جاء دور الغوطة. كل من اعتقد أن روسيا تريد الحل السياسي في سورية، وأن خطواتها في تخفيض التصعيد كانت من أجل ذلك، عليه الآن أن يكتشف وهمه، وأن يتلمس كم آذى الثورة. ينطلق جوهر الإستراتيجية الروسية من سحق الثورة، وتدمير كل مواقعها، وهذا يتوافق مع إستراتيجية إيران والنظام، على الرغم من أنهما يعزوان "الانتصارات" لقواتهما وليس للقوات الروسية، ليس بالطيران فقط، بل بقيادة عمليات وجنود ومرتزقة أيضا. ويتفرّغ وزير الدفاع الذي يمتلك مخططاً لتحقيق هذا "الانتصار الكبير"، سيرغي شويغو، لهذا الغرض. لكن المشكلة أن قوات النظام المتبقية وقوات إيران وأدواتها لم تكن قادرة على الحسم، حتى بحماية الطيران الروسي، كما ظهر في الأشهر الأولى من التدخل الروسي. لهذا، عاد الروس إلى خطة النظام وإيران، بتقطيع مناطق الثورة وحصارها بأقسى ما يمكن. وكانت قوات النظام وإيران قد فشلتا، على الرغم من ذلك في السيطرة على أي من هذه المناطق المحاصرة. لكن، نتيجة عدم وجود قوات قادرة على الحسم، لجأت روسيا إلى سياسة "مناطق تخفيض التصعيد"، حيث اقترحت أربعة ثم ارتفعت إلى سبعة. ولقد دفعت لتحريك جبهة النصرة للسيطرة على بعض هذه المناطق، خصوصاً في الشمال الغربي (إدلب وريفها) التي نجحت في السيطرة على مناطق واسعة، هي التي سلّمت معظمها لقوات النظام وإيران وروسيا، مع بدء الهجوم على ريف إدلب الشرقي. وما زالت تلعب بهذه الجبهة في تلك المنطقة.
"تهدئة الجبهات" في الجنوب السوري، وريف دمشق، وريف حمص، وريف حماة الجنوبي، وإدلب وريفها، سمح لروسيا التي تريد حسم الصراع بالقوة الاستفراد في هذه المناطق، واحدة وراء أخرى. فهي تستطيع، بهذه الإستراتيجية، تجميع قوى عسكرية كافية كما تعتقد. وبالتالي، تستطيع السيطرة على هذه المناطق واحدة بعد الأخرى. هذا ما فعلته في حلب، لكن بعد صفقة مع تركيا أضعفت إمكانية الدفاع عنها، وقامت به قبل ذلك في داريا ووادي بردى والمعضمية وغيرها. ولهذا، لم تكن مستغربة إشارة وزير الخارجية، سيرغي لافروف، إلى تطبيق ما جرى في حلب في الغوطة.
يتعلق الأمر هنا بفهم منظور روسيا القائم على حسم الصراع بالقوة، وإخلاء المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام من سكانها، وتدميرها قبل ذلك، وهو منظور النظام وإيران أيضا، فعلى الرغم من أن روسيا فاوضت "جيش الإسلام" في أستانة فهي تتعامل معه باعتباره مجموعة إرهابية، وكذلك كل من تمرَّد على النظام وأراد التغيير، بينما تتخذ جبهة النصرة، كما كانت تتخذ "داعش"، شماعة من أجل تحقيق ذلك. فقد سلمت "داعش" بادية تدمر مناطقها بعد أن انتهت مهمتها، وسلمت جبهة النصرة جزءاً من مناطقها في ريف إدلب، بعد أن بات النظام بحاجة إلى استرجاعها، وهكذا. و"داعش" وجبهة النصرة اللتان تسيطران على مخيم اليرموك والحجز الأسود وغيرها من المناطق في جنوب دمشق بعيدتان عن أي هجوم.
إذن، جاء دور الغوطة، حيث يجب أن تعود إلى سيطرة النظام، بعد أن يكتمل تدميرها وتهجير ساكنيها. أتحدث عن روسيا، لأنها التي باتت تقرّر كل شيء في سورية. ولهذا كان سيرغي شويغو هو الذي أعلن وقف إطلاق النار ساعات (مخالفاً قرار مجلس الأمن)، وهو الذي يفاوض، والذي يهدئ أو يقصف، وطائراته الأحدث يتم تجريبها على رؤوس أهالي الغوطة، فهل هناك أفضل من هذا المكان لتجريب سلاح جديد؟ ولقد أعلن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، وكبار قادة في جيش بلاده عن تجريب أكثر من مائتي سلاح جديد على رؤوس السوريين، فقط ليتأكدوا أنهم يبنون جيشاً جديراً بإمبريالية ناهضة، تستحق أن ترث الإمبريالية الأميركية.
ما يتناساه الروس، كما النظام وإيران، أنه ليس من الممكن سحق الثورة، وكل حديث عن انتصار هو وهم، فقد ظنّ النظام أنه سينتصر وحده وفشل، وظنت إيران أنها سوف تنتصر له وفشلت، حتى روسيا ستلاقي المصير نفسه.
