريف، قبل أيام، الذكرى الـ65 لسقوط حكومة محمد مصدق لتخويف الإيرانيين، بالقول إن أميركا تريد أن تُخضِعكم، كما حصل في 19 أغسطس (آب) 1953، بإسقاط حكومة مصدق، ولترهيب الأوروبيين من عدم دفعهم ثمن أمنهم أمام الولايات المتحدة!
ولكن ما علاقة أمن أوروبا ودفع ثمن هذا الأمن بالعقوبات الأميركية على إيران؟
يرد ظريف بالقول، ويا للسخرية: «لأن الأوروبيين يقولون إن الاتفاق النووي إنجاز أمني مهم بالنسبة إليهم. وبطبيعة الحال، على كل بلد الاستثمار ودفع ثمن أمنه، ونحن نعتقد أن أوروبا ما زالت غير مستعدة لدفع هذا الثمن، ويجب أن نراها تدفعه خلال الشهور المقبلة»!
غريب، لاحظ كلمات «إنجاز أمني»، ودفع «ثمن هذا الإنجاز»، وتعال لنتذكر، كما يتذكّر الأوروبيون والعالم، كل ما سبق أن أعلنته إيران - وتعلنه - من أن برنامجها النووي هو للأغراض السلمية، فمن أين إذن يأتي موضوع ثمن أمن أوروبا، والفواتير التي يجب أن تدفعها للأميركيين أو لغيرهم، لتأمَن التهديد النووي الإيراني، ثم من قال إنها لو دفعت فعلاً هذا الثمن، سيلتزم النظام الإيراني الذي يتحدث بهذا الأسلوب الواضح من التحدي حدوده، ويتوقف عن العربدة في الداخل والخارج؟
الغريب أن ظريف يتناسى ما كان قد أعلنه في 23 يونيو (حزيران) الماضي، من أن الدول الأوروبية لا تستطيع فعل الكثير من أجل إنقاذ الاتفاق النووي، رغم كل الوعود التي تقدمها بمواصلة العلاقات التجارية مع طهران، من خلال الشركات المتوسطة والصغيرة، وأن الولايات المتحدة أحكمت قبضتها على الشريان الاقتصادي لإيران.
لكن كل ذلك التهويل والتصعيد لا يخفي استمرار المؤشرات على مدى الضيق الإيراني المتصاعد من العقوبات المستجدة، ولا يموّه الرغبة في العودة إلى سياق الدبلوماسية السرية، التي سبق أن جرت في عُمان بين عامي (2013 - 2015)، في عهد إدارة باراك أوباما، وانتهت كما هو معروف بالاتفاق النووي، الذي انسحب منه دونالد ترمب معتبراً أنه كارثة، وأعاد فرض مروحة متدرّجة من العقوبات على إيران، التي تعاني أصلاً من اقتصاد متهالك يثير اضطرابات داخلية متصاعدة!
الجواب الأميركي على مؤشرات ورسائل هذه الرغبة الإيرانية في العودة إلى الحوار لم يتأخر. فمنذ اللحظة الأولى، وقبل الانسحاب من الاتفاق والعودة إلى العقوبات، قال الرئيس الأميركي إن المطلوب من إيران هو تغيير سياستها في الداخل والخارج، خصوصاً تدخلاتها التخريبية في المنطقة!
نهاية الأسبوع الماضي، أعلن وزير الخارجية الأميركية مايك بومبيو تشكيل «مجموعة العمل الإيرانية»، برئاسة براين هوك، وقد كلفت تنسيق سياسة واشنطن إزاء طهران لتشديد العقوبات التي يفترض، وفق إعلانات واشنطن، أن تصل في الرابع من نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل إلى وقف استيراد النفط الإيراني حتى الصفر. وقال بومبيو إن النظام الإيراني مسؤول منذ 40 عاماً عن سيل من العنف وسلوك مزعزع للاستقرار ضد الولايات المتحدة وحلفائها وشركائها، وأيضاً ضد الشعب الإيراني، وإن هذا الشعب - كما العالم - يطالبان بأن تتصرف إيران كبلدٍ طبيعي، وإن واشنطن تأمل التوصل قريباً إلى اتفاق جديد معها «لكن علينا أن نرى أولاً تغييرات أساسية في سلوك النظام، داخل حدوده وخارجها»!
