الإحلال السكاني في دمشق وأكنافها.. حقيقة أم أوهام؟
يعود مشهد الباصات الخضراء من جديد ولكن في الغوطة الشرقية من دمشق هذه المرة، الباصات التي عبَّرت عن ظاهرة نزوح جماعي "قسري" لأهالي المدن والبلدات من وسط سورية إلى شمالها. سياسة لم تعد خافيةً على أحد، ضمن استراتيجية إسكان واسعة في الأرض وترحيل أهلها عنها دون رضاهم.
فمع استمرار آلام الحرب في سورية، تستمر حكومة النظام السوري في خططها لإجراء التغيير السكاني على المساحة الجغرافية سيما مع دخول إيران وروسيا في موجة الصراع، فأدَّى التدخل إلى توسيع أحزمة النفوذ الإيراني في المنطقة التي تعتبرها طهران مقدسة، بل بوابة للخير ومفتاحًا للشرق في آن واحد.
لقد قدر عدد سكان سورية عام 2010 نحو 21.79 مليون نسمة، إلا أن العدد انخفض إلى 20.21 مليون نسمة نهاية عام 2015 وقد أشارت الأرقام التقديرية للتهجير واللجوء داخل البلاد إلى نحو ستة ملايين نسمة، أما أرقام النزوح واللجوء خارج البلاد تجاوزت عتبة ثلاثة ملايين آخرين. فكانت المدن الأكثر تضررًا هي حمص وحلب ودرعا ودير الزور وضواحي دمشق، أما النطاقات الريفية الأكثر تضررًا فهي ريف دمشق وريف حمص وريف حماه وريف درعا وريف الحسكة وريف دير الزور. وتدل هذه البانوراما الإحصائية على استهداف طال الأكثرية السكانية من العرب السنة ومراكزها العمرانية الأساسية.
شرارة الإحلال السكاني في دمشق زمن الأسد الأب
الرئيس السوري حافظ الأسد ومع استلامه سدّة الحكم، عام 1970، بدأ بسياسة تغييرٍ ديموغرافيٍّ وجغرافيٍّ بطيء، لضمان سيطرته بشكلٍ كاملٍ على دمشق، وربَطها بمنظومةٍ أمنيةٍ مضادّةٍ لأيّ عملٍ عسكريٍّ قد ينقلب عليه. فعمل على استجلاب عشرات آلاف الشباب من الساحل السوريّ ومناطق ريفية أخرى، وطوّعهم في الأجهزة الأمنية والجيش. كما أنشأ أحياء خاصة أسكنهم فيها على أطراف العاصمة دمشق؛ عش الورور المطلة على حيّ برزة، والمزة 86 (نسبةً إلى الكتيبة 86 التي سكن عناصرها بجوارها). كما أنشأ شقيقه رفعت حيّ السومرية المقابل لمنطقة معضمية الشام، وسمّاه باسم ابنه "سومر". وفي عام 1981 أنشأ جميل الأسد جمعيّة المرتضى الّتي عملت على نشر المذهب العلوي في مناطق واسعة من سورية، وحتّى ببعض أحياء مدينة دمشق ومناطق ريفها الكبيرة.
مع هذا كله لم يستطع الأسد الأب إحداث تغيير ديمغرافي حقيقي في دمشق وريفها لأنه أدرك صعوبة ذلك، بل لجأ إلى إدارة الديمغرافيا بسياسات توازن حرجة لإضعاف الأكثرية السنية بالشكل الذي يرسخ قوة سلطته أكثر فأكثر.
دمشق "الفيحاء" جوهرة العقد في مشروع التغيير الديموغرافي
شكلت دمشق الفيحاء جوهرة عقد المشروع بنظر إيران على الأقل، نظرًا للمكانة الدينية والسياسية التي تنطوي عليها، فهي تشكّل بلد العتبات المقدسة ومحركًا لجذب المقاتلين الشيعة من مختلف الأصقاع، وغدت مركزًا حيويًا لما أسماه المهندسون الروس والإيرانيون بـ "سورية المفيدة". فمنذ وقت مبكر أدركت إيران أنه من دون دمشق سيظهر مشروعها بأنه مشروع إمبريالي هزيل في زمن غاب عنه هذا المنطق.