لم يعد لروسيا في سورية سوى سياسة الأرض المحروقة، كما تتبعها في الغوطة الشرقية، كل محاولاتها في حل سياسي كانت مجرد تغطيةٍ على دورها العسكري في حماية (ودعم) مجرم يحكم بلداً اسمه سورية، ويستخدم كل مواردها ليس لحماية سكانها وشعبها، وإنما لقتلهم وتدميرهم وتهجيرهم.
فكما توقع خبراء ومراقبون كثيرون للحرب السورية، فإن مؤتمر سوتشي الذي أصرّت موسكو على عقده، في نهاية يناير/ كانون الثاني الماضي، انتهى بفشل ذريع، وعلى الفور أقال الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، نائب وزير الخارجية غينادي غاتيلوف الذي كان مسؤولاً عن الملف السوري وتنظيم مؤتمر سوتشي، من دون أن تعترف الخارجية الروسية بأن السبب المباشر كان وراء إقالته فشل المؤتمر، بسبب عدم التحضير الجيد والفجوة الكبيرة بين الأطراف المشاركة، وعدم محاولة إيجاد مناخ إقليمي ودولي، يساعد في تخفيف التوتر وإنجاح المؤتمر، بل على العكس رفضت الولايات المتحدة حضور المؤتمر، بينما شاركت الأمم المتحدة بعد ضغوط روسية على المبعوث الأممي، ستيفان دي ميستورا.
وكان أقصى ما تم التوصل إليه بعد المؤتمر هو الإعلان عن إنشاء لجنة دستورية تحت رعاية الأمم المتحدة، ووفقاً لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254، كما أشار دي ميستورا، وتم وضع الأمر تحت إدارته الكلية، فهو المخول بتشكيل اللجنة من ممثلين للحكومة وممثلي المعارضة المشاركة في المفاوضات، وخبراء سوريين وممثلين للمجتمع المدني ومستقلين وقيادات قبلية ونساء، كما ستضم تمثيلا مناسبا للمكونات العرقية والدينية لسورية. وكأن المؤتمر كله كان أقرب للاستعراض الروسي بالمساهمة في الحل السوري، على الرغم من إدراك روسيا أن طريق الحل لا يبدأ في سوتشي، وإنما في ممارسة ضغوط سياسية حقيقية على النظام السوري للقبول بالانتقال السياسي.
وردا على هذا الفشل، قامت روسيا بتصعيد عسكري غير مسبوق في كل من إدلب والغوطة الشرقية، مستهدفةً، بشكل رئيسي، المراكز الطبية والمستشفيات، مع تقارير موثقة عن استخدام غاز الكلور في سراقب. وكان نتيجة ذلك سقوط مئات من المدنيين الأبرياء، ما دفع المفوض السامي لحقوق الإنسان، الأمير زيد بن رعد، إلى اتهام روسيا بارتكاب جرائم حرب في قصفها الغوطة الشرقية وإدلب.
أرادت روسيا من هذا التصعيد العسكري بث رسائل واضحة إلى المعارضة السورية التي رفضت المشاركة في مؤتمر سوتشي أنها هي من تمتلك مفاتيح الحل في سورية، وعلى المعارضة الموافقة على الشروط الروسية، ورفض تمسكها بمسار جنيف للحل السياسي في سورية، كما أعلنت المعارضة مرات. وقد يتيح هذا التصعيد العسكري الفرصة لروسيا في حشر الولايات المتحدة في الرّقة، ومنعها من التفكير في التقدم غرباً، عبر "قوات سورية الديمقراطية" باتجاه دير الزور أو غيرها من المناطق حيث ما زال تنظيم داعش" يمتلك بؤراً أو خلايا كما حصل مع فوج من مقاتليه الذين عبروا إلى إدلب من مناطق يسيطر عليها النظام السوري، وتمكن الجيش الحر من قتل عديدين منهم وأسر البقية.
فروسيا إذا مصممة على دحر المعارضة العسكرية عسكريا، وكل سيناريوهات المحادثات في أستانة كانت تهدف إلى تخفيف الضغط الدولي على روسيا، كما أنها ما زالت توظف حضورها في مجلس الأمن، بامتلاكها حق النقض (الفيتو) من أجل منع تشكيل لجنة تحقق بالهجمات الكيميائية في سورية، عقب انتهاء مهمة اللجنة المشتركة بين الأمم المتحدة ومنظمة حظر استخدام الأسلحة الكيميائية، كما أنها مارست "الفيتو" لمنع إدانة النظام السوري الذي حملته تقارير الأمم المتحدة المسؤولية المباشرة عن استخدام السلاح الكيميائية في خان شيخون، وبالتالي حمايته من أي شكل من المحاسبة، بعد انتهاكه القرارات الدولية التي تجرّم استخدام هذا السلاح.
