قصة إبادة معلنة هو ما يحدث في الغوطة الشرقية، حيث أحدث الطيران الروسي يلقي بأضخم قنابله، ويشاركه طيران النظام الذي اعتاد على التدمير الشامل، كما ظهر، في جزء كبير من سورية، جرى تقديره بأنه يشمل نصف سورية. لكن لا بدّ من أن يكون واضحاً أن هذه المعركة روسية بامتياز، كما كان في حلب. واستخدام الأسلحة الكيماوية بات معلناً من هيئة حظر الأسلحة الكيماوية، ومؤسسات الأمم المتحدة. والحصار الشديد يطاول ما يقرب من ثلاثة ملايين سوري، حسب هيئات الأمم المتحدة.
بالتالي، مجزرة الغوطة الشرقية معلنة، واتخذ مجلس الأمن قراراً يفرض وقفا شاملا لإطلاق النار في كل الأراضي السورية، وأولها الغوطة، لكن روسيا التي وافقت على القرار استمرت في قصفها وتدميرها، معلنةً أنها تريد إخراج المسلحين والسكان منها. أي عملية تهجير جديدة اتبعها النظام، وتتبعها روسيا، من أجل السيطرة بعد ترحيل كل من تمرَّد وأراد تغييره. تريد روسيا الانتصار بأي ثمن، وكذلك النظام، ولهذا ليس سوى المجازر، المعلنة والموصوفة، والمنقولة "على الهواء مباشرة".
ما خرجت به دول العالم هو القرار 2401 غير الملزم، والذي لم يطبَّق. واكتفت إلى الآن بالشجب والتنديد وتحميل روسيا تبعات ما يجري، والتحرّك الدبلوماسي من أن الضغط على روسيا للضغط بدورها على النظام، على الرغم من أنها مالك القرار السياسي والعسكري في سورية، منذ فرضت وجودها العسكري طويل الأمد (أي الاحتلال). وحتى حينما "تتدخل" أميركا، يبدو أن تدخلها هو "رفع عتب"، أو ضغط على روسيا من أجل مسائل أخرى. يوضح هذا الوضع ما كررته طويلاً، وهو أن كل الدول الإمبريالية والإقليمية لم تمانع، وما زالت لا تمانع، بل تريد أن تُسحق الثورة في سورية، للتخلص من كابوس "الثورات العربية"، ومن خطر امتداده عالمياً. لهذا، هي تتسلى في إصدار بيانات الاحتجاج والشجب، كي تقول إنها تضغط، وإنها ترفض ما تمارسه روسيا ويقوم به النظام السوري. لكنها في الواقع فرحةٌ بما يقوم به هؤلاء، فروسيا تقوم بمهمتها الرجعية التي كانت تلعبها زمن القيصرية، والمتمثلة في سحق ثورات الشعوب. وهو ما أعلنه وزير الدفاع، سيرجي شويغو، صراحةً، حينما قال إنه كسر موجة الثورات العربية.
ولأن هذه الدول تريد للمجزرة أن تكتمل، فقد أدخلت الفصائل المسلحة في متاهات "خفض التوتر"، بحيث خضعت فصائل الجنوب السوري لهذا الأمر، وباتت تراقب المجزرة المتنقلة من دون أن تلمس أنها ستصل إليها. لقد قرّرت أميركا وروسيا والأردن والدولة الصهيونية تحقيق "التهدئة" هناك، وأمام كل الوحشية التي تشهدها الغوطة لم تحرّك ساكناً. وفصائل الشمال الغربي باتت أداةً بيد تركيا، تنفّذ سياستها القائمة على سحق الكرد، تركيا التي تبحث عن مصالحها فقط. وشرق إدلب كان المقابل لسيطرة تركيا على عفرين، لهذا تقدمت قوات روسيا والنظام بهدوء، بعد أن سحبت جبهة النصرة مجموعاتها. وفصائل شمال حمص وجنوب حماة تبحث عن هدنة، وتنتظر دورها في التصفية. أما أميركا فهي تتحكّم في شرق سورية ورقة بيدها، خصوصاً أن هذه المنطقة تضم آبار النفط والغاز، وتتفرّج على قدرات روسيا العسكرية. لكنها كذلك تلعب دورها التحريضي، لكي تزيد وحشية النظام وروسيا، وهو الدور الذي لعبته منذ البدء، لكي تصل إلى تعميم الدمار الذي بدأته في العراق. بالتالي، تقودهما إلى تحقيق ما تريد.
يجري في هذه الوضعية الاستفراد بالغوطة الشرقية، كما جرى الاستفراد بحلب، وكما سيجري الاستفراد في ريف حمص الشمال وحماة الجنوبي، وكذلك في الجبهة الجنوبية. المأساة في ذلك كله أن الفصائل المسلحة كلٌّ ينتظر دوره في الذبح، وهو ملجوم بقرار "الممول"، أو بوهم القدرة على تلافي ذلك.
لا أحد يصدِّق أن العالم يريد وقف المجزرة في سورية، هذا العالم المعني بالنهب وسحق الشعوب يريد وقف الثورات التي باتت تدق أبوابه. هذه أولويته.
تكثر العواصم الغربية (بما فيها واشنطن) والعربية من الأسئلة حول التوقعات من الانتخابات النيابية في لبنان في 6 أيار (مايو) المقبل، من باب التأكد إذا كان «حزب الله» سيتمكن بفعل القانون الجديد، النسبي، من أن يحصد مع حلفائه أكثرية في السلطة التشريعية، بحيث يتكرس إلحاق لبنان بالمحور الإيرانين ويتحول نفوذ طهران من أمر واقع إلى واقع مشرّع شبيه بما حصل في العراق، حيث تغلغل «الحرس الثوري» في المؤسسات ونجح في تشريع تشكيلاته العسكرية في الدولة. وهي تشكيلات تخوض الانتخابات العراقية في 12 أيار.
مصدر القلق الغربي والعربي هو أن النسبية تسمح لحلفاء إيران باختراق مقاعد الأكثرية النيابية السابقة (قوى 14 آذار التي حصدت الأكثرية في استحقاقي 2005 و2009 بالنظام الأكثري)، وفي طوائف أخرى غير الطائفة الشيعية. في المقابل يصعب تلمس تغييرات جوهرية في المزاج السياسي والانتخابي اللبناني تسمح لخصوم المحور الإيراني بتحقيق نسبة اختراقات موازية في دوائر نفوذ هذا المحور. القانون الهجين والمركب والمعقد بتعقيدات التركيبة اللبنانية، والذي دمج بين النسبي والأكثري عن طريق «الصوت التفضيلي»، أبقى على العامل الطائفي والمناطقي والزبائني الضيق قائماً. وإذا حصلت تغييرات فهي طفيفة تحتاجها القوى المسيطرة في الطوائف من أجل تجديد «شبابها».
فالأكثرية التي كان حصدها خصوم النفوذ الإيراني السوري (قبل أن ترث طهران نفوذ دمشق)، لم تتمكن من الحكم بفعل استخدام السلاح في الداخل اللبناني. وهذا العامل ما زال قائماً في الحسابات وسيبقى قائماً بعد الانتخابات.
احتساب الأكثرية النيابية في هذه العواصم يقوم على اعتبار الكتلة المسيحية التي يمثلها رئيس الجمهورية ميشال عون إلى جانب كتلة «حزب الله» وحلفائه. وهي تعتبر أن الرئاسة اللبنانية انحازت إلى الحزب في خياراته الخارجية خلال السنة الأولى من العهد.
أثبتت التجارب أن الأكثرية التي يمكن لحلفاء طهران حصدها داخل السلطة بفعل السلاح، كما حصل عام 2011 حين نجح ضغط السلاح في قلب الموازين وإقامة حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، أنها غير قابلة لتحويل البلد إلى محمية إيرانية على الطريقة العراقية. حالت التوازنات التقليدية دون الانسياق وراء ما تبغيه طهران في المؤسسات. والعامل الأهم الذي ساهم في ذلك اندلاع الثورة السلمية والشعبية في سورية، والتي تحل ذكراها السابعة الخميس المقبل على مشهد مأسوي وتقسيمي. فطهران كانت على مشارف فقدان قاعدتها في المشرق بتهديد انتفاضة الشعب السوري لحكم حليفها الذي ارتكز إليه تمدد نفوذها.