يوم الأربعاء الماضي، تكررت التطمينات الأميركية، عندما قال مستشار الأمن القومي جون بولتون، من إسرائيل، بالحرف: «لنكن واضحين، إن السياسة الأميركية لا تقضي بتغيير النظام، بل ما نريده هو تغيير جذري في سلوكه». وأعاد بولتون التأكيد أن الولايات المتحدة على استعداد للتوصل إلى اتفاق مع النظام، محذراً من أن عدم الامتثال للمطالب الأميركية سيجعلها تمارس ضغوطاً قصوى على إيران، لتفهم بوضوح أنها لن تحصل يوماً على أسلحة نووية قابلة للاستخدام!
«لنكن واضحين، لا نريد تغيير النظام الإيراني»، هذه الكلمات التي جاءت بعدما كان ترمب قد فاجأ العالم في 29 يوليو (تموز) الماضي بإعلانه أنه مستعد للقاء القادة الإيرانيين من دون شروط مسبقة، وفي أي وقت يريدون، بدت للمراقبين بمثابة رسالة دعم للدبلوماسية السرية العمانية، التي يبدو أنها عادت إلى التحرك، في محاولة لإحياء «قناة مسقط» للتفاوض بين واشنطن وطهران، ولكن في ظل دفتر شروط جديد وضعه ترمب، يهدف إلى إحداث تغيير جذري ملموس في سلوكيات النظام الإيراني، في الداخل والخارج!
ولكن هل يمكن للنظام الإيراني، الذي قام على العربدة الإقليمية منذ أربعين عاماً، والذي لا يتوانى عن الإعلان والمفاخرة بأنه يسيطر على أربع عواصم عربية، ويقول إنه قوة محورية مسيطرة في المنطقة، أن يغيّر سلوكه الداخلي والخارجي، وأن يهتم بأموره الداخلية فحسب، وهل هناك من يصدّق أن هذا النظام يمكن أن يبقى إذا غيّر من سلوكه في الداخل والخارج؟!
من المؤكد أنه لن يتمكن من البقاء طويلاً، في ظلّ أوضاعه الداخلية المأزومة اقتصادياً، وعلى صعيد الحريات، وبعد علاقاته المتوترة مع دول الإقليم وتدخلاته، وفي ضوء اتهامه من قبل واشنطن بدعم عمليات الإرهاب الدولي.
بالعودة إلى التحرّك العماني في إطار من الدبلوماسية السرية، كان لافتاً أن إعلان ترمب استعداده للقاء القادة الإيرانيين في 29 يوليو جاء بعد يومين فقط من اللقاء المفاجئ بين وزير الخارجية العُماني يوسف بن علوي ووزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس في واشنطن، ومن اللافت جداً أن زيارة بن علوي إلى أميركا جاءت مباشرة بعد زيارة قام بها نده محمد جواد ظريف إلى مسقط، ثم كان لافتاً أيضاً أن وكالة «تابناك»، التابعة لسكرتير تشخيص مصلحة النظام محسن رضائي، نشرت خبراً عن أن بن علوي سيصل إلى طهران، في حين سارعت أوساط دبلوماسية في واشنطن إلى ربط تحرّك بن علوي بمساعٍ للتهدئة، وإعادة فتح القناة السرية للتواصل بين واشنطن وطهران، التي نفت أنها تنتظر زيارة بن علوي، في حين قال بهرام قاسمي: «نحن على اتصال دائم مع عمان»!
عندما يعلن علي خامنئي أن لا حرب ولا تفاوض مع الولايات المتحدة، فإنه يحاذر حتى الآن استجابة الشروط الأميركية الخانقة للعودة إلى الاتفاق؛ أي وقف سياسة التضييق داخلياً، ووقف النشاط الصاروخي الباليستي، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الإقليمية، والانسحاب من سوريا، ووقف دعم النشاطات الإرهابية على المستوى الدولي، لأن تخلّي النظام الإيراني عن هذه السياسات يعني بالتالي انهيار آيديولوجيا النظام، ثم النظام عينه!
لكن هذا لم يمنع طهران، المحاصرة بالعقوبات، من محاولة إرسال مؤشرات معينة. فبعد ساعات من إعلان ترمب استعداده لمفاوضتها، رفع المجلس الأعلى للأمن القومي الإقامة الجبرية عن مسؤولي المعارضة مير حسن موسوي ومهدي كروبي، وكذلك قال رئيس لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في البرلمان الإيراني حشمت الله فلاحت بيشه إن مفاوضة أميركا ليست من المحرمات، وإنه يجب إنشاء خط أحمر ساخن بين البلدين، لكن الأهم يبقى في السؤال: هل يقدر النظام الإيراني إن غيّر سلوكه أن يبقى؟