ما زالت الخطوات التي ستُتخذ عقب قمّة طهران تحافظ على أهميتها وجديّتها، وكما رأينا عبر البث المباشر لاجتماع القمّة أجرى الرئيس التركي أردوغان المفاوضات مع نظرائه بوتين وروحاني حول مسألة إدلب في ظل ارتفاع التوتر خلال الاجتماع، وقد لفت نداء أردوغان لوقف إطلاق النار في المنطقة انتباه الرأي العام الدولي على الرغم من أن روسيا وإيران لم توافق على ذلك، وكذلك دعا أردوغان خلال مقالة نشرها في صحيفة "وول ستريت جورنال" العالم بأكمله لإيقاف نظام الأسد، وطالب بالوقوف في وجه هدر الدماء في مدينة إدلب السورية.
أفاد الرئيس التركي أردوغان بأطروحة تنص على البدء بعملية عسكرية دولية لمكافحة الإرهاب، ولم تلفت هذه النصيحة اهتمام موسكو، لكنها لقيت دعماً ملموساً من قبل دول الغرب وخصوصاً بريطانيا، وكذلك تم تداول مسألة نجاح/فشل مرحلة أستانة ومستقبل إدلب خلال الاجتماعين الأخيرين لمجلس الأمم المتحدة، ومن جهة أخرى تستمر أمريكا وفرنسا وألمانيا في التصريح بأنها ستتدخّل في الساحة السورية في حال استخدام نظام الأسد للأسلحة الكيميائية، وإلى جانب ذلك صرّح وزير الخارجية الفرنسي "جان إيف لو دريان" بضرورة اعتبار القصف المُنفّذ على إدلب جريمة حرب.
تبعاً للتطورات المذكورة اتّجهت الأنظار نحو ما يمكن لتركيا فعله في إدلب، مع أخذ قدرتها على التعاون مع روسيا وإيران من جهة ومع الاتفاق الغربي من جهة أخرى في آن واحد بعين الاعتبار، ويتم تقييم محاولات تركيا بأنها الفرصة الأخيرة في الصدد ذاته، إذ تحاول أنقرة لفت انتباه الرأي العام الدولي نحو مسألة إدلب، وتسعى لإعادة تحويل مسألة إيجاد حل سياسي فيما يخص مستقبل سوريا لمحور رئيس ضمن أجندة عواصم دول الغرب، إضافةً إلى أنها تجري المفاوضات مع موسكو من أجل إيجاد حل وسط في إدلب.
ازداد تركيز الإعلام العالمي حول ثلاثة مسائل عقب قمّة طهران في خصوص مستقبل إدلب:
1- تزعزع العلاقات الروسية-التركية بسبب الاختلافات القائمة بين أنقرة وموسكو في إدلب وبالتالي دخول فترة أستانة في مرحلة الانهيار.
2- ابتعاد تركيا عن روسيا في الساحة السورية وتقاربها مع أمريكا خلال الفترات الأخيرة.
3- طريقة الصراع ضد هيئة تحرير الشام والمجموعات الراديكالية الأخرى.
من الواضح أن أي عملية عسكرية ستستهدف المعارضة السورية بأكملها وستؤدي إلى ملحمة إنسانية جديدة في إدلب ستتسبب بضرر كبير لفترة أستانة، ولكن من المعلوم أيضاً أن روسيا ستبقى بحاجة لتركيا من أجل تحديد مستقبل سوريا بُعيد انتهاء مسالة إدلب، لأن 26% من الساحة السورية تخضع لسيطرة وحدات الحماية الشعبية المدعومة من قبل أمريكا، والأهم من ذلك هو أن مصادر النفط والمياه توجد في المناطق التي تقع تحت سيطرة وحدات الحماية الشعبية أيضاً، وخصوصاً أن اختلاف الدولتين الروسية-التركية بسبب مسألة إدلب بعد أن حقّقت نجاحاً ملموساً من خلال التعاون في مجالات واسعة كالصناعة والطاقة وغيرها، لا يتناسب مصالح الطرفين على المدى الطويل، أنقرة ترى عدم وجود احتمال تحقيق سلام دائم في سوريا من دون التعاون مع مجموعات المعارضة المعتدلة بكل وضوح، وكذلك لا يمكّن توقع اكتفاء تركيا بالجلوس والمشاهدة من بعيد نظراً إلى وجود 12 نقطة عسكرية تركية في إدلب، وبناء على الأسباب الأخيرة يتوجّب على أنقرة وموسكو التعاون من أجل إيجاد حل لتحقيق التوازن في طهران ونظام الأسد بدلاً من الدخول في فترات توتر جديدة.
إن استجابة واشنطن والدول الأوروبية للملحة الإنسانية الواقعة في سوريا ودعمها لتركيا في هذا الصدد يُعتبر تطوراً إيجابياً، ولكن يجب ألا يقتصر هذا الدعم على مستوى الكلام فقط، بل يجب إحياء الفعاليات الدبلوماسية من أجل إحياء المرحلة السياسية، وكذلك يتوجّب على واشنطن ودول أوروبا التعاون مع أنقرة بشكل أكثر نشاطاً من السابق من أجل البحث في الحلول المتوقّعة.
إن غض النظر عن إبادة نظام الأسد لمجموعات المعارضة المعتدلة سيؤدي لنهاية مرحلة الانتقال السياسي، وربما تعود المجموعات الراديكالية بتنظيم وأسلوب جديد بعد أن يظن العالم أنه تخلّص من هذه المجموعات بشكل نهائي كما حصل في نماذج العراق وأفغانستان، وهذه الاحتمالات تهدد أمان دول أوروبا بما فيهم تركيا أيضاً.
سيستمر التوتر بين واشنطن وأنقرة في حال لم تعيد أمريكا النظر في سياستها التي تدور حول وحدات الحماية الشعبية في سوريا، وبالتالي لا يمكن للتقاربات الدورية بين تركيا وأمريكا أن تولّد حلاً للحد من فعاليات روسيا وإيران في المنطقة، وخصوصاً أن مشكلة المجموعات الراديكالية مثل هيئة تحرير الشام لا تهدّد تركيا فقط، ومن جهة أخرى روسيا تحمّل أنقرة مسؤولية التخلّص من تنظيم هيئة تحرير الشام في إدلب، ولذلك نرجو أن توافق روسيا على دعوة تركيا لإخراج عناصر هيئة تحرير الشام من المنطقة بدلاً من تنفيذ عملية عسكرية للتخلّص منهم، ولكن إن محاولات مكافحة الراديكالية مليئة بنماذج فاشلة، ولذلك تركيا بحاجة إلى المزيد من الوقت بموافقة من روسيا أيضاً، إضافةً إلى دعم الدول الغربية لها في الصدد ذاته.
لا شك أنكم قرأتم بيان حزب الشعب الجمهوري عقب تنفيذ جهاز الاستخبارات التركي عملية نوعية في اللاذقية، تمكن عبرها من جلب عنصر المخابرات السورية زعيم الشبكة التي نفذت تفجير مدينة ريحانلي، جنوب تركيا.
يقول الحزب في بيانه: "لو أن تركيا تباحثت مع الأسد لما وقع تفجير ريحانلي، ولما اضطر جهاز الاستخبارات التركي لتنفيذ هذه العملية".
ما هذا المنطق، وما هذه المعارضة؟ على الرغم من انكشاف وقوف مخابرات الأسد وراء مجزرة تفجير ريحانلي، هل من السياسة أو المعارضة اعتبار مسألة التباحث مع الأسد "طريقًا للحل"، أو جعل هذه المسألة هاجسًا؟
ما معنى أن يطلب حزب الشعب الجمهوري إجراء مباحثات مع الأسد الملطخة يداه بالدماء والمسؤول عن مجازر بحق الآلاف في سوريا، في حين أن الحزب يرفض لقاء رئيس الدولة التركية المنتخب؟
وعلاوة على ذلك، يعتبر النظام السوري ولاية هطاي ضمن أراضيه على خريطته السياسية، فما سبب شغف حزب الشعب الجمهوري بالبعث والأسد؟
لندع هذه التناقضات جانبًا للحظة، ماذا سنبحث مع النظام السوري، وأي مشكلة سنحلها معه؟
معضلة حزب الشعب الجمهوري
المسألة الأولى، ما الذي يمكن بحثه مع نظام أخمد مطالب ديمقراطية محدودة للشعب في سوريا، وأرسل ملايين المدنيين السوريين إما إلى الموت أو إلى الهجرة؟
بينما يدين هذا النظام ببقائه في الحكم إلى روسيا ويعتمد عليها مباشرة، من العبث على صعيد السياسية الدولية "اقتراح التباحث مع الأسد".
المسألة الثانية، تتعلق مباشرة بالعلاقة ما بين حاضر ومستقبل سوريا. هذا البلد مقسم اليوم إلى جزءين، أحدهما يقع تحت سيطرة الولايات المتحدة عن طريق حزب الاتحاد الديمقراطي، ذراع "بي كي كي" في سوريا.
موقف الولايات المتحدة من إدلب متعلق مباشرة بشرق الفرات، وفي الحقيقة لا تعتبر واشنطن دخول النظام إدلب مشكلة، وما تقوم به هو المساومة على قبول الأطراف الأخرى سيطرتها على جزء من البلد باستخدام مرتزقتها في حزب الاتحاد الديمقراطي.