قد يحتضن البرلمان الجديد قوة وازنة لأنصار المحور الإيراني، لكن اكتسابه الأكثرية مرتبط بالوجهة التي سيسلكها تيار الرئيس عون، إذا كان سيراجع أضرار انحيازه طوال المرحلة الماضية إلى «حزب الله». فإما أن يتكرس هذا التوصيف له، أو يتحول إلى موقع «بيضة القبان» في رسم صورة الأكثرية النيابية، إذا كانت التزاماته السابقة على انتخابه تحول دون مغادرته حلفه مع الحزب، فيتمايز عنه في المسائل الإقليمية.
لطالما ارتبط انتماء لبنان الإقليمي بموقع سورية. وفي الحال الراهنة لبلاد الشام يصعب تعديل موقع النفوذ الذي تحتله إيران في لبنان، من دون تغيير في موقعها في سورية بعد نجاحها في إبقاء الأسد. والاعتداد عشرات المرات بفوزه بالحرب بعد نجاح روسيا والقوات الإيرانية في هزم المعارضة تحت شعار محاربة «داعش» في غير منطقة، لا يلبث أن يتراجع بعد تحول سورية رقعة صراع روسي أميركي.
القلقون من انتخابات لبنان يتعاملون مع النتيجة المحتملة ويقفزون فوق السبب: المعادلة ما زالت لمصلحة إيران في سورية. فيكف لدول الغرب أن تعالج سبب قلق بعض عواصمه، فيما المجتمع الدولي برمته لا يستطيع إنقاذ ٤٠٠ ألف سوري من حملة الإبادة التي تتعرض لها الغوطة الشرقية؟
السؤال نفسه ينطبق على الدول العربية القلقة من وقوع لبنان في الحضن الإيراني نتيجة الانتخابات. فهي خرجت أو أُخرجت من سورية لمصلحة تقاسم روسيا وإيران النفوذ فيها مع أميركا، بمشاركة تركية. ولم يعد للدول العربية سوى ورقة إعادة الإعمار، ليكون لها دورها. وهذا دونه شرطها رحيل الأسد، ويعني أيضاً انتظار توافق أميركي- روسي على الحد من دور إيران.
ليس بإمكان لبنان سوى الانتظار وإدارة المرحلة بأقل الأضرار الآتية. وقد يتيح له عدم حصول أي فريق على الأكثرية النيابية الصافية ذلك، وإلا تعرض لأخطار عسكرية واقتصادية.
هل غاص الروس في الوحل السوري، وبدأ الدّب ينزف من فخاخ الأشواك الحادّة المخفية تحت لزوجة الطين وطحين الرماد المتطاير؟
وزارة الدفاع الروسية أعلنت عن تحطم طائرة نقل روسية في قاعدتها الجوية في حميميم، قرب اللاذقية، وقُتل في «الحادث» حسب البيان الروسي الرسمي 26 من الركاب، وأفراد طاقمها المكون من 6 أشخاص، حسب ما ذكرته وزارة الدفاع الروسية. يعني 32 شخصاً من القوات الروسية، في الغالب.
هذا «الحادث» كما وصفه الروس، نفياً لكونه «هجوماً» مباشراً على الطائرة الناقلة، يذكّرنا بخسائر روسية أخرى في الوحل الأرضي أو الأنواء الجوية السورية.
24
نوفمبر (تشرين الثاني) 2015، أسقطت الدفاعات التركية مقاتلة روسية من طراز «سوخوي 24»، وتسبب الأمر حينها في أزمة خطيرة بين أنقرة وموسكو، أجبرت الرئيس التركي إردوغان على ترضية الروس بما أرادوه.
3
نوفمبر 2018، قُتل طيار روسي بعدما أسقطت دفاعات الفصائل السورية المسلحة طائرته الحربية، من طراز «سوخوي 25»، التي كانت تستهدف منطقة سراقب في إدلب (شمال غرب) أحد معاقل المسلحين السوريين المناهضين للنظام.
31
ديسمبر (كانون الأول) 2017، تعرضت طائرة روسية في حميميم لأضرار عقب قصف مسلحي المعارضة للقاعدة.
وغير ذلك أكيد من القتلى في الاشتباكات الأرضية المباشرة، مثلما جرى في مجزرة الخبراء الروس في دير الزور على يد القوات الأميركية، ضع هذا مع سعار المقاتلات الروسية بالقصف الأعمى على سكان الغوطة الشرقية، ومعهم جيش بشار ونصر الله وسليماني، فكل أهالي الغوطة، بمن فيهم النساء والأطفال والشيوخ، هم عناصر إرهابية داعشية!
من المبكر القول إننا تجاه سيناريو أفغانستان روسية أخرى، وهي الحرب التي امتدت لعشر سنوات بعد غزو الجيش الأحمر السوفياتي لأفغانستان 1979. حرب ناهضها أغلب الدول المسلمة والغربية أيضاً، وخرج منها الروس بخسائر فادحة، منها نحو 15 ألف قتيل وعشرات الآلاف من الجرحى ومصابي الحروب، نفسياً، ومئات الملايين من الخسائر في المعدات والأموال... وهيبة الدب الروسي.
طائرة النقل العسكرية التي سقطت، أو أُسقطت، في قاعدة حميميم، معقل أسرة الأسد قرب اللاذقية، تكشف عن الدرب الزَّلِق الذي تمشي عليه أقدام الروس في سوريا المقسمة اليوم بين مربعات تتبع أمراء حروب، كلٌّ منهم يتبع قوة دولية أو إقليمية أو حتى عصابات خارجية ربما، أعني عصابات جريمة تقليدية، فكيف يتوقّى الروس كل هذه الحفر المظلمة الرطبة المسكونة بالأفاعي؟
الدخول الروسي من البداية لسوريا، كان دخول استفزاز واستثارة لكل كوامن الغضب والانتقام... والتطرف أيضاً.
تدخُّل به جلافة العسكر لا دهاء الساسة، ومن يزرع الريح يحصد العاصفة.
أكثر من شهر ونصف مضى على انطلاق عملية "غصن الزيتون" في عفرين. تتحدث البيانات الصادرة عن الجيش التركي عن عدد القتلى من الإرهابيين والمناطق المطهرة منهم. بحسب البيانات تمكن الجيش التركي من السيطرة على 34% من المستهدف.
بالنظر إلى مساحة المنطقة وعدد عناصر حزب العمال الكردستاني الإرهابي وعدد القوات التركية وقوة أسلحتها، يبدو أن هناك حاجة لإعادة دراسة وجهة نظر الحزب.
من المعروف أن حزب العمال قام بتحضيرات جدية في عفرين، ومن ناحية أخرى، خسائره الكبيرة في العملية حقيقة لا غبار عليها.
يتضح مما سبق أن الحزب لا يمكنه تحقيق النصر بالمعنى الكلاسيكي في العملية العسكرية المستمرة بعفرين. يمكن تفسير ذلك بأنه "قلة حيلة" بالنسبة للحزب، لكن الاستراتيجية التي يتبعها ومواصفات العملية تشير لوجود توجه مختلف لديه.
فالحزب لا يفكر بالأهداف العسكرية المحددة للعملية، وإنما بالمخرجات السياسية والنفسية لها. في الحروب التقليدية تتمتع الإحصائيات العسكرية بالأهمية.
عدد القتلى من الأعداء والمناطق الاستراتيجية التي تمت السيطرة عليها تعطي فكرة عن السير العام للحرب. يتحدد قرب أو بعد أطراف الحرب من أهدافها من خلال عدد ما فقدته من جنود وأراض. لأن وجود الدولة رهن بالأرض. في الحرب التقليدية تشتت الجيش وفقدان الأرض يعني أن الدولة خسرت.
