ليس هناك أدنى شك أن من مصلحة إسرائيل أن ترى كل الدول العربية المحيطة بها في أسوأ حالاتها كي تبقى هي الحديقة الغنّاء الوحيدة في المنطقة، وبجانبها أشباه دول متخلفة ومتقاتلة وفي حالة فوضى دائمة. لا يمكن لدولة تريد أن يكون جارها أقوى منها. وما ينطبق على الأفراد ينطبق أيضاً على الدول، فإذا كنت تملك بيتاً فخماً وجميلاً، فلا شك أنك ستنزعج كثيراً إذا قام جارك ببناء بيت أجمل وأفخم. وهكذا حال الدول التي تتنافس دائماً كي تكون الأفضل والأقوى. وهذا لا شك ينسحب على إسرائيل في علاقتها مع جيرانها العرب. ولا ننسى أنها تقدم نفسها دائماً على أنها الديمقراطية الوحيدة في محيط من الديكتاتوريات القذرة المتخلفة والمنحطة، مع العلم أن إسرائيل تصلّي آناء الليل وأطراف النهار كي يدوم حولها نظام الديكتاتوريات لاسيما الفاشيات العسكرية القومجية منها، لأنها لا تحميها فقط، بل تجعل جاراتها وشعوبها المحيطة في حال مستدام من التخلف والبؤس والتردي والانحطاط بسبب حكم العسكر الذي لم ينتج عبر التاريخ سوى الذل والفقر والقمع والدمار.
ولا يخامرنا، أو يساورنا أدنى شك أن الخراب والتخلف السياسي والاقتصادي في البلدان المجاورة لإسرائيل كسوريا مثلاً يخدم الإستراتيجية الإسرائيلية، ولا شك أن من مصلحة إسرائيل أيضاً أن لا يكون هناك جيوش عربية قوية على حدودها، حتى لو كانت تلك الجيوش مسالمة وتحمي إسرائيل، فالدول لا تفكر في الحاضر فقط، بل تنظر على المدى البعيد، فماذا يمكن أن يحصل لاحقاً يا ترى لو قررت الجيوش العربية القوية أن تحارب إسرائيل؟ لا شك أن إسرائيل ستكون في ورطة، لهذا لا عجب أن تكون سعيدة عندما تضعف تلك الجيوش وتفسد كي لا تكون قادرة على محاربتها في المستقبل. ولا شك أن إسرائيل ستكون سعيدة جداً أيضاً بتدمير الجيش العراقي والسوري والمصري كي لا يهددوها في قادم الأيام. كل ذلك مفهوم ولا يحتاج إلى توضيح أو نقاش. دعونا نتفق كي لا يحاول أحد أن يصطاد في الماء العكر، بأن تدمير سوريا والعراق وبقية الدول التي يمكن أن تهدد إسرائيل مصلحة إسرائيلية بامتياز. ولا ننكر أيضاً أن إسرائيل نفسها قصفت العديد من المواقع العسكرية السورية على مدى السنوات السبع الماضية.
لكن من الذي دمـّر سوريا و«جاب عاليها واطيها»؟ سأتفق معكم مرة أخرى أن إسرائيل يمكن أن تدعم أي جهة بشكل مباشر أو غير مباشر في إضعاف سوريا وحتى تدميرها، لكن تعالوا نفتش عن الجهة التي دمرت سوريا فعلياً، وشردت نصف شعبها، وجعلت إسرائيل تفرك يديها فرحاً على ما آلت إليه الأوضاع في سوريا. إن أكبر كذبة يرددها «بتوع المقاولة والمماتعة» المدافعون عن النظام السوري أن إسرائيل خططت للثورة السورية كي تدمر سوريا، وتقضي على الجيش السوري. ومتى يا ترى كانت آخر مرة ضرب الجيش السوري حجراً واحداً على إسرائيل منذ أربعين عاماً كي تريد إسرائيل القضاء عليه؟ ألم يكن هذا الجيش كلب حراسة وفياً بامتياز للحدود الإسرائيلية، وكان يمنع حتى الطيور من اختراق الحدود الإسرائيلية؟ كم من الضباط السوريين اختفوا خلف الشمس لأنهم طالبوا بتنفيذ عمليات عسكرية ضد إسرائيل؟ قد يقول البعض طبعاً ومن حقه أن إسرائيل تظل تخشى الجيش السوري حتى لو اضطر لمهادنتها بسبب الظروف والتوازنات. وهذا صحيح. لكن هل يا ترى إسرائيل هي من أمرت الجيش السوري باستخدام كل ترسانته العسكرية من دبابات وصواريخ ومدفعية وبحرية وطيران لمواجهة الشعب السوري والقضاء على كل من كتب كلمة ضد النظام على مواقع التواصل؟ من الذي أنزل الجيش السوري إلى الشوارع بعد أربعة أسابيع فقط على المظاهرات الشعبية؟ لماذا لم يفكر النظام بالاستجابة لمطالب الجماهير بدل تسليط جيشه الطائفي على الشعب السوري؟ من ينشر جيشه على مساحة سوريا، ويستخدم كل قطاعاته العسكرية في عموم سوريا ضد المتظاهرين يجب أن يتوقع أن الشعب سيلجأ للقتال دفاعاً عن نفسه، وأن هذا الجيش سيتضرر كثيراً من معاركه مع الشعب. وهذا ما حصل. لا نقول إن السوريين وحدهم من قاتل جيش الأسد، فقد دخلت مئات الجماعات عبر الحدود، وشاركت في القتال ضد الجيش الأسدي، لكن السؤال المطروح: من الذي بدأ العمليات العسكرية أولاً؟ أليس الجيش الأسدي؟ ألا يقولون البادئ أظلم؟ هل لو لم يلجأ الجيش إلى استخدام القوة ضد المتظاهرين، هل وصلنا إلى هنا؟ هل كان الجيش ليفقد ثلاث أرباع قوته؟ هل كان ليدفع بالجماعات الأجنبية إلى سوريا بحجة دعم السوريين؟ لماذا لم تخرب تونس ومصر بعد الثورة، لأن الجيشين التونسي والمصري لعبا دوراً وطنياً ولم يقبلا أن يكونا أداة بطش بحق المصريين والتونسيين. انظروا ماذا حصل في ليبيا لأن القذافي استخدم الجيش ضد الشعب. حصل في ليبيا ما حصل في سوريا وكذلك في اليمن. لماذا؟ لأن الجيش تورط ضد الشعب. لماذا يا ترى لم تنجح إسرائيل في جر الجيشين التونسي والمصري لاستخدام القوة ضد الشعب كما نجحت في سوريا، هذا إذا افترضنا جدلاً أنها ورطت الجيش السوري؟ لأن الجيشين المصري والتونسي جيشان وطنيان، وليسا كجيش الأسد الطائفي الذي لا يهمه تدمير سوريا وتشريد شعبها بشرط أن يحمي النظام الطائفي.
هل حدث في التاريخ أن بلداً استخدم سلاح الطيران على نطاق واسع داخل أراضيه كما استخدمه النظام السوري، لا بل استعان أيضاً بأقذر وأوحش سلاح طيران آخر وهو الطيران الروسي لقصف السوريين؟ حتى القذافي لم يفعلها. هل بقيت منطقة سورية واحدة لم يقصفها طيران الأسد؟ هل يا ترى إسرائيل هي من أوعزت للطيران السوري بقصف أي منطقة سورية ثارت على النظام، فإذا كان ذلك صحيحاً، فهذا ليس في صالح النظام أيضاً لأنه لو قال ذلك فسيؤكد أن إسرائيل تقف معه وليس ضده. هل إسرائيل من أوعزت للنظام باستخدام الصواريخ البالستية بعيدة المدى ضد الأحياء السكنية في حلب ودرعا؟ ألم تكن الصواريخ البالستية تنطلق من وسط سوريا وتقطع مئات الكيلومترات لتضرب المناطق الآهلة بالسكان شمال حلب؟ لقد كانت مدينة السويداء وحدها تخسر يومياً ملايين الليرات بسبب تكسر زجاج المنازل جراء أصوات الصواريخ التي كانت تنطلق منها لتضرب الأحياء السكنية في درعا. هل كان الإسرائيليون يا ترى يشرفون على إطلاق الصواريخ البالستية على حلب ودرعا؟
ليس هناك أدنى شك أن طيران التحالف الذي تقوده أمريكا دمـّر مناطق كثيرة في مدينة الرقة ومناطق أخرى لداعش، لكن المضحك أن الطيران الأمريكي كان يدمر المناطق التي تشكل خطراً على النظام السوري والتي تحتضن أعداءه المزعومين الدواعش. أما الذي دمـّر المدن الباقية فهو الطيران الأسدي أولاً والطيران الروسي لاحقاً. لو نظرتم إلى شكل الدمار الذي حلّ بسوريا ستجدون أن تسعين بالمائة من الأبنية تم تدميرها من فوق بفعل القصف الجوي، لأن الإستراتيجية السورية مشابهة للخطة الروسية في الشيشان: الأرض المحروقة وتدمير كل شيء.
من يملك الطائرات في سوريا يا ترى غير النظام وحلفائه الغزاة الروس؟
أخيراً نستطيع أن نؤكد أن إسرائيل سعيدة جداً بما فعلتموه أيها الأوباش بسوريا، فكله يصب في صالحها دون أن تخسر قرشاً واحداً. لقد انساق النظام، وانجر بغباء فاقع بعملية تدمير ذاتي خدمة للهدف الإسرائيلي بسبب ضيق أفقه وحرصه على السلطة التي تعمي بصره. لقد عمل هذا النظام عند إسرائيل بالمجان، ونفذ استراتيجياتها، وكما تريد، ثم، يا للهول، راح يشتكي من المؤامرة.
طبعاً لا يمكن استبعاد نظرية المؤامرة، فيما استجد وكشفت عنه تطورات لعبة الأمم في شقها السوري، ولكن ألا تبدو العملية كمقاولة سياسية وسيناريو تخريبي وُضع بإحكام مدروس من قبل جهات دولية فاعلة، خدمة لإسرائيل أو لغيرها، ولكن كان ينقصه «المقاول» أو المتعهد الغبي لتنفيذ المشروع؟ ومن أغبى من نظام المماتعة 0ليقوم بذلك على خير ما يرام؟ وهنا يبدو هذا النظام الغبي ليس كعميل تاريخي وأبدي، بل أيضاً كمتعهد بارع ومقاول ماهر وفي؟
من أطرف ما شهدته الأيّام القليلة الماضية صدور بيان عن القيادة القطرية لحزب البعث في سوريا في مناسبة مرور خمسة وخمسين عاما على الانقلاب العسكري الذي جاء بهذا الحزب إلى السلطة في الثامن من آذار – مارس من العام 1963. قتل ذلك الانقلاب، الذي خطّط له في الواقع ضباط علويون، على رأسهم محمّد عمران وصلاح جديد وحافظ الأسد، أي أمل في أن تقوم لسوريا قيامة في يوم من الأيّام.