من يدافع عن منع انتقال الحالة التي تعيشها سوريا اليوم إلى الغد، أي عن عدم تقسيم هذا البلد؟
تركيا هي من تدافع بصراحة عن الوحدة السياسية لسوريا، وعن حكومة مشروعة تمثل الشرائح المختلفة للشعب، وعن سلام ينبذ العناصر الإرهابية. تتبع تركيا بإصرار هذه السياسة في إطار اتفاق مع روسيا وإيران.
في الحقيقة إجراء لقاءات مع الأسد، الذي ارتكب مجزرة في تركيا، لن تنفع إلا في تمهيد الطريق أمام الأعمال الإرهابية للمخابرات السورية الساعية إلى زعزعة الاستقرار في تركيا.
كما ان هذا المقترح سينقص من اعتبار تركيا على الصعيد الدولي وسيكون له تبعات من قبيل إضعاف موقفها في مواجهة العالم الغربي من خلال جعلها في موضع من بجلس إلى طاولة المباحثات مع ديكتاتور ارتكب مجازر بحق شعبه.
تتمتّع سورية اليوم بميزة استثنائية وفريدة، وتكاد تكون غير قابلة أن تتكرّر في أماكن أخرى، فالدولة "ذات السيادة" التي تدافع عنها روسيا في المحافل الدولية هي الدولة نفسها التي تجتاح جيوش لدول من كل أصقاع الدنيا أراضيها، وترفرف فوقها أعلام هذه الدول، وتتم صياغة نحو عشرات الدساتير لها، تحت مسميات ورشات العمل تارة، وبحوث درسيّة، وحوارات "طائفية" وقومية، أي متعدّدة الطوائف والقوميات، ومسوّدات دستورية، وأوراق أو "لا أوراق" دولية، ولتطلّ علينا أيضاً تسريباتٌ دستورية، وأخيراً لجنة دستورية تقرّ أسماءها دول احتلال وهيمنة وصراع على سورية. ويعرف المتابع للشأن السوري أن عدد الاجتماعات التي جرت لوضع دستور لسورية خارج سورية يفوق عدد الجلسات الأممية التي ناقشت المأساة السورية بعشرات المرّات، وربما بأضعاف ذلك، وكان ضحيتها نحو مليون شهيد سوري، وأكثر من نصف السكان شرّدوا نازحين ولاجئين.
وفي خطوةٍ يمكن قراءتها بأن الولايات المتحدة الأميركية، بعد نأي طويل، تعيد جدولة الأعمال على الساحة السورية في المرحلة المقبلة، من خلال ورقتها المسرّبة عبر الإعلام، (لا تزال غير موثوقة بالنسبة لي، لأنها مجرّد سرد تفاصيل مضمون اللاورقة)، والتي تأتي ضمن صياغةٍ ضعيفة، ومتكئةً على شروطٍ هي أقرب ما تكون إلى تأسيس منظمات مدنيةٍ منها إلى تأسيس حل للصراع في سورية، والذي لم يعد محلياً، أو حتى يمكن حصره في إطار العمل الداخلي لحكومة النظام القائمة، أو المزمع تشكيلها، فحيث تبنّت الوثيقة توصيف الحكومة التي تسعى إليها الدول المشاركة فيها أنها ليست راعيةً للإرهاب، وخالية من أسلحة الدمار الشامل، وتقطع علاقاتها مع إيران، ولا تهدّد جيرانها، وتخلق شروط عودة للاجئين، وتلاحق مجرمي الحرب وتعاقبهم، فهي لم تأت، في الوقت نفسه، على آليات الوصول إلى تلك الحكومة، في ظل حربٍ لا يزال النظام السوري وداعماه (إيران وروسيا) يقرعون طبولها في إدلب، ويهدّدون سلامة نحو أربعة ملايين مدني، ومئات آلاف المعتقلين مغيّبون في سجون النظام. وفي الجانب الآخر، لا تزال المعارضة تمثل كياناتها المصنّعة دولياً، وتزاول أدوارها الوظيفية، وفقاً لأجندة مشغّليها.
فحيث عكست الوثيقة، حسب الترجمة المسرّبة، ما يمكن تسميتها عناوين حوارية بين الأطراف، تمثّل الرؤية النهائية لما تريد هذه الدول تضمينه داخل العمل الأممي للجنة الدستورية، فإنها، في الوقت نفسه، لم تخرج عمّا كانت قد أصدرته في 24 يناير/ كانون الثاني من هذا العام تحت مسمى "اللاورقة" (نشرت في "العربي الجديد" في 27/1/2018)، وهدفت من خلالها آنذاك مع مجموعة العمل المصغّرة إلى تعطيل (وتنفيس) ما سمّي الحوار السوري في سوتشي، والذي دعت إليه موسكو، وعقد في 30 يناير/ كانون الثاني الماضي. وتقديم أوراق تفاوضية جديدة للمعارضة السورية، تنتج من خلالها مساراً تفاوضيا متواصلاً، ينهي مسلسل الجولات التي وصلت إلى تسع، إذا اعتبرنا ما جرى في فيينا واحدةً منها، أي أننا أمام صياغة متدنيّة عما كانت عليه في اللاورقة، وتحديداً في بند الإصلاح الدستوري، فحيث كانت اللاورقة تضع بنوداً واضحةً لعملية الإصلاح الدستوري (من الصلاحيات الرئاسية إلى البرلمان والقضاء ولامركزية الحكم والحقوق والحريات الأساسية، وإصلاح قطاع الأمن والانتخابات)، جاءت الوثيقة المسرّبة لتعيد البنود نفسها مسبوقةً ب"يجب وينبغي"، ما يضعنا أمام تساؤلاتٍ بشأن من تقع عليه هذه الأفعال الموجبة، وعن سبب تسريبها بدلاً من إعلانها، كما حدث في اجتماع يناير في باريس للمجموعة نفسها (الولايات المتحدة، فرنسا، لندن، السعودية، الأردن، مصر)، وانضمت لاحقاً ألمانيا، كما أعلنت روسيا في 14 سبتمبر/ أيلول عن استعدادها للبحث عن سبلٍ للتفاهم والتعاون معها، بعد أن كانت تقف على الجهة المعادية، كما سعت إلى ذلك تركيا، على الرغم من أن الأخيرتين كانتا وراء تجاهل المبعوث الأممي، ستيفان دي ميستورا، اللاورقة، وتغاضي هيئة التفاوض، حتى عن مناقشتها، على الرغم من أنها بشّرت بما يمكن تسميتها الجمهورية السورية الثالثة! ما يضعنا أمام سؤالٍ لماذا يتم تسريب الوثيقة عبر المعارضة التي رفضتها قبل نحو ثمانية أشهر، لتعيدها اليوم إلى الأضواء، وكأنها الحل السحري لمعضلة الدستور السوري، وكان يمكن لها أن تكون كذلك، لإجهاض مسار سوتشي على الأقل؟!
صحيحٌ أن التغيير الدستوري هو أحد أعمدة تغيير النظام الحالي، ومقدّمة مهمة للمرحلة ما بعد الانتقالية، إلا أنه قانونياً يتطلب أن يكون بأيدٍ سورية، وليس بأدواتٍ سورية مرتهنة، ويعتمد على مبدأ حق السوريين بتقرير مستقبلهم، وليس حق الدول المتصارعة بخطف ذلك المستقبل، ومصادرته بما يخدم طموحاتها المستقبلية، ويقوّض حق السوريين في اختيار نوع الحكم وآليته، ومن يحق له ذلك، أو يمنع عنه دستورياً. وفي الوقت نفسه، هذا لا يتناقض، مع حالة الحرب القائمة، من ضرورة وضع أسس للمبادئ الدستورية التي من شأنها أن تكون عامل جمع شتات سورية دولةً، والسوريين شعبا، لبدء المرحلة التأسيسية للدولة السورية الجديدة، بنية وشكلاً.
وضمن ذلك الجهد، يمكن أن نفهم مسؤولية اللجنة الدستورية (في شقّها المعارض) في الحفاظ على الخط الفاصل بين "صياغة المبادئ الأساسية"، ومنها ما جاء في "اللاورقة" كأفضل أنواع التدخل لمصلحة الشعب السوري، بعيداً عن الحروب الدائرة على حساب السوريين، وفي غير مصلحتهم، ولعقد التفاهمات البيْنية السورية - السورية، وبين "صناعة الدستور"، فالأولى مهمة معارضاتية، تأتي خطوةً ضرورية لصياغة محدّدات تحكم المرحلة الانتقالية، والثانية اعتداء سافر على حق السوريين الذي تكفله القوانين الدولية، وخصوصا في ظل لجنة دستورية على مقاس المحاصصات البيْنية بين معارضات، ونظام، وعلى أسسٍ غير معيارية أو تخصّصية، وبأسماء تمثل الدول التي تبنتّها لتكون ممثلتها في اللجنة، ما ينتج دستوراً لعلاقاتٍ دوليةٍ، تتقاطع على احتلال سورية، دولة وشعباً ودستوراً، أي ينتج دائرة تبريرات لنظام حكم جديد مرة أخرى "محكوم" من أطراف دولية بلباس سوري، ولكن غير "سورية".