لكن كل ذلك أهميته ثانوية بالنسبة لتنظيم إرهابي يتعلق وجوده بأمور غير تقليدية. لا يهم مساحة الأرض أو عدد المقاتلين الذين يفقدهم، المهم بالنسبة له هو الصمود بحيث يواصل وجوده السياسي، وإلحاق الضرر بعدوه على الصعيدين العسكري والنفسي، وإظهار فشل الحكومة المعادية له، وتقسيم المجتمع.
ولهذا يبدو أن حزب العمال الكردستاني يركز في استراتيجيته على نقاط خمس:
الأولى: إطالة أمد العملية قدر الإمكان، وإثارة الجدل والتوتر في الداخل والخارج على الصعيد الاقتصادي والعسكرية والسياسي والقانوني والإيديولوجي.
الثانية: المحافظة على دعم أهالي عفرين له، وإبقاؤهم في المنطقة خلال العملية بهدف تقييد استخدام الجيش التركي القوة، ودفعه للخروج عن الأطر القانونية والقيام بحرب دعائية من خلال ادعاء سقوط ضحايا مدنيين.
ثالثة: تجييش جميع المتعاطفين معه والداعمين له.
الرابعة: إثارة ردود أفعال دولية ضد الحكومة التركية.
الخامسة: زعزعة العلاقات التي تتميز بالهشاشة بين الدول والمجموعات الموجودة في سوريا.
تكافح تركيا حزب العمال الكردستاني على جبهات مختلفة، وعفرين هي جزء واحد من هذه المكافحة. وفي المقابل، لا يتبع الحزب في مواجهة تركيا استراتيجية جديدة ابتدعها بنفسه، وإنما وُضعت له من جانب أطراف أخرى.
في نهاية المطاف، برهنت القوى الدولية أنها لا تستطيع شيئاً أمام وحشية روسيا وإيران ونظام بشار الأسد. قرار وقف إطلاق النار لم ينفّذ لأن موسكو كانت ترفضه مهدّدة بـ «الفيتو» واستمرّت ترفضه بعدما وافقت عليه، بل أعطت الضوء الأخضر للبدء بالهجمات البرّية. روسيا وحلفاؤها فهموا القرار 2401 كإقرار دولي ضمني بأن الغوطة باتت «ساقطة عسكرياً» من جهة، طالما أنها مطوّقة، وبأن إفراغها من السكان والمقاتلين قد يكون أهون الشرور من جهة أخرى. لا أهمية للخطب التي تعلي من شأن القيم والمبادئ والقوانين الدولية طالما أن دولة «عظمى» تتحالف مع دول مارقة وتتماهى معها. لذلك تغطّي الدول الأخرى عجزها أو لامبالاتها بالاتصالات في ما بينها، بتصريحات الإدانة والاستنكار، بالسعي الى قرار جديد في مجلس الأمن للدعوة الى تنفيذ قرار لم يُحترم ولا لحظة، أي أنها ترضخ لموقع المتفرّج الذي فُرض عليها. وهي سبقت أن تفرّجت على التدمير الشامل لمواقع عدة، من شرق حلب الى حي الوعر الى حي بابا عمرو الى الزبداني ومضايا وداريا وصولاً الى الغوطة الشرقية.
تعطي الولايات المتحدة وفرنسا وحتى بريطانيا انطباعاً بأنها تبلور فكرة معاقبة النظام السوري على استخدامه السلاح الكيماوي، حتى لو تطلّب الأمر ضربات عسكرية، لكنها تنتظر أدلة، والأدلّة موجودة، بل تنتظر أن تعترف روسيا بها، وهي لن تفعل في أي حال، ولم يعد يُشغلها أن يكون هذا السلاح محظوراً أم لا بعدما استطاعت استدراج المجتمع الدولي الى تمرير انتهاكاتها وانتهاكات نظام الأسد عشرات القوانين الدولية. فالرئيس الروسي قال مرّةً أخرى أن الكثير من أسلحته الجديدة اختُبرت في سورية وأن العسكرية هناك أظهرت «زيادة قدراتنا الدفاعية». وإذ أكّد أن العالم بات يعرف أسماء تلك الأسلحة، فمن شأن أميركا والدول الأخرى المعنية أن تكشف أي أسلحة متطوّرة وفّرتها روسيا للعصابة الأسدية - الإيرانية التي تمضي في الإجهاز على الغوطة. فبعد نحو أربعة أعوام من العجز عن اختراق دفاعات فصائل الغوطة، ها هي الأسلحة الروسية فوق الكيماوية تتيح قضم قراها وبلداتها بعد تدميرها بالكامل، من دون اللجوء الى استخدام كثيف للغازات السامة.
كان فلاديمير بوتين عرض على إدارة باراك اوباما المساومة على حلب قبل إسقاطها مستشفى بعد مستشفى ومخبزاً مخبزاً ومدرسةً مدرسةً، ولم يلقَ الاستجابة التي توقّعها، وتريّث حتى انتخاب دونالد ترامب الذي كان «غازل» الأسد في بعض تصريحاته ولم يُبدِ أي اهتمام بمحنة الشعب السوري، وما لبث بوتين أن قدم جثة شرقي حلب «هديةً» الى ترامب، إلا أنها سقطت واقعياً في أيدي الإيرانيين. تغيّرت الأحوال بين الرئيسَين ولم يعد بوتين يقيم «تنسيقاً» وثيقاً مع أميركا، كما في أيام اوباما، لكنه تمتّع بإدارة منفردة للشأن السوري فيما تدهورت توقّعاته من ترامب وإدارته، الى حدّ أن الاتصالات صارت شبه مقطوعة، تحديداً منذ انتهاء العمليات الحربية ضد تنظيم «داعش». أصبحت الدولتان تتخاطبان بعمليات «بالوكالة» للقوات التي تدعمانها، مرّة بإبادة وحدة من المرتزقة الروس في دير الزور ومرّة بإسقاط طائرة روسية يليه إسقاط طائرة أميركية (اسرائيلية)، أو تتبادلان الضربات السياسية لتعطيل مساري سوتشي وجنيف. وقد شكّل استهداف الغوطة الشرقية فرصة لبوتين كي يختبر استعدادات واشنطن لإنهاء القطيعة طالما أنها قادت وسائر الدول الغربية حملةً للدفاع عن المدنيين، لكنها قيادة «من الخلف»، تدعم تحركات الدول الأخرى، من دون أن تفتح خطاً مع روسيا، لعلمها بأن بوتين يريد أن يساومها على أمور أخرى ولم يعد قادراً على وقف إسقاط الغوطة. إذاً فليُسقطها وليتورّط أكثر في سورية.
حتى الآن ليست هناك أسباب تستدعي أن يتخوّف بوتين من هذا التورّط، فالتشابهات ضئيلة مع التورّط السابق في افغانستان، من طبيعة القتال والمقاتلين الى ظروف الحرب الباردة الى إرهاصات انهيار الاتحاد السوفياتي. ثم أن الروس في سورية يتحكّمون باللعبة وإلى حدّ كبير باللاعبين سواء كانوا إيرانيين أو أتراكاً أو أسديين فضلاً عن الأكراد. صحيح أن لديهم متاعب مع صراعات هؤلاء على مصالحهم، إلا أن الهيمنة الروسية تبقى كافية لإدارة الأزمة، وليس لإدارة حلّها، بل ترى موسكو على العكس أن وجود جميع هؤلاء اللاعبين بالإضافة الى الأميركيين يمنحها أوراقاً في المساومات الدولية، خصوصاً مع الولايات المتحدة، إمّا بتجاذب المصالح أو بحكم الأمر الواقع. ولا تزال «ورقة الأسد» هي الأقوى بالنسبة الى الروس، ليس فقط لأنها عنوان «شرعية» تدخّلهم بل لأنها الوسيلة التي مكّنتهم من المشاركة المبكرة للأسد في اتخاذه الشعب والجيش ومؤسسات الدولة رهائن لديه. أما إيران، على رغم تعقيداتها، فتبقى ورقة مفيدة لروسيا في مختلف سيناريوات/ ابتزازات المواجهة أو التوافق مع أطراف كثيرة، بدءاً من الولايات المتحدة وإسرائيل، وامتداداً الى دول الخليج وحتى تركيا. ولا شك في أن الاستخدام الروسي لـ «ورقة أنقرة» حقّق الكثير من أغراضه، تحديداً في إزعاج الأميركيين ودفع علاقتهم مع الحليف التركي الى محكّ صعب.