ما زرعه النظام الأمني، الذي قام مع الوحدة المصرية – السورية في العام 1958، من بؤس وقمع وتهجير لأبناء الطبقة المعلّمة والمستنيرة والبورجوازية السنّية والمسيحية، حصده الضبّاط الذين انقلبوا على “الانفصاليين” الذين حاولوا إعادة الحياة إلى سوريا عندما أنهوا الوحدة مع مصر في الثامن والعشرين من أيلول – سبتمبر 1961.
كان الانفصال المحاولة اليتيمة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من سوريا المؤهلة، في الماضي طبعا، لأن تكون إحدى الدول الطليعية في المنطقة. بدل أن تلعب سوريا دورا طليعيا، سقطت في يد الأجهزة الأمنية التي كانت الوسيلة التي لجأ إليها الضباط العلويون ثمّ حافظ الأسد ابتداء من خريف العام 1970 لإقامة نظام أقلّوي تحت شعار “الحركة التصحيحية”.
تحول هذا النظام الأقلّوي بعد العام 2000، في عهد بشّار الأسد إلى نظام عائلي. لعلّ الميزة الأهم لهذا النظام السوري في عهد الأسد الابن كونه يرفض الاعتراف بالواقع السوري وبالحال التي وصلت إليها سوريا التي صارت تعاني من خمسة احتلالات، بل صارت تحت خمس وصايات.
من يقرأ البيان الصادر عن القيادة القطرية لحزب البعث يحتار بين الضحك والبكاء. لكن هذه الحيرة تتوقف عند الوصول إلى بعض المقاطع التي تؤكد أن النظام السوري يعيش في عالم آخر. من بين العبارات الواردة في البيان تلك التي ورد فيها الآتي “في إطار التطوير الذاتي هذا، استقامت الثورة (انقلاب الثامن من آذار 1963) بالحركة التصحيحية (في العام 1970) التي قادها القائد المؤسس حافظ الأسد. واندفعت عملية التنمية الشاملة على المستوى الداخلي مترافقة مع سياسة قومية عربية فاعلة ومواقف دولية تؤكّد أهميّة السيادة واستقلال القرار. هذا التطوّر النوعي جعل من سوريا دولة مستقلّة تماما في منطقة عزّ فيها الاستقلال. دولة متحرّرة من قيود البيوتات المالية الدولية وشروطها. إن تعاظم دور سوريا في المنطقة وعلى المستوى العالمي جعل أعداء العروبة والاستقلال والإنسانية يحشدون كل ما لديهم من طاقات وإمكانات لمواجهة سوريا. يدفعهم في ذلك خوف من أن تنتقل عدوى الاستقلال إلى دول أخرى..”.
تختزل هذه المقاطع الواقع السوري. هناك نظام يتحدّث عن الاستقلال فيما البلد واقع تحت خمسة احتلالات. يسيطر الأميركيون على ثلث الأراضي السورية وعلى معظم ثروات البلد. ويسيطر الروسي على الساحل السوري وتركيا على مساحة تزيد على مساحة لبنان من الأراضي السورية. ويسيطر الإيراني على دمشق وعلى جزء من الجنوب السوري، فيما لا يزال الإسرائيلي في الجولان المحتل منذ العام 1967، أي منذ ما يزيد على نصف قرن بقليل.
إذا كان من دور لعبه النظام السوري، منذ العام 1963، مع التوقف عند محطّتي 1966 و1970، فهذا الدور يتمثّل في تفتيت سوريا ولا شيء آخر غير ذلك. عندما يتحدّث هذا النظام، الذي تذكّر أخيرا حزب البعث وانقلاب 1963، عن الاستقلال فإنّه يبحث عن غطاء لعملية الاغتيال التي نفّذت ببطء واستهدفت التخلص من سوريا.
لا يستطيع النظام السوري في الوقت الراهن استيعاب أن الخيار الوحيد الذي بقي أمامه هو الرحيل من دمشق. عاجلا أم آجلا سيحتفل السوريون بجلاء النظام عن دمشق. سيحصل ذلك بعد تدمير الغوطة الشرقية وتهجير أهلها من منطلق مذهبي ليس إلّا تلبية لرغبات إيران.
عاجلا أم آجلا أيضا، سيجد النظام السوري نفسه أمام حائط مسدود. يعود ذلك إلى أن الجانب الروسي الذي يعاونه في الخلاص من الغوطة الشرقية يريده ورقة ضغط في مفاوضات مع الأميركيين تتجاوز سوريا. تكمن مشكلة موسكو في أنّ إدارة ترامب ليست في وارد إعطاء شيء لفلاديمير بوتين في مقابل رأس بشار الأسد.
يعرف النظام ذلك وهو يمتلك ما يكفي من الدهاء لتوريط الجانب الروسي في لعبة لا أفق لها ما دام في وضع يستطيع فيه الرهان على منافسة بين موسكو وطهران وعلى تجاذب بين العاصمتين عنوانه لمن ستكون الكلمة الأخيرة في دمشق في مرحلة ما بعد رحيل بشّار الأسد.
في انتظار الرحيل عن دمشق والمعركة الكبيرة التي سيشهدها الجنوب السوري في حال إصرار إيران على البقاء فيه وعلى أن تكون دولة متوسطية، ليس أمام النظام سوى متابعة ممارسة لعبة الهروب إلى أمام. ليس البيان الصادر عن القيادة القطرية لحزب البعث سوى دليل آخر على أن النظام يعاني من مرض التوحّد. يمنعه هذا المرض من رؤية الأمور كما هي وأن يكون على تماس مع الواقع، بما في ذلك أنّ النظام الذي أقامه حافظ الأسد لم يكن في يوم من الأيّام سوى أداة تستخدم في لعبة لم يكن من هدف نهائي لها سوى الانتهاء من سوريا عمليا.
مؤسف أن عربا كثيرين لم يفهموا ذلك منذ البداية. تغاضوا عن تسليم الجولان لإسرائيل في العام 1967، عندما كان الأسد الأب لا يزال وزيرا للدفاع. تغاضوا عن الدور الذي لعبه النظام في توريط الفلسطينيين في حروب لبنان من أجل القضاء على الوطن الصغير.
تغاضوا عن الدور الذي لعبه النظام في إدخال إيران إلى سوريا ثم إلى لبنان بهدف تأجيج الصراع المذهبي في تلك المناطق.
تغاضوا عن دوره التآمري على العراق في كلّ وقت من الأوقات. هذا غيض من فيض ممارسات النظام في نصف قرن وأكثر.
هناك لائحة لا تنتهي وربّما لن تنتهي يوما لإنجازات النظام السوري الذي لا يخجل من ترديد كلمة “استقلال” ومن استعادة ذكرى الكارثة التي حلت بسوريا في مثل هذه الأيّام من العام 1963. هل من نظام في العالم يفتخر بكارثة ويلجأ إلى ذكرى تلك الكارثة لتبرير حربه على شعبه؟
متى ينتهي دور النظام السوري. لن ينتهي قبل الانتهاء من سوريا. السيناريو اليوغوسلافي صار جاهزا. قد يكون هذا السيناريو الوحيد الذي يصلح لسوريا ما بعد المراحل التي مرّت فيها منذ استيلاء البعث على السلطة قبل خمسة وخمسين عاما…
بعد الغزو السوفياتي لأفغانستان كانون الأول/ ديسمبر 1979 أعلنت الولابات المتحدة كنوع من الاحتجاج مقاطعتها لدورة الالعاب الأولمبية المقامة في موسكو صيف 1980. وبطبيعة الحال حذت دول عربية وإسلامية حذو واشنطن وانضمت للمقاطعين احتجاجا على غزو أفغانستان.
الآن تقيم دول عربية وإسلامية احتفالات صاخبة بوصولها لكأس العالم المقام في روسيا هذا الصيف ويتسابق عرب والمسلمون على المشاركة جمهورا وإعلاما وصفقات تجارية بهذه المناسبة الكروية في وقت تقترف روسيا أبشع المجازر والجرائم الإنسانية في سوريا وبشكل متواصل ومستمر وبوقاحة وصفاقة فجتين!
ويتواصل مديح عربي رسمي للدور الروسي في صناعة سلام في سوريا عنوانه أشلاء الأطفال وحرق الأخضر واليابس. ويستقبل بوتين هدايا نفيسة وسيف دمشقي من حكام وتعقد مع موسكو عربيا صفقات تجارية واتفاقات وتفاهمات!
ما الذي تفعله روسيا في سوريا وما الذي تريده وتصبوا إليه؟ بعيدا عن التحليلات السياسية يمكن قراءة ذلك من خلال تصريحات روسية صريحة وواضحة وعلى مدار أعوام وشهور سبقت التدخل الروسي العسكري في أيلول/ سبتمبر 2015 وترافقت معه وأعقبته. بالنسبة لرأس الكنيسة الأرثوذكسية الروسية فالحرب في سوريا حرب مقدسة، موقف سبقة تصريح لافروف في بدايات الثورة السورية وحينما كان سلمية حتى النخاع بقوله أن روسيا لن تسمح بقيام دولة سنية في سوريا!!
على مستويات عسكرية عالية تباهت موسكو بتجربة أعداد كبيرة من الأسلحة الروسية الحديثة في سوريا فيما أقرت تقارير روسية إعلامية عن استخدام الساحة السورية للتخلص من مخزونات الأسلحة الروسية القديمة والبالية، مما وفر تكاليف باهظة وتبعات بيئية سلبية. الروس يتحدثون عن مصالح لهم في سوريا وقد عقدوا مع الأسد -الذي يعاملونه باحتقار- اتفاقيات عدة تضمن وجودا عسكريا طويل الأمد. ولا يتردد الروس أو يتحرجون من الحديث عن المكاسب الإقتصادية الكبيرة في سوريا وعن احتكار الكثير من مواردها وثرواتها الطبيعية –تحت بند استرداد قروض أعطيت للأسد للتمكين لهم من الهيمنة والسيطرة على البلاد- وعقد صفقات تجارية ضخمة للتسويق لصناعاتهم الخاملة وعن الهيمنة على عقود إعمار ما دمروه في سوريا.
دوافع الحرب الروسية المدمرة في سوريا عقائدية واقتصادية وفيها سعي معلن لفرض النفوذ والهيمنة. بكل الأحوال لا يوجد أحمق يصدق أن الإرهاب الروسي الذي دمر غروزني فيما مضى ويستهدف حاليا مدن وقرى سوريا بسياسة الأرض المحروقة، يريد محاربة إرهاب مفبرك أو مزعوم. ويكفينا مدح روسيا بوتين لأوردغان ثم أتهامه بشكل فج بأنه يدعم الإرهاب عقب إسقاط الأتراك طائرة روسية ومن بعد المصالحة والتوافق معه ووصفه بأنه شريك مهم في الحرب على الإرهاب، لإثبات أن الحرب على الإرهاب المزعوم هي ذريعة لممارسة إرهاب حقيقي لاحتلال سوريا ونهب ثرواتها.