فيما يسود الغموض حقيقة العلاقة الروسية الأميركية، حيث لم يصدر عن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، أو البيت الأبيض، أي بيان يدين فيه التصعيد العسكري الروسي ضد المدنيين في سورية، واكتفت الخارجية الأميركية بإصدار بيان مقتضب، تعبر فيه عن قلقها من سقوط المدنيين، من دون الإشارة إلى المسؤولية الروسية عن هذه الهجمات، ما زالت الاستراتيجية الأميركية في سورية غير واضحة، على الرغم من تقديم وزير الخارجية، ريكس تيلرسون، رؤيته لسياسة بلاده في سورية في جامعة ستانفورد، بناء على خمس قواعد أساسية، أهمها الحد من النفوذ الإيراني والقضاء على "داعش" ومنع استخدام الأسلحة الكيميائية وضمان تحقيق انتقال سياسي لن يكون الأسد جزءا منه، لكن على ما يبدو تتغير الخارطة الحقيقية للاعبين في سورية على الأرض بشكل سريع، وأهمها توسع النفوذ الروسي في مناطق المعارضة السورية، ومحاولة الضغط على المناطق التي تسيطر عليها "قوات سورية الديمقراطية" المدعومة من الولايات المتحدة في الرقة ودير الزور، بغرض السيطرة الكاملة على حقول النفط والغاز السورية واستثمارها. ولذلك وقعت وزارة النفط السورية التابعة لنظام الأسد مذكرة تعاون مع روسيا، من أجل استثمار حقوق النفط والغاز في المناطق الشرقية السورية التي تسيطر عليها قوات سورية الديمقراطية. ولذلك عندما تقدمت المليشيات التابعة لنظام الأسد باتجاه هذه الحقول، ردت قوات التحالف الدولي، بقيادة الولايات المتحدة، باستهداف هذه المليشيات، ما أوقع أكثر من مائة قتيل، بحسب بيان التحالف الدولي. وعلى الفور، أصدرت الولايات المتحدة بيانا، أوضحت فيه أن مصالحها الرئيسية في سورية ما زالت تركز في القضاء على "داعش"، مع حقها في الدفاع عن نفسها أو حلفائها، إذا ما تعرّضت إلى أي هجوم من قوات النظام السوري. وبالتالي، بقيت هذه الضربة الأميركية الموجعة للنظام السوري معزولة، ولم تنبئ بتحول عسكري واستراتيجي، يقود إلى تحقيق الأهداف الخمسة التي كشف عنها تيلرسون في السياسة الأميركية تجاه سورية.
مضى على بداية عملية غصن الزيتون قرابة أربعين يومًا. تتقدم القوات التركية ببطء من أجل تجنب سقوط ضحايا مدنيين، لتعلن قبل يومين قطعها ارتباط الإرهابيين بالحدود عبر تشكيل هلال يمتد من الحدود ويحيط بغرب عفرين.
أي أنها استكملت "مسار الهلال"، الذي تدور الأحاديث عنه منذ أيام.
الكثيرون يسمونه "تكتيك الهلال"، لكنني أفضل على الأخص استخدام تعبير "مسار الهلال".
لأن تكتيك الهلال يُطبق في ساحة الحرب. في حين أن من يقفون في مواجهتنا يختبؤون كالفئران في جحورهم، ولذلك لا توجد ساحة حرب..
مما لا شك فيه أن المرحلة القادمة ستكون أكثر مشقة، حيث ستستمر العملية بالسرعة نفسها، غير أن القوات التركية ستدخل المناطق المأهولة.
يتحرك عناصر الجيش التركي بحذر شديد، حتى لا تقع خسائر في الأرواح في صفوفهم من جهة، ولا يتعرض المدنيون لأذى من جهة أخرى.
غير أني أود أن ألفت انتباهكم إلى تفصيل هام في هذا الخصوص.
يردد الجميع أن عفرين هي النقطة الأكثر حرجًا في العملية. تأكيد الولايات المتحدة على عفرين يؤدي إلى جذب الانتباه إلى المدينة، في حين أن خبراء في هذا الشأن تحدثت معهم، يقولون إن ناحيتي جنديرس وراجو أهم بالمقارنة مع عفرين.
وفي هذا الخصوص يقول خبير السياسات الأمنية عبد الله آغار: "مسألة عفرين سهلة، ولن تواجه القوات التركية مشاكل كبيرة هناك. المهم هو جنديرس وراجو".
عند دخول المناطق المأهولة سيشهد تاريخ الحروب حدثًا يقع للمرة الأولى. فالشرطة التركية ستشارك في حرب خارج الحدود في سابقة هي الأولى من نوعها.
ستكون الشرطة التركية القوة الطليعية في تدمير الخنادق والملاجئ في جنديرس وراجو وعفرين.
رب ضارة نافعة، ما حدث من حرب على الإرهاب في المناطق الشرقية والجنوب شرقية عقب توقف مسيرة السلام الداخلي أكسب الشرطة التركية خبرة كبيرة. وهذه الخبرة ستظهر الآن في عفرين.
لا داعي للقلق، فالشرطة التركية ستحل هذا الأمر كما لو أنها تسحب شعرة من العجين.
وعندما يتقدم الجيش نحو منبج سترون أن الولايات المتحدة سوف تتراجع، وتتخلى بجرة قلم عن حزب العمال الكردستاني.
حين ظهر الهلال على الخريطة في عفرين قال الجميع إن "عفرين ستكون نجمة هذا الهلال"، معربين عن أملهم بنجاح العملية.
وأنا أقول إن النجمة ليست عفرين وإنما الجيش التركي بنفسه، وهذه النجمة سوف تزداد بريقًا وتألقًا يومًا بعد يوم.
عقب هذه المرحلة، لن تكتفي تركيا بهذا الهلال المرسوم في عفرين.