على رغم أن المحطّات الدموية السابقة كانت كلّها موجعة في الصميم، إلّا أن السوريين يرون أن الغوطة هي الأسوأ والأكثر إيلاماً، إذ يستشعرون بأنها ستضفي «معنى» ما لـ «انتصار الأسد»، ولو بفضل حلفائه وبتبعيّته لهم الآن وفي المستقبل. كما لو أن الغوطة هي قلب سورية ومَن يظفر به يظفر بها، أو ربما لأنها استطاعت الصمود على رغم الحصار وشكّلت القلعة الأخيرة المهدّدة للعاصمة ورمزيتها بالنسبة الى النظام. هناك مناطق في الغوطة الغربية لا يُصادف فيها سوريون، لكن يكثر فيها الإيرانيون الذين يستغلّون المزارع لتلبية حاجات الجبهات ويقوم على خدمتهم ميليشياويون من جنسيات شتّى. في الشرقية قد يحول الدمار الكبير دون استغلال مرافقها أو إسكانها بأتباع إيران.
مهما كان هذا «الانتصار» واقعياً، فإنه لا يصلح لـ «تسوية» بين السوريين ولا بين المتدخّلين في سورية، ولا يمكن أن يكون أساساً لوضع دائم بل لصراع دائم. ومع أن أصحابه منهمكون منذ الآن بتدبير قبول دولي لـ «انتصارهم» إلّا أنهم لا يعرفون كيف سيديرونه ومن المشكوك به أنهم سيتمكّنون من استثماره بوجهة استقرارية. فبعدما نجح الروس والإيرانيون في تأمين الأسد والحفاظ عليه كـ «غطاء شرعي» ولو مضروب لوجودهم، لم يعودوا يفكّرون فيه عملياً كونه غير قادر على شيء بمعزل عنهم. فالأولوية عنده أن يستعيد الاعتراف الدولي به ومن دون ذلك شروط لا يستطيع تلبيتها. أما الأولوية عندهم فهي لمستقبل احتلال استثمروا فيه وغنموه. تتحدّث إيران عن 22 بليون دولار تريد استرجاعها من خلال قواعدها وانتشار ميليشياتها، أما روسيا فاستردّت بعضاً مهمّاً من أكلافها في الاختبار الحيّ لأسلحتها الجديدة وباتت قريبة من التربّح من خلال المرافق التي تضع يدها عليها بتراخيص من الأسد، لكنها تتطلّع الى أرباح أكبر بإدارتها مشاريع إعادة الإعمار. يفتقد الروس والإيرانيون الرغبة في/ والقدرة على إنهاء حربٍ تقلّبت من مواجهة بين الشعب والنظام الى مواجهات اقليمية ثم دولية من خلال النظام وفصائل المعارضة، الى أن بلغت الآن مرحلة مواجهات دولية تكاد تصبح مباشرة على أرض سورية، بمعزل عن النظام والمعارضة. كان الروس أشاروا منذ بداية تدخّلهم الى أن لديهم مصلحة في إنهاء الحرب، وفي منتصف 2017 راحوا يروّجون أن «مسار آستانة» أنهى العمليات القتالية (اتفاقات مناطق خفض التصعيد) ثم ابتكروا «مسار سوتشي» لترجمته الى «حل سياسي»، لكن تبيّن أنهم تعجّلوا في الحالَين وأخطأوا تقدير «إنجازاتهم». ومع تبنّيهم جرائم الحرب الجارية في الغوطة بات من الصعوبة بمكان تصوّر أي عودة الى التفاوض بين النظام والمعارضة، أو حتى تصوّر نهاية ما لهذه الحرب من دون توافقٍ يبدو مستحيلاً بين اللاعبين الخارجيين واقتناعٍ أكثر استعصاءً بحصصهم من خريطة سورية.
ليس الممر البرّي المفترض الذي تريده إيران ممتدّاً من طهران مروراً بالموصل ودمشق ووصولاً إلى الضاحية في بيروت، ذاك الممر الأمني الذي تُمكّنه بمتوالية حروبها الميليشياوية المتنقلة من العراق إلى سورية وسابقاً ودوماً في لبنان، ليس إلا واقعاً جيوسياسياً جديداً في منطقة بلاد الشام يحاول الملالي الحاكمون في طهران فرضه ترسيماً لخريطة عقائدية المنبت، سياسية المرمى والمصبّ.
لا يبتعد الدعم المتصل الإيراني لنظام الأسدَين، الأب والابن، من ذاك المرمى. ويسجّل التاريخ أن حافظ الأسد أدخل سورية في حلف استراتيجي مع دولة الملالي منذ وصول آية الله الخميني إلى الحكم في 1979، وقد جعل من سورية قاعدة لدعم إيران وتوصيل السلاح لها خلال حرب السنوات الثماني على العراق، وناصرها ضد دولة عربية شقيقة وجارة حين كانت طهران معزولة تماماً من طرف دول العالم المتمدّن، شرقاً وغرباً في آن. وقد تبادل النظامان المنافع والدعم في كل شأن تقاطعت مصالحهما فيه. وفي عهد الابن بشار الأسد، ومنذ وراثته الحكم عن أبيه، قام الحرس الثوري الإيراني بتدريب القوات الأمنية والعسكرية وتجهيزها بالعتاد ودعمها، بينما استثمرت الشركات الإيرانية ودفعت بتجارة ضخمة لها في سورية، وفتحت الدولة ممراً جوياً للسياحة الدينية الإيرانية والحج الموسمي للمزارات الدينية المقدسة المنتشرة في سورية وفِي مقدمها مرقد السيدة زينب في ريف دمشق. وبلغ الدعم العسكري والأمني ذروته منذ اندلاع الثورة السورية في عام 2011، حيث التزمت طهران بدعم بشار الأسد ونظامه المتهاوي اقتصادياً وعسكرياً، وزجّت بعشرات الميليشيات الطائفية لقمع حراك الثورة والتنكيل بالمدنيين، ولم تبخل بضخ النفط والمال لإنقاذ النظام من سقوطه لولا تدخّلها أولاً، وروسيا تالياً، لنجدته من انهيار حتمي. هكذا، مضى الرئيس الإيراني حسن روحاني في عهده لنظام الأسد حين قال إثر تنصيبه في 2013 ما مفاده أن العلاقات العميقة والاستراتيجية والتاريخية بين سورية وإيران لن تهزّها أي قوة في العالم. الفارق الرئيس في علاقة النظامين أن «حافظ الأبد» كان يملك مفاتيح العلاقة أما الابن فسلّم حرمة القرار لأصحاب العمامات السود من دون وجل!
ويمضي التداخل الإيراني في سورية بذراع عقائدي هيّأ القاعدة المثالية لاستجرار طهران للمقاتلين، مستخدمة المقار الدينية التي سيطرت عليها في دمشق ومحيطها لتغذية النزعات المذهبية التفريقية وتجنيد المتطوعين في صفوف الميليشيات التي استقدمتها لتقاتل عنها بالوكالة، ونصرة لبشار الأسد، ليس لزرقة في عينيه، بل لكونه الرجل الأوحد الذي يضمن لها تحويل دمشق إلى مقر دائم لإطلاق أذرعها الأخطبوطية باتجاه دول الخليج العربي وصولاً إلى باب المندب على سواحل اليمن. وليس «حزب الله» الذي أرسى أول ذراع عسكرية لها في دولة عربية مستقلة هي لبنان إلا بيضة الأفعى، وقد استنسخت منها عشرات الميليشيات التي تضيق المساحة هنا بذكر أسمائها لكثرتها وعمق انتشارها في العراق وسورية واليمن... والعدّ ما زال مفتوحاً يهدّد الدول العربية في المشرق والمغرب، وربما يهدّد العالم.