وفي المحصلة، قد تكون عشرات الوثائق التي أعدّت في مراكز أبحاث، وورش عمل واجتماعات، كلها تمثل التوجه الصحيح في فصل السلطات، وتقليص صلاحيات الرئيس، واعتماد النظام البرلماني، وحكم المناطق أو الأقاليم وتمثيلها السياسي العادل، (في لعبة لغوية هدفها الهروب من مصطلح الفيدرالية)، وإصلاح أجهزة أمن الدولة وضمان الرقابة المدنيّة عليها، إلا أن في اللاورقة، وفي الوثيقة المسرّبة، لا ضمانات لتنفيذ البنود على الأرض، كما لا ضمانات لتوفير المناخ الذي يسمح بإعلان الدولة ذات السيادة التي يحكمها دستورها، وليس أجهزتها الأمنية هي التي تحكم الدستور، وتقوّض صلاحياته وتعتقله، وهو ما حدث عام 2011 وما قبله، ولا يزال يحدث.
يقول محمود درويش في قصيدته الملحمية، مديح الظل العالي، مخاطبا الفلسطيني: "سقط السقوط وأنت تعلو فكرةً ويدا وشاما/ فتقمّص الأشياء كي تتقمّص الأشياء خطوتك الحراما/ واسحب ظلالك عن بلاط الحاكم العربي حتى لا يعلقها وساما".
وربما لم يتوقع درويش يوما أن يعلق هذا الحاكم الذي يتبجّح باسم القضية الفلسطينية أربعين عاما، والذي لا يزال يتاجر بها، أرواح اللاجئين الفلسطينيين في سماء معتقلاته الضيقة القاتلة، وأن يكون ثمن ممانعته الكاذبة قائمة طويلة من أهم الأسماء الفلسطينية ميتة تحت التعذيب في زنازينه القذرة، ومنهم المبرمج باسل الصفدي، المصنف ضمن أفضل مائة عقل في العالم، وقتله النظام في أقبيته، والمصور الفلسطيني نيراز سعيد، الحاصل على جائزة من الأمم المتحدة عام 2013 عن أفضل صورة، والذي أعلن النظام خبر استشهاده تحت التعذيب قبل أشهر. واليوم الشهيد تحت التعذيب الفنان الجميل اللاجئ الفلسطيني، محمد ديب محمود أبو الرز (أبو رام) الذي تملأ صورته صفحات "فيسبوك"، ويملأ صوته هذا الفضاء الأزرق بكثير من الأحمر والأسود المفجوع، ولعل قصيدة توفيق زياد "لوّع الجمال قلبي" التي غنّاها الشهيد محمد أبو الرز هي أصدق حقيقة له قالها قبل رحيله بسنوات، حين غنى: "لوّع الجمال قلبي/ حين نوى على الرحيل.. قلت يا جمالُ خذني/ فأنا دربي طويل".
لم يتخيّل أن يكون دربه بطول سنوات الموت تحت التعذيب في بلادٍ تموت أيضا تحت تعذيب أنظمة دكتاتورية فاشية عميلة، قتلت الشعب الفلسطيني وخذلته، وقدّم وجودها لإسرائيل دعما أهم من دعم كل القوى الاستعمارية. اليوم يستشهد الصوت الفلسطيني الذي غنّى فلسطينه المغتصبة، يستشهد أجمل الأصوات التي حملت وجع التغريب، واللجوء في طيات حنجرته المغرّدة، مغدورا للمرة الألف في زنازين الأسد الابن.
محمد محمود أبو الرز هو قائد فرقة بيسان الفلسطينية ومغنيها سابقاً، وهو عضو في منظمة "فدا" الفلسطينية التي أعلنت، أخيرا، أنه قضى تحت التعذيب في سجون النظام السوري، بعد أن أخبر النظام أهله بذلك. هو أحد أبناء مخيم خان الشيح في ريف دمشق، وهو من سكان حي الحجر الأسود في جنوب العاصمة، وقد اعتقله في عام 2013 عناصر حاجز الجيش السوري، المسمّى حاجز البطيخة، في أثناء محاولته الخروج من مخيم اليرموك، بعد تعرّض المخيم للقصف.
يقتل بشار الأسد محمد أبو الرز رئيس فرقة بيسان الفلسطينية الطالعة من حوافّ المخيمات الفلسطينية، ونعته في "فيسبوك"، كما الفنان السوري الملتزم سميح شقير قائلا: "أنعي إليكم جميعا الصوت الذي غنيت معه لفلسطين في أقبية النظام السوري. ترى ما الذي يمكن أن يفعله المغني كي يموت هكذا؟ أم مجرّد كلمة حرية كفيلة بهز أركان الدكتاتور. كان أبو الرز المغنّي الذي غنّى الشعر الفلسطيني، ابتداء من درويش إلى توفيق زياد مرورا بسميح القاسم، بصوت سماوي الحضور والألفة، صوت قادر على نقل الجرح الفلسطيني الطازج إلى آخر حدود الأرض. .. اليوم، وباسم الممانعة والمقاومة، يدير النظام السوري المناضل ظهره لإسرائيل التي تخترق دمشقه في كل ليلة، ويحرّر فلسطين عن طريق قتل أبنائها في سجونه، لعله يريحهم من حمل بلادهم الثقيل".
فلسطين الاسم الذي تربّينا في المسافة ما بين أحرفه، وكبرنا في هذه المسافة كما كبرت جراحنا وهزائمنا، وهو الاسم الذي تجذّر كشجرة مغروسة جنب القلب، عاصمة الهوية والشخصية العربية، تشنق للمرة الألف، لكن ليس في سجون الاحتلال الإسرائيلي فقط، بل في سجون الاحتلال الإيراني والروسي في دمشق، فقد نشرت مجموعة "العمل من أجل فلسطينيي سورية" تقريرا إحصائيا كشف عن أن 3542 فلسطينيا على الأقل لقوا حتفهم على يد قوات نظام بشار الأسد داخل الأراضي السورية منذ اندلاع الحرب في البلاد قبل حوالي ست سنوات. تمكّنت المنظمة من توثيق أسماء 1621 معتقلاً فلسطينياً في سجون النظام السوري منذ عام 2011، لكنها تتوقع أن يكون العدد الحقيقي أكبر بكثير، مضيفةً أن أعداد المعتقلين وأعداد ضحايا التعذيب أكبر مما تم الإعلان عنه، وذلك "بسبب غياب أي إحصاءات رسمية صادرة عن النظام السوري، بالإضافة إلى تخوّف بعض أهالي المعتقلين والضحايا من الإفصاح عن تلك الحالات خوفا من ردة فعل الأجهزة الأمنية في سورية". كما وثّق التقرير مقتل 465 فلسطينيا داخل هذه المعتقلات. وجاء فيه أن النّظام، حسب رواية الشهود، كان ولا يزال يُمارس بحقّ المعتقلين الفلسطينيين أقسى أنواع التّعذيب، لكونهم فلسطينيّين فقط، فلدى النظام السوري "أن تكون فلسطينا" جريمة لا تغتفر.
خرج مئات آلاف المدنيين السوريين يوم الجمعة (14 سبتمبر/ أيلول 2018) في جمعة أطلقوا عليها اسم جمعة "لا بديل عن إسقاط النظام"، في مظاهرات حاشدة، رفعوا فيها أعلام الثورة الخضراء في أكثر من مائتي نقطة تظاهر في مدن إدلب، وسراقب، وأريحا، ومعرّة النعمان، وجسر الشغور، وبلدات كفر تخاريم، وبنش، والدانا، ودركوش، وتفتناز، وأطمة، ومعرّة النعسان، والهبيط، ومحبمل، وحزانو. وكذلك في أرياف حلب الغربية والشمالية والشرقية، في إعزاز، والباب، والأتارب، وجرابلس، وعندان، ومارع، وبلدات الأبزيمو، وباتبو، وأورم، ودارة عزة، وكفرنوران، والجينة، وفي ريف حماة، شمال المحافظة وغربها، في مدن قلعة المضيق، واللطامنة، وبلدات كفرزيتا وكفرنبودة وجبل شحشبو وبلدات وقرى أخرى. ويستحق المتظاهرون أن تذكر أسماء مدنهم وبلداتهم وقراهم بالاسم، لأن خروجهم بعد سبع سنوات من محاولة قتل الثورة السورية واغتيالها لا يعبر فقط عن هزيمة جميع محاولات خصوم الثورة لوأدها حيةً، وتشويه صورتها وشعاراتها ووصمها بالإسلامية والإرهاب، أي نزع روح التحرّر والتطلعات الإنسانية الأخلاقية والسياسية والمدنية عنها فحسب، وإنما أكثر من ذلك عن حقيقة أن جذوة الثورة لا تزال مشتعلة، وأنها يمكن أن تتحوّل إلى نار حارقة من جديد، وأن الوحوش الضارية في برّية العلاقات الدولية الموحشة والمتوحشة لن يستطيعوا أن "يسبعونها"، أو "يضبعونها"، ويفرضوا عليها الاستسلام، أو يأسروا روحها الحيّة.
يشكّل تجدّد المسيرات الشعبية حدثا مهما في مسار الحرب والمفاوضات الدولية حول سورية. أولا لأنها تبرهن على حدود الحل العسكري الذي جاء الروس خصّيصا لإنجازه، بعد أن فشل فيه النظام والحرس الثوري الإيراني، فأمام مظاهرات إدلب، أي أمام تدخل شعبها بقوة وحيوية، وتنبه الرأي العام العالمي الرسمي إلى مخاطر اجتياح المنطقة، والثمن الإنساني غير المحتمل له، ومخاطر الانفجار الدولي على هامشه، وقبل ذلك في المنطقة، لم يبق أمام الروس إلا أن يعيدوا حساباتهم. وإذا أعاد الروس حساباتهم في معركة إدلب، كما هو ظاهر اليوم من تصريحات الوزير لافروف أخيرا، وادّعى فيها أنه "لا روسيا ولا النظام كانوا ينوون الهجوم على إدلب"، فهذا يعني أن إيران التي كانت تراهن على تحويل سورية إلى كتلة نار مشتعلة، ودفعها أكثر ما يمكن في اتجاه خصومها العرب والغربيين والأتراك أيضا، قد فقدت ورقتها، ولم يعد لديها في مواجهة الهجمات التي تستهدف وجودها في سورية ما يمكّنها من الاستمرار في اللعب والمقامرة.