ما الذي يضمن للدول العربية السنية والغنية أن لا تستهدفها الاحقاد والمطامع الروسية كما تستهدف سوريا الآن، خصوصا إذا استتب الأمر لبوتين في سوريا؟؟
العرب لاهون عن مخاطر محدقة وحرائق متأججة ومنشغلون إما بمعارك جانبية أو بحسابات وهمية وأماني سرابية... إن سقط الحاجز السوري، فإن تبعات الطوفان القادم ستكون قاسية، ومدمرة وغير مسبوقة.
وقتها، لن يجدي ندم ولن تنفع حسرة... وحساب الآخرة أشد وأبقى!!
لا يعقل أن يقف المجتمع الدولي عاجزاً أمام هول ما يجري في غوطة دمشق الشرقية من قتلٍ لمدنيين عزل، إلا إذا فسّر ذلك بوجود شبه إجماع دولي، غير معلن ربما، لكنه متفق عليه، أو على الأرجح مسكوت عنه، حيال عدم القيام بأي شيء جاد وحازم لإيقاف جرائم الحرب التي يخوضها حلف الأنظمة المستبدة الثلاثة، الأسدي والبوتيني والملالي الإيراني.
وفيما يكتفي زعماء دول غربية باتصالاتهم الدولية والإقليمية لمحاولة تطبيق قرار مجلس الأمن 2401، القاضي بوقف إطلاق النار وهدنة إنسانية مدة 30 يوماً، لإدخال المساعدات الإنسانية والطبية، يُمعن نظام الأسد والساسة الروس والإيرانيون في الدفاع عما تقوم به طائراتهم الحربية وأسلحة مليشياتهم من قصف وحشي وتدمير شامل وقتل ممنهج بحق سكان غوطة دمشق الشرقية المحاصرة، والمضي في سياسة الأرض المحروقة التي تلتهم الأخضر واليابس، ولا تفرّق بين البشر والحجر، سعياً منهم إلى إفراغ مناطق الغوطة من سكانها وتدميرها على رؤوسهم.
في المقابل، يكتفي المسؤولون الأمميون، بدءاً من الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، وانتهاء بمبعوثه الخاص ستيفان دي ميستورا، بتذكير العالم بأن الغوطة الشرقية ستلاقي مصيراً مشابهاً لمصير أحياء حلب الشرقية، ويسمونه "سيناريو حلب"، مخفين بذلك عجزهم وعجز المجتمع الدولي الذي لم يتمكن من إدخال قافلة مساعدات إنسانية واحدة إلى الغوطة. وحتى عندما دخلت قافلة بعد طول انتظار ومناشدات شتى، منعها النظام والروس من إفراغ كامل شحنتها الخالية من المواد الطبية، كي يستمروا في قصفهم الغوطة، فاختلطت دماء الضحايا بمواد المساعدات، من دون أن يحرّك المجتمع الدولي ساكناً.
المقلق في الأمر أن قادة الدول الغربية يظهرون اهتماماً لفظياً، فقط، حيال حرب الإبادة التي يشنها الحلف الثلاثي الإجرامي، ويشدّدون في اتصالاتهم الهاتفية على ضرورة أن يستخدم الساسة الروس نفوذهم لدى نظام الأسد، كي يوقف حرب الإبادة على الغوطة، بدلاً من مطالبة الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بوقف هجمات طائراته الحربية التي تفتك يومياً بالمدنيين، وهو ما فعلته رئيسة الوزراء البريطانية، تيريزا ماي، في اتصالها مع الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، وكأن كل من ماي وترامب يحاولان تبرئة الساسة الروس من مسؤوليتهم في هذه الحرب الإجرامية. وفي السياق نفسه، اتفق كل من المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل والرئيس ترامب على ضرورة أن يمارس الساسة الروس الضغط على نظام الأسد، لكي يوقف هجماته.
وقادت دبلوماسية الاتصالات الهاتفية الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، كي يتصل بنظيره الإيراني، حسن روحاني، للتشديد على ضرورة أن يمارس نظام الملالي الإيراني "الضغوط الضرورية" على نظام الأسد، كي "يوقف الهجوم العشوائي" على المدنيين المحاصرين في الغوطة الشرقية، وإفساح المجال أمام إدخال مساعدات إنسانية، وذلك بدلاً من أن يطالب نظام الملالي بسحب مليشياته التي تحاول اجتياح الغوطة، وتحاصرها منذ أكثر من ثلاث سنوات، وتمنع عن أهلها المساعدات الإنسانية والطبية، وكأن ماكرون يريد من جانبه تبرئة نظام الملالي من مسؤولية ما يجري في الغوطة، والأنكى أنه أرسل وزير خارجيته، جان إيف لودريان، إلى طهران، الذي قابله روحاني بجفاء واعتبر أن السبيل الوحيد لحل الأزمة السورية هو دعم النظام الأسدي، أي الدفاع عن النظام المجرم والإمعان في قتل السوريين.
ويبدو أن الساسة الروس وساسة نظام الملالي مرتاحون لديبلوماسية الاتصالات التي يعتمدها الساسة الغربيون، لأن أقصى ما تحمله دعوات ومطالبات و"اتهامات" لا توقف الحرب التي اتخذوا قرارها منذ مدة، وأبلغوه للجميع، بل إنهم دخلوا في لعبة تزوير الحقائق من خلال اتهامهم دول الغرب بـ"التقاعس"، و"انتهاك" قرار مجلس الأمن، القاضي بوقف الأعمال القتالية، لأنهم لم يمنعوا "مقاتلي المعارضة من شن هجمات يومية"، حسب افتراءات وزراة الدفاع الروسية في ردها على بيان البيت الأبيض الذي اعتبر أن "موسكو تجاهلت قرار مجلس الأمن"، وأكد أن روسيا قتلت "مدنيين أبرياء وسط ادعاءاتٍ زائفةٍ بتنفيذ عمليات مكافحة الإرهاب"، واكتفى بيان البيت الأبيض بالقول إنها "التركيبة ذاتها من الأكاذيب والقوة العشوائية التي استخدمها كل من روسيا والنظام السوري، لعزل حلب وتدميرها عام 2016، وقتل آلاف المدنيين فيها".
المفترض أن يقوم المجتمع الدولي، وخصوصاً الدول الغربية، بواجباته الإنسانية، ويتحمل مسؤوليته حيال جرائم الحرب التي يرتكبها الروس وملالي إيران ونظام الأسد في الغوطة الشرقية، وسواها من المناطق السورية، خصوصاً بعد صدور قرار مجلس الأمن 2401، القاضي بوقف إطلاق النار وهدنة إنسانية ثلاثين يوماً، ومضي أكثر من عشرة أيام على عدم تطبيقه، حيث لم يتلزم به لا النظام ولا الروس ولا ملالي إيران. وبالتالي، المطلوب تحرّك دولي خارج مجلس الأمن، يضع حداً لحرب الإبادة في غوطة دمشق الشرقية وسواها من المناطق السورية، لأن المفترض أن تطبيق قرارات مجلس الأمن مسؤولية جماعية للمجتمع الدولي، وعدم تطبيقها يستلزم إجراءات عقابية ورادعة، وهو ما لم يفعله المجتمع الدولي في سورية، على الرغم من الجرائم العديدة التي ارتكبها نظام الأسد وحلفاؤه بحق غالبية السوريين، منذ بدء حربهم الشاملة ضد ثورة الشعب السوري، الطامح للحرية والخلاص من استبداد نظام آل الأسد وظلمه.
استطاعت روسيا فرض ستاتيكو براغماتي في أروقة مجلس الأمن حين وفّقت بين تمريرها لقرار مجلس الأمن رقم 2401 بعد استعمالها حق الفيتو 12 مرة على التوالي، وبين رفضها تمرير قرار إدانة إيران لخرقها القرارات الدولية لحظر توريد الأسلحة إلى اليمن. بالتوازي، دخلت روسيا مرحلة جديدة في رسمها للوقائع على الأرض السورية متخطية المسارات التي رعتها في أستانة وسوتشي، عندما كانت تبحث عن انخراط إقليمي في ترتيب مناطق النفوذ، وعن عناوين تُناسبها للحل السياسي، هذه المرة من خلال دخولها المباشر في معركة الغوطة، التي تفرز الديموغرافيا السورية تبعاً لرغبة إيران. وقد استكمل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مظلته الحمائية لحلفائه في خطابه أمام الجمعية الفيدرالية، الذي أكد فيه أن «أي استخدام للسلاح النووي ضد روسيا أو حلفائها، سنعتبره هجوماً نووياً على بلادنا، والرد سيكون فورياً».
واضح تبعاً لهذا التسلسل أن روسيا تعتبر حمايتها لإيران واحداً من الدواعي الاستراتيجية لحضورها وقوتها في التوازن الدولي في شكل عام، وليس فقط في الساحة السورية، والمصلحة المشتركة بينهما تقوم على تلازم انخراطهما معاً في حماية نظام بشار الأسد، مع كل ما يحمله ذلك من تداعيات ديموغرافية ثُبِّتت وقائعها بعد معركة حلب، وتشهد عليها حالياً أحداث الغوطة، ومع كل ما يعني ذلك من تحمّل روسيا لأكلاف هذه السياسات، خاصة حين لا تظهر قدرتها على إدارة مجمل التناقضات التي تنشأ بين الفاعلين على الأرض السورية، وأحياناً كثيرة بين الحلفاء ذاتهم.
وهذا بالمعنى الفعلي يُمكن أن يُحتسب في خانة التورّط والاستنزاف الذي يجذب الإمكانات الرئيسية لروسيا نحو الغرق في اليوميات السورية، مع ما يفترضه ذلك من انتقالها إلى الوضعية الدفاعية في أوروبا، وسعيها وراء لعب دور الوسيط بين الأميركيين ورئيس كوريا الشمالية كيم جونغ أون في آسيا.
بعد الغارات التي استهدفت القاعدة الروسية في حميميم وإسقاط الطائرة في إدلب، كان النظر إلى طبيعة الرد الروسي كفيلاً بتوضيح معالم استراتيجيتهم المقبلة هناك، على أساس أن واقعاً غير مُستقر من البديهي أن يقودهم إلى مراوحة غير مجدية تبعدهم عن طموحهم السياسي وعن المصالح الاقتصادية التي يبحثون عنها، والأنجع في هذه الحال كان يفترض تشجيع التسوية السياسية كضامن لحضورهم في استراتيجية الشرق الأوسط البعيدة الأمد.
لكن روسيا اختارت الانخراط المباشر في الداخل والانتقام لتشوُّه صورتها، ومن الطبيعي أن يتسبب ذلك بالتصاق أكبر مع القوى والميليشيات العاملة على الأرض، وأن يجرّها أيضاً إلى انقياد وانفعالات غير مدروسة كفاية.