اليوم، إدارة ترامب الجمهورية ترمي بثقلها السياسي والعسكري بقوة في سورية، ما سبّب حالة من الصداع الدائم لطهران في المكان الذي كانت تظن أنها زرعت فيه إسفيناً لا يتزعزع. فالولايات المتحدة مصممة على كبح جماح المطامع الإيرانية المبثوثة في المنطقة، مستقوية بالميليشيات الطائفية العابرة الحدود، وقد كانت زيارة الرئيس ترامب السعودية، بالوفد الحكومي الموسع الذي صاحبه، رسالة قوية إلى الجارة إيران بأن واشنطن عازمة على الدفاع عن أمن المنطقة واستقرارها ودعم شركائها العرب في دفاعهم عن سيادتهم بوجه الطموح التوسعي الإيراني المتعاظم.
وما الحضور العسكري الأميركي القوي في الشمال والجنوب السوري، وتخصيص الدعم المالي والمستشارين الدبلوماسيين والمدربين العسكريين لدعم حلفائها من المعارضة المعتدلة، إلا إجهاضاً لأحلام أصحاب العمامات السود الذي استثمروا في إنضاج أضغاثها عشرات من سني الدعم غير المشروط للنظام السوري لقطف الثمرة في دمشق... ولن يقطفوها.
لا تملك النساء المعتقلات في سجون نظام بشار الأسد خيارات أفضل من "الموت"، فما يتعرضن له داخل الزنازين من "تعذيب وحشي واغتصاب ومعاملة غير آدمية" أبشع بكثير من فقدان الحياة.
وخلف قضبان تلك الزنازين ترتسم معالم "الوحشية" بأدق تفاصيلها؛ فالمعتقلات والمعتقلون لا يقبعون وحدهم هناك؛ إذ تجاورهم في بعض الأحيان جثث لسجناء سابقين، وتتفشى بينهم أمراض وأوبئة قاتلة، وتٌقدم لهم وجبات طعام "قذرة"، ويمنعون من تنظيف أنفسهم أو حتى الصلاة.
وتقول الشبكة السورية لحقوق الإنسان (غير حكومية)، في تقرير أصدرته الخميس، بالتزامن مع اليوم العالمي للمرأة الذي يوافق 8 مارس/آذار من كل عام، إن 7 آلاف و699 امرأة تعرضن للاغتصاب داخل سجون نظام الأسد.
وتشير الشبكة إلى أن أكثر من 864 امرأة تقبع حاليا في سجون النظام السوري، بينهن 432 قاصرا، إلا أنها تعتقد أن أعداد المعتقلات ومن تعرضن للاغتصاب في سجون النظام تفوق الرقم المذكور، وذلك لأن الكثير من النساء تم اعتقالهن دون تسجيل، أو لعدم تصريح ممن تعرضن للاغتصاب.
المواطنة السورية "م. ف"، من مدينة اللاذقية (شرق) التي تعمل في أحد صالونات تجميل النساء بمدينة حلب (شمال)، كانت من بين من اعتقلهن نظام الأسد؛ بسبب تقديمها للمساعدت الإنسانية.
وتقول "م.ف" للأناضول، إنه بعد اعتقالها تعرضت للتعذيب لمدة 50 يوما، كسرت خلالها أسنانها وبعض عظامها، قبل أن يتم نقلها من حلب إلى دمشق، لتشاهد هناك أمام عينيها موت العديد من الشبان والنساء أثناء التعذيب.
"ما يتعرض له الرجال والنساء في سجون الأسد لا يمكن وصفه بالكلمات (..) على مدار 3 أشهر في سجن عدرا المركزي (شمال شرق دمشق) كنا نتعرض للتعذيب في كل فرصة بخلاف الشتائم التي كان وقعها على أنفسنا أكثر من وقع الضرب"، تضيف "م.ف".
وتكمل روايتها بالقول: "تعرضنا لكافة أنواع التعذيب والتحقير والاغتصاب. كان الموت خيار أفضل من الاعتقال"، مشيرة إلى أن الملازم محمد من طرطوس كان أكثر من يقوم بتعذيب المعتقلين في سجن عدرا.
وفي أحد أبشع مشاهد التعذيب التي شاهدتها "م. ف"، تقول: "قاموا في إحدى المرات باعتقال امرأة وزوجها وشقيقها، وقاموا بنزع ملابس المرأة عنها أمام زوجها، وشقيقها، واغتصبوها، حتى أنهم قاموا باغتصاب فتاة عمرها (17 عاما)، وكذلك قاموا بضرب امرأة حملت نتيجة اغتصابهم، وقاموا بضربها حتى أسقطت الجنين".
ولا يقتصر الأمر على التعذيب والاغتصاب والشتائم؛ فبحسب المعتقلة السورية، كان جنود نظام الأسد "يضعون الحشرات في طعام المعتقلين ويخلطون الماء بفضلات الإنسان، ويمنعوهم من الصلاة، ومن اقتناء أي من أدوات النظافة".
ولم تختلف رواية المعتقلة المفرج عنها لونا أغا، (32 عاما)، عن سابقتها، فهي تعرضت للسجن في العام 2013، وفي ذلك الوقت أخذ الجنود طفلها الرضيع من بين أحضانها، وأجبروها على خلع جميع ملابسها، لتفتيشها تحت الضرب والتعذيب.
وتروي أغا حكايتها بالقول: "وضعوني في زنزانة مساحتها 3 أمتار مع فتاة أخرى، وبعد ذلك تم تحويلي للتحقيق، إلا أنه لم يتم التحقيق معي بل تعرضت للضرب فقط. كنت أسألهم عن التهمة الموجهة لي فقالوا إنها: الإرهاب وأنه ليس لي أي حق هنا، ولا يحق لي السؤال كذلك، وطرحوني على الأرض، وقام أحدهم بوضع قدمه على رأسي، وقال: هذا الحذاء أشرف منك ومن عائلتك".
وبعد 10 أيام من التعذيب المتواصل، أفرجت قوات نظام الأسد عن السورية "أغا"، ليتم اعتقال زوجها بعد يومين، قبل أن يتم اعتقالها مرة أخرى على أحد الحواجز، بعد قرابة الثلاثة أشهر.
وتستطرد أغا في روايتها لمشاهد "وحشية" جنود الأسد بالقول: "بعد شهر من الاعتقال الثاني، تم وضعي في حافلة ممتلئة بالمعتقلين الآخرين الذين تتراوح أعمارهم بين (14 و70 عاما)، وكان معنا شاب يبلغ من العمر (16 سنة) مريض بالربو. لم تكن هناك أي رأفة في قلوبهم عليه على الرغم مما كان يعانيه من آلام".
وتضيف أن الحافلة أقلتهم إلى مدينة حمص (وسط)، بعدها أرسلوهم من هناك "فرع فلسطين" (مقر أمني) في دمشق، موضحة أن الفرع يتكون من 9 غرف، يوجد في داخلها نحو 30 فتاة وجثث موتى.
وفي اليوم الأول لوصول أغا إلى "فرع فلسطين" أصيبت فتاتان بمرض الكوليرا وبعد ذلك انتقلت العدوى إلى خمس فتيات ثم إلى باقي الغرف، لتبدأ المعتقلات على إثر ذلك بالإضراب عن الطعام إلى أن أحضروا طبيبا لمعالجتهن، تكمل المعتقلة السورية السابقة.
ومن "فرع فلسطين" انتقلت أغا بعد ثلاثة أشهر إلى سجن عدرا، وتمت محاكمتها هناك لمدة سنة، وعقبها تم الإفراج عنها.
أجمع العالم وبقرارٍ أمميّ في عام ١٩٧٧، على تحديد يوم الثامن من آذار من كلّ عام، يومًا خاصًّا بالمرأة، إذ أتاح هذا اليوم للمرأة فرصة التعرف على حقوقها وواجباتها وعرض إنجازاتها، وتحفيزاً أيضاً على استرداد حقوقٍ مسلوبة، والوقوف بوجه العنف والتعنيف الذي كان جزءًا من حياتها اليوميّة، ولطالما كانت الديانات السماويّة السبّاقة في تشريع حقوق المرأة والتوصية بها، فقد عُرِفت على مرِّ العصور والتشريعات الدينيّة والدنيويّة بأنّها نصف المجتمع، والمُكمّل لهذه الحياة.