كان رهان روسيا الرئيسي أن تستطيع، قبل نهاية العام، أن تنهي الحرب لصالحها، وصالح النظام وإيران، وتفرض سلام الأمر الواقع على الشعب السوري، وفي المعيّة على العالم، وفي مقدّمه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. وكانت تأمل أن يمكنها ربح المعركة العسكرية والقضاء على "الإرهاب" في سورية، وتعني به الثورة وفصائلها، من إنهاء انخراطها الخاسر واستثماراتها السياسية والمادية والعسكرية المستمرّة فيها، والتفرّغ لقطف ثمار جهودها، صفقاتٍ وعقودا، والضغط على الدول الغربية والخليجية الغنية، لإجبارها على دفع فواتير إعادة الإعمار أو تحمّل نتائج الكارثة الإنسانية لمليون لاجئ ومهجّر جديد، وأوضاع مأساوية داخلية، وعمليات إرهابية مبرمجة في أكثر من منطقة. وقف زحفها على أبواب إدلب، مهما كانت التنازلات والتسويات المحتملة، مثل تأمين المعابر أو السيطرة على بعض المواقع الاستراتيجية لحماية قاعدتها العسكرية في حميميم، يعني أن "نقبها طلع على حجر"، كما يقول المثل السوري. وهذا يعني أن الحرب لن تنتهي كما كانت تخطط وتشتهي، وأن الحل العسكري، على الرغم من كل الجهود التي بذلتها موسكو لإنجاحه، وأهمها التضحية بالشعب السوري بأكمله لصالح طهران والنظام، وما يعنيه ذلك من خسارة سياسية وأخلاقية، والغرق فعلا في مستنقع البقاء من دون حل في سورية، وتحمل عبء نظام فاسد ومتهالك وحليف إيراني محاصر ومستكلب على الفريسة من دون حسابات، وبلد مدمر من دون أمل، ولا أفق، للخروج من الكارثة.
ليس الحديث عن ورطة روسية أمرا متخيّلا، هي حقيقة مرة. على روسيا اليوم أن تدير وضعا كارثيا من جميع النواحي الجيوستراتيجية والسياسية والاقتصادية والأخلاقية. وبدل أن تحصد من تدخلها الكثيف والمكلف في سورية مكاسب استراتيجية أو اقتصادية أو سياسية، كما كانت تتوقع، فتفرض على الغرب التعامل معها من مستوى الندّية، أي بوصفها قوةً كبرى، وشريكا سياسيا، ورفع العقوبات التي تنهك اقتصادها، والتفاوض معها على القضايا الاستراتيجية والأمنية في جوارها الأوروبي، والاعتراف بإنجازاتها في سورية ضد "الإرهاب"، تجد نفسها اليوم أمام أسوأ الحالات: واجب الدفاع عن سياسة إيرانية توسّعية وعدوانية هي نفسها لا تؤيدها، ولا تتفق مع مصالحها وسمعتها الدولية، وأمام الحفاظ على نظامٍ يحمل على كاهله عبء تدمير بلد كامل وتحطيم نسيجه الاجتماعي والاقتصادي، وأمام مسؤولية تشريد نصف أبنائه، ورميهم في المنافي ومخيمات اللجوء، مع انعدام أي حل لمشكلتهم في الأفق المنظور.
كان بإمكان روسيا ألا تقع في هذه المصيدة التي شجّعها على الدخول فيها الغربيون، وأغراها في الانزلاق إليها استهتارُها بالمجتمع الدولي، ودوسها على قراراته وتحدّيها أبسط قواعد التعاون الدولي. لكن، قبل هذا وذاك، الشراسة التي قرّرت فيها التعامل مع الشعب السوري، سواء برفضها الاعتراف به، وبحقوقه وتطلعاته، شعبا يستحق أن يسمع، ويحاور، ويشارك في تقرير مصيره، ثم استسهالها استخدام القوة لتحويله إلى حطام، ومشاركة الأسد وطهران في تدمير شروط حياته، وتهجيره، وإعدامه سياسيا وتغييبه عن الوجود.
كل ما كان يحتاج إليه الأميركي لا تصبح موسكو أداة في يد القوى الغربية والإسرائيلية لتقويض مستقبل سورية، والحكم على شعبها بالإعدام، ولا تخسر رهانها، بل بالعكس تربح صداقة الشعب السوري، واحترام العالم وتقديره، هو أن تكون وسيطا حياديا أو شبه حيادي، في دفع السوريين، من أنصار النظام ومن خصومه، إلى طريق الحوار والتفاوض والتفاهم على حلٍّ سياسي، لوقف الكارثة، واستعادة التواصل والبدء بحياة جديدة، أو الأخذ بيدهم لتشجيعهم على أخذ الخطوة الأولى في هذا الطريق. لو فعلت موسكو ذلك، لكانت الوحيدة الرابحة للحرب، أي للسلام، في الوقت الذي كانت فيه بالفعل الوحيدة التي تملك الأوراق العسكرية والسياسية والمعنوية لإنجاح هذا المشروع، وحماية سورية والسوريين، وكسب صداقتهما للأبد، موالين ومعارضين.
لكن موسكو اختارت الطريق الخطأ: تأديب الشعب السوري و"تربيته" بأقسى مما كان يفعل الأسد، حتى لا يفكّر بما دفعه إلى الثورة والاحتجاج، ولا يعود، في أي وقت قادم، إلى ما قام به في عام 2011، وتنهي إلى الأبد "وهم" المقاومة وحلم التحرّر والانتفاض على الاستبداد. قررت موسكو أن تكون شريكا للأسد وحامية له، وحولت اتفاقات خفض التصعيد إلى شرك للإيقاع بفصائل المقاتلين وسكان مناطق "المصالحة"، وتسليمهم مقيّدي اليديْن إلى أجهزة تعذيب الأسد وقتله. لم تحترم اتفاقا، ولا رعت عهدا، ولا احترمت التزاما. بدل أن تراهن على قوة الحق والمبادئ راهنت على حق القوة والاستعراض المدوّي لآلتها العسكرية وخداع العالم والاستهزاء بالرأي العام، للتغطية على القتل بالجملة والتدمير المنهجي، فصارت شريكا في جريمةٍ غير مسبوقة ضد الإنسانية، بدل أن تكون وسيطا مكرما للسلام.
هل كان وراء هذا الخطأ الروسي القاتل الطمع بالشعب السوري الضعيف، أو استضعافه، أم الاعتقاد بأن الغرب قدّم سورية لروسيا، تعويضا عن العراق وليبيا، الذي لم يكن الوزير لافروف يكفّ عن تذكير وفود المعارضة بدرسيْهما اللذيْن لن تنساهما موسكو أبدا، أم الوهم بأن روسيا هي القوة العظمى العالمية الثانية التي لا تقهر، والتي تستطيع أن تفرض إرادتها حتى على خصومها الغربيين، فما بالك بهشيم السوريين الذين طحنتهم، قبل أن تتدخل هي بأسطولها الجوي، براميل النظام المتفجرة وصواريخ الإيرانيين ومدفعياتهم، أم هو بكل بساطة الغرور، غرور القوة الإمبرطوري الذي أفقد الولايات المتحدة ريشها من قبل في فيتنام، ثم في أفغانستان، وحتى في الصومال والعراق؟
لا ينبغي، مع ذلك، للسوريين الذين يستعيدون في مسيرات الشمال ثقتهم بأنفسهم، ويجدّدون عهد ثورتهم، أن يستهينوا بخصومهم، فالغدر هو "الفضيلة" الوحيدة التي يشترك فيها أعداؤهم الرئيسيون الثلاث. وإذا لم نشأ أن نترك لهم فرصة الانقضاض من جديد عند أول تغير في ميزان القوى أو المواقف الدولية، يجب أن نحوّل المسيرات الشعبية إلى أبعد من التعبير عن استعادة نفس الثورة الأول، أو التأكيد على استمرارها، وأن ننطلق من هذا الانبعاث القويّ لروحها المتجدّدة لإعادة بناء مشروع التغيير الديمقراطي المنشود، لكن هذه المرة في بنيةٍ أكثر تماسكا وصلابةً ورشدا. لا ينبغي أن تكون انتفاضة الشمال السوري اليوم مجرّد "فزعة" على إدلب وشعبها، ولكن فرصة لإعادة بناء مشروع الثورة ومؤسساتها على أسسٍ جديدة وثابتة، أي مبدئية، وتصحيح الأخطاء العديدة التي ارتكبناها في المراحل السابقة، أو غضضنا النظر عنها، وأن نخوض بهذه المناسبة معركة الوضوح أو ال"غلاسنوت" داخل صفوف الثورة ذاتها، وتوضيح المواقف والإشكالات، ومواجهتها بجرأة وصراحة وحكمة معا.