هذه المفاضلة تحد من قدرة روسيا على اعتبار الاستحقاق السوري محطة يمكن الانطلاق منها إلى أماكن أخرى مثل ليبيا وشمال أفريقيا، أو حتى اليمن والبحر الأحمر، وهذه الإمكانات كانت مطروحة على الروس سابقاً قبل التغيّر الذي جرى مع الإدارة الأميركية الجديدة. الفجوة التي نشأت نتيجة عجز روسيا عن التمدد إلى ساحات إضافية كأي قوة عظمى صاعدة، سعى الرئيس بوتين إلى ردمها بالإعلان عن أسلحة جديدة متطورة تضعه في مكانة التنافس التقليدي مع الولايات المتحدة، وفي صدارة الصراع الكوني. ومَن يتطلّع إلى الجانب الاستعراضي للإعلان الذي وصفه الأميركيون بـ «الرسوم المتحركة»، يلمح بوادر استثمار للنتائج، وغَرَضيّة لا تتعلق بانتخابات الرئاسة في روسيا بقدر ما تركز على الجانب الدعائي الذي ذهب إلى حد طلب السفارة الروسية في الولايات المتحدة من المواطنين الأميركيين اقتراح أسماء يطلقونها على الصواريخ والأسلحة الجديدة التي تحدّث عنها بوتين!
طبعاً هذا التصعيد كان استبقه البنتاغون بالحديث عن تطوير القدرات الحربية في الفضاء، إلى درجة إعلان سلاح الجو الأميركي أن بمقدوره الضرب من الفضاء بعد عدة سنوات.
في ظل هذا الجنون النووي الذي ينزلق إليه العالم الذي سجّل رقماً قياسياً في الإنفاق الدفاعي خلال العام 2017، يُعد الأكبر منذ الحرب الباردة، يجري استسهال التلويح باستخدام السلاح النووي ليس على سبيل الردع فقط.
وبقدر ما يمثل ترامب في هذا السجال مدرسة المحافظين الجمهوريين، وخلاصة العرق الأبيض في البر الأميركي، يمثل بوتين جوهر العقل السوفياتي الخارج من الانتصار على الفاشية والباحث عن أمجاد على قياس الإمبراطورية، فحين يتباهى ترامب بأن الولايات المتحدة أرسلت أول البشر إلى القمر وأركعت الشيوعية، يأتي رد بوتين بأنه لو استطاع حينها لَمَنَع انهيار الاتحاد السوفياتي. طبعاً هذا ليس فقط سجالاً بين رؤساء دول عظمى بقدر ما هو صراع بين إيديولوجيات عميقة تعيد إنتاج ذاتها بعد استراحة، وتقود العالم إلى هستيريا تزيد من هشاشة النظام الدولي وتجهض معاييره وتطلق يد النماذج التي تفتك اليوم بالسوريين.
طبعاً حرب الغوطة تقع في الوسط من كل ذلك، ودماء أطفالها ترسم معالم النظام الكوني الجديد بكل مساوئه على جدران حطمتها صواريخ وترسانة حربية لقيطة... تبحث عن أسماء!
المساعد المجرم ((( مجد إسماعيل )))
المخابرات الجوية _ قسم التحقيق و قطاع الإفراديات
ويكفي الوجود عاراً أن هذا المسخ لازال يعيش و يأكل و ينام كما يفعل كل البشر … أسماء لا يعرفها الأحياء حفظها جيداً ألاف من الأموات قبل الرحيل الأخير ..
_ حين رموه بيننا راعه أي بشر نحن هناك.. هياكل عظمية بدقون طويلة وقطعان من القمل تشاركنا كل شيء
نظر إلينا واحداً واحداً كنت أراقبه وهو يزداد خوفاً وذهولاً فنحن حقيقة السلطة نحن المستحاثات البشرية الوحيدة على قيد الحياة …..
بدأ يتلمس رقبته يشعر بالإختناق كان بيننا جثتين و رائحة الجثث تكاد تخنقه لأن بقية الحياة لازلت معه رغم أنه ميت سوري جديد …
أخذ يقرأ القرآن بصوت مرتفع ! همسنا له أن أخفض صوتك سيقتلونك إن سمعوك لم ينصت إلينا
ودون أي تردد وقف و ذهب باتجاه الباب
حاولنا أن نمنعه لكنه طرق باب الزنزانة … وقضي الأمر سيموت بعد قليل فكل من يطرق الباب هناك يموت .. لكنه موت مختلف تماماً ..موتٌ بداخل أعماق الألم ….
وجاء صوت المساعد المسخ ’’مجد إسماعيل’’ كريهاً قبيحاً دنيئاً ككل مافيه دقائق وفُتح الباب :
_ قبل أن يسأل مالأمر بادره المعتقل الشهيد بالبكاء وبعض التوسلات وهو يحكي قصته :
ياسيدي دخيلك أنا طلعت مع أولادي لنشتري غراض من الدكان وجيتو أنتو وأخدتوني وولادي ضلوا بالدكان دخيلك يا سيدي ولادي صغار ابني سبع سنين وبنتي 4 سنين مرتي متوفيه من سنه أنا من جسرين بالغوطة يا سيدي ولادي وينهن يا سيدي الله يخليك ولادي وينهن مع مين بقيوا طالعني من هون يا سيدي دخيلك !!!!
_ بدأ مجد إسماعيل يفكر كيف سيقتله و أي عذاب سيسقيه وعرف أنه رجل بسيط…
قال له : قلتلي بدك ولادك لكن .. وبدك تطلع من هون !!!
بتعرف قسماً بالله لأطالعك من هون تعال لقلك لك أصلاً أنا ربك هون ولاك ….
واعتصرنا الألم عرفنا أنه سيقتله
_ جره خارج الزنزانة كبل له يديه إلى الخلف بحيث كان وجها يديه على بعضهما كأنه يصفق … نادى على مسخ آخر قال له : أمسكه لا تخليه يتحرك !!
فتح باب الزنزانة على آخرها أدخل له يداه الملتصقتين ببعضهما بين الباب وإطاره الحديدي أدخلهما حتى الرسغ صرخ بكل قوته بدي ألعن ربك ورب ولادك. وطبق الباب بكل قوته على يدي المعتقل....
فانهرس كفاه بين الباب وإطاره ووصل عويله إلى أبعد مجرات هذا الكون …. كان يبكي ويجأر ويصرخ وينوح ويغمى ويموت من الالأم بذات الوقت
حين ذهب المسخ كانت أصابعه داخل زنزانتنا نراها أمام أعيننا والدم سال من مكان أصابعه حتى لامس أرض الزنزانة فرسم خطاً لن أنساه ما حييت
أما جسده فكان خارج الزنزانة يشرب أعمق أنواع الألم البشري ….
المصيبة أنهم كانوا كلما فتحوا باب زنزانتنا ليرموا لنا معتقل جديد أو ليطلبوا أحدنا للتحقيق أعادوا كفيه بين الباب وإطاره وطبقوه مرة أخرى في مكان جديد لم يبق لحم أو عظم في كفيه ….. ولم يعد هو ليصرخ على وقع فرم يديه ...
في صباح اليوم التالي سقطت أصابعه الخنصر والإبهام والصغرى داخل زنزانتنا … بينما بقي جسده خارجاً
أدخلوه قبل المساء …. عندما نظرت إليه كان أسوء بكثير مما توقعت …
فأحد المسوخ حفر من تحت عينه إلى أسفل ذقنه بالمفتاح كلمة الأسد....
أنفه عبارة عن بعض العظام المختلطة ببقايا لحم وجهه... عينه اليمين ليست هناك جسده مغطى كله بالدم
في الليل شهق مرتين ثم توفى كأنه لم يكن بيننا …..
_ أضفناه إلى قائمة ثأرنا من نظام الأسد …
إن كان السجن ينفى الحرية فالمعتقل ينفي الوطن فلا وطن طالما أن هناك معتقل ….
ولاشك أن مجد إسماعيل نسي هذه الحادثة فقد مضى عليها ست سنين
ونسي كيف غرس مرة مسماراً في ساقي لازالت أثاره حتى هذه اللحظة ونسي أسماء مئات الشهداء السوريين الذين قتلهم بيديه …..
لكننا لن ننسى وكلما طغوا إجراماً زدنا إصراراً وكل يوم يمضي لا يزيدنا إلا عزيمة وإباءً وإيمانأً بنصرنا وقوائم شهداءنا تزداد كل يوم … و صفحات إجرامهم إمتلأت حتى لم يعد فيها مكان لجديد …..
_ أفكر فيك دوماً يا مجد إسماعيل أنت ونصر إسبر وأقول :
فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا ۚ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ …... صدق الله العظيم
لا أنسى أبدا عندما كنا في الصف الثالث الإعدادي دروس المختبرات التوضيحية عندما كنا ندرس عمليات تشريح الأرانب والضفادع والفئران وتأثير التفاعلات الكيميائية والسموم المختلفة عليها، ولم يخطر أبدا في بالنا عندئذ أن يتحول 375 ألف إنسان في الغوطة الشرقية إلى حقل تجارب كبديل عن تلك الحيوانات والحشرات التي كنا ندرسها.
ولم يقتصر الأمر على ما ذكر فقط بل تحول إنسان الغوطة الشرقية اليوم إلى حقل تجارب لكل الاختبارات والتجارب العضوية منها وغير العضوية من جوع وعطش ونقص الأدوية وتفاعل للذرات الكيماوية عليه، فضلا عن اختبار الانفجارات المتنوعة الانشطارية وغير الانشطارية واختبار احتراق الغازات المختلفة كالفوسفور الحارق والنترات والنابالم.
تلك التجارب التي كنا نجريها في المدارس تجري على إنسان الغوطة الشرقية اليوم ولا يحتاج العالم إلى مكبر أو مجهر كي يراها، فهو يراها على الشاشات ومنصات التواصل الاجتماعي رأي العين دون عدسات مقعرة أو محدبة.
كل هذا يحدث في الغوطة الشرقية المحاصرة منذ ست سنوات وعلى بعد كيلومترات قليلة يعيش أهل دمشق في رغد وأمان وتخمة من شراب وطعام ونعم .
نعم إنها الغوطة وأهلها المساكين الذين يعيشون اليوم ميدان تجارب ومختبر تحليل حقيقي منذ سنوات لم يتعرض له أي مكان أخر في الكرة الأرضية. ورغم الحصار المطبق من جميع الجهات على الغوطة وأهلها منذ الشهر التاسع عام 2013 ومنع دخول الغذاء والدواء، والقصف المتواصل بمختلف أنواع الأسلحة التقليدية فإن الطغاة والمتجبرين في الأرض لم يكتفوا بهذا فكثفوا في الشهر الأخير هجماتهم بالغازات الكيماوية "السارين والكلور وغيره" وبالأسلحة الفتاكة من جميع الأشكال، ففي كل يوم من الأيام الأخيرة يسجل الراصدون أكثر من 300 غارة جوية وعشرات البراميل المتفجرة والقذائف المتنوعة التي تحول العشرين كم2 من مساحة الغوطة الشرقية إلى أشلاء وأنهار من الدماء، دماء الأطفال والنساء والشيوخ والشباب، فالكل في بوتقة واحدة وفي محرقة واحدة لا تمييز.
