هل يلغي بوتين امتياز إسرائيل في سورية؟
في التاسع من آب (أغسطس) الماضي قامت طائرتان تابعتان للجيش النظامي السوري برمي مناشير فوق محافظة إدلب، تدعو السكان إلى التعاون مع القوات المسلحة لأن الحرب قد انتهت لمصلحة النظام!
ولكي تدلل قيادة الجيش على أهمية الوفاق بين العسكريين والمدنيين، حرصت على رمي منشور يتضمن صورة امرأة سورية وهي تقبل جندياً في طريقه إلى الجبهة.
الاستعدادات العسكرية التي تعمّد بشار الأسد إظهارها كانت بتشجيع من موسكو التي توقعت أن يحسم طيرانها مصير آخر معقل يحتمي فيه سبعون ألف مقاتل ينتمون الى اثني عشر فصيلاً. ولما حذرت الأمم المتحدة من وقوع حمام دم في إدلب، تدخل الرئيس رجب طيب أردوغان مع فلاديمير بوتين بهدف تأجيل ساعة الصفر خوفاً من تدفق اللاجئين الجدد. علماً أن تركيا تستوعب أكثر من مليونين ونصف المليون لاجئ سوري، فرضت عليهم الحرب الهرب من حلب والمدن المجاورة.
يجزم المراقبون بأن ساعة الصفر تأجلت إلى موعد آخر، ربما يقع بين العاشر من تشرين الأول (أكتوبر) المقبل والخامس عشر منه. والسبب أن بوتين يصرّ على الجماعات التي يصنفها إرهابية بمغادرة منطقة النزاع بمَن فيها «هيئة تحرير الشام» المرتبطة سابقاً بـ «القاعدة».
وتساءل قادتها عن المصير الذي ينتظره المقاتلون بعد تجريدهم من الأسلحة الثقيلة والخفيفة. وتعهدت أنقرة بحل مشكلتهم مع الأسد بواسطة الروس، بحيث يتم صهرهم من جديد داخل المجتمع السوري.
قام بالاطلاع على أحوال الجبهة هذا الأسبوع عدد قليل من المراسلين الذين سُمِح لهم بتصوير أرتال الدبابات والمصفحات المتجهة نحو إدلب. وتُعتَبر هذه المحافظة آخر موقع يلجأ اليه المعارضون لنظام بشار الأسد. ولقد أعرب المراسلون في مقالاتهم عن تخوفهم من حدوث مجزرة في حال حشد الروس والايرانيون كل إمكاناتهم الحربية لدحر المتمردين.
وحدث أثناء زيارة بوتين قاعدتي طرطوس وحميميم (كانون الأول/ ديسمبر - 2017) أن أعلن أمام الحضور مشاركة 48 ألف عسكري في عمليات استمرت منذ سنة 2015. وعدّد في خطابه بعض المهام التي يفتخر بها، كقوله: إن طيّارينا قاموا بـ 34 ألف طلعة، وقصفوا 166 منشأة تابعة للإرهابيين.
وتكلم من بعده وزير الخارجية سيرغي لافروف، الذي طالب بضرورة مغادرة القوات الاميركية سورية، لأن وجودها لم يتم بدعوة من الرئيس الشرعي بشار الأسد.
السبب المباشر الذي أعطى بوتين شرعية التدخل في الشأن السوري كان طلب الإنقاذ الذي حمله معه بشار الأسد الى موسكو. واستقبله بوتين في الكرملين بحضور القيادتين السياسية والعسكرية لاعتقاده أن الزيارة المفاجئة تحمل سبباً وجيهاً وخطيراً. ومن دون مقدمات المجاملة، اعترف الرئيس السوري أنه في مأزق سياسي لا يُحسَد عليه. واعترف أن الجيش السوري المنهك لم يعد بمقدوره الصمود أمام هجمات القوى المعارضة. خصوصاً بعدما أسعفتها الولايات المتحدة بأسلحة متطورة أجبرت قوة الدعم الايرانية على التراجع. ثم تبيّن لاحقاً أن طهران هي التي نصحت الأسد بضرورة الاستنجاد بالدب الروسي بعد سلسلة انسحابات لم يبقَ بعدها أكثر من أربعين في المئة من الأراضي تحت سيادة النظام.
بعد مغادرة الأسد، اجتمع بوتين بجنرالات القيادة المركزية وطلب منهم وضع القوات في وضع الاستنفار الدائم، براً وبحراً وجواً.
أجمع المعلقون الروس في حينه على أن بوتين كان جاهزاً لتلبية طلب الإنقاذ لدولة وقفت إلى جانب موسكو مدة نصف قرن تقريباً. وبسبب هذه الخلفية، أعفى زعيم الكرملين سورية من كل ديونها القديمة مع الاتحاد السوفياتي، أثناء زيارة بشار الأسد لموسكو في ربيع 2011. وقد مثلت تلك الديون أثمان مشتريات سورية من الأسلحة التي احتاجتها بعد حرب 1973.