ويحضرني، في خاتمة هذا المقال، ما خطر لي مباشرة، وأنا أشاهد أشرطة التظاهرات، وهي تستعيد وهج مسيرات درعا وحماة وحمص وحلب والغوطة والدير والقامشلي وغيرها، أنه لا ينبغي أن تكون مسيراتنا اليوم تكرارا "مملا" لمسيرات الماضي، ولا أن تُعيد إنتاج شعاراتها وأناشيدها، وتعطي الانطباع كما لو كنّا لا نزال نراوح في مكاننا منذ ثماني سنوات، وإنما يجب أن تكون شعاراتنا بنت المرحلة الراهنة، تنطلق من معاناتها، وترد على تحدّياتها الراهنة. يجب أن تصحح الانطباع السيئ الذي ولّدته هفواتنا وأخطاؤنا، فصارت أجهزة الإعلام العربية والأجنبية لا ترى في ثورة الحرية سوى صراعٍ بين نظامٍ مجرم وإرهابٍ وحشي، وأخرجت الشعب كليا من الدائرة. كل شعارات الثورة ينبغي أن تعيد، منذ الآن، تجسيد رواية الثورة الحقيقية، أي شعب حر مقابل نظام جائر، وأن تتصدّر قيم الكرامة والحرية والمدنية والتعدّدية والديمقراطية من جديد شعاراتنا.
إدلب المسيرات السلمية لم تعد إدلب المحافظة، إنها مصغّر كبير لسورية الحرّة بأكملها. هي، في الوقت نفسه، دمشق وحلب وحماة وحمص والدير والقامشلي والرّقة والحسكة ودرعا والبوكمال واللاذقية وطرطوس ومدن القلمون والقصير وغيرها. منها تستعيد الثورة مسيرتها، وفيها تجدّد شبابها، وتعود إلى شعبها.
انصب اهتمام الأجهزة المتابعة للشؤون السورية والإيرانية في واشنطن يوم 18 أغسطس/ آب الماضي على المباحثات التي كان أمير أمين، وزير الطرق وإعمار المدن الإيراني يجريها في سوريا.
بموجب المعلومات الواردة إلى واشنطن فإن مباحثات الوزير الإيراني مع الأطراف السورية تمحورت حول إعادة إعمار سوريا عقب التوصّل إلى حل سياسي في البلاد.
ولأن الولايات المتحدة ترغب بالحصول على حصة الأسد من إعادة إعمار سوريا فقد انصب تركيز أجهزة الإدارة الأمريكية على ما تفعله إيران، إلى أن بلغت واشنطن معلومة تفيد بتوصّل طهران ودمشق إلى اتفاق ينص على إعادة إيران إعمار البنية التحتية للمواصلات في سوريا، فضلًا عن بناء 30 ألف مسكن.
خطة إيرانية
بحسب ما ذكرته لي مصادر أمريكية، فإن طهران تسعى إلى دفع شركات إيرانية صغيرة، لا تعمل في السوق الأمريكية، لإنجاز مشاريع إعادة إعمار سوريا، وبذلك ستحمي تلك الشركات من العقوبات الأمريكية، وفي الوقت ذاته ستعمل في الخفاء على توفير دعم حكومي لها.
مخاطر الخطة على تركيا
يتوجب على تركيا مراقبة الحملة الإيرانية في سوريا عن كثب، على غرار ما تفعله الولايات المتحدة، وتعتقد المصادر الأمريكية أن تركيا قد تفقد فرصتها في الحصول على حصة كبيرة من إعادة إعمار سوريا جراء الحملة الإيرانية هذه، على الرغم من التوقعات بأن تلعب تركيا دورًا كبيرًا في إعادة الإعمار لما تمتلكه من موقع لوجستي وخبرة كبيرة في قطاعات البناء.
إيران تلعب بورقة الصين
تعتقد المصادر الأمريكية أن إيران بدأت باللعب على ورقة الصين في الملف السوري، فطهران تبحث مع بكين مشروع خط سكة حديدي ينطلق من إيران مرورًا بالعراق وصولًا إلى غرب سوريا في إطار مشروع طريق الحرير الاستراتيجي. وتقول المصادر إن المشروع سيكون كبيرا جدا، وإن الصين ربما تموّل عملية إعادة إعمار سوريا.
كلفة إعادة الإعمار 350 مليار دولار
بحسب قانون صادر عن الكونغرس الأمريكي تتطلب إعادة إعمار سوريا مبلغًا يتراوح ما بين 200 إلى 350 مليار دولار.
عملية إعادة إعمار سوريا تنطوي على أموال طائلة ومصالح متنوعة، ولهذا على تركيا أن تتابع عن كثب تحركات إيران، وألا تهمل التواصل مع الصين أبدًا.
من جهتها، تسعى الولايات المتحدة لأن يكون للشركات الأمريكية حصّة الاسد من إعادة إعمار سوريا. وتقول المصادر إن الشركات الأمريكية التي ستعمل في إعادة إعمار سوريا ستستفيد كثيرًا من العمل مع نظيراتها التركية، وذلك بحكم خبرة هذه الأخيرة في مجال العمل وموقعها في المنطقة.
تتابع أجهزة الإدارة الأمريكية المعنية عن كثب حملات إيران بشأن إعادة إعمار سوريا، وتأمل من أنقرة أن تحذو حذوها.
من الأخبار الطريفة التي تم تناقلها أخيرا على مواقع التواصل الاجتماعي السورية، خبر إعلان وزارة الدفاع الروسية عفوا عاما عن جميع السوريين سوف يصدر قريبا في سورية! ليست الطرافة فقط في العفو العام الذي إن صدر فستكون فيه بنود مضافة ككل مرة، تستثني غالبية السوريين، أي سيكون منحةً وهبةً (رئاسية) تستعيد ذهنية الحظيرة التي لم تفارق مخيلة النظام يوما، فالمستعد للعودة إلى هذه الحظيرة هو من المشمولين بالعفو العام، ومن يرفض هذه الذهنية هو ممن توضع البنود المضافة، عادة، لأجلهم! ليست الطرافة إذا في العفو، وإنما في الإعلان الروسي عنها، إذ في الإعلان الروسي تأكيدٌ صريحٌ على وضع سورية تحت الوصاية الروسية، ومصطلح "وصاية" لطيف، كي لا نقول تحت "الاحتلال"، وهي مفردة تستفز إخوتنا في الوطن السوري السعيد الذين يرون في روسيا دولة حليفة، لا وصية ولا محتلة طبعا. وهم يغضّون النظر عن كل ما تفعله، ليس عن إجرامها بحق السوريين فقط، بل عن تولّيها الشؤون السياسية والعسكرية والمصالحات والمفاوضات في الداخل والخارج، وعن استثمارها سورية مائة عام، وعن تجنيد أطفال سورية في جيشها (العظيم) لتنشئة جيلٍ موال لها بالكامل، عن كل تصرّفاتها الكولونيالية التي يعتبرها الإخوة في الوطن تحالفا! الطرافة أيضا في أن وزارة الدفاع هي من أعلنت عن العفو، وهو إجراء عادة ما تختصّ به وزارات الداخلية. يؤكد هذا الخلط في الصلاحيات، مقصودا أم لا، مجددا أن الوصاية الروسية احتلال عسكري بالكامل، لا سياسيا ولا اقتصاديا على طريقة الاحتلالات الحديثة، لكن أشقاء الوطن لا يرون.
إذاً باب العودة إلى حضن الوطن وحظيرته مفتوح لمن يرغب، هذا ما أكّده كثيرون، حتى بعض المعارضين (الوطنيين)؛ وموضوع العودة إلى سورية يجب أن يكون هاجس الجميع، إذ لا ثورة تُنجز في الخارج، ولا تحريرَ من الاحتلال بطبيعة الحال، ووضع اللاجئين والمهجرين في المخيمات الحدودية لم يعد يحتمل المزيد، وضع كثيرين أيضا ممن يعيشون في بلاد اللجوء، وهم عاجزون عن الاندماج والاستمرار. ولكن للعودة شروط وضمانات لا يكفلها إعلان وزارة الدفاع الروسية، ولا يكفلها حتما منشورٌ على "فيسبوك" لمعارض وطني أو غير وطني. موضوع العودة يكفله المجتمع الدولي فقط، توافق هذا المجتمع على حلٍّ حاسمٍ ونهائيٍّ للقضية السورية هو ما يكفل هذه العودة، ويضمن سلامة العائدين من الأخطار المحتملة، ليس خطر الاعتقال والمعاقبة الأمنية هو الاحتمال الوحيد، بل خطر التشفّي الذي يظهر منذ الآن في خطاب أخوة الوطن، هذا التشفّي الذي يمكن أن يتحوّل، في أية لحظة، إلى انتقامٍ موصوفٍ، خصوصا مع فلتان الوضع الأمني وانتشار السلاح، انتقام من يشعر أنه منتصر على من يعتقد أنهم أدوات تنفيذ المؤامرة.
