لماذا يصر الأسد على استخدام الكيماوي؟
منذ أسابيع ولا يزال مستقبل شمال غرب سورية المحرر شاغل الساسة والعسكريين بين مشارك في خرابها ومؤيد له وصامت عنه وعلى الرغم من اختباء هذه المدينة الوادعة في شمال غرب البلاد غير أنها في عين العاصفة وفي مركز الحدث وكأنها عاصمة كبيرة من عواصم الدول العظمى في الحروب العالمية ولا يكاد يخلو تحليل عسكري أو سياسي عميق حول مستقبل المنطقة إلا وصفرة الكيماوي تعلو وجوه المحللين وخطره لا يفارق أذهان الآمنين فيها فالمجرم من شأنه أن لا يفرق بين أداة رحيمة أو أداة قاسية للإجرام ومن تجرأ على القتل فقد القدرة على التمييز بين أنواعه ومن جرب البراميل الغبية والقصف العشوائي وقطع الرقاب بالسكاكين لن يتردد لحظة عن استخدام ما أتيح له من وسائل للوصول لمآربه.
وعلى الرغم من الفزع الذي يجعل حروفي ترتعد وهي تنتظم في جمل للحديث عن كيماوي الأسد إلا أن ذاكرتي المختنقة بأحداث الاعتداءات السابقة والتي بلغ عددها نحو 125 حسب المنظمة السورية لحقوق الإنسان والتي استخدم فيها بشار الكيماوي غاز الخردل والسارين والكولرين والفوسفور وغاز الأعصاب وكأنه عابث مجنون يجرب في مطبخه ما وصلت إليه يديه الملطختان بالدم ولم تردعه من قبل خمس قرارات صدرت عن الأمم المتحدة تتعلق باستخدام الكيماوي كان أولها القرار رقم 2018 في أيلول عام 2013 الذي أعقبه ما يقارب 182 هجوم شنيع بلا تردد.
وقد أثبت في العديد من المرات بشكل رسمي استخدامه لهذه الأسلحة المحرمة والمجرمة بناء على تقارير لجان التحقيق المشتركة المنبثقة عن القرار الأممي 2235 التي فشلت في مهمتها رسمياً وتم حلها كما فشل المجتمع الدولي في وضع حد لتمادي النظام في استخدام هذا السلاح وحسب ما أوردته صحيفة الغارديان في مقال مخصص لها عن استخدام نظام الأسد للأسلحة الكيماوية فإن عدم توانيه عن استخدامها يعود لسببين: أولاهما يقينه من نجاته من أي ملاحقة دولية إثر كل هجوم والثاني هو امتلاكه لها ورغبته بذلك.
ولا يخفى على سوري أن النظام لا يزال يمتلك قسم كبير من هذه الترسانة التي يطورها منذ 40 عام وقد أكد ذلك أحد قادة الحرس الجمهوري الذي تعمد أن يسرب أنباء تقول أن النظام لا يزال يحتفظ بالمخزون الأكبر منها في خمس مواقع رئيسية في سورية ويضاف على كلامه تصريح للعميد أحمد بري رئيس أركان الجيش الحر أن النظام لا يزال يصنع هذه الأسلحة والمواد السامة وعلى الرغم من أنه يجد استخدامها أمراً متاحاً وخاصة بعد الإعلان الأخير عن دراسة الولايات المتحدة خيارات الانسحاب من شرق سورية وعدم قدرتها على فرض خطوط حمراء في سورية حسب صحيفة الواشنطن بوست إلا أن السؤال الذي لا يزال يتكرر في أذهان السوريين إلى اليوم لماذا يصر الأسد على استخدام هذه الأسلحة المحرمة والمحرجة مع العلم أن كل التصريحات الغربية تتوعده في حال استخدمها تاركة لها نوافذ استخدام أسلحة لا تقل وحشية ودموية خلفت مئات آلاف الضحايا ولعل الإجابة على هذا السؤال تدعونا للتفكير في الاحتمالين التاليين:
1- كلفة المعارك الباهظة عسكرياً واقتصادياً:
يعتمد النظام بشكل كلي في معاركه الأخيرة على ميلشيات مستأجرة سياسياً أو طائفياً أو مالياً والتي يبلغ تعدادها ما يقارب 200 ألف بالمقابل فإن أعداد عناصر الجيش السوري لم تعد تتجاوز 25 ألفاً حسب تقرير معهد الشرق الأسط في واشنطن أي ما يعادل جهاز شرطة لمدينة واحدة في سورية لا أكثرو بالتالي فإن هذا النزيف الحاد في تعداد القوات النظامية لا يسمح له بخوض معارك استنزاف إضافية تؤدي إلى فقدان المزيد من العناصر أو تتطلب مزيداً من التنازلات والمقايضات مع الميلشيات الداعمة له وبالتالي فإن سلاح الكيماوي يعتبر وسيلة سهلة تقصم ظهر المعارضة وتنهي المعارك وترضخ المعارضة وتجبرها على الاستلام حفظاً للأرواح تحت ضغط أخلاقي وشعبي ويعتبر الأسد هذه الاستراتيجية ناجحة من خلال العديد من التجارب التي خاضها مع شعبه والتي كان آخرها هجوم الكيماوي في الغوطة الشرقية عام 2018 والتي أنهت محاولة المقاومة الأخيرة من قبل المعارضة.