وسترسم بإذن الله هلالين آخرين، الأول في شرقي الفرات، والثاني في معقل حزب العمال الإرهابي بجبال قنديل..
ولسوف ينجح جيشها في تحقيق هذا الهدف، رغم أنف من يعيشون بيننا لكن لا يقفون إلى جانبنا، ورغم أنف الدول المحتلة في المنطقة..
لم تشكل موافقة روسيا على القرار 2401 أي عائق أمام متابعة قصف طيرانها قرى الغوطة الشرقية، كما لم تتسبب في أي مواجهة مع المجتمع الدولي في سعيها إلى تصحيح بعض الحقائق التي تم تجاهلها، أو القفز فوقها، خلال الترويج لنص القرار وبنوده، الذي يتيح لموسكو التعاطي معه أساساً من خلال قاموسها الخاص، وخبرتها في إدراج مصطلحات مرنة، قابلة لأكثر من تأويل للقرارات الدولية، بدءاً من بيان جنيف1، إلى القرار ٢٢٥٤، ومروراً بكل ما تم التوافق عليه في ما يتعلق بالصراع في سورية، وذلك وفق الحاجة الروسية وجهة الالتزام بها ونطاق تنفيذها، ما يؤكد اليوم عجز المنظمة الدولية بواقعها الحالي، وحاجتها إلى استيلاد وسائل دفاعية فاعلة تحمي من خلالها مهماتها وأولوياتها في الحفاظ على الأمن والسلم الدوليين.
أرادت موسكو أن تعرّف المجتمع الدولي من جديد بحقيقة دورها في سورية، وأن القرار يعود إليها وحدها بخصوص وقف إطلاق النار من عدمه، وليس إلى المجتمع الدولي، الذي تراه يتعامل بقفازات بيضاء في عملية جراحية تستلزم الغوص بالدماء والدمار السوريين، فهي من تحدد متى وأين ولمن تكون تلك الهدن. ولعل قرار موسكو وضع بداية ونهاية يومية للهدنة يعني أنها تعيد تعريف عمليتها العسكرية في سورية بأنها صاحبة الفضل في إطعام الناس بيد وقتلهم باليد الأخرى، متى تشاء. وضمن ذلك التعريف فهي طرحت مسبقاً تسمياتها لأطراف الصراع، بين مؤسسة حاكمة يمثلها النظام، وبين جماعات إرهابية تريد قلب حكم هذا النظام، وعلى ذلك فإن ما يمثله القرار من وجهة نظرها هو زيادة في إطلاق يدها داخل الصراع وليس للجمها وتحجيمها.
ولعل من قبيل المصارحة مع الذات أن نسأل هل كان تمرير القرار الأممي 2401 السبت 24 شباط (فبراير) المتعلق بوقف إطلاق النار في سورية لمدة 30 يوماً، محرجاً لموسكو حقاً؟ هل كانت روسيا فعلياً تستطيع استخدام الفيتو بوجه المجتمع الدولي، وخسارة ما حاولت أن ترسمه لنفسها من دور في صياغة حل سياسي للقضية السورية، وذلك من خلال جهودها في عقد مؤتمر سوتشي، على رغم ما مني به من فشل، شارك حليفها النظام بصناعته، عبر تحويله إلى تجمع أقل من شعبي، وأقرب إلى مشهد هزلي غير متقن، وهل ستنسى موسكو له هذه الخطيئة؟
إن كنا نوقن أن موسكو لا تتعاطى مع القضايا المتعلقة بمصالحها وفق مبدأ المحاباة، فإننا ندرك أنها استثمرت بتعاطيها «الإيجابي»- أو في شكل أكثر دقة غير «التعطيلي»- مع المجتمع الدولي، بما يتعلق بموافقتها على القرار 2401، حول وقف الأعمال العدائية في سورية من جميع الأطراف، على صعد عدة: داخلي روسي، ومحلي سوري، وخارجي دولي، حيث وجهت، من خلال مسايرتها المتحمسين لاستصدار القرار، رسائل عديدة.
فمثلاً، ثمة رسالة إلى الشعب الروسي مفادها أنها لا تزال ضمن منظومة العمل الدولي الجماعي، مبددة بذلك ادعاءات بعض أحزاب المعارضة الروسية، بأن الرئيس فلاديمير بوتين، المقبل على انتخابات رئاسية في 18 الشهر الحالي، جرَ البلاد إلى عزلة خانقة، ومواجهات دولية واسعة مع الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، ما قد يحمّلهم المزيد من الانعكاسات الاقتصادية الضاغطة على حياة المجتمع الروسي، الذي يعاني أساساً نتيجة العقوبات التكنولوجية والاقتصادية عليه.
أما رسائلها إلى الداخل السوري، أي إلى النظام والمعارضة المسلحة، فأكدت عبرها بأنها الطرف الفاعل في المعادلة الدولية سواء لجهة الحرب واستمراريتها، أم للسلام وآلياته. وعلى ذلك فهي مهّدت من خلال الشروط «التقييدية» التي طرحتها للمساومة على اتخاذ القرار، وكذلك بما استطاعت تضمينه كبنود في القرار فعلياً، على أن الانتقال الفعلي إلى عقد الهدنة المأمولة من المدنيين السوريين، يجب أن يتضمن ضغطاً على الفصائل المسلحة، للانخراط الكامل في المسار الروسي في آستانة، تجنباً لتصنيفها «بالإرهابية»، حيث استطاعت تضمين القرار 2401 ما يوسّع هوامش التلاعب الروسي بالفصائل، ويضعها تحت التهديد المباشر بالتصنيف، ضمن حيثيات البند الثاني من القرار، المتعلق بعدم شمولية وقف الأعمال العدائية ضد النصرة وداعش والقاعدة والأفراد والكيانات المرتبطة بهم.