لا يزيد الإعلان الروسي السابق بطرافته عن الصور المتداولة على "فيسبوك" السوري لباب شرقي، الباب الدمشقيّ العتيق، بعد أن تم إغلاقه بالبلوكات وفتح نافذة حديدية في أعلاه، فالباب أحد بوابات دمشق القديمة السبع، وهو أشهرها، لما تتمتع به منطقته من وجود سياحي. والباب، لمن لا يعرفه، جزء من بواقي سور دمشق القديم، فإغلاقه لا يعزل أي شيء، فالشوارع خلفه مكشوفةٌ من الجانبين.. ما القصد من إغلاقه، إذا وضعت نافذة حديدية في أعلاه تشبه تماما النوافذ التي توضع على الأبواب الحديدية للسجون المعتمة؟! من فعل هذا وأغلق الباب ووضع النافذة هو نفسُه من حوّل سورية إلى سجن كبير، العقل نفسه والذهنية نفسها، العقل الذي يريد إغلاق أي منفذٍ مفتوح للسوريين، ولا مانع لديه من وضعهم جميعهم في المعتقلات في طريق تأديبهم للعودة إلى الحظيرة، هو العقل نفسُه الذي يتوعد الباقين في سورية بالاعتقال والموت، إذا ما عبّر أحدهم عن اعتراضه، والذي يتوعّد من يرغب في العودة بالاعتقال والموت إذا لم يسجل اسمه في سجل الحظيرة، العقل الذي أحرق سورية لأنها حلمت بأن تفتح على العالم، وأغرقها بالعتم والخوف، وحوّلها إلى سجنٍ ومقبرة، العقل نفسه الذي يرى في الاحتلال العسكري تحالفا، ويتحالف مع العقل الذي يرى في الحرية الفردية انحلالا، فيمعن في إغلاق كل البوابات التي أراد السوريون فتحها.
هل كان إغلاق باب شرقي عملا فرديا، وهل إعادته إلى وضعه نتيجة الرضوخ لاحتجاجات سكان المنطقة؟ يقيناً أن لا شيء يخص سورية يتم عفويا، فإعلان العفو المتناقل وإغلاق الباب ليسا سوى في إطار اختبار ردّات فعل السوريين بشأن ما يخطّط لسورية في المقبل من الأيام، إذا لم يخطئ ظنّي.
بعد فشل قمة طهران الثلاثية في توصل الدول الضامنة لاتفاق محدد بشأن إدلب يجنبها العملية العسكرية الواسعة التي يهدد بها النظام وتدعمه روسيا، وبالتوازي مع الجهد الدبلوماسي الذي تبذله أنقرة مع روسيا من جهة ومع أطراف غربية من جهة أخرى، كان الخبر الأبرز للساعات والأيام الماضية هو التعزيزات العسكرية التركية على الحدود وداخل محافظة إدلب.
خبر كهذا، مقروناً بتصريح الرئيس التركي بعيد القمة الثلاثية بأن بلاده «لن تكون مشاركة ومتفرجة في حال استهدف عشرات الآلاف في إدلب»، أدى إلى تفسيرات متعددة ومتضاربة في أحيان كثيرة حول دلالات هذه التعزيزات وأهدافها ومآلاتها، في ظل حساسية الموقف في المحافظة والتخوفات من عملية عسكرية شاملة ستكون لها تداعياتها الكارثية من عدة زوايا.
قبل التطرق للتعزيزات التركية، أظن أنه من المفيد الإشارة إلى أن هناك مبالغات في تقييم الإمكانات التركية فيما يتعلق بإدلب خاصة وبالقضية السورية عموماً. تتجاهل تلك التقييمات أربع حقائق رئيسة:
الأولى، أن تركيا هي الأضعف في ثلاثي أستانا، ويمكن اعتبارها دولة في مقابل اثنتين، في إطار يجمع الدول صاحبة الرؤى المختلفة حول سوريا، ولذلك مثلاً بدت غير قادرة على تثبيت الدعوة لوقف إطلاق النار في إدلب في البيان الختامي للقمة.
الثانية، حاجة تركيا لروسيا سياسياً وعسكرياً وميدانياً، لدرجة لا يمكنها معها خسارة العلاقات الجيدة معها مؤخراً. وليس المقصود هنا صفقة إس 400 ولا صفقات الطاقة النووية أو الغاز الطبيعي – على أهميتها – وإنما الحديث عن الغطاء الروسي الضروري للتواجد التركي على الأراضي السورية في منطقتي «درع الفرات» و»غصن الزيتون» على وجه الخصوص، الآن ومستقبلاً.
الثالثة، ازدياد أهمية التنسيق مع موسكو في ظل الأزمة الأخيرة مع واشنطن، إذ لا تملك أنقرة رفاهية الخلاف والتوتر مع القوتين الأبرز في سوريا وعلى الساحة الدولية.
الرابعة، الفجوة الكبيرة في الإمكانات العسكرية بين تركيا وروسيا بما لا يسمح بأي هامش للرغبة أو القدرة على المواجهة العسكرية بينهما.
ملخص ما سبق ونتيجته أن تركيا غير راغبة في المواجهة مع روسيا ولا تقدر عليها، وبالتالي فالخيارات التركية فيما يتعلق بإدلب محصورة بالسيناريوهات التي لا تؤدي إلى ذلك، رغم أن ضمان ذلك بشكل حاسم قد لا يكون ممكناً بسبب تعقيدات الأوضاع الميدانية وكثرة الفواعل على الأرض.
حسناً، إذا لم تكن أنقرة راغبة في مواجهة عسكرية مع موسكو، وبالتبعية مع النظام السوري، فلماذا كانت هذه الحشود العسكرية الأخيرة؟ خصوصاً أنها تضمنت لأول مرة ما يبدو أنها أسلحة هجومية وفق التقارير؟
أعتقد أن هناك ثلاثة سياقات تخدمها هذه التعزيزات، قد تكون متلازمة أو منفصلة، بمعنى أن الهدف من هذه التعزيزات قد يكون واحداً أو أكثر من هذه السياقات، وهي:
أولاً، مساهمة في معنى «الردع» لمنع إطلاق العملية العسكرية، عبر الإيحاء بموقف تركي مغاير من جهة وتعزيز المخاوف من أي ضرر قد يقع على الجنود ونقاط المراقبة والقوات التركية الموجودة في المحافظة بما قد يستجلب رداً من أنقرة قد يدحرج الأوضاع إلى ما لا تحمد عقباه. وهذا المعنى، الردع، متناغم مع الجهد الرئيس الذي تبذله أنقرة التي تسعى لتجنيب المنطقة الهجوم العسكري أكثر مما تسعى للتعامل معه وإدارته.
ثانياً، لحماية القوات المتمركزة في إدلب وتأمينها خلال أي عملية عسكرية بأي مستوى من المستويات، وهو إجراء منطقي ومتفهم في ظل التهديدات والحشود من الطرف الآخر، وفي ظل وجود 12 نقطة مراقبة تركية في إدلب بناءً على تفاهمات أستانا.
ثالثاً، قد تحمل التعزيزات التركية معنى هجومياً أيضاً إضافة للمعنيين الدفاعيين السابقين، لكنه ليس بالضرورة موجهاً للنظام، وروسيا بالتبعية. ذلك أن ذريعة الهجوم هي وجود «هيئة تحرير الشام» وسيطرتها على مناطق واسعة في إدلب، وهي المنظمة التي عملت أنقرة على مدى شهور طويلة على حلها وإذابتها بالوسائل الناعمة، والتي أعلنتها قبل أيام منظمة إرهابية، والتي مايزت فصائلُ من المعارضة السورية نفسها عنها – بدعم تركي – بالإعلان عن «الجبهة الوطنية للتحرير». سعي أنقرة لسحب الذريعة من يد الأسد قد يعني تحركاً تركياً لمواجهة الهيئة إما بشكل مباشر أو عن طريق الجبهة الوطنية للتحرير وهو سيناريو أكثر ترجيحاً من سابقه.
لقد تجنبت تركيا حتى الآن أي حل عسكري مع الهيئة، لعدم التسبب بفوضى داخل إدلب ومنعاً لانعكاسات ذلك على الداخل التركي، لكن إن بقيت خياراتها محصورة في عمل عسكري للنظام وروسيا بحجة الهيئة أو مواجهتها لسحب الذريعة، فقد يكون الخيار الثاني مقبولاً ومنطقياً، لا سيما وأن الجهود السابقة قد أثمرت جزئياً عن بعض الانشقاقات أو التصدعات داخل الهيئة.
لا يعني كل ما سبق أن سيناريو المواجهة مع النظام مستحيل، فبعض التطورات المقصودة أو غير المقصودة مثل استهداف القوات التركية أو تعرضها للأذى أو تجاوز العملية المفترضة لحدود معينة قد تؤدي لردة فعل تركية من الصعب ضمان مسار الأحداث بعدها، لكن ذلك يعني أن المواجهة مع دمشق وموسكو ليست «خيار» أنقرة ولم يرد ذلك في التصريحات الرسمية التركية.
صحيح أن تركيا تنظر بحساسية شديدة إلى مصير إدلب، وترى أن العملية العسكرية تستهدفها مثلما تستهدف المعارضة هناك، وأن سيطرة النظام على إدلب ستفتح الباب على مطالبتها قريباً/لاحقاً بالخروج من شمال سوريا، بما يحول إدلب إلى خط الدفاع المتقدم لأنقرة. لكن المحدديْن الرئيسَيْن للموقف التركي كما عبر عنه عدة مسؤولين في مقدمتهم أردوغان هما تجنيب المدنيين مأساة إنسانية ومقتلة وتجنيب الأراضي التركية لموجة نزوح كبيرة. وبالتالي فإن السيناريوهات العديدة التي يمكن أن تضمن هذين المحددين قد تكون مقبولة أو مسكوتاً عنها بالحد الأدنى، ما يعزز من فرص التوصل لحلول وسطي بخصوص إدلب بين تركيا وروسيا وإيران، وإن كان من الصعب الجزم بتحقق سيناريو بعينه.