وكل ذلك يحدث ويفاجئك الرئيسان الأمريكي والفرنسي بالقول إنه إذا ثبت استخدم نظام الأسد وحلفائه للسلاح الكيماوي فإننا سنحاسبه!، أفبعد كل الذي جرى ويجري لم يثبت لهما استخدام الكيماوي، وهل الأسلحة الأخرى المستخدمة أقل فتكا؟!
ولكن ماذا يمكننا أن نفعل أو نقول؟ّ!؛ فها هي الأمم المتحدة وبعد فشلها في تطبيق القرار 2041 الخاص بالهدنة وبوقف اطلاق النار وقبل ذلك من القرارات الخاصة بسورية أصبحت كرجل خرف يوصي أبنائه ولا أحد يلقي له بال أو يحترم وصيته التي تفتقد لأي مسوغ رادع لهم.
وها آنا الآن أطلق صرختنا الأخيرة لكل من ينظر إلينا من خارج الغوطة ونحن نموت أمام أعينهم، قائلين لهم قد تكونوا أنتم أو أبنائكم أو نسائكم في هذا المكان فماذا أنتم فاعلون؟!
تتعدد كتب التاريخ التي تتناول نهاية الحكم الأموي في بلاد الأندلس، وشيوع ظاهرة تقسيم البلاد لطوائف وممالك وقطاعات ودول، جعلت منها لقمة سائغة في وجه الطامعين، وأوصلت صراعات الملوك والاستعانة بأعدائهم على بعضهم البعض لإنهاء حكمهم واحداً تلو الأخر.
وفي الثورة السورية لنا وقفة مطولة مع "ملوك الفصائل" وماسببته النزاعات والصراعات الداخلية بين مكونات الثورة السورية من تراجع و انكسار بعد أو وصلت لأوج قوتها وكادت أن تطيح بحكم أل الأسد وتنهي عصوراً من الاستبداد، إلا أن صراعات الملوك أنهكت بنيتها الداخلية وشتتت قواتها، وأعطت للأسد زمام المبادرة لتلقي الدعم والتغلب على أبناء الثورة.
برزت الصراعات الداخلية بشكل أساسي في الشمال السوري بعد تسلح الثورة وتشكيل أول بنية للجيش السوري الحر، والذي التفت الجماهير الثورية حول الثوار من المنشقين وأبناء الحراك المنضوين في الجيش السوري الحر الذي برز كقوة عسكرية باسم الثورة وللدفاع عنها، إلا أن ذلك لم يطل مع بدء تشكل الزعامات وتنوع الأفكار والبدء بتأسيس فصائل جديدة خارج بوتقة الجيش الحر.
ظهرت الفصائل الإسلامية والمتشددة والمعتدلة وتنوعت تشكيلات الجيش الحر ذاته، وتنوعت الرايات والمسميات، خلق ذلك ارضاً خصبة للصراع على السيطرة والتملك في الأرض المحررة، كانت الثورة قد بلغت أوج قوتها في 2012 و بدايات 2013 مع خروج النظام من مناطق واسعة في إدلب وحلب والرقة ودير الزور وحماة وحمص وريف دمشق ودرعا، وبدء مراحل السقوط للنظام.
مع بدء الخلافات والصراعات الداخلية بين مكونات الثورة العسكرية بدأت مراحل الصراع العسكري تظهر بشكل جلي، وبدأت الفصائل والملوك تتكتل بين بعضها البعض، كل طرف يسعى لإنهاء الطرف الأخر، وما إن ينتهي ينشق الحلفاء ويبدأ صراع جديد بينهم، فاندثرت فصائل وظهرت أخرى وحارب أبناء الثورة بعضهم البعض، في وقت كان النظام يجيش حلفائه ويعقد الاتفاقيات ويقدم التنازلات ليحصل على دعمهم.
لا يسعنا ذكر الأسماء التي مثلت الحراك الثوري المسلح في تاريخ الثورة السورية بل تعداد أرقام التشكيلات التي ظهرت ومنها اندثرت ومنها ما تقسمت ومنها ما ابتلعت من فصائل أخرى، إلا أن الواضح بشكل جلي لكل متابع أن هذا التنوع في التشكيلات والانقسام جعل الثورة السورية لقمة سهلة من أراد اختراقها وتوجيهها في غير هدفها، ومن أراد حرف البوصلة وخلق تيارات وصراعات أيديولوجية وفكرية ودينية، تسببت بإنهاك الحراك الثوري واستنزاف طاقته البشرية والعسكرية.
ومع كل حالة الإنسكار التي وصلت إليها الثورة السورية وخسارتها لمساحات كبيرة من المناطق تسقط تباعاً بيد النظام وحلفائه، مع الإصرار الشعبي على المواصلة في درب الثورة وعدم التراجع، إلا أنه وحتى وقتنا وبعد سبع سنوات من بدء الحراك لم يدرك "ملوك الفصائل" أن صراعاتهم هي من أنهكت الثورة وأصابتها في مقتل عظيم.
"ملوك الفصائل" من القادة والأمراء والزعماء الذين تربعوا على عرش مناصبهم وباتت لهم دائمة دون تبادل للأدوار أو اعتراف بفشل أو تسلم الأجدر للقيادة، باتت المقرات المحصنة والسيارات الفارهة والحرس والجنود بتعداد الألاف والدبابات والمعسكرات والارتباطات الخارجية بين أيديهم، فنسوا شعباً يعيش في المخيمات وأشلاء أطفال تمزقها الطائرات، وصرخات نساء سلبت عفتهم في المعتقلات، وبات همهم السيطرة والتملك وإنهاء الخصم وقتل رفاق الدرب.
ثورتنا اليوم في مرحلة خطيرة مع استمرار الصراع بين "ملوك الفصائل" وعدم صحوتهم للخطر المتربص بهم جميعاً في ممالكهم التي تقاسموها، سط معاناة ألاف المدنيين، تحتاج اليوم لمن ينقذها ويوحد صفوفها لرجل لا يأبه للسيطرة إلا تحرير الأرض ونصرة المستضعفين بحق، نعم نفتقد اليوم لقادة من أمثال عبد القادر الصالح ويوسف الجادر أبو فرات ليقودوا حراك الشعب الثائر المصمم على طلب الحرية وتحقيق هدفه في الخلاص.
أجمع المحاضرون والمشاركون في الجلسة المخصصة لمناقشة السياسة الروسية في سورية، ضمن المؤتمر الذي أقامه معهد الدوحة للدراسات العليا، بالتعاون مع المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، يومي 4 و 5 مارس/ آذار الجاري، عن سياسة روسيا في الشرق الأوسط، أجمعوا على أن من الصعب فهم هذه السياسة في سورية، وتساءلوا عما إذا كانت روسيا تملك رؤية لإنهاء الصراع في سورية الذي انطلق في مارس/ آذار 2011، ويكمل سنته السابعة الشهر الجاري.
"سيكون الظنّ أن السياسة الخارجية لبلد ما لا تنطلق من أرض فكرية صلبة أمرًا غير مقبول في عالم اليوم". وروسيا دولة كبرى، ولديها رؤيتها لدورها في العالم الذي تطمح إليه، ولديها استراتيجيتها وتكتيكاتها. كما كتب الدكتور نواف التميمي في مقالةٍ في "العربي الجديد" (19/10/2015).
لكن كل رؤية واستراتيجية وتكتيكاتها تحتمل الخطأ في رسمها، كما تواجه تحديات التنفيذ في أرض الواقع. ويمكن فهم سياسة روسيا في سورية على ضوء مجموعتين من العوامل: واحدة تتعلق برؤية روسيا لدورها في العالم واستراتيجيتها العالمية، وسورية جزء من هذه الاستراتيجية، وأخرى تتعلق بالصراع الدائر في سورية ذاتها وأطرافه الإقليمية.
دور ورؤية
يشكل الحنين للفترة السوفييتية عاملًا رئيسا في تشكّل الوعي الوطني الروسي، خصوصا أن القيادات العسكرية والسياسية والاجتماعية والفكرية قد عاشت شبابها وردحًا من عمرها في تلك الفترة، حين كانت روسيا في قالبها السوفييتي تشكل قوة عظمى منافسة للولايات المتحدة. ويملأ الحنين لتلك الفترة الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أيضًا الذي يعتبر أن انهيار الاتحاد السوفييتي بمثابة الكارثة الجيوسياسية الأكبر في القرن العشرين، وقد وعد بوتين الروس بأنه سيعيد مجد روسيا. وبينما تتجه "نخب روسية ليبرالية معارضة" نحو رؤيةٍ أكثر قربًا من القيم والسياسة الغربيتين، تسعى "نخب روسية وطنية" اليوم إلى استعادة ذلك الدور الروسي - السوفييتي السابق، أو شيء قريب منه. وتتخذ مجموعة النخب الوطنية موقفًا سلبياً تجاه قيم الليبرالية والديمقراطية، كونها قيما غربية تمحو التقاليد والثقافات في البلدان التي تهيمن عليها، وترى أن النظام العالمي أحادي القطبية قد انهار، ولم يبق منه سوى القشرة، ويمكن للصين مع روسيا العمل لتغيير أحادية القطب العالمي الأميركي، ويطمح الرئيس بوتين إلى بناء الاتحاد الأوراسي واسع الأبعاد الذي يضمّ روسيا وكازاخستان وبيلاروسيا وأوكرانيا.
جاء استمرار عداء الغرب لروسيا مثل طاسة ماء بارد على المشاعر القومية الروسية الحارة، فزادها تصلبًا وعنادًا، فقد سلخت دول الغرب من الهيمنة الروسية دول شرق أوروبا ودول الاتحاد السوفييتي السابق في آسيا والبلطيق، وشجعت التمرّد في كل من الشيشان وجورجيا وأوكرانيا، بل مولت الولايات المتحدة مظاهرات ضد بوتين سنة 2011، وطوّقت روسيا بحزام من الصواريخ البالستية، وفرضت عقوبات اقتصادية وسياسية على روسيا، ردا على سيطرتها على القرم، أي عاملتها كدولة عالمثالثية، بينما لم يفرض أحد أي عقوبات من أي نوع على أميركا وحلفائها الذين غزوا العراق بدون أي تفويض أممي، كما عامل الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، روسيا وبوتين باستخفاف، فقد قال في خطاب الاتحاد في ديسمبر/ كانون الأول 2015: "نجحنا في احتواء إيران وروسيا واستنزاف مواردهما في سورية. ولدينا أعظم اقتصاد في العالم وأقوى جيش في العالم، والدول التي لديها مشكلات تأتي إلينا، ولا تذهب إلى أي دولة أخرى". وفي تصريح آخر، قال أوباما إن روسيا دولة إقليمية ودولة ريعية.
زاد هذا التعامل من عناد بوتين وعنفه، وبقية النخبة الحاكمة في موسكو. ولعل تمظهر شخصية بوتين، وميله إلى إبراز عضلاته وقوته الشخصية وحبه المغامرة هو التعبير الأبرز عن السياسة الروسية الجديدة اليوم. وقد شهدنا هذه العقلية في كل من الشيشان وجورجيا والقرم وشرق أوكرانيا، ونراها اليوم في سورية.