ولكنّها اليوم في سوريا وفي ظلّ ظروفٍ قاهرة، تجد نفسها تجابه كامل الأعباء التي ألقتها الحرب الطاحنة عليها على مدار سبعة أعوام، لتتسلّم زمام عمادة الأسرة، فهي الأمّ والأب في آنٍ معاً، بعد فقدان المعيل لها الذي كان إمّا ضحيّة الحرب أو مغيّب في السجون، ولا ننكر أنّ المرأة السوريّة بشكلٍ عامّ والرقيّة على وجه الخصوص كانت المُساهم الأوّل في بناء مجتمعها حتّى قيام الثورة في آذار ٢٠١١، لتكون أوّل الأصوات التي صرخت في وجه النظام والثورة عليه، ليس ذلك فقط بل كانت في كثيرٍ من الأحيان المخلّص للشباب الثائر من أيدي عناصر حفظ النظام، والمداوية لجروحهم عند الاعتداء عليهم، ولا ننسى دعمها للثورة من خلال الأعمال اليدويّة بإخاطتها للأعلام ورسم الشعارات، كما وكانت المشارك في استقبال النازحين، من أبناء المناطق الثائرة، من خلال مشاركتها في أعمال الطبخ، والمُهدية لكثيرٍ من أثاث وفرش بيتها ليكونوا في مأمن من الجوع والبرد، ولم تشفع أنوثتها وضعفها للتعرّض للمساءلة أو حتّى زجّها في السجون لتلاقي من ويلات وتعذيب واعتداء على يد النظام ما لا تصفه الكلمات.
وفي يوم تحرير الرقّة كانت أوّل من أطلق تباشير وزغاريد الفرح بالنصر على النظام الباغيّ، ووقفت بجانب الرجل تشاركه في إحياء عاصمة التحرير وإظهارها كنموذج لمدن الحريةّ، رافضةً في الوقت نفسه إيقاف العمليّة التعليمية على الرغم من القصف العشوائيّ الذي كان يطال الرقّة آنذاك، مؤمنة بأنّ العمل لا يكتمل إلّا بالعلم، فقد كانت السبّاقة والمتطوّعة الأولى لإتمام سير التعليم.
ولكن سرعان ما تبدّل كلّ شيء مع سيطرة تنظيم داعش، الذي عمل على إنهاء دورها وإسدال الستار على وجهها، معنّفاً إيّاها إمّا بكلامٍ يأبى لحيائها سماعه، أو بجلدِها وسجنها في أقفاصٍ مع جمام بشريّة، مضيّقًا عليها في الأسواق، مكرِهًا إيّاها على عدم مغادرة منزلها، وتأمين احتياجاتها، مُستغلًّا القذف بعرضها في حال تمرّدت عليه أحياناً، وثارت لحقٍّ من حقوقها، مصوّراً حالها في كثيرٍ من المآسي، جاعلًا منها الأمّ الثكلى، والتي تُسَرّ في نفسها السؤال عن ابنها الذي غُيِّب في دياجير سجونهم، والأمّ المودّعة التي سرت بقطْعٍ من الليل لتأمن على حياة ولدها، ملقيةً إيّاه في تابوتٍ تتقاذفه أمواجُ اليمّ، خوفًا لئلّا يقع في أيدي التنظيم، الذي قام بطيّ عهدٍ طويلٍ لدور المرأة الرقّيّة وفي جميع مجالات الحياة، من خلال التقييد على تحرّكاتها لتلملم نفسها في كلّ مرّةٍ كانت تعتقد باحترام حقٍّ ينادي دائمًا وأبدًا “رفقًا بالقوارير”.
واليوم ومع سيطرة ميليشيا قوات سوريا الديمقراطيّة ” قسد”، تبرز قضيّة المرأة من جديد، من خلال استغلال تلك القوّات لمكانة المرأة، الذي لم يكن من أجل المبادئ واحترام دورها في المجتمع، بل هي خطّة براغماتيّة كي تكون لهم جسراً للسيطرة على مناطق تنظيم داعش بشكلٍ كامل، مستغلًا ما كانت تعانيه على يد الأخير من تهميش وتخويف لها، وعلى الرّغم من ادّعاء هذا التقديس الكاذب من قبل ميليشيا “قسد”، من خلال تلميع صورتها الإعلاميّة، فإنّه بالمقابل يستغلّ وجودها في مخيّمات النزوح، وأنّها لم تتلقّى المساعدات في حال رفضها للأوامر، والتي تتمثلّ بزجّها على جبهات القتال التي تخوضها القوّات الكرديّة مع تنظيم داعش من جهة، والأتراك على جبهة عفرين من جهة أخرى، مستغلًّا فقر عائلتها وعوزها للسير في هذا الطريق المرسوم لها، الذي لم يختلف عن طريق تنظيم داعش في معاملتها.
فعلى الرغم من توالي القِوى على الرقّة جيئةً وذهابًا، تبقى المرأة السوريّة عامّةً والرقيّة خاصّةً ،ثابتةً في قوتها كلوحة الموناليزا، في كلّ حقبةٍ تجد فيها غموضًا لا ينفكّ ،وستبقى ما وُجِد الكون، امرأة لن ينساها التاريخ أبداً.
مقال: أحمد نور
تتصدر أخبار الغوطة الشرقية بريف دمشق الشرقي أخبار الصحف والإعلام العربي والدولي، طغت صور الدماء والموت الذي تصدره روسيا والنظام في كل دقيقة عبر بحق أهالي الغوطة المحاصرين، وسط عجز مخزي للمجتمع الدولي ومنظمات حقوق الإنسان عن وقف هذه المذبحة.
بعد عشرات التصريحات والوعيد والتهديد الدولي عقد مجلس الأمن الدولي في 24/ شباط/ 2018 جلسة طارئة لمناقشة الأوضاع الإنسانية في الغوطة الشرقية، وتوصل المجتمعون بالاجماع بعد شد وجذب وتأجيل للتصويت لهدنة فرضت بالإجماع تحت القرار 2401، والتي تقضي بهدنة شاملة لمدة شهر، مع السماح بدخول المساعدات الإنسانية للمناطق المحاصرة.
لم تمض دقائق وربما أقل على صدور القرار وإبلاغ الأطراف المعنية به ممثلة بنظام الأسد والمعارضة حتى عاود طيران الأسد ومدفعيته دك الغوطة الشرقية، واستأنفت قواته تحركاتها وحشودها على أطراف الغوطة الشرقية وبدأت بالتقدم تباعاً مستخدمة الأرض المحروقة وسياسة التدمير الشامل التي تتبعها روسيا في كل منطقة.
ورغم مرور أكثر من 14 يوماً على قرار الهدنة واجتماع مجلس الأمس للمرة الثانية في السابع من شهر شباط الجاري والتأكيد على ضرورة تطبيق الهدنة إلا أن نظام الأسد وبدعم روسي يضربون عرض الحائط بقرارات الأمم المتحدة للمرة المئة بعد الألف وأكثر قليلاً، ويمتنعون عن تطبيق أدى حد من الهدنة المزعومة ولو بتخفيف القصف.
قدمت الغوطة أكثر من 500 شهيد ومئات الجرحى بين المدنيين، وتدمير المئات من المباني السكنية والمرافق الطبية والملاجئ خلال أيام الهدنة القاتلة التي ترعاها الأمم المتحدة، وسط ازدياد الوضع الإنساني مأساوية وعجز شبه كامل طبياً وإنسانياً عن تقديم أي شيء يخفف الموت عن المدنيين العزل.
هذه الهدنة التي باتت غطاء لنظام الأسد وحلفائه اليوم لتمكين سيطرتهم وتوسعهم على حساب أكثر من 350 ألف مدني باتت الأقبية ملاذا لهم لتحميهم من صواريخ الموت المستمرة بالسقوط على مدنهم وبلداتهم، تفتقر لأدنى مقومات الحياة، يصدر الموت في كل دقيقة، مع مماطلة المجتمع الدولي الذي بات بنظر أهالي الغوطة راعياً رسمياً لهذا القتل والتشريد.