العملية التي نفذتها أجهزة المخابرات التركية في عقر دار الطائفة العلوية في اللاذقية، لاعتقال أحد المخططين لتفجيرات الريحانية في تركيا عام 2013، كانت غير مسبوقة، فقد نجحت أجهزة الأمن التركية الخارجية في تعقب واعتقال يوسف نازيك أحد المدبرين الرئيسيين لتفجيرات الريحانية التي ذهب ضحيتها أكثر من خمسين شخصا.
بحسب المعلومات المستقاة من مصادر تركية صحافية فإن المخابرات التركية راقبت نازيك لثمانية أشهر قبل اعتقاله، وإنه كان يسكن قرب مقر أمني للنظام السوري، وبرفقته ثلاثة حراس أمنيين، صحيح أن النظام السوري نفى وقوع العملية، كما نقلت وكالة روسية للأنباء، لكن الأرجح أن الأتراك نفذوها بالفعل، فالغضب والأزمة الداخلية التي صعدت من وتيرة الحساسيات المذهبية في محافظة هاتاي المختلطة بين السنة عربا وأتراك والعلويين العرب المرتبطين مع علويي اللاذقية، هذه الحساسيات ألقت ظلالها على الوضع الداخلي التركي، واستخدمت العملية لإذكاء مشاعر عدائية بين السكان واستثمرتها القوى السياسية المعارضة لأردوغان آنذاك، إذ كانت دعايتها تروج أن من نفذ التفجيرات بالسيارة المفخخة هم المتطرفون السنة من الفصائل المعارضة السورية، الذين كانت حكومة اردوغان تدعمهم سياسيا ولوجستيا، وأن هذه الفوضى والتفجيرات ستستمر ما دامت حكومة أردوغان تدعم المعارضة السورية وتسمح بتواجد السوريين المهاجرين من مناطق المعارضة.
وعلى المستوى الشعبي أتذكر جيدا كيف خرج المئات من علويي أنطاكيا في مظاهرات منددة بالتفجيرات، وكانت إحداها تحمل نعشا رمزيا لأحد ضحايا الهجوم، منددة بدعم الإرهابيين في الثورة السورية في تطابق وتناغم مطبق في الخطاب بين علويي انطاكيا واشقائهم علويي اللاذقية، وسبق لعلويي انطاكيا أن تظاهروا رافعين صور الأسد وسط انطاكيا، بل إن صور الأسد واللوحات الرمزية للطائفة العلوية كالصورة المفترضة للحسين، كانت تعلق في شوارع المناطق العلوية في هاتاي كسمندغ وحربيات، وهي المناطق نفسها التي داهمتها قوات الأمن التركية ومباشرة بعد تفجيرات عام 2013، لاعتقال اثنين من المخططين للهجمات، تم الإعلان عنهم. كما أعلن حينها عن هروب شخص ثالث هو نازيك نفسه الذي اعتقل قبل ايام، وجميعهم من علويي انطاكيا وسمندغ التي يقال إن جد حافظ الاسد ينتمي لها، لذلك لم يكن بالامكان عند تذكر مظاهرات العلويين المنددة بتفجيرات الريحانية ومشهد النعش الرمزي المحمول في المظاهرة سوى استدعاء المثل القائل «يقتلونه ويمشون في جنازته».
العملية بتقديري، تأتي ردا على عملية أخرى نفذها النظام السوري في محافظة هاتاي أيضا، عندما خطط بمساعدة ضابط علوي في الجيش التركي، لاختطاف مؤسس الجيش الحر الهرموش، الذي تم تخديره ونقله عبر الحدود بين محافظة هاتاي واللاذقية. وشكلت هذه العملية صدمة آنذاك لقوى المعارضة السورية وذهب البعض لاتهام الاتراك بتسليم الهرموش وهو اتهام لا أساس له، بل إن الحادثة تدل على ان تركيا انذاك كانت تعاني من مشكلة عامة في ضبط الحدود وعدم التهيؤ للنزاع السوري، بحيث ان الكثيرين من مقاتلي الجماعات الجهادية كانوا يعبرون من خلال شبكات المهربين تماما كما نجح النظام السوري في تهريب الهرموش عبر الحدود نفسها.
العملية تعكس ايضا اهتماما تركيا بأمنها القومي، وهو يفوق اهتمامها بدعم المعارضة السورية، فتفجير واحد في تركيا دفع الاتراك لعملية معقدة بعد خمس سنوات، بينما لا تبدي تركيا أو لعلها غير قادرة على إبداء الاهتمام نفسها بالرد على جرائم النظام السوري وآلاف التفجيرات في سوريا، وهذا امر طبيعي في دولة تراعي مصلحتها القومية كأولوية قصوى قبل مصالح أي أطراف مقربة اخرى كالمعارضة السورية، وهو ما لم تستوعبه المعارضة السورية للآن التي تريد من الآخرين خوض معركتهم هم، ولكنه ليس طبيعيا لسياسة الحلف الايراني في سوريا، الذي يقاتل اعداء النظام السوري وكما انهم اعداء ايران، اذ تعتبر طهران ان امن دمشق وبغداد القومي جزء مهم من أمن طهران القومي، وكذلك فعل حزب الله .
خلال الأسابيع الأخيرة تصدرت سوريا اهتمام العالم من جديد، بيد أن هذا الاهتمام لا يرجع إلى أسباب صائبة. وإذا كانت الجماهير الغربية قد سئمت وملت من الحرب الأهلية السورية التي دخلت عامها السابع، فإن هناك كثيرا من المخاطر التي لا يمكن لأي طرف أن يتجاهلها، ذلك أن نظام بشار الأسد الدموي الذي شرد ملايين مواطنين السوريين، وقتل مئات الآلاف من الأبرياء وعذب المعارضين، يسعى اليوم إلى جلب الموت والدمار إلى إدلب. وتعد هذه المنطقة ذات أهمية خاصة لا لأنها تقع على الحدود السورية مع تركيا، ومن ثم على حدود الناتو فحسب، بل بسبب المخاطر الإنسانية المحتملة. وإذا نجح النظام في استهداف المنطقة بحجة محاربة الجماعات الإرهابية التي تعمل هناك، فإن ما يصل إلى ثلاثة ملايين شخص، من بينهم كثيرون ممن لجؤوا إلى إدلب بعد إجبارهم على الفرار من مناطق أخرى من سوريا، سيصبحون مشردين.
وفي سياق النقاش حول إدلب، تعمل الجماعات الإرهابية، بما فيها داعش والقاعدة، على إعادة تنظيم نفسها في شكل خلية تمرد في سوريا والعراق. وعلى الرغم من أن المسؤولين الغربيين سارعوا إلى إعلان النصر على الإرهابيين في منطقة النزاع، فليس سرا أن هؤلاء المسلحين ما يزالون يشكلون تهديدا خطيرا للسلام والاستقرار الإقليميين. ومما زاد الطين بلة أن الأزمة المتفاقمة في إدلب يمكن أن تتسبب في تحديات إضافية لجهود مكافحة الإرهاب على الأرض.
في السنوات الأخيرة، كانت تركيا من بين البلدان القليلة في جميع أنحاء العالم التي اتخذت خطوات حقيقية وموجهة نحو تحقيق نتائج ضد إرهاب داعش. وعلى الرغم من أن بلادنا أصبحت هدفاً لانتقادات جائرة واتهامات باطلة روجت لها بعض الحكومات الأجنبية بهدف إيكال أمر الحرب على الإرهاب إلى القوات التركية، فقد كنا عضوًا نشطًا في التحالف العالمي في الحرب على التنظيم، والرئيس المشارك لمجموعة عمل مكافحة داعش. ومنذ عام 2015 نفذت قوات الأمن التركية مئات العمليات ضد مقاتلي داعش والخلايا النائمة والمقرات الآمنة، مع التركيز على الحدود البرية التركية مع سوريا والعراق. ونحن مصممون على اتخاذ الخطوات اللازمة لمنع داعش من إعادة بناء نفسها.
تمثل جهودنا الدبلوماسية لوقف سفك الدماء الوشيك في إدلب والتوسط إلى اتفاق لوقف إطلاق النار من أجل تسهيل التعرف على المقاتلين الخطرين وإبعادهم من المنطقة، خطوة مهمة نحو تحقيق هذا الهدف. وقد أكد الرئيس، رجب طيب أردوغان، بنجاح على هذه النقطة، خلال مناقشة صريحة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الإيراني حسن روحاني في طهران الأسبوع الماضي. كما حث الرئيس في مقالة نشرتها صحيفة وول ستريت جورنال، الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على دعم جهوده لمنع الأزمة الإنسانية القادمة في سوريا. وفي إطار مساعيه الدبلوماسية لإيجاد حل ملموس لأزمة إدلب، سيلتقي الرئيس أردوغان الرئيس بوتين يوم الاثنين.
على أنه يجب على الغرب أيضاً أن يأخذ في الحسبان أن الإبادة المقصودة للمعارضة المعتدلة بجانب المقاتلين الإرهابيين، ستزيد من تطرف الجماعات المحلية في النهاية. نعرف جميع إلى أين يقود هذا الطريق، فمثلما مهدت الجهود البائسة التي بذلتها واشنطن للقضاء على تنظيم القاعدة، إلى صعود داعش والجماعات المتطرفة الأخرى في سوريا والعراق، يمكن للخطوات الخاطئة التي تبذل اليوم أن تلهم الجيل القادم من الإرهابيين. ومن الأهمية بمكان أن نلاحظ أن الجماعات المتطرفة سوف تركز بشكل أكبر على التطرف عبر الإنترنت وهجمات الذئاب المنفردة. وحتى نتجنب دفع ثمن باهظ في المستقبل، يجب على المجتمع الدولي أن يدعم حلا سياسيا شاملا وجامعا للحرب الأهلية السورية، يعالج الأسباب الجذرية للإرهاب ويقيم المؤسسات الضرورية لبناء ودعم نظام ديمقراطي وتمثيلي.