العوامل المتعلقة بالصراع
ضمن رؤية روسيا العالمية لدورها واستراتيجيتها في العالم، يشكل الصراع في سورية جزءًا من ساحة الصراع العالمية ولوحته، ولأن الخصم الرئيس لروسيا ورأس الحربة المعادية لها هي الولايات المتحدة، فإن سياسة أميركا تجاه سورية تعد باروميتر سياسة روسيا في سورية، وتسهم في الصياغة اليومية للمواقف الروسية تجاه الصراع. وقد شجع انسحاب إدارة أوباما من الإقليم بوتين على لعب دور أكبر في سورية والمنطقة.
تتبنّى القيادة الروسية إيديولوجيا معادية للحرية والديمقراطية، وترى أن الثورات الشعبية تؤدي إلى فوضى، وهي تقف ضد أي ثورة، وتؤيد الأنظمة المستبدة وتقف إلى جانبها. وقفت السياسة الروسية ضد الربيع العربي ككل، وضد الحراك الشعبي السوري العفوي الذي انطلق في مارس/ آذار 2011، لكنها اقتصرت، في السنوات الثلاث الأولى، على تقديم دعم سياسي ودبلوماسي وإعلامي للنظام، مع استعدادٍ لقبول إجراء إصلاحات يجريها الأسد. وبسبب الزخم الهائل للحراك الشعبي، وافقت على تطبيق مبادرة جامعة الدول العربية التي قدمتها في أكتوبر/ تشرين الأول 2011، على الرغم من تضمنها مبدأ انتقال سياسي، كما وافقت على إعلان جنيف 1 نهاية يونيو/ حزيران 2012، لإدراكها ضعف النظام آنذاك واحتمال سقوطه، فرأت في اتفاق البيان إمكانية لتشكيل سلطة انتقالية بمشاركة النظام.
لكن مرونة روسيا المحدودة هذه اصطدمت برفض الأسد وإيران أي نوع من الإصلاح. أما بعد ازدياد الطابع الإسلامي لفصائل المعارضة، وبروز مجموعات سلفية قوية، فقد أصبح دعم الروس أقوى لنظام الأسد. غير أن التحول في سياسة روسيا تجاه الصراع في سورية جاء بعد أحداث أوكرانيا في فبراير/ شباط 2014، ثم عندما تضعضع الوضع العسكري للنظام وحلفائه الإيرانيين في صيف 2015 تدخلت روسيا عسكريًا في 30 سبتمبر/ أيلول 2015. وأدى تدخلها إلى قلب الموقف عسكريًا لصالح النظام. ثم جاء التبدل في موقف تركيا بعد تأزم العلاقة مع روسيا، إثر إسقاط الطائرة الروسية والإجراءات الاقتصادية العقابية الشديدة التي اتخذها بوتين ضد تركيا، ثم بعد الانقلاب الفاشل والموقف الأميركي المشجع له ضمنًا، ليكمل تبدل المعادلة السياسية في غير صالح المعارضة، والتي بدأت التراجع العسكري وبالتالي السياسي. فكانت عملية أستانة التي ساعدت بها تركيا، وتسببت في إضعاف المعارضة عسكريًا وعودة سيطرة النظام على مناطق واسعة، كانت تحت سيطرة المعارضة، وخصوصا مدينة حلب، وجديد تجلياتها الهجوم الوحشي على الغوطة الذي يتوقع أن تتلوه هجمات مماثلة على مناطق المعارضة في الرستن وتلبيسة والحولة، ثم في شمال محافظة حماة وغربها وفي منطقة الغاب، وستتبعها درعا، وهذا كله ما لم يتم فرض وقف شامل لإطلاق النار في عموم سورية، وما زال هذا الاحتمال غير قريب، وتسرع روسيا والنظام إلى قضم أكبر مساحة ممكنة من المناطق المتبقة تحت سيطرة المعارضة، قبل أن يصبح هذا الاحتمال أمرًا واقعًا.
في المحصلة، وبفضل تدخلها في سورية، دخلت روسيا بقوة أكبر الى الساحة العالمية. وحققت لها قاعدتها العسكرية في طرطوس وجودا في المياه الدافئة شرق المتوسط. واستعملت روسيا سورية حقل تدريب للعسكريين الروس، وحقل رمي لتجريب الأسلحة الروسية، وقد أنتج هذا الأمر عدة صفقات لبيع صواريخ إس 400 إلى عدة دول في المنطقة. وقد شجعت هذه المكاسب الروس على تقديم الدعم الكلي للنظام، سياسيًا، ودبلوماسيًا، وعسكريًا وماليًا.
لسنا في حاجة للقول إنه لا علاقة لموقف روسيا تجاه الصراع في سورية برفضها التدخل في شؤون الدول ذات السيادة، فروسيا تدخلت في جورجيا وأوكرانيا، وهي دول ذات سيادة، وتدعم متمردين ضد حكومة شرعية. واقتطعت القرم من أوكرانيا بقوة السلاح.
مأزق روسيا
وعد بوتين الروس بأنه سينتصر في سورية سريعًا، كما انتصر في الشيشان وجورجيا والقرم. على الرغم من أن سورية أكثر تعقيدًا، وعلى الرغم من موقعها المطل على المتوسط، فهي أقل أهمية من القرم ومن أوكرانيا ومن جيورجيا ومن دول البلطيق السوفييتية السابقة. وسورية في النهاية جزء من استراتيجية روسيا الدولية، وتريدها ورقةً تقايض بها على أوراق أخرى بيد الغرب. ولكن شروط المقايضة لم تنضج بعد، ولا تعرف روسيا متى تنضج. ومن جهة أخرى، تعلم روسيا أنها تستطيع أن تكتسح مواقع المعارضة بوقت قصير، عبر زيادة كبيرة للقصف الجوي، لكنها تدرك أن هذا لا يخدم مصلحتها بإيجاد حلٍّ يحقق قبولًا غربيًا بحدٍّ أدنى، ولا يخدم قبول دول الخليج وأوروبا والمؤسسات الدولية في المساهمة في إعادة إعمار سورية بتكاليفها الباهظة، والتي قدرها البنك الدولي بأكثر من مائتي مليار دولار. وتعلم أيضاً أن زيادة التدمير المادي والاجتماعي سيجعل إعادة الاستقرار في سورية أمرًا بعيد المنال، وستبقى ثمّة حاجة لقوات روسية وإيرانية دائمة لحماية النظام.
تعلم روسيا أنها تخسر سمعتها في العالمين، العربي والإسلامي، بعد تدخلها العسكري في سورية، وهذا ما بينه عرض استطلاع الرأي العام العربي الذي أجراه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في 2016، وبين تحولًا سلبيًا كبيرًا في موقف الشارع العربي من موقف إيجابي إلى حد ما وسلبي محدود، إلى موقف سلبي كليًا بعد التدخل العسكري في سورية، بل بات 70% من العينة يرى أن روسيا تهدد الأمن والاستقرار في المنطقة.
لا تعرف روسيا حتى الآن كيف توفّق بين حل سياسي يرضي الغرب ويدفع أميركا إلى التفاهم معها، حل يجتذب أوروبا ودول الخليج للمساهمة في إعادة الإعمار، وبين خشيتها من أن أي تغيير في النظام سيؤدي إلى انهياره، وضياع مصالحها مع أي سلطة قادمة. ثم لديها عقدة إيران باعتبارها شريكا لديه مليشيات قوية على الأرض، والتي لا ترى سورية بدون الأسد، وهي تريد نصرًا مبينًا على المعارضة وسحقها من دون رحمة، مهما كانت التكاليف، من دون أي حل سياسي. كما تصطدم روسيا برفض النظام السوري لأي حل سياسي. وقد سعت روسيا إلى أن تمسك إيران بيد، وتركيا باليد الأخرى، والسعودية بيد ثالثة، علها تخلق "الخلطة" الملائمة للحل، واخترعت مسار أستانة ثم مسار سوتشي الفاشلين بديلا لمسار جنيف. ولا تستطيع روسيا تجاهل رغبة إسرائيل بإبعاد حزب الله، وأي وجود إيراني عن حدود احتلالها في الجولان، بينما تحتاج إيران للمتاجرة بهذا الوضع. وتعلم روسيا أن الولايات المتحدة تريد أن تغرق روسيا في الوحل السوري، لذا ساهمت بعرقلة الوصول إلى أي حل سياسي، ثم جاءت استراتيجية ترامب المعلنة أخيرا، لتخرّب على بوتين كثيرا مما حققه من قبل، ووضع حدود لمساحة تحرّك روسيا في سورية، وتعلم روسيا أن نقطة ضعفها تكمن في أن أميركا يمكنها، في حال تصعيد الصراع، أن تلحق خسائر كبيرة بروسيا وهيبتها بالسماح بتمرير صواريخ أرض جو إلى سورية. ولعل إسقاط الطائرة الروسية بصاروخ قبل أسابيع رسالة بهذا المعنى. واليوم أصبح لدى الولايات المتحدة الآن 13 قاعدة عسكرية وموقعا عسكريا في شرق الفرات، ولن تنسحب من سورية طالما كانت القواعد الروسية موجودة. وهذا يعرقل الوصول إلى أي حل سياسي يعيد وحدة سورية مستقبلًأ. وينتظر بوتين الوصول إلى تفاهم مع الأميركان حول سورية، ولكن يبدو أنه سينتظر طويلاً، فالأميركان ليسوا في عجلةٍ للتفاهم مع بوتين بشروطه، والبديل هو إغراقه في الوحل السوري، لكي يقدم تنازلًا في أوكرانيا، وهو غير مستعد لذلك. وكل هذا في النهاية تسابق بين جميع اللاعبين لإغراق سورية وشعبها في الوحل.
أخيرا
تحتاج روسيا إلى حل، ومستعدة لعقد صفقة، لكنها لا تعرف ما هي، أو لا تجد عناصرها حتى الآن، لكن شعورها بأنها في أزمة ضاغطة يتزايد كل يوم. على الرغم من أن كل ما تحتاجه للخروج من الوحل السوري، ووضع حد لأكبر مأساة في العصر الحديث بعد الحرب العالمية الثانية، هو أن تفكر بطريقة أخرى، مختلفة عما سبقها، فإعادة استعمال المبدأ نفسه، والأدوات نفسها، والمنهج نفسه، لن يعطي نتائج مختلفة، وهي نتائج كارثية يدفع الشعب السوري ثمنها الآن ومستقبلاً وستكون مشكلة لروسيا. وليس أمام روسيا سوى طرح رؤية جديدة، وصياغة حل يحقق جزءا من مصالح كل طرف، ولا يحقق كل المصالح لأي طرف، حل يقوم على تعاون واقعي بين أطراف الصراع لإنجاحه، حل قابل للتطبيق والديمومة، يعيد الاستقرار الحقيقي لسورية، بدلا من الاستقرار المفروض بالسلاح، حل يفتح آفاقا لإعادة وحدة سورية وإعمارها وبناء نظامها السياسي الديمقراطي التعدّدي الذي يعيد السلطة إلى الشعب. وفي الوقت نفسه، يحقق مصالح روسيا، ويلقى قبولًا معقولًا من مختلف أطراف الصراع في سورية. فهل هذا ممكن؟ إنه السهل الممتنع حتى الآن.
