فلسطين شهيدة ومعذّبة في سورية
يقول محمود درويش في قصيدته الملحمية، مديح الظل العالي، مخاطبا الفلسطيني: "سقط السقوط وأنت تعلو فكرةً ويدا وشاما/ فتقمّص الأشياء كي تتقمّص الأشياء خطوتك الحراما/ واسحب ظلالك عن بلاط الحاكم العربي حتى لا يعلقها وساما".
وربما لم يتوقع درويش يوما أن يعلق هذا الحاكم الذي يتبجّح باسم القضية الفلسطينية أربعين عاما، والذي لا يزال يتاجر بها، أرواح اللاجئين الفلسطينيين في سماء معتقلاته الضيقة القاتلة، وأن يكون ثمن ممانعته الكاذبة قائمة طويلة من أهم الأسماء الفلسطينية ميتة تحت التعذيب في زنازينه القذرة، ومنهم المبرمج باسل الصفدي، المصنف ضمن أفضل مائة عقل في العالم، وقتله النظام في أقبيته، والمصور الفلسطيني نيراز سعيد، الحاصل على جائزة من الأمم المتحدة عام 2013 عن أفضل صورة، والذي أعلن النظام خبر استشهاده تحت التعذيب قبل أشهر. واليوم الشهيد تحت التعذيب الفنان الجميل اللاجئ الفلسطيني، محمد ديب محمود أبو الرز (أبو رام) الذي تملأ صورته صفحات "فيسبوك"، ويملأ صوته هذا الفضاء الأزرق بكثير من الأحمر والأسود المفجوع، ولعل قصيدة توفيق زياد "لوّع الجمال قلبي" التي غنّاها الشهيد محمد أبو الرز هي أصدق حقيقة له قالها قبل رحيله بسنوات، حين غنى: "لوّع الجمال قلبي/ حين نوى على الرحيل.. قلت يا جمالُ خذني/ فأنا دربي طويل".
لم يتخيّل أن يكون دربه بطول سنوات الموت تحت التعذيب في بلادٍ تموت أيضا تحت تعذيب أنظمة دكتاتورية فاشية عميلة، قتلت الشعب الفلسطيني وخذلته، وقدّم وجودها لإسرائيل دعما أهم من دعم كل القوى الاستعمارية. اليوم يستشهد الصوت الفلسطيني الذي غنّى فلسطينه المغتصبة، يستشهد أجمل الأصوات التي حملت وجع التغريب، واللجوء في طيات حنجرته المغرّدة، مغدورا للمرة الألف في زنازين الأسد الابن.
محمد محمود أبو الرز هو قائد فرقة بيسان الفلسطينية ومغنيها سابقاً، وهو عضو في منظمة "فدا" الفلسطينية التي أعلنت، أخيرا، أنه قضى تحت التعذيب في سجون النظام السوري، بعد أن أخبر النظام أهله بذلك. هو أحد أبناء مخيم خان الشيح في ريف دمشق، وهو من سكان حي الحجر الأسود في جنوب العاصمة، وقد اعتقله في عام 2013 عناصر حاجز الجيش السوري، المسمّى حاجز البطيخة، في أثناء محاولته الخروج من مخيم اليرموك، بعد تعرّض المخيم للقصف.
يقتل بشار الأسد محمد أبو الرز رئيس فرقة بيسان الفلسطينية الطالعة من حوافّ المخيمات الفلسطينية، ونعته في "فيسبوك"، كما الفنان السوري الملتزم سميح شقير قائلا: "أنعي إليكم جميعا الصوت الذي غنيت معه لفلسطين في أقبية النظام السوري. ترى ما الذي يمكن أن يفعله المغني كي يموت هكذا؟ أم مجرّد كلمة حرية كفيلة بهز أركان الدكتاتور. كان أبو الرز المغنّي الذي غنّى الشعر الفلسطيني، ابتداء من درويش إلى توفيق زياد مرورا بسميح القاسم، بصوت سماوي الحضور والألفة، صوت قادر على نقل الجرح الفلسطيني الطازج إلى آخر حدود الأرض. .. اليوم، وباسم الممانعة والمقاومة، يدير النظام السوري المناضل ظهره لإسرائيل التي تخترق دمشقه في كل ليلة، ويحرّر فلسطين عن طريق قتل أبنائها في سجونه، لعله يريحهم من حمل بلادهم الثقيل".
فلسطين الاسم الذي تربّينا في المسافة ما بين أحرفه، وكبرنا في هذه المسافة كما كبرت جراحنا وهزائمنا، وهو الاسم الذي تجذّر كشجرة مغروسة جنب القلب، عاصمة الهوية والشخصية العربية، تشنق للمرة الألف، لكن ليس في سجون الاحتلال الإسرائيلي فقط، بل في سجون الاحتلال الإيراني والروسي في دمشق، فقد نشرت مجموعة "العمل من أجل فلسطينيي سورية" تقريرا إحصائيا كشف عن أن 3542 فلسطينيا على الأقل لقوا حتفهم على يد قوات نظام بشار الأسد داخل الأراضي السورية منذ اندلاع الحرب في البلاد قبل حوالي ست سنوات. تمكّنت المنظمة من توثيق أسماء 1621 معتقلاً فلسطينياً في سجون النظام السوري منذ عام 2011، لكنها تتوقع أن يكون العدد الحقيقي أكبر بكثير، مضيفةً أن أعداد المعتقلين وأعداد ضحايا التعذيب أكبر مما تم الإعلان عنه، وذلك "بسبب غياب أي إحصاءات رسمية صادرة عن النظام السوري، بالإضافة إلى تخوّف بعض أهالي المعتقلين والضحايا من الإفصاح عن تلك الحالات خوفا من ردة فعل الأجهزة الأمنية في سورية". كما وثّق التقرير مقتل 465 فلسطينيا داخل هذه المعتقلات. وجاء فيه أن النّظام، حسب رواية الشهود، كان ولا يزال يُمارس بحقّ المعتقلين الفلسطينيين أقسى أنواع التّعذيب، لكونهم فلسطينيّين فقط، فلدى النظام السوري "أن تكون فلسطينا" جريمة لا تغتفر.