كما أن الرسالة الأقوى كانت إلى النظام الذي لا يزال يلعب بورقة حصة إيران في الكعكة السورية، حيث ينزع هذا القرار عنه الحصانة في اللحظة التي تراها موسكو، وليس إيران أو المجتمع الدولي، مناسبة. فالقرار يتحدث عن وقف كامل لإطلاق النار، وليس عن تخفيض تصعيد، ومفاتيح الاستثناءات بيد موسكو، فقط، ما يعني أن ما كانت تتيحه له «هوامش» الخلافات الروسية- الإيرانية، حول الحل السياسي في سورية للنظام قد تقلصت ربما إلى الصفر، عندما تحين الفرصة لموسكو بعقد صفقاتها مع الولايات المتحدة من جانب وأوروبا الغربية من جانب آخر، حتى إذا تعارضت هذه المصالح مع إرادة النظام السوري والرغبة الإيرانية. ويدل على ذلك متابعة موسكو تشكيل اللجنة الدستورية التي أقرتها في سوتشي وعارضها النظام بجلسة معلنة في مجلس الأمن.
أما الاستثمار الأهم في القرار 2401 فهو في علاقة روسيا مع تركيا وإيران شريكتيها في مسار آستانة، إذ يهدد القرار في شكل فعلي اتفاقات خفض التصعيد التي عقدت برعاية ثلاثية روسية تركية إيرانية من جهة، وقد يكون المنقذ لها من جهة أخرى، ويعود ذلك إلى درجة الجدية الدولية في مراقبة تنفيذ القرار، والتزام الدول المتصارعة به، أو في التماشي الدولي مع الرغبة الروسية، ومنحها فرصة إعادة إحياء اتفاقات خفض التصعيد في المناطق الأربع، وفق خريطة تمنح تركيا غرب الفرات كاملاً، والنظام شرقه، مع ضمانات للوجود الأميركي في الشمال والشرق والجنوب، وبسط النفوذ الإيراني وسط العاصمة بما لا يجعلها في تماس مع أي نقطة حدودية تهدد أمن إسرائيل، والتمدد الأميركي في مناطق اقتصاد سورية، أي أن روسيا صاحبة كلمة السر في ضمان المصالح التركية من جهة، إذا قررت المضي في مسار آستانة، والتغاضي عن العملية التركية في عفرين وصولاً إلى منبج، مقابل منح النظام كامل الأحياء التي كان الأكراد يسيطرون عليها في حلب، وقد وقّع فعلياً مقاتلو قوات سورية الديموقراطية في فخ سحب قواتهم من تلك المناطق للانضمام إلى معركة عفرين ضد تركيا، أي أنه بالمحصلة فإن خرق القرار الأممي لا يمكنه أن يحدث في شكل فردي من تركيا ما لم تتوافق مع روسيا وإيران والنظام على ذلك.
وتشترك إيران مع روسيا في قطف ثمار تمرير هذا القرار الإنساني، حيث يغيب التصعيد الإعلامي عنها لرجحان كفة التصعيد ضد العملية الروسية في كل من الغوطة وإدلب، ما يخفف الحملة الدولية على إيران، ويضعها من جهة ثانية تحت الوصاية الروسية، وهو ما يجعل كلاً من الدولتين، تركيا وإيران، «أقل من شريك وأكثر من تابع» للمصالح الروسية في المنطقة، كما يجعل من برودة مسار آستانة جحيماً يعايشه الشعب السوري تحت نار موسكو وشركائها.
«عرض قوة رهيب» هذا أقل ما يمكن أن يُوصَف به «الشو» الذي قدمه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، على مسرح منبسط، خلفه شاشة ضخمة، عرض فيها «جواهر» الأسلحة الروسية الحديثة، قائلاً: ها أنا ذا!
بوتين في رسالته السنوية للجمعية الفيدرالية الروسية أشار إلى بدء اختبار منظومة «سارمات» الصاروخية، التي تحمل صواريخ باليستية ثقيلة عابرة للقارات، تحلِّق بلا حدود. وكشف النقاب عن غواصة روسية خارقة السرعة والتخفي والتسليح. الصاروخ والغواصة لم يُطلق عليهما لقب بعد، وطالب زعيم الروس شعبه باقتراح الاسم لهما، في إشراك متعمَّد للشعور الروسي الجمعي في أجواء الحرب الكبرى.
لمن يوجه بوتين هذه التهديدات؟
وزير خارجيته «الثلجي» سيرغي لافروف كان قد أجاب عن ذلك، الأربعاء الماضي، أمام مؤتمر للأمم المتحدة لنزع السلاح في جنيف، فقال إن «وجود الأسلحة النووية التكتيكية الأميركية في أوروبا ليس فقط من مخلفات الحرب الباردة، بل إنه موقف عدائي لا ريب فيه».