ستزيد موجة كبيرة أخرى من الهجرة من تعقيد الحالة الإنسانية. وليس من الصواب أو العدل وضع العبء ككل على أكتاف تركيا، بل يجب على العالم مساعدة تركيا بطرق ملموسة لمنع وقوع كارثة إنسانية أخرى. وهذا يتطلب مشاركة سياسية جادة مع جميع أصحاب المصلحة.
لم تتمكّن روسيا من أن تكرّر في إدلب ما سبق لها أن فعلته في مناطق في سورية كانت قد انفكّت عن السلطة الأسدية. لم يسمح العالم لموسكو بتكرار ما تغاضى عنه أو وافق عليه في حالاتٍ أخرى، ولذلك تجد موسكو نفسها معزولةً في مواجهة الأمم المتحدة وأوروبا وأميركا، والحدود الحقيقية لقوتها التي بدت مطلقةً، في ظل موافقة الغرب على انفلاتها العسكري ضد شعب سورية، عندما كان الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، يهتز في مشيته ذات اليمين وذات الشمال، مختالا بطائراته التي تقصف وتقتل السوريين من دون تمييز، بينما تزفّ خطبه إلى شعب روسيا أخبارا سارّة عن زيادة مبيعات سلاحه، وعن قدراته التدميرية التي تعوّضهم عن بؤسهم بزهو قومجي، يدمّر إنسانيتهم.
يقترب هذا الزمن البوتيني من نهايته، وها هي الأوقات السهلة التي كان يستخدم خلالها سلاحه بغطاء أميركي وصمت أوروبي، ويتباهى بإرغام السوريين على العودة إلى بيت الطاعة الأسدي، تبدأ بالزوال، تاركةً مكانها لزمنٍ آخر، ظهر فيه منذ إدلب عجز قدراته السياسية وقوته العسكرية عن فرض حل سوري، بمفرده أو بالتعاون مع إيران وتركيا، يحدّد هو حصته وأنصبة الآخرين فيه، وخصوصا منهم واشنطن التي توهّم جهلة كثيرون أنها انسحبت حقا من الوطن العربي والشرق الأوسط، وتركتهما مرغمةً لروسيا، على الرغم من أنهما المنطقة الأكثر أهمية من الناحية الاستراتيجية في العالم التي يقول استراتيجيو البيت الأبيض إن سيطرة أميركا على المجال الأوروبي/ الآسيوي تتوقف على السيطرة عليها.
مضى الوقت السهل، وقت الحرب التي حدّد بوتين نهايتها آخر عامنا هذا، وجاء الوقت الصعب، وقت السلام، الحافل بخطوط حمراء لن يتمكّن هو، أو جيشه، من القفز عن استحالاتها التي لن ينجح في تخطّيها بما لديه من قدراتٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ وحربية، منها أن الحل في سورية دولي، طرفه الآخر ليس المعارضة التي أرهقتها الضربات الجوية وألاعيب الهدن والمصالحات، بل القوتان الأميركية والأوروبية، وأن إيران تتحول تدريجيا إلى عبء ثقيل، لن تتمكّن روسيا من حمله، لأنه سيعرّضها لخسارة استراتيجية، إن وقفت إلى جانبها في معركة الغرب البادئة ضدها، تضاف إلى ما شرع يقع من خلافاتٍ في علاقاتها مع تركيا، بسبب إدلب، وأن بقاء الأسد والنظام السوري لن يكون قرارا روسيا، بينما ستواجه موسكو مشكلاتٍ أنتجتها مشاركة جيشها بتدمير سورية وتهجير شعبها، منها إعادة إعمارها وإرجاع مواطنيها إلى ديارهم، كمشكلتين تتحدّيان اقتصاد روسيا المتهاوي الذي قد يعيد بوتين من عالم الأوهام إلى الواقع، خصوصا بعد أن ينكشف عجزه عن حماية طهران، ويتأكّد أن إنقاذ بشار الأسد ونظامه سيحول دون سيطرته على سورية التي تلذّذ بكلمات الإعلان عنها، وهو في حميميم، بينما كان "الثيد الرئيث" يعامل كمنبوذ محدود السيادة في بلادٍ يفترض أنه رئيسها، لن يسمح شعبها لموسكو باستعماره، سواء لنصف قرن، كما قال بوتين منتشيا، أو لفترة غير محدّدة، كما قال المنبوذ الممنوع من اللحاق بصاحبه في حميميم: بشار الأسد.
راح الزمن السهل، زمن قتل شعب أعزل وتدمير عمرانه، وجاء زمن الانكشاف في مواجهة أقوياء العالم وأثريائه، زمن رد موسكو إلى حجمها الحقيقي الذي لن يبقى بعده لبوتين، العاجز اليوم عن اقتحام إدلب، غير طي ذيله بين ساقيه من الآن فصاعداً، والقبول بوضع روسيا دولةً لن يسمح لها بتأسيس امبراطورية، كان يخال أن إقامته ممكنة انطلاقا من سورية، وها هو أمام الفخّ الذي سيقنعه بأن ما خاله انتصارا على سورية لم يكن غير وهم فادح الثمن.
نفذ جهاز الاستخبارات التركي عملية في غاية النجاح، وتمكن من جلب منسق تفجير مدينة ريحانلي بمحافظة هطاي قبل خمسة أعوام..
مع سخونة الحدث، بدأنا جميعًا باستقصاء تفاصيله، لكن الضربة الموجعة من العملية تلقاها الأسد.
هناك العديد من الأبعاد للحادثة..
إليكم ما حصلت عليه من مصادر موثوقة:
عملية أشبه بفيلم سينمائي
نفذ جهاز الاستخبارات التركي العملية وسط مدينة اللاذقية..
اللاذقية ليست مكانًا عاديًّا، فهي تتمتع بأهمية استراتيجية في حماية طرطوس حيث تقع القاعدة البحرية الروسية..
يبلغ عددد سكان اللاذقية 400 ألف نسمة، وتبعد عن تركيا 90 كم.. أي أنها ليست قريبة أو متاخمة للحدود مباشرة..
لا يمكنكم دخول اللاذقية والخروج منها هكذا بكل بساطة، فعليكم تجاوز العديد من نقاط التفتيش..
نتحدث عن مدينة مغطاة تمامًا برادارات النظام السوري وروسيا.. الاستخبارات التركية قبضت على الإرهابي "يوسف نازيك" و جلبته كما تُسحب الشعرة من العجين..
الأسد هو من أمر بتنفيذ التفجير
قُتل في تفجير ريحانلي 53 شخصًا بوحشية..
نازيك اعترف في الاستجواب الأولي بأنه تلقى تعليمات من المخابرات السورية لتنفيذ التفجير.
عندما نقول المخابرات السورية فإن المقصود هو بشار الأسد، كما يعلم الجميع..
من يريدون من تركيا التفاوض مع الأسد!
روسيا وإيران تقولان إن على أنقرة التفاوض مع الأسد..
منذ بداية مسار أستانة وهما تضغطان على تركيا من أجل إجبارها على الاختيار ما بين الأسد وحزب الاتحاد الديمقراطي، فرع "بي كي كي" في سوريا.
هذه العملية عززت موقف تركيا في مواجهة البلدين المذكورين.
جلب الإرهابي رغم عملاء روسيا وإيران والنظام
اللاذقية مدينة استراتيجية..
وهي منطقة يسرح ويمرح فيها عملاء الاستخبارات..
هناك الكثير من وحدات الاستخبارات الروسية والإيرانية..
كما أن المخابرات السورية قوية جدًّا فيها..
من هذا المكان جلبت تركيا الإرهابي، دون خسائر أو ترك أي أثر..
أظهرت العملية أن جهاز الاستخبارات التركي يمتلك شبكة قوية في المنطقة.
كيف علم الأسد بأمر العملية؟
علم النظام السوري بخبر القبض على يوسف نازيك وجلبه إلى تركيا عن طريق وسائل الإعلام التركية.
لم يعلم حتى بفقدان عمليه هذا..
يمكن القول إن هذه العملية سيكون لها حتمًا آثار على النظام السوري، في طليعتها إثارة "عدم الثقة" في أجهزته..
العملية نُفذت دون الحصول على دعم خارجي
هذه نقطة هامة للغاية.
كان عناصر تنظيم "غولن" يعتقدون أن مثل هذه العمليات تستهدفهم وحدهم، وأن الاستخبارات التركية تتعاون مع استخبارات البلدان التي فروا إليها في القبض عليهم..
كذلك "بي كي كي"..
لكن اتضح أن الامر ليس كذلك، فعملية اللاذقية نُفذت دون الحصول على دعم استخباري من أي دولة..
أخبار مثل هذه العمليات تتوالى من مناطق مختلفة في العالم..
أصبح الإرهابيون المطلوبون لتركيا يعيشون كابوسًا ورعبًا شديدًا..
ولا تستغربوا إن سمعتم أخبار عملية جديدة قريبًا..