يعترف بوتين في أحاديثه الصحافية بأن الانتفاضة ضد الرئيس الليبي معمر القذافي وما رافقها من تطورات كانت سبباً مهماً من أسباب دعمه النظام السوري. وهو يتذكر أن دول الحلف الأطلسي، وفي مقدمهم الولايات المتحدة، طلبت منه عدم استخدام الفيتو في مجلس الأمن، وذلك بهدف المساعدة على إجراء مصالحة وطنية. وتجاوباً مع هذه الحجة، أمر سفيره في الأمم المتحدة الوقوف على الحياد في مجلس الأمن. وكان من نتيجة ذلك الموقف تسابق الدول الغربية على ضرب تحصينات القذافي وقواعد نظامه، الأمر الذي شجع المتمردين على الإجهاز عليه، وهو في طريقه إلى الهرب. وكان من نتائج تقويض نظام القذافي أن استغلت التيارات الإسلامية تلك الفرصة لبيع ترسانات الجيش الليبي وتفكيك وحدة البلاد، ومنح «القاعدة» فرصة للنمو والتمدد في البلدان المجاورة مثل تشاد والنيجر ومالي والسودان.
محلل صحيفة «لو موند» الفرنسية رأى في خيبة أمل بوتين من التحايل الغربي سبباً لمنع الولايات المتحدة من احتكار الحلول لمعاناة الشعوب العربية التي كانت تمر في مرحلة تغيير سُميت «الربيع العربي».
وذكرت صحيفة «واشنطن بوست» في حينه أن الرئيس الأميركي باراك أوباما كان يراهن على سقوط الأنظمة العربية في أحضان الغرب، خصوصاً الدول التي خبرت حكم الاشتراكيات واليسار. ولكن تطور الأحداث لم يصب لصالح الغرب كما توهم أوباما، وإنما انزلقت المنطقة كلها نحو هوة الانهيار الكامل.
القرار الذي اتخذه بوتين بشأن انقاذ نظام بشار الأسد كان يصب في مصلحة علاقات بلاده مع الدول العربية. وكان له مصلحة استثنائية في إظهار وقوفه الى جانب الأسد، خلافاً للرئيس اوباما الذي تخلى عن الرئيس المصري حسني مبارك.
والثابت أن بوتين ظل محافظاً على هذا الخط السياسي بالرغم من انتقال الرئاسة الأميركية الى رئيس صدامي هو دونالد ترامب. ويبدو أن صاحب شعار «اميركا أولاً» قد اعترف هو الآخر بأهمية الدور الذي يؤديه بوتين في الشرق الأوسط.
وبناء على هذا الاعتراف فقد ناشدت سفيرة اميركا في الأمم المتحدة نيكي هيلي الرئيس بوتين عدم التهور في عملية اجتياح إدلب. وقالت إنها تتوجه في طلبها الى الذي يملك النفوذ المطلوب للتأثير على مجرى الأحداث.
وكانت موسكو قد حركت 26 بارجة حربية، و36 طائرة الى الساحل السوري. كل هذا بهدف حسم مصير الملجأ الأخير للمعارضة المسلحة. وتقضي خطة التسوية بوجوب محاكاة الحل في الشيشان. أي فرض اتفاقية تهدئة بين النظام والمعارضة.
تفادياً لوقوع مجزرة يصعب تقدير عواقبها على الروس والإيرانيين والأتراك، قدم رجب طيب أردوغان اقتراحاً إلى بوتين وجد فيه مخرجاً للحل النهائي المؤجل. ويقضي الاقتراح بتحويل منطقة خفض التصعيد الى منطقة استقرار مؤقتة منزوعة السلاح بعمق 15-20 كيلومتراً شمال سورية. وفي العاشر من الشهر المقبل تباشر الدولتان الكفيلتان -روسيا وتركيا- في جمع السلاح الثقيل من فصائل المعارضة. وقد تسلمت الأمم المتحدة في نيويورك نسخة عن الاتفاق.
خلال فترة التهدئة والانتظار في إدلب، عكرت أجواء اللاذقية حادثة إسقاط طائرة روسية (ايل -20) ومقتل خمسة عشر جندياً كانوا على متنها.
الناطق الرسمي باسم وزارة الدفاع الروسية إيغور كوناشينكوف اتهم القوات الجوية الإسرائيلية بكامل المسؤولية عن إسقاط الطائرة. وعلى الفور أرسل بنيامين نتنياهو قائد سلاح الجو الإسرائيلي اللواء عميكام نوركين الى موسكو، ليجتمع بقائد سلاح الجو الروسي سيرغي سوروفيكين ويقدم له الاعتذار عن خطأ غير مقصود. وإدعى أثناء مراجعة الحادثة أن الغارة كانت موجهة لتدمير مخازن إيرانية أثناء نقل شحنة صواريخ إلى «حزب الله». وكان بهذا العرض يريد أن يقول إن الغارة تمت ضمن حدود الاتفاق مع روسيا.
لذلك اتصل رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بالرئيس بوتين قبل سفره الى نيويورك لحضور جلسات الجمعية العامة وأعرب عن أسفه لخطأ غير مقصود. ومع أن المكالمة ظلت سراً من الأسرار، ولكنه -بحسب صحيفة «كومسومولسكايا - برافدا» حذره الرئيس الروسي من عواقب تقييد حرية عمل سلاح الجو الإسرائيلي في سورية.
ومع أن نتانياهو وعد بوتين بأن هذا الحادث لن يتكرر، وأن التنسيق مع موسكو سيظل ساري المفعول، إلا أن قرار تزويد الجيش النظامي السوري بصواريخ «اس -300»، سيلغي تلقائياً قرار الرئيس الروسي السماح لإسرائيل بأن تدافع عن أمنها ولو على حساب الأمن السوري.