في الوقت الذي ترتكب فيه المجازر المروّعة ضد المدنيين في غوطة دمشق الشرقية، وتهاجم قوات النظام السوري وحلفاؤها الروس والإيرانيون هذه المنطقة المجوّعة والمحاصرة منذ سنوات، كان مسؤولو شركات كبرى مجتمعين في قاعة مؤتمرات لمناقشة «فرص التجارة» بعد أن تقوم تلك القوّات بتسوية مدن وبلدات ريف دمشق التي تسيطر عليها بالأرض، وتحوّل من بقي من سكانها حيّا أو غير معتقل إلى أسرى في بلادهم.
الاجتماع الذي حضره 200 مدير شركة اجتمعوا في غرفة التجارة الروسية ناقش كيفية الاستثمار في نتائج العمليات العسكرية وتحويلها إلى فرص تجارية، متناولا قضايا النفط والغاز والخدمات الهندسية والشحن وعقود الإعمار والكهرباء والسياحة وغيرها، وحسب مدير غرفة التجارة الروسية سيرغي كيترن فإن «الأولوية ستمنح، كما قال الرئيس بشار الأسد»، للأعمال الروسية».
يفترض هذا الاجتماع أن جهة عالميّة ستدفع فاتورة «الإعمار» الهائلة التي تقدر بمئات المليارات، لكن هذا الافتراض يثير السخرية أمام ما يجري فعليّاً بين الأسد و«حلفائه» الذين يريدون مقابلاً كبيراً لتثبيته (حتى الآن) على كرسيّه المبني على الجماجم.
حققت روسيا مصالح عسكرية كبرى مقابل تدخلها في سوريا وقد انكشفت أسرار المعاهدة العسكرية التي تمنح موسكو وجوداً جويا وبحريا وبريا إلى أجل غير مسمى، مع إعفاء جنودها من أي ملاحقة قانونية، ولعلّ أهم بنودها ليست أن قواعدها خارج مفهوم سيادة الدولة السورية، كما يسمح لقواتها بالتحرك من دون أي تدخل من جانب السلطات السورية.
وإذا كانت هذه الامتيازات العسكرية الخطيرة لا تصرف بالضرورة إلى أموال، لكنّ وضع روسيا كحامية وضامنة وراعية للنظام، يحمل ضمناً إمكانية تحويل هذا النفوذ العسكري الضارب إلى أكثر من احتلال قواعد على المحيط الأطلسي وداخل مناطق أخرى من سوريا.
أما بالنسبة لإيران، فإن المقابل المطلوب للمساهمة العسكرية الكبرى التي قدمتها لنظام الأسد، يتجاوز القواعد العسكرية التي تملكها، والنفوذ الكبير على الأرض، إلى مصالح وامتيازات اقتصادية تم التعبير عنها من خلال اتفاقيات «تعاون» اقتصادي استراتيجي وطويل الأمد تفتح طهران من خلاله خطا ائتمانيا ثانيا يتم تسديده بقائمة أصول يطالب الجانب الإيراني بنقلها.
وحسب أمين مجلس تشخيص مصلحة النظام الإيراني محسن رضائي فإن إيران «أنفقت 11 مليار دولار على الحرب في سوريا، وستستعيد كل دولار أنفقته في سوريا والعراق وفي كل مكان»، والخطة تقوم على الاستيلاء على حصة سوريا المستقبلية من الغاز الطبيعي المكتشف في البحر الأبيض المتوسط، وفي السيطرة على إنتاج الاسمنت.
المقايضة التي يقوم بها النظام هي نقل أصول الشعب السوري، ومصادرة مستقبله البعيد، من أجل تمويل النفقات العسكرية لحربه الدموية ضد شعبه. يضاف إلى ذلك، أن المجازر، إلى كونها مناسبة لنهب معمّم و«تعفيش» لشبيحة النظام ومواليهم، فهي أيضاً احتلال لأراض لم يستطع إقطاعيّو النظام وسدنة خزائنه الاستيلاء عليها أيام السلم.
المعادلة هي أن روسيا وإيران تأخذان بالقوة ما تبقى من أصول مستقبلية للسوريين، فيما تقوم طغمة النظام بإكمال الجريمة ومثل شايلوك في المسرحية الشهيرة تقوم بقصّ رطل اللحم الحيّ من جسد الشعب.
تمر سورية اليوم بمرحلة حاسمة من تطورها، ثمة جملة عوامل تشير إلى ذلك:
أولا، تراجع جبهة النصرة، تنظيم القاعدة في بلاد الشام، بسرعة غير متوقعة أمام تحالف جديد يحمل اسم "جبهة تحرير سورية"، بعد أن بدا أن "هيئة تحرير الشام" كرست سيطرتها على إدلب والشمال السوري، ومناطق واسعة من ريفي حلب الغربي وحماة الشمالي. أغرى هذا التراجع بعضهم بالحديث عن "انهيار الهيئة"، وتتخطى دلالاته جبهة النصرة إلى انهيار التيار الإرهابي المتأسلم الذي مر أمس بـ "الدولة"، ويصل اليوم إلى "إمارة" تتبع القاعدة، بعد حقبةٍ ظهر خلالها وكأن الصراع على سورية أخذ يتعين باستقطاب حده على الجانب غير الأسدي: "دولة داعش وإمارة الجولاني"، وعلى الجانب الآخر روسيا وإيران والأسد، بتباين قدرات أطرافه لصالح روسيا تليها إيران: القوتان اللتان تجرّان وراءهما جثةً تعيش في غرفة إنعاش كتبا على بابها بأحرف نافرة: نظام الأسد. بانهيار حد التأسلم الإرهابي المزدوج، تتزايد فرص تجدد الثورة، شريطة أولا أن يلعب الشعب الدور نفسه في مواجهة التيار المتأسلم، شبه الإرهابي، الذي يقوم به منذ أشهر ضد جبهة النصرة، وأسهم بنصيبٍ لا يستهان به إطلاقا في إخراجها من مناطق رئيسة كانت فيها، قبل أن يخوض أحد أي معركة عسكرية ضدها، وأن يتعلم ممثلو هذا التيار من التجربة ثانيا، ويصدقوا أنه لن يكون في مقدورهم، هم أو أي أحد آخر، إقامة دولة إسلامية في سورية، لأسباب أهمها أنه ليس هناك، ولم يوجد قط في أي يوم كيان اسمه "دولة دينية"، فالدولة أجهزة ومؤسسات تسيرها آليات ومصالح وقوانين وضعية لا دين لها، فمن الحكمة والتعقل أن تتصرف جبهتا الأحرار والزنكي، إذا ما انتصرتا، بالروح التي تمليها مدنية ثورة جمعت، عند انطلاقتها الشعب السوري، بكل مكوناته، وطرحت أعظم برنامج يمكن طرحه لثورة شعبية جامعة، يقول في أحد حديه: "سورية بدها حرية"، يعني ما بدها الأسد، وفي حده الثاني: "الشعب السوري واحد"، يعني لا طوائف ولا فرق ولا حرب طائفية واقتتال أهلي، ولا انجرار إلى اقتتال مع هذا النصيري وذاك النصراني، هذا الرافضي وذاك المؤمن، بحجة أن حرب النظام تستهدف "أهل السنة الجماعة" دون غيرهم، بما أن الثورة ثورتهم وحدهم.
هذا الخطاب الذي يناقض حدّي الثورة ويقوضها، وأخذها إلى حيث أراد النظام والإيرانيون لها أن تذهب، بينما كان القائلون به يتوهمون أنهم عثروا على حجر الانتصار، فرفضوا تمييز أنفسهم عن الإرهابيين، لمجرد أنهم من "أهل السنة والجماعة" الذين يكمن في غلوهم الرد "السني" المناسب على غلو مرتزقة إيران الشيعة، وها هم يرون رؤية العين، إن كانت تبصر، أن هذا الموقف المذهبي كان فخا نصبه أعداء الثورة لها، أسقطوها هم فيه، كانت تكلفته بحرا من دماء "أهل السنة"، سفح بأيدي مجرمي "الدولة الإسلامية" و"القاعدة" لصالح النظام، حيثما سيطر التنظيمان، ودمرا الجيش الحر والمناطق التي أخرج النظام أو خرج منها. والآن، وبعد أن صرفت "الدولة الإسلامية" من الخدمة، بانتهاء مهمتها، اعتقد الجولاني أنه صار سيد الثورة الدينية، وأنه يستطيع معاندة سادته وأولياء أمره وأرباب نعمته من عرب وعجم، وها هو يسقط، كما تقول قرائن كثيرة وتطورات الميدان، التي تنهش بدورها جزءا من لحم الثورة.
لكي يكون هذا الجديد فرصة لتجديد الثورة، من الضروي ألا يحتل من يقاتلون القاعدة اليوم مكانها غدا، ويحموا بقاياها بحجة توبتهم أو إملاءات إخوة المنهج، وألا يلعبوا دورها في ترويع الشعب، واعتقال أبنائه أو تصفيتهم، ولا يدمروا عمرانه ومصادر رزقه، ويمنعوه من التعبير عن نفسه حتى همسا في مناطقهم. عليهم ألا يمارسوا دورها هذا، وأن يقطعوا مع بقاياها ويستقلوا عن الدول الخارجية، وبالأحرى أن يفككوا إلى أبعد حد ممكن تبعيتهم لها، ليكونوا اصحاب قرار سوري مستقل، ولو نسبيا، ويكون لهم حامل شعبي/ مجتمعي، يمكنهم الاستقواء به، بعد أن تنظم القوى المدنية التي تتحرك اليوم في كل قرية وبلدة بدور فيها صراع ضد الهيئة، قدراتها، وتحصّنها ضد الانزلاق من جديد نحو خياراتٍ تناقض حدّي ثورتها وبرنامجها الأصلي، وكذلك ضد تلاعب القوى الخارجية والعربية بها، التي لطالما تلاعبت بجبهة النصرة قبل أن "يجدبها" الجولاني ومجالسه الشرعية، ويعتقدوا أنهم يستطيعون "النط" من فوق خيالهم ، فدقوا أعناقهم!