تبدو أشهر الأمثلة على استراتيجية الإحلال الاجتماعي بدمشق هو المرسوم التشريعي رقم 66 بتاريخ 19 سبتمبر 2012 القاضي باعتبار منطقة بساتين المزّة ومناطق أخرى بدمشق، مناطق سكنٍ عشوائيٍّ يجب إعادة تنظيمها. ويقسم المشروع إلى منطقتين، الأولى بمساحة 9214 هكتاراً جنوب شرقيّ منطقة المزة، والثانية بمساحة 880 هكتاراً جنوبيّ منطقة المتحلق الجنوبيّ. وقد برّر مدير دائرة التنظيم بمحافظة دمشق، المسؤول عن المشروع، المهندس جمال اليوسف، في تصريحاتٍ صحفيةٍ، المشروعَ الجديد بأنه عمرانيٌّ تنظيميٌّ يهدف إلى إعادة تنظيم وتطوير مناطق المخالفات والسكن العشوائيّ.
ليس هذا فقط، بل رصدت تحركات إيرانية في دمشق لتغيير البنية السكانية للأحياء الدمشقية عبر تعزيز نفوذها بإنشاء الحسينيات، وبيع العقارات إلى عائلات المقاتلين الشيعة من العراقيين واللبنانيين، وتم رصد أنشطة لشركات إيرانية وسماسرة سوريين يحاولون السيطرة على أكبر قدر ممكن من المنازل في دمشق.
وفي دمشق، اكتظت أحياء بالمجموعات الشيعية أكثر من ذي قبل كـ (حي الأمين، وحي الجورة "حي زين العابدين حاليًا"، وأحياء في دمشق القديمة، ومنطقة السيدة زينب والسبينة). ويتحدث سكان العاصمة عن أن دمشق بات يكسوها السواد بشكل لافت خلال العامين الأخيرين، حيث تنتشر الأعلام السوداء التي تُعد رمزًا للانتشار الشيعي، إضافة إلى انتشار اللّطميات في أسواق دمشق كسوق الحميدية. قرب الجامع الأموي.
كما اهتمت إيران بمنطقة المزّة كونها منطقةٌ حيويةٌ، فيها السفارة الإيرانية ومقرّات السلطة السورية الأمنية، إضافةً إلى القصر الجمهوريّ، لهذا رأى المستشارون الأمنيون الإيرانيون أن حماية هذه المنطقة يوجب هدمها وتهجير سكانها، وإحلال وجوهٍ جديدةٍ مناصرةٍ مكانهم.
وتشير التقارير إلى أن اللجان الشعبية المتعاملة مع الميليشيات الإيرانية استولت على عدد من البيوت الفارغة في حيّ الأتراك بحيّ الشيخ محيي الدين على سفح جبل قاسيون. ودهمت البيوت الخالية من سكانها التي سافر أصحابها نتيجة الوضع الاقتصاديّ المتردّي أو الخطورة الأمنية بعد الاتهامات التي طالت سكان الحيّ بالتعامل مع الحكومة التركية، فيقومون بتغيير أقفال البيوت وينقلون محتوياتها إلى جهةٍ مجهولة.
وفي ذات الإطار، استمر النظام في عملية الاستيطان بريف دمشق، فأزال أكثر من 600 منزل في مدينة داريا بالغوطة الغربية في ريف دمشق بمحاذاة مطار المزة العسكري. هذا وقد شهدت أحياء من العاصمة دمشق إخلاء من سكانها منذ عام تقريبًا، ليتملكها إيرانيون وعراقيون وأفغان موالون لإيران بشكل حصري.
وأصبح يمثل ما بات يعرف بمشروع "مدينة الأقحوان" في دمشق خطرًا إيرانيًا حقيقيًا على تركيبة السكان في العاصمة، إذ من المقرر أن تُهدم آلاف المنازل في المزة وكفرسوسة وغرب الميدان والمتحلق الجنوبي.
في غضون سبع سنوات من الحرب وحصار المدن والبلدات السورية، وقَّع النظام السوري اتفاقات إخلاء لمدن بعينها لتسلمها من مقاتلي المعارضة، ربما كان آخرها اتفاقات تسليم حلب وداريا، والتفاوض لتسليم معضمية الشام وحي الوعر، وقبلها اتفاقات الزبداني مقابل تهجير أهالي الفوعة وكفريا الشيعيتين من إدلب.
ولتوسيع دائرة المشروع لريف دمشق الغربي، أدارت إيران المفاوضات التي جرت حول الزبداني، حيث اتفق على جلب سكان "كفريا والفوعة" من إدلب إلى الزبداني لسببين، الأول تحقيق التغيير الديموغرافي، والثاني الاستفادة من مقاتلي القريتين الشيعيتين الذين يقدر عددهم بما لا يقل عن 3 آلاف مقاتل، وزجهم في معارك الغوطة الشرقية التي ربما تنهي وجود المعارضة فيها بما يحقق الحلم الإيراني في إيجاد نفوذ لها.