وباتت الهدنة اليوم في نظر أبناء الشعب السوري عامة والغوطة خاصة هدنة قاتلة مدمرة تعبر عن عجز المجتمع الدولي عن تطبيق أدنى حقوق الإنسان ومناصرة الشعب السوري الذي يتعرض لحملة إبادة جماعية لم تكن الأولى التي رعتها الأمم المتحدة وحقوق الإنسان ومجلس الأمن في سوريا فقد أبيدت مدن وبلدات في الرقة ودير الزور وحلب وإدلب وداريا ودرعا والغوطة الغربية وحمص وهم ينددون يعبرون عن قلقهم لا أكثر.
عانت الغوطة الشرقية طيلة خمس سنوات مرارة الموت المستمر جوعاً وقصفاً وحصاراً، لم تنفع كل النداءات والدعوات والاستغاثات لتخفيف حدة الموت الذي يلاحق أهلها من بلدة لأخرى، دمر الأسد وحلفائه كل حياة بتدمير المشافي والمعامل والمصانع والسيطرة على مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية، هذا عدا عن منع دخول المساعدات الطبية والغذائية، أمام مرأى العالم أجمع.
قدمت الغوطة الشرقية خلال سبع سنوات من الحراك الثوري أكثر من 13 ألف شهيد ومئات الألاف من الجرحى، وواجهت أكبر مجزرة كيماوية في 2013، وصمدت لخمس سنوات ولاتزال في وجه الحصار المفروض عليها والموت الذي يحاصرها من كل اتجاه، حتى تفرغ النظام وروسيا لها في الأشهر الماضية وكثف من ضرباته وغاراته مسجلاً المزيد من الشهداء والجرحى.
الغوطة اليوم تعيش القيامة في الأرض قبل نهاية العالم فعلياً، وحيدة منكوبة محاصرة، ينتظر مدنيوها الموت في كل ثانية وكل دقيقة مع كل صوت طائرة أو ضربة مدفع أو راجمة، ولا تكاد مشاهد الموت اليومية تفارقهم فشهيد هنا ومجزرة هناك، وشهيد يحمل شهيد وينعي شهيد ويشيع شهيد، والعالم يتفرج، ورسالة من تبقى للعالم "مازلنا على قيد الحياة حتى إشعار أخر".
عندما أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن تطوير الصاروخ النووي الذي يتفادى أنظمة الدفاع الصاروخية الأميركية، فهو بهذا يعلن توازنَ قوى عالمياً جديداً له دوافعه التي يحب فهمها. كما أن تبعات عالمية وإقليمية تحتاج إلى تأمل عميق يليق بهذا الإعلان، ومع ذلك لو حقّقنا في الدوافع وفِي شخصية بوتين فلربما نحن أمام خدعة استراتيجية كبرى.
لا أشكك في قدرة روسيا على تطوير صارخ نووي عظيم تتجاوز قدراته عشرات المرات قدرة الصواريخ الأميركية «تامهوك» التي شهدنا عرضاً مرئياً لها في الهجوم على صدام حسين عام 2003. ولكن رغم هذا فإن المتابع لشخصية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين منذ أن كان المقدم (lieutenant Colonel) بوتين الذي كان يدير محطة المخابرات الروسية (كي جي بي) في ألمانيا الشرقية لا يستغرب قدرة الرجل على المراوغة. كان بوتين في نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 نائباً لمدير محطة «كي جي بي» في برلين، وكان رئيس «كي جي بي» المباشر في موسكو يوم سقوط جدار برلين وتزاحمت المظاهرات الغاضبة أمام مبنى المخابرات الروسية في برلين، وهرب كثير من العاملين وبَقي المقدم بوتين في الداخل يحرق أوراق المخابرات السرية بالفرن، ولما انتهى من حرق معظم الأوراق خرج على المتظاهرين قائلاً لهم إن بداخل المبنى حراساً مسلحين لأقصى درجة ولديهم أوامر بإطلاق النار على من يقتحم المبنى، وأن عدد القتلى سيكون خرافياً، فقرر المتظاهرون الانصراف، رغم أنه لم يكن بالداخل حراس كما وصفهم، فقد هرب الجميع، ولكن بوتين لم يظهر خوفه بل واجه الخطر الداهم بالخداع الاستراتيجي، وبهذا نجا بوتين من مصير محتوم كان على وشك أن يقع له في السفارة الروسية. عقل بوتين مسكون بهذه التجربة ويرى في أي مظاهرات سواء في موسكو أو في سوريا خطراً عليه، لذلك انحاز دائماً إلى الثورة المضادة في الربيع العربي مثلاً، ولذلك كان موقفه المتشدد في أوكرانيا. بوتين يخاف مصير أي ديكتاتور، ولذلك يلجأ إلى كل السبل التي يستعرض به القوة لنفسه ولروسيا في مواجهة الأخطار القائمة والمحتملة. فهل صاروخ بوتين حقيقي أم هو ضمن خطة الخداع الاستراتيجي؟
بالطبع لم نرَ سوى عرض الفيديو ضمن ما يشبه خطاب حالة الاتحاد الذي ألقاه بوتين أمام النواب والنخب الروسية الاقتصادية والسياسية، ولكن أهمية هذا الفيديو وهذا الخطاب هو أنه يأتي في سياق تفوق ملحوظ للصين على الولايات المتحدة الأميركية اقتصادياً، مما يعجل بنهاية العالم أحادي القطبية أو يجعله مكوناً من قطب واحد ولكنه الصين وليس أميركا هذه المرة. في ظل تحالف شرقي بين الصين وروسيا مضافاً إليهما الموقف المتهور لكوريا الشمالية فإن خطاب بوتين يزيد من زعزعة الثقة العسكرية الأميركية التي كانت دوماً تعتمد على تفوقها التكنولوجي والعسكري. ومن هنا تكون تبعات تحدي بوتين حتى لو كان خداعاً له تبعات كبرى عالمية كما أن له تبعات إقليمية في منطقتنا.
صاروخ بوتين بالتأكيد سيجعل الإسرائيليين يعيدون التفكير فيما يعرف بالقبة الحديدية، وخصوصاً بعد إسقاط الصاروخ السوري لطائرة إسرائيلية حديثة، سيفكر الإسرائيليون كثيراً في الصواريخ الروسية الجديدة. وطبيعتها.
صاروخ بوتين أيضاً سيعزز الموقف الروسي في سوريا، ويجعل التوازن الدولي في المفاوضات يرجح الكفة الروسية، هذا إن كان الصاروخ حقيقة، وإن كان خدعة استراتيجية فنحن أيضاً أمام عالم جديد أساسه الخداع، أو عالم ما بعد الحقيقة كما سماه الرئيس الأميركي دونالد ترمب الذي هو - في نظر بوتين - مجرد بوريس يلتسين أميركي. يلتسين الذي سلم السلطة لبوتين طواعية وأعطانا هذه القيادة الروسية التي قد تظل معنا لفترات طويلة.
صاروخ بوتين ليس النهاية، فكلما أحس بوتين بخطر يشبه خطر المتظاهرين في برلين نجده يبحث عن وسيلة جديدة أساسها الرجل الخائف وليس الرجل القوي!
بذهولٍ، كنا نقرأ، ونحن في مقاعد الجامعة في مساق التاريخ، عن مجازر العصابات الصهيونية في فلسطين قبيل النكبة، وإعلان قيام دولة الاحتلال. وقتها كان الطلبة يتساءلون كيف صمت العرب والعالم عن تلك المجازر، وكان جواب الأستاذ لنا "لأن المعلومة لم تصل إلى الرأي العام في ذلك الوقت، إذ لم يكن حينها فضائيات ووسائل الإعلام الحديثة".