ثانيا، بدايات تجدد دور شعبي يشبه الدور الذي صنع الثورة في بداياتها وصاغ برنامجها، السابق ذكره، وهناك اليوم علامات تشير إلى عودة ما إليه، تتجلى من خلال انفراد علم الثورة الأخضر باختيار الشعب وولائه، واختفاء الأعلام السوداء من الساحة، واستعادة هتافات التمرّد الأولى: "سورية بدها حرية، والشعب السوري واحد". إنها إدارة ظهر لثورة "أهل السنة والجماعة" التي كلفت مئات آلاف الشهداء، وعادت على النظام بملايين المؤيدين من "السنة" وغيرهم، وشقت المجتمع السوري، وقدمت الأرضية لصعود تيارات متعسكرة متمذهبة، تستخدم الإسلام لغايات تناقض رحمانيته، تتجلبب به، وتعتبر الحرية كفرا، والسوريين طوائف متعادية، لا تشكل مجتمعة شعبا واحدا، ولا يربطهم ببعضهم غير الرغبة المتبادلة في إبادة الآخر، كأن سيدنا عمر (ر) لم يعتبر الحرية حقا طبيعيا للناس، لا يلغيه دين أو تحجبه ضرورة، أو كأن شعب سورية يقبل أن يكون طوائف متناحرة، تحول يد الدولة الاستبدادية القوية دون فتكها ببعضها، كما تقول نظرية شائعة في أوساط إعلامية غربية، تسوغ بهذا التزوير استبداد الأسدية الذي تبناه جهلة "المجالس الشرعية"، وألزموا بنادق "داعش" و"النصرة" بمحاربة السوريين جماعةً بعد أخرى، وهم يوهمون أنفسهم أنهم يقتلون النظام، حين يقتلون علويا أو درزيا أو مسيحيا أو شيعيا وحتى سنيا. تستعيد الحاضنة الشعبية بعض حراكها الأول، بقي أن تحصن تنظيميا وسياسيا ضد الانجرار، مرة أخرى، وراء غوايات مذهبية وطائفية، كالتي ظهرت بعد عام الثورة الأول، وحرفتها عن مسارها الأصلي، وأخذتها إلى كارثة الأسلمة التي قوّضت الثورة وأنقذت النظام، وتسيطر اليوم أيضا على معظم حملة السلاح الذين لا يفرّقون بين العسكرة والمقاومة، ويجهلون أن الثانية تعني حمل السلاح دفاعا عن حق كل مواطن سوري في العدالة والكرامة، والقتال من أجل حرية المواطنين إناثا وذكورا، إلى أي دين أو فئة أو جنسية أو طبقة انتموا، بينما العسكرة التي تمارسها الفصائل، وعليها هجرها إن كانت عازمةً على الإقلاع عن إخضاع المجتمع وثورته لبنادق يوجّهها جهل قادة كالبغدادي والجولاني وتطرّفهم، و"مجالس شرعية" لعبت أخطر الأدوار في قلب تناقض الشعب العدائي مع النظام إلى تناقض عدائي بين أبنائه وداخل صفوفه، أراح النظام وأهلك أعداءه، بحديث ضعيف من هنا وقياس مقطوع الصلة بالواقع من هناك.
لن تكون هناك بعد اليوم ثورة على الأسدية من دون إنقاذ الثورة من هولاء، ورفع أيديهم عنها، وتفعيل الحراك الشعبي وتنظيمه وتمثيله بواسطة هيئات تنتخب بحرية، لا تسمح باي انزياحٍ عن هدف الحرية ووحدة الشعب، وأية أدلجة طائفية أو مذهبية للصراع ضد النظام، وتفسح، في المقابل، مجالا واسعا في العمل الوطني، لمشاركة سياسية متكاملة، تنخرط فيها مكونات الجماعة الوطنية السورية جميعها، من دون إقصاء أو تمييز، عسى أن تستعيد الثورة من خسرتهم، بسبب طائفية النظام من جهة، وتبني المتمذهبين المتعسكرين نهجه المدمر من جهة مقابلة. ولولا ذلك، لربما كان الأسد قد رحل عن سورية وتغير نظامه، ولما انقلبت سورية إلى ساحة صراعات وتصفيات دولية، أو اعتبر نضال شعبنا في سبيل حريته جزءا من الإرهاب الدولي. يعود حراك السوريين السلمي إلى الساحة، بشهادة مظاهرات عشرات الآلاف في إدلب وسراقب وكفرنبل ومناطق انتشار جبهة النصرة والغوطة الذين تحدثوا لغة واضحة مع "جبهة تحرير سورية"، تحذّرها من أن تغدو "نصرة" بديلة، أو تنخرط بدورها في مسيرة تعسكر وتمذهب متجدّدة، لن تكون نتيجتها مغايرة التي بلغتها "الدولة الإسلامية" والقاعدة، فضلا عن انهيار الثورة النهائي وانتصار النظام.
ثالثا، بسقوط خيار التأسلم والتعسكر الذي لا بد أن يستكمل بسقوط قواه المسلحة، تزداد الحاجة إلى استعادة برنامج التمرد الثوري الأول: الحرية والعدالة والمساواة والكرامة الإنسانية للشعب السوري الواحد، والخيار الديمقراطي بديلا أوحد للنظام، وإلى بناء أداة موحدة للمقاومة، تحمي السوريين وتتفاعل تكامليا مع حراكهم السلمي، وتسهم في وضع حد لحقبة دفع السوريون أثمانا فادحة لها، تراجع فيها دورهم وضمر وعيه، وغرقت نزاهتهم النضالية تحت أمواج تشبيح عاتية. بالتوازي مع استعادة الحراك، لا بد من استعادة برنامجه "الحرية للشعب السوري الواحد"، الذي لا يعقل أن يخالطه أو ينافسه بعد اليوم أي برنامج آخر، ما دامت الثورة لا تنتصر بل تهزم، أن كان لها برنامجان متناقضان، أحدهما متعسكر/ متمذهب يرفض الحرية ووحدة الشعب، يفتك بانصار الثاني، المنادي بالحرية والعدالة والمساواة والكرامة الإنسانية لأبناء سورية.
هل من الكثير على شعب قدم مليون شهيد أن توضع البندقية في خدمته، وتلتزم ببرنامجه، وتخضع لمدونة وطنية، تمنع الفوضى والاختراقات المعادية، والاعتداء على السوريين وانتهاك كراماتهم، باسم "ثورة إسلامية" أعادت إنتاج الاستبداد الأسدي حيثما وجدت، في مستوىً لا يقل عنه انحطاطا وتجبرا وكرها للشعب والوطن.
إذا كانت الثورات مجموعة من البدايات، فنحن أمام بداية جديدة، يجب أن نضع قدراتنا وخبراتنا في خدمتها، وأن نزودها الخطط والبرامج التنفيذية التي نكفل تناميها وتؤهلها لاستباق ما قد تواجهه من تحديات ومخاطر. هذا واجب، إن تخلينا، نحن المثقفين المناصرين للحرية، عنه، تركنا لساحة من جديد للمتلاعبين بها والمشبوهين المتطرّفين، وأسهمنا في ما يتربص بها من فشل.
حين اقترفت داعش مجازرها الوحشية، سارع كل من يحترم أبسط القواعد الانسانية، وأنا منهم، للمطالبة بمحاربة داعش عسكريا حتى دحرها، فليس من المقبول ان يستخدم اي كان الدين من اجل القيام بعمليات اقل ما يقال فيها انها جرائم ضد الانسانية جمعاء، وليس من المقبول ايضا المساومة مع مثل هذه الجماعات بأي شكل من الأشكال.
هذا الموقف بدهي ولا يحتاج الى تبرير. ولكن الوقوف ضد داعش وممارساتها لا يجوز ان يكون باي شكل من الأشكال مبررا ايضا للدفاع عن الممارسات الهمجية للنظام السوري او التغاضي عنها. وان كنّا صادقين في احترامنا للانسانية، لا نستطيع دفن الرؤوس في الرمال والاحتماء وراء مقولة ان هناك مؤامرة كونية ضد سورية تبيح لها قتل شعبها بهذه الطريقة الوحشية. ولا اعتقد ان الامم المتحدة، او سمو الامير زيد بن رعد، وقد عملت معه طويلا، واشهد له بالنزاهة والموضوعية والأخلاق العالية، جزء من هذه المؤامرة الكونية، وهو يصرح بأن ما يحدث في الغوطة يمكن ان ينحدر الى جرائم حرب ضد الانسانية يجب محاكمة مرتكبيها امام محكمة الجنايات الدولية.
ولنكن اكثر صراحة. ليس كل من يدعي الوقوف امام اسرائيل، او ضد تدخل الدين في السياسة، او مع بعض حقوق "الأقليات"، ينبغي ان يعطى تصريحا على بياض لارتكاب مجازر داعشية ضد شعبه تختلف في الطريقة وتتفق في الوحشية. ولا ننسى ان بطش النظام السوري بشعبه سبق الثورة السورية والتدخلات الأجنبية بعقود من الزمن.
ان كنّا من "الأقليات"، وهو اصطلاح مكروه ينتقص من مواطنة الفرد، لا نستطيع ان نقف مع الطغيان الممارس ضد اخوتنا العزل بحجة ان هذا الطغيان يحمينا، ومن يتجاهل معاناة اخوته المواطنين يرسّخ نعتهم بالأقلية من قبل "الاغلبية".
وان كنّا نؤمن وننادي بالديمقراطية، فلا نستطيع السكوت على انتهاك الديمقراطية من اي كان، سواء كان توجهه دينيا او مدنيا. وان كنّا نؤمن بمدنية الدولة، لا نستطيع تجاهل من يضرب بسيادة القانون عرض الحائط، فذوو التوجه المدني والديني في هذه الحالة شركاء في الجرم.
لا تستطيع المدنية الديمقراطية ان تكون انتقائية، نعلي شأنها عندما تناسبنا، ونضرب بها عرض الحائط عندما ينتهكها من يتفق معنا عقائديا. فإذا تم تجاهل قواعد الانسانية، ولم تحترم الشعوب، فلا معنى لليسار واليمين ولا للتقدمية والرجعية.
المدنية الديمقراطية الحقة تقف موقفا واحدا ممن يريد استغلال الدين لاستعباد الشعوب، كما ممن يمارس السلطوية لاستعباد الشعوب. فالممارستان مرفوضتان لان هدفهما واحد، وهو ابقاء الشعوب تحت الاستعباد. المدنية الديمقراطية ليست شعارا يرفع، ولكنها ممارسة على الارض.
الاجرام لا يحلل الاجرام، ولا يبرر اختزال المشهد بثنائية معي او ضدي، أي إما مع ارهاب داعش او مع النظام السوري. قتل المدنيين في الرقة والازيديين في العراق والمسلمين والمسيحيين في سورية والعراق لا يبرر قتل المدنيين في الغوطة وإلقاء البراميل المتفجرة والصواريخ والأسلحة الكيماوية من الطائرات ضد العزل، وجميعها لا تفرق بين مدني وارهابي. من يريد مستقبلا افضل لشعبه وللمنطقة عليه تجاوز هذه الثنائية العبثية المدمرة والعمل من اجل طريق ثالث، لا يمثل حلما طوباويا كما يريد أعداء المدنية الديمقراطية تصويره، بل أمل يستحق العمل من اجله لمستقبل تعددي أكثر إشراقا، ولمجتمع يحترم حقوق المواطنة الكاملة حيث قطرة دم واحدة لمواطن أو مواطنة أغلى من اي كرسي في السلطة.