إذًا تكشفت خطة الإحلال السكاني، بمطلب إيراني أثناء المفاوضات وهو "مبادلة السكان"، بمعنى السماح لأهالي الزبداني والمقاتلين بالمغادرة مقابل السماح لأهل الفوعة وكفريا بالخروج سالمين، مما يعني إفراغ الزبداني من سكانها.
ورصد موقع "ميدل ايست بريفينغ" (MEB) الأمريكي المختص بالأبحاث وتقييم المخاطر إلى أن التحالف الثلاثي الذي يجمع الأسد وإيران وميليشيا "حزب الله" قيد نفسه بإطار زمني معين لتأمين المناطق الحيوية للوصول إلى أهدافهم الاستراتيجية المستقبلية، حيث تركز هذه الأطراف على مناطق معينة مثل غوطة دمشق بشكل عام ومدينة دوما بشكل خاص – التي تضم أحد أهم معاقل المعارضة في سورية – هذا بالإضافة إلى منطقة القلمون، وسهل الغاب بريف حماه.
وهو ما دلت عليه أيضًا أمواج المهاجرين من الأرياف الدمشقية إلى شمال سورية كما جرى مع أهالي حي القدم الذين وصلوا إلى إدلب مؤخرًا، الذين فروا من ويلات القصف العشوائي وعمليات الحصار والتجويع والارهاب عبر قاعدة حميميم الروسية وفق نظام التسويات الجماعية، وتسلم المناطق من سكانها.
2. آليات الإحلال الاجتماعي القائمة في دمشق وأكنافها
أربع أطراف فاعلة في هذا المسار، الإيرانيون والنظام السوري والروس والأمم المتحدة، لكن يبدو أن لكلّ طرف أهدافًا وتطلّعات تتباين مع أهداف وتطلّعات الآخرين؛ ففي حين تتطلّع إيران إلى بسط سيطرتها على هذا الجزء من سورية (سورية المفيدة) للحفاظ على خطّ تواصلها مع لبنان، والوصول إلى البحر المتوسط؛ في حين أن أكثر ما يهمّ نظام الرئيس الأسد، هو تأمين الحزام المحيط بالعاصمة لحماية قلعته الأمنية، فضلًا عن أن تغيير النسيج المجتمعي في هذا الجزء من سورية يُسهّل عليه بسط سيطرته في حال اضطرته تطورات الحوادث إلى الانكفاء إليه. وأما الروس الذين تبنّوا خطّة النظام في "المصالحات"، فإن همّهم بالإضافة إلى تأمين العاصمة دمشق، هو إطفاء البؤر الساخنة، لضمان عدم سقوط النظام، ولتغيير الأوضاع الميدانية لجعلها في خدمة الحلّ السياسي الذي يتطلّعون إلى فرضه. وهم يعلنون كلّ يوم من قاعدتهم العسكرية في "حميميم" عن هدن جديدة يتبعها تهجير بالباصات الخضراء، أو "تسويات" جديدة يضعونها تحت رعايتهم ورعاية الأمم المتحدة التي تهدف لإنقاذ أولئك السكان من حالاتهم الإنسانية الخطيرة.
إذن هناك أسباب عديدة أجبرت الناس على الخروج إلى مناطق أكثر أمنًا واستقرارًا لهم، أهمها:
- أعمال القصف الجوي المكثف والحصار الخانق.
- منع وصول المساعدات الإنسانية للمحتاجين في المناطق المحاصرة.
- انعدام الأمن وشيوع النزعة الميليشياوية لدى القوى المحلية.
- سياسية الاعتقال والتجنيد للشباب، وتدمير المصالح العقارية والغرامات السكنية التي تُفرض بعد دخول قوات النظام وميليشيات إيران لأي منطقة جديدة.
- سعي النظام السوري وحلفائه لإطالة أمد الحرب وتعقيد الحل السياسي.
مع كل هذا، لن تجدي مسيرة الباصات الخضراء نفعًا، فرغم الهندسة السكانية و الإحلال الاجتماعي الجديدة التي ينشط بها النظام وحلفاؤه خاصة في دمشق وريفها، ستنهار تلك المشاريع أمام الحشود السكانية العربية السُنية التي يشكلها الأهالي المهادنين بأرياف دمشق، أو العائلات القاطنة داخلها منذ بدء الأزمة، فلن تتمكن أقلية عددية حشدتها إيران في مناطق محددة أن تغير الهوية الاجتماعية والثقافية لدمشق رغم تأثيرها المرحلي المؤقت، مما سيجعل الباصات الخضراء جزءاً من أضغاث أحلام قومية إيرانية لا أقل ولا أكثر.