منطقة الجنوب السوري تحت النار من جديد
في الوقت الذي ما زال النظام الكيميائي فيه يشن حربه الدموية على الغوطة الشرقية بغية القضاء على آخر معاقل الثورة المسلحة لصق العاصمة دمشق، وإفراغ مدنها وبلداتها من السكان، بدأ فجأةً سلسلة من الغارات الجوية والقصف المدفعي على مدن وبلدات محافظة درعا المشمولة في إطار منطقة «خفض تصعيد» بضمانة روسية ـ أمريكية ـ أردنية.
فما معنى ذلك؟
لا يمكن تفسير الأمر ببعض الدعوات التي أطلقت لتحريك الجبهة الجنوبية، لتخفيف الضغط عن الغوطة الشرقية. فعلى رغم النوايا الطيبة لهذه الدعوات، فهي تغفل أن تلك الجبهة هي الأكثر انضباطاً بما يملى عليها من غرفة العمليات المعروفة باسم «موك». وحتى بعد بداية غارات النظام على المنطقة، دعا الأمريكيون الفصائل هناك إلى «ضبط النفس»، بالتوازي مع الدعوة إلى اجتماع عاجل في عمان لدراسة الوضع المستجد.
إذن النظام بدأ حربه الجديدة في الجنوب بمحض اختياره، ولم يصدر عن ردة فعل على هجمات من الثوار، أو عن ضرورات عسكرية متعلقة بحربه على الغوطة. ومن وجهة نظر روسيا ـ صاحبة القرار العسكري الفعلي على الأراضي السورية ـ لم يكن الأمر نتيجة انتهاء صلاحية تفاهماتها مع واشنطن حول منطقة وقف التصعيد في الجنوب. بل من الواضح أن الأمريكيين فوجئوا بتسخين هذه الجبهة، فنصحوا الفصائل بضبط النفس، لتفويت الفرصة على روسيا على تخريب التفاهمات المذكورة.
يتعلق الأمر إذن بضغط روسي على واشنطن بحثاً عن صفقة شاملة تضع نهاية للصراع وفقاً للتصور الروسي. فقد طلب الأمريكيون من الروس التفاهم على تعميم النموذج «الناجح» لمنطقة خفض التصعيد في الجنوب على المناطق الأخرى في سوريا، أساساً لحل سياسي مستدام. في حين حاول الروس أن يغيروا موازين القوى القائمة بهجومهم الفاشل قرب دير الزور.
من ناحية أخرى، أطلقت موسكو يد تركيا في منطقة عفرين ضد وحدات حماية الشعب المتحالفة مع الأمريكيين، كنوع من الضغط المعنوي الإضافي على واشنطن، من خلال إظهارها بمظهر المتخلي عن حليفه الكردي، العاجز عن حمايته. وهو ما أربك الأمريكيين فعلاً، ووضعهم مجدداً أمام الاختيار الصعب بين تركيا والكرد، في حين أنهم لا يريدون التخلي عن علاقتهم مع أي منهما.
روسيا بوتين تملك، إذن، الكثير من الأوراق لإرباك غريمتها الأمريكية في سوريا، حتى بعدما أعلنت واشنطن، قبل أشهر، استراتيجيتها بشأن الصراع في سوريا، وفي القلب منها إعلانها عن تمديد بقاء قواتها شرقي نهر الفرات وفي الجنوب إلى أجل غير مسمى. وإذا كانت موسكو قد قبلت هذا الوضع على مضض، فهي تريد مقابل ذلك تسهيلاً أمريكياً لاستراتيجية خروج من الصراع السوري، ما زالت واشنطن تضن به عليها. وقد رأينا كيف تعاملت موسكو مع قرار مجلس الأمن 2401 بشأن هدنة إنسانية لمدة ثلاثين يوماً على كافة الأراضي السورية. فكما لم تلتزم هي نفسها ـ ومعها تابعها السوري ـ بمتطلبات هذا القرار، فزادت من كثافة نيرانها القاتلة على الغوطة الشرقية، ولم تسمح بإدخال المساعدات الطبية، وعطلت التنفيذ حين سمحت بعبور بعض الشاحنات، كذلك أعطت الضوء الأخضر لتركيا كي لا تعتبر نفسها معنية بالهدنة وفقاً لقرار مجلس الأمن المذكور، فتواصل شن هجماتها على منطقة عفرين وصولاً إلى تطويق المدينة وفرض حصار تام عليها.
كان بإمكان روسيا أن تستخدم، كعادتها، حق النقض في مجلس الأمن، لإفشال مشروع القرار. لكنها امتنعت عن ذلك، فسمحت بتمرير القرار، لتقوم بخرقه فتلقي بقفاز التحدي في وجه الأمريكيين والعالم بأسره. وها هي، بعد كل التحرشات المذكورة، تصعّد في الجنوب الذي يعتبره الأمريكيون إنجازاً لهم يطمحون إلى تعميم نموذجه.
لن يهدأ بوتين قبل إرغام واشنطن على العودة إلى تفاهمات، بشأن الصراع في سوريا، تشبه التفاهمات التي كانت قائمة في ظل إدارة أوباما. وهو ما يبدو أن إدارة ترامب التي يوجهها البنتاغون إلى حد كبير، لن توافق عليه.
في هذا الوقت جاءت إقالة وزير الخارجية تليرسون لتطلق تكهنات كثيرة بشأن أسبابها. لكن خليفته بومبيو، المدير السابق للاستخبارات المركزية الأمريكية، معروف بمواقفه المتشددة تجاه إيران. وينسجم تعيينه مع الاستراتيجية الأمريكية المعلنة بصدد مواجهة النفوذ الإقليمي لإيران.
لا يمكن التكهن بما يمكن للإدارة الأمريكية أن تطور من مفردات الرد على التحرشات والإرباكات الروسية، سواء في مجلس الأمن حيث قدمت مشروع قرار جديد بشأن الهدنة التي لم تحترمها روسيا وفقاً للقرار السابق، أو في عفرين حيث لجمت روسيا حليفها الكيميائي من التدخل، أو في المنطقة الجنوبية رداً على خرق موسكو لاتفاق خفض التصعيد. قد تشهد الأيام القادمة تطورات مفاجئة في الصراع الروسي ـ الأمريكي على سوريا، بعد كل هذه التحرشات الروسية، سواء باتجاه مزيد من التصعيد أو باتجاه تفاهمات موضعية تنتج عنها تهدئة مؤقتة في الجنوب على الأقل.
ما هو مؤكد بالنسبة لنا هو أن النزيف السوري مستمر، قتلاً وتهجيراً وتغييراً ديموغرافياً مطرداً.