وأتاه الجواب من واشنطن عبر المتحدثة باسم «البنتاغون»، دانا وايت، التي قالت: «نحن لم نتفاجأ بهذه التصريحات، وعلى الشعب الأميركي أن يكون متأكداً من أننا جاهزون تماماً».
وأضافت: «هذه الأسلحة (الروسية) جرى تصميمها منذ فترة بعيدة. وعقيدتنا تأخذها بعين الاعتبار».
هل نحن على أعتاب حرب عالمية ثالثة؟
أصلاً نحن بالفعل في «حالات» تواجه روسي - أميركي، الساحة السورية مثالاً.
الحرب الباردة ليست حرباً عالمية ثالثة، وهي الحرب التي استهلكت زهاء نصف قرن منذ نهاية الحرب العالمية الثانية (1945)... لم تكن حرباً مباشرة واشتباكاً روسياً - أميركياً على المكشوف، بالسلاح... كل السلاح؟
هل أزفت الحرب الكبرى؟ لا ندري، لكن العالم، خصوصاً ديارنا في الشرق الأوسط، لا سيما سوريا، تغلي، وبها تتلاقى كل تيارات الهواء السياسي الساخن، وقد ينتج عن ذلك رعود وبروق وسيول، لكنها ليست من ماء فقط، فهي إضافة لكونها مياه تسونامي، سيكون معها دخان ونار ودماء ودموع.
الأرجح أنه لا يوجد في واشنطن أو موسكو مَن «يعمل» على تدشين الحرب الكبرى بين قطبي العالم اليوم (لاحظ الحديث... كأننا بعالم الستينات)!
لا يوجد، لأن الدب الروسي والنسر الأميركي على بيّنة من كارثية الاشتباك العسكري المباشر بينهما، وقد استقر بالذهن البشري المعاصر أن أي حرب مفتوحة مباشرة بينهما تعني فناء نوع الإنسان من الأرض... أو شبه ذلك.
الجو محتقن بهواء مسموم سريع الاشتعال، وما سوريا والجانب الأوروبي الشرقي إلا مسارح قد ينطلق عليها، في أي لحظة، العرض المسرحي البشري الأخير.
ما كنا نخشى الحديث عنه صار عادياً اليوم سماعه من زعيمي العالم!
هل تخيلتم يومًا أنّ الموتَ يمكن أن يكون موطنًا للفنّ؟ على الأغلب: لا. ولكن، إن لم تسمعوا عن الفن المجلّل برداء الموت، أو الموت المحاط بزينة فنّ الحياة، فلتسمعوا عن "أكرم أبو الفوز" الفنّان الدوماني الذي حوّل القنابل العنقودية، والقذائف ومخازن الأسلحة إلى قطع فنية، مجلّلة بألوان الحياة.
أبو الفوز فنّان ثلاثينيٌّ من مدينة دوما بالغوطة الشرقية المحاصرة، والتي تمطرها روسيا على الدوام بقذائف الموت بعد أن تسلّمت مهمّة شبح الموت في الغوطة من براميل الموت الأسدية بدائية الصنع التي كانت تمطر الغوطانيين يوميًا قبل التدخل الروسي.
روسيا تقتل الغوطانيين قتلاً متوحشًا تمامًا مثل النظام الأسدي، ولكنّها تقتل بآلات "متطورة" آلات تقذفها من السماء، فتسقط على الأرض لتقتل من تقتل، وتقتنص حياة من تقتنص من المدنيين الآمنين. ثمّ يتمثّل مشهد الموت الصامت في لوحة مرسومة من رفات الضحايا وبقايا القنابل والصواريخ الشاهدة على حقّ الحياة المنزوع بالوحشية الشديدة.
يجمع فنّاننا أكرم أبو الفوز شواهد الموت، ليبدأ فنًا جديدًا أسماه "الرسم على الموت" ...يستأنس أبو الفوز وحش الموت المخيف ليحوّله إلى قطع فنيّة تتراصّ على أرفف منزله ويلعب بها أطفاله. يحوّل أبو الفوز "الفناء" الذي يوجده الموت إلى "بقاء" الأعمال الفنيّة التي ستشهد أمام العالم كلّه أنّ الروس وصواريخهم وقذائفهم كانوا يومًا هنا في دوما الأبية يخنقون الحياة، ويحولون البشر إلى أشلاء والبيوت إلى أنقاض.
حين بدأ أبو الفوز في مشروع تأنيس الموت وتحويله، عرض صور آلات الموت الملوّنة وكتب معلّقًا:
"تقتلنا ونلونها ..
تدمر بيوتنا ونزينهم بها ..
نعبر من خلالها عن صمودنا
وتفاؤلنا بحياة أجمل
فكما إن الموت حق ..
فالحياة أيضاً حق .."
في يناير الماضي، قصف الأسد مدينة دوما بغاز الكلور الذي خنق النّاس ودمّر النبات، فرسم "أبو الفوز" على قناع الحماية ليجعله شاهدًا على هذه الجريمة، وكتب على صفحة "الرسم على الموت" : "رئتي دمشق وسوارها وقلعة الثورة برجالها الغوطة الشرقية، ومدينتي دوما عروسها ومنبع الرجال وأرض الكرامة، اصرخوا لأجلها وقفوا معها، دوما لم تختنق فقط بغاز كلور الأسد، إنّما اختنقت من صمتكم".