بنفس الوقت فإن النظام المجرم دولياً فاقد الشرعية المعاقب اقتصادياً وعسكرياً المقاطع عربياً يعتبر أن الكلفة الدبلوماسية والسياسية جراء استخدامه الكيماوي أهون وأخف من الكلفة العسكرية للمعارك فهذا السلاح بالنسبة له ضامن للحسم العسكري بينما العمليات البرية تعتبر ذات تكلفة اقتصادية وعسكرية كبيرة جداً لم يعد يملك الموارد الكافية لتأمينها في حين أن النظام يعلم تماماً من خلال موافقة روسيا على كل الهجمات الكيماوية التي ينفذها بأن الأخيرة ستؤمن له الحصانة الحقيقية من أي رد فعل غربي على مغامراته الإجرامية وأن ردود الفعل لن تضعه في ضغوط أسوء مما هو عليه الآن أي بمعنى آخر لم يعد للنظام ما يخسره سياسياً واقتصادياً وهو محصن عسكرياً من قبل روسيا.
2- الأثر النفسي:
لم تتوقف أجهزة الاستخبارات السورية والمستشارون الأجانب للحظة عن صناعة بروباغاندا تؤثر بشكل إيجابي على داعميه وتحبط معارضيه لتدفعهم إلى العودة إلى حضن المخابرات والانتقام ولعل لمثل هذه الانتصارات السريعة عبر استخدام الكيماوي أثراً كبيرا في نفوس داعميه حيث يظهر نفسه إثر كل حملة عسكرية على بلدة أمنة يسمم أطفالها بمظهر القوي المنتصر القادر على الحسم بسرعة وكأن جيوشاً جرارة تقاتل إلى صالحه وفي الواقع فإن جيوشه الجرارة ليست أكثر من غازات سامة ومواد كيميائية قاتلة ولكن الماكينة الإعلامية الرسمية المنحرفة عن أخلاقياتها الإعلامية لا تركز في أي من دعايتها على أخلاقيات الحرب من تدمير للبنى التحتية والجرائم ضد الإنسانية المرتكبة بحق المدنيين باستخدام هذه الأسلحة المحرمة دولياً.
بالإضافة إلى ذلك فإن النظام يريد أن يمرر رسالة إلى داعميه والحاضنة الشعبية للثورة بأنه نظام لا يزال يحظى بحصانة دولية وأن الضغوط الممارسة عليه هي ضغوط ظاهرية هدفها إرضاء بعض الدولة العربية أو غرضها ابتزاز إيران وهو يتكأ في ذلك على عجز أو عدم رغبة المجتمع الدولي عن محاسبته قانونياً وجر كل المجرمين المتورطين إلى محكمة الجنايات الدولية أو التدخل تحت البند السابع لميثاق الأمم المتحددة وبالتالي فإن يريد أن يكسر أمل ملايين السوريين بالتغيير ويشكك في الدعم الدولي لقضية الثورة السورية العادلة.
أخيراً فإن أكبر صدمة شعبية سورية كانت ليست في تجاوز المجتمع الدولي صمته تجاه استخدام النظام أسلحته المحرمة دولياً وتركته مدججاً بالمزيد من هذه القدرات بل كانت في السماح له بتولي رئاسة مؤتمر نزع السلاح الكيمائي في سوسرا وكأن المجتمع الدولي جعل النظام السوري الخصم والحكم ويصدق في هذا يأس المتنبي من عدالة تأتي من ظالميه حيث قال: يا أعدل الناس إلا في معاملتي فيك الخصام وأنت الخصم والحكم.