واليوم، نتابع بذهول بثا مباشرا لمجازر النظام السوري وحلفائه، وسط صمت عربي، وتلكؤ المجتمع الدولي، وخذلانه الأطفال والنساء، ليثبت هذا عدم صوابية تحليل ذلك الأستاذ، فليس غياب المعلومة والإعلام سبب خذلان الضحية، بل هو جرّاء نظام دولي يكيل بمكيالين، الغلبة فيه للقوي، نظام تغليب المصالح وتغييب الضحايا، ويصحّ والحال هذه مع ما يجري في الغوطة القول إن الضمير الإنساني دفن هناك، وبتنا نتحدث عن مرحلة ما بعد ذلك وآثارها.
وحيث تبدو "محرقة الغوطة" وبشاعة الجرائم التي يرتكبها النظام وحلفاؤه الروس والإيرانيون والأفغان وغيرهم بشعة إلى درجة أن التفكير يتجمد، ويتوقف عند هذه اللحظة البائسة من التاريخ، إلا أن ما بعد هذه المحارق أخطر، فكيف يمكن إقناع جيل "ما بعد حرب سورية" بمبادئ "العدالة الدولية" و"حقوق الإنسان"، وهو الذي شاهد نظامه المجرم يحرق الناس ويدفنهم تحت الأنقاض، غير مكترث بكل تلك الديباجات، كما أنه يواصل جرائمه منذ سبع سنوات، من دون أن يتخذ المجتمع الدولي قرارا حاسما بردعه.
هذا "الكفر" بتلك المواثيق والمبادئ الدولية خطير، لعدة أسباب، إذ من شأن تراكمه أن يولد مظلوميةً لن تنجح كل هذه الديباجات الدولية في معالجة آثارها المدمرة، كما سيخلق جيلا من الناقمين والمحبطين والمسكونين برغبة الانتقام، وهذه وصفةٌ للتطرّف الذي يدّعي العالم الحر أنه يحاربه، فيما هو بهذا الصمت على القتلة يسهم في صناعته، كما أن استمرار هذه المجازر الوحشية هو خدمة مجانية للقوى الراديكالية المتشدّدة التي نجحت في غسل أدمغة آلاف الشباب، وجندتهم في صفوفها، ما يجعلنا اليوم كأمة بالفعل أمام مستقبل مظلم، بلدان مدمرة، ومئات آلاف من الأيتام و المقهورين ومعدومي الأمل، فأي مستقبلٍ ينتظر هذه البقعة من العالم؟
قهر الشعب السوري اليوم عبر تركه وحيدا أمام هذه الآلة الاجرامية لنظامه، المتحالف مع عصابات من شتى أنحاء الأرض، ومضي الإدارة الأميركية في قهر الشعب الفلسطيني عبر اعترافها بيهودية القدس، وتنكّرها لكل حقوقه، إضافة إلى الحملة الشرسة التي تقوم بها أنظمة الثورات المضادة القمعية ضد شعوبها ومعارضيها، كل هذه العوامل هي وصفه لتفجير هذه المنطقة، وإحراق المعبد على رؤوس الجميع كما يقال. ولعل المستفيد الوحيد من ذلك كله إسرائيل التي تعمل على ترويج أنها الديمقراطية الوحيدة في هذه المنطقة، فلم تكن تل أبيب تحلم، في أحسن أحلامها، بما يحصل اليوم، من تفجير أنظمة مجنونة أحزمة ناسفة في بلدانها وشعوبها، فالكل خاسر والحالة هذه، حتى الدول الإقليمية الرئيسة، كإيران وتركيا اللتين تنافستا على تقسيم كعكة هذه المنطقة، لم تعد بعيدة عن هذا البركان، فقد ظنت إيران، في فترة شهر العسل مع" الشيطان الأكبر"، أن واشنطن ستعمّدها شرطيا على المنطقة والإقليم من جديد، فاندفعت بجنون في دعم مليشيات طائفية مريضة، وتآمرت على الربيع العربي، إلى أن قلب الرئيس الأميركي، دونالد ترمب، لها ظهر المجن، وبدأ تقليم أظافرها، فيما ركبت الثانية موجة الربيع ثم تلكأت وخذلت السوريين، فاضطرت اليوم للدخول في حرب استنزاف طويلة مع المليشيات الكردية لا يعرف مداها ومآلها.
الخلاصة من "محرقة الغوطة" أن الضمير الإنساني دفن هناك، وقد ندفن فيها، نحن الأمة، إذا لم نخرج من حالة العجز والتشرذم والخذلان، وسنكون نسيا منسيا، فهل من عقلاء؟
يروي المؤرخ التركي خليل بركتاي، في مقال له تحت عنوان "غرنيكا 1937، الغوطة 2018"، أولًا الهجوم الوحشي والمجازر التي نفذتها قوات الجنرال الفاشي المتمرد فرانكو بدعم من هتلر وموسوليني، في منطقة الباسك الإسبانية. ثم يقارن بين بلدة غرنيكا التي تعرضت للهجوم والغوطة، ليخلص إلى النتيجة التالية:
"على الرغم من إعلان الأمم المتحدة هدنة لمدة 30 يومًا إلا أن الهجمات الوحشية لم تتوقف. فالنظام السوري أصم، وروسيا لا مبالية. سيلان الدماء مستمر في الشوراع. الغوطة هي غرنيكا عصرنا. من يدرك؟ العالم يرى لكن لا يحرك ساكنًا. وليس للعرب السوريين المسلمين بيكاسو يصور مأساتهم. لا أحد يريد التحرك".
ينشر مراسل الجزيرة مشاهد من الغوطة. جميع الأحياء، التي كان يقطنها قبل الحرب قرابة نصف مليون نسمة، دُمرت بالكامل، أصبحت الشوارع والأزقة أثرًا بعد عين.
من يقصف الغوطة هي القوات البرية والجوية التي ما زالت موالية للأسد. عدد الفصائل المعارضة في الغوطة خمس، وإجمالي أفرادها 30 ألف، جميعها من السنة.
من نقاط التشابه، التي لفت إليها الأستاذ بركتاي في مقالته، بين غرنيكا والغوطة هي أن الجيش لا يستهدف القوة العسكرية المناوئة له، وإنما يقصف المدينة التي تحتضنها وتشاطرها بعض القيم، ويستهدف سكانها المدنيين ومنازلهم ومدراسهم وأسواقهم ومحلاتهم ومستشفياتهم:
"نفذ الطيارون الألمان أول بروفة لقصف الإرهاب، الذي كانوا سيختبرونه لاحقًا في الحرب العالمية الثانية. على مدى أكثر من ساعتين ما بين 16:30 و18:45، قصفوا ورشقوا بالرشاشات الآلية وألقوا قنابل زنتها 50 و250 كغ".
عندما انتهى "قصف الإرهاب" وانسحب الألمان والإيطاليون وقوات فرانكو، لم يكن قد بقي من غرنيكا سوى أطلال. بيد أن الغوطة تواجه منذ أشهر هجومًا أشرس. ولا يمكن القول إن الطيارين السوريين والروس يقلون كفاءة نظرائهم النازيين والفاشيين.
من يعتبر نفسه رئيسًا شرعيًّا للبلد لا يمكن أن يقتل المدنيين بهذه الوحشية. وإذا كان يفعل فهو يعلم بلا شك أن هذا الجرح لا يندمل، وأن من المستحيل له أن يكون زعيمًا لهذا الشعب.
لو أن الأسد لم يقبل بتقسيم بلده إلى ثلاثة أجزاء لكان وضع حدًّا لهذا الهجوم منذ زمن طويل، مهما كان موغلًا في الإجرام.
أسئلة تطرح نفسها الآن: من هي الأطراف الأخرى في خطة التقسيم هذه؟ أين بوتين من هذه الخطة التي تبين أنها أعدت في الولايات المتحدة واستُكملت في إسرائيل؟ وفيما عدا المنطقة التي رضي بها الأسد والميليشيات الشيعية، كيف سيُقسم الجزء المتبقي على العرب والأكراد؟ من سيسيطر على المنطقة الغنية بالنفط؟
وربما السؤال الأهم: ماذا سيكون موقف تركيا وقطر من هذه الخطة؟