وحين اشتدت حملة القصف على الغوطة الشرقية منذ التاسع عشر من فبراير، رسم أبو الفوز على بقايا آلة من آلات القصف، وكتب: "يقتلنا الأسد كل يوم بقذائفه و حصاره، فيقصف مشافينا و يجوّع أطفالنا و يهدم مبانينا، فيصمت العالم عن مذبحتنا بينما نحن نبحث عن فسحة نبني فيها ما هدمه لنعالج جراحنا و نزرع ما حرقه لنطعم أطفالنا و نرسم على قذائفه من أجل السلام".
وحين كان مؤتمر سوتشي حول سوريا يقام لتقرير حياة من تبقّى من السوريّين في نهاية 2017 عبّر أبو الفوز عن مفارقات سوتشي بطريقته، فجمع فوارغ الرصاص الروسي وبقايا قنابل عنقودية وقذيفة هاون، وحوّلها إلى قصر الكرملين، وكتب : "لأولئك الذين يتفاوضون حول مصيرنا ومستقبلنا: الشمس لم ولن تشرق من موسكو ، سأكون أكثر تشدداً، سأكون الإنسان وأبني لكم قصراً تتفاوضون فيه بالغوطة الشرقية ، قصراً من قذائف سوتشي وصواريخ الكريملن".
فنّ أبو الفوز نوعٌ جديد من الفنّ لم نعرفه من قبل، إنّه "فنّ الموت" ...عرف النّاس فنّ الحروب، وفنون السّلام، لكن أن يحوّل أحدهم "الموت" ذاته إلى فنّ، فربما لم يسبق أحدٌ أبو الفوز بهذا الفنّ. يرسم أبو الفوز على الموت، ويواصل الرسم في كلّ يوم تخطئه قذيفة روسية أو رصاصة أسدية، ليجمع فوارغها ويرسم عليها، ويرجو يوم يبدأ فيه الرسم على الحياة ولأجل الحياة. وإلى أن يأتي هذا اليوم، فلنوصل نداء الغوطة، ونداء أبو الفوز للعالم: الحياة حق، وهم يحبون الحياة إذا ما استطاعوا إليها سبيلاً.
تكشف مأساة الغوطة الشرقية حيث يقتل النظام السوري يوميا بدم بارد العشرات من مواطنيه، بدعم إيراني وروسي، أنّ هناك إصرارا على تكريس التغييرات الديموغرافية في سوريا. من الواضح أن المطلوب انطلاقا من هذه التغييرات إعادة تشكيل سوريا. هل يمكن أن ينجح النظام في البناء على ذلك مع الذين يقفون خلفه ويوفرون لبشّار الأسد الحماية التي يحتاجها للبقاء في دمشق حاكما صوريا؟ هل سوريا الجديدة ستكوّن نتيجة التحولات التي جرت على الأرض، بما في ذلك تدمير المدن السنّية الكبرى وتدجين دمشق وتغيير طبيعة تركيبتها وتركيبة المنطقة التي تحيط بها؟
ما يتبيّن كلّ يوم أكثر من أيّ وقت أنّ النظام، الذي ليس سوى بيدق يحرّكه الإيراني والروسي، ماض في حربه على شعبه. لا يدرك النظام، على الرغم من أنّه صار في مزبلة التاريخ، سوى أن الحلّ الذي اعتمده في حماة في العام 1982 سيبقيه في السلطة. هذا منتهى اللاواقعية لا أكثر. كيف يمكن للنظام والذين يفاخرون بأنّه لا يزال قائما بعد مضي سبع سنوات على بدء الثورة الشعبية تصوّر أن بشّار الأسد يمكن أن يعود رئيسا في يوم من الأيّام؟
لا يمكن لتجربة حماة في 1982 أن تتكرّر في 2018 على نطاق سوريا كلّها. كلّ ما تدلّ عليه المجزرة التي يرتكبها النظام مع الإيراني والروسي هو تمهيد لقيام سوريا الجديدة. في سوريا الجديدة، يبدو أنّ أسس التسوية لن تتبلور قبل أن يقرّر الأمريكي ما الذي يريده، بما في ذلك هل سيكون هناك وجود إيراني في الجنوب السوري، وهو وجود تعترض عليه إسرائيل شكلا ومضمونا.
كان متوقّعا أن تكون السنة 2018 سنة التسوية في سوريا. يبدو أنّها ستكون سنة بداية مرحلة جديدة من الحرب التي يخوضها النظام مع الإيراني والروسي على الشعب السوري. ما يمكن قوله الآن إنّ شمال شرق سوريا، الذي يُشكّل «سوريا المفيدة» صار تحت السيطرة الأمريكية. معظم الثروات السورية في تلك المنطقة التي أفهمت واشنطن كلّ من يعنيه الأمر أن لا مجال للاقتراب منها. تبدو أمريكا، على الرغم من عدم امتلاكها استراتيجية واضحة بالنسبة إلى مصير سوريا في المدى الطويل، جدّية في الاحتفاظ بشمال شرق سوريا، أي بالمنطقة الواقعة شرق الفرات. بات ثابتا الآن أن الأمريكيين حصدوا قبل أسابيع قليلة بواسطة طائرات هليكوبتر من نوع «أباتشي» مجموعة من المرتزقة جندتهم شركات نفطية روسية. حاول أفراد المجموعة وكان عددهم نحو 300 الاقتراب من أحد حقول الغاز في منطقة دير الزور. كانت النتيجة، استنادا إلى وسائل إعلام أمريكية محترمة مقتل ما لا يقلّ عن مئة من هؤلاء.
يعطي التصرف الأمريكي فكرة عن مدى الإصرار على البقاء في تلك المنطقة التي فيها عرب وأكراد بحجة أن الانسحاب منها قد يسمح بعودة «داعش» إليها.
يستطيع الأمريكيون الانتظار طويلا في منطقة شرق الفرات حيث معظم الثروة الزراعية والمائية ومعظم حقول النفط والغاز. لذلك، سيتوجب على من يريد التوصّل إلى تسوية نهائية الدخول في مفاوضات مع إدارة ترامب التي لا تبدو مستعجلة على شيء في سوريا. يشير إلى ذلك وقوفها موقف المتفرّج من المجزرة اليومية التي تدور في الغوطة، وهي مجزرة تذكّر بحماة 1982 مع فارق كبير يكمن في أنّ مجزرة حماة التي راح ضحيتها ما لا يقلّ عن عشرين ألف سوري نفّذت في الخفاء في غياب الإنترنت.
حصيلة الأمر أنّ كلّ ما يُقال عن حرب الغوطة ليس سوى غطاء لحقيقة ما يدور في سوريا. كان لا بدّ من انتظار السنة 2018 للتأكّد من أن الحرب على الشعب السوري لن تنتهي غدا. ما زالت هذه الحرب طويلة وذات طابع طائفي ومذهبي أوّلا وأخيرا.
كانت ندوة نظمها في بيروت في العشرين من شباط (فبراير) «بيت المستقبل» الذي أسسه الرئيس أمين الجميّل مع «مؤسسة كونراد أديناور» الألمانية تحت عنوان «حقيقة ديموغرافية جديدة في سوريا» مناسبة لسماع آراء خبراء دوليين وسوريين ولبنانيين في ما يدور في سوريا انطلاقا من الواقع الذي فرضته التغييرات التي حصلت على الأرض.
من بين ما قيل في الندوة إن العلويين هم الأكثر تعلّقا بالدولة المركزية في سوريا من منطلق أنّهم كانوا الحكام الفعليين لهذه الدولة منذ وصول حافظ الأسد إلى السلطة واحتكاره لها في العام 1970. في الواقع، كان حافظ الأسد وزيرا للدفاع منذ العام 1966. ما لم يشر إليه أيّ من المشاركين هو دوره في تسليم الجولان إلى إسرائيل في حرب العام 1967.
ما لم يفت المشاركين أنّ إخراج أهل الغوطة الشرقية من أراضيهم يخدم مشروع إبعاد أكبر عدد من السنة عن دمشق. أشار مشارك إلى أن هناك مليون علوي في دمشق حاليا وأنّ تغييرات حصلت داخل المدينة ومحيطها عن طريق شراء الأراضي والممتلكات. ذكر آخر أن معظم أهل حمص هجروا منها وهناك هجمة علوية عليها. تشمل هذه الهجمة الاستيلاء على أملاك أهل حمص.
ذهب مشارك إلى حد القول إنّه إذا كانت هناك من دولة علوية ستقوم في سوريا، ستكون دمشق عاصمة هذه الدولة التي سيكون لها امتداد في اتجاه المناطق التي يسيطر عليها «حزب الله» في لبنان. ستضم الدولة العلوية دمشق وحمص وحماة والقسم الأكبر من الساحل السوري حيث اللاذقية وطرطوس وبانياس. ستبقى حلب خارج هذه الدولة.
كان لافتا ما ذكره مشارك آخر في الندوة عن احتمالات المواجهة بين الأكراد والعرب في شمال شرق سوريا وعن زوال الوجود المسيحي في تلك المنطقة. لم يعد في دير الزور كلّها سوى مسيحي واحد!
كشفت الندوة حقيقة لم يتحدث عنها أحد في الماضي عن الوجود المسيحي في سوريا عموما. تتمثل هذه الحقيقة أنّ نسبة المسيحيين في بداية العام 2011، أي قبل اندلاع الثورة في شهر آذار (مارس) من تلك السنة كانت 4,6 في المئة من عدد السكان وليس 10 في المئة كما هو شائع. هجّر حافظ الأسد ثمّ بشّار الأسد المسيحيين من سوريا على دفعات وذلك قبل اندلاع الثورة الشعبية التي كانت ثورة على نظام حرم المواطن السوري من كرامته.
ما كان سرّا في سوريا منذ تولّي حزب البعث السلطة في العام 1963، صار أكثر من حقيقة في السنة 2018. ما تشهده سوريا هو حرب طائفية لم تعد شعارات البعث، بكلّ تخلّفه، قادرة على تغطيتها. كلّ ما يفعله العلويون حاليا بدعم إيراني وروسي هو الخروج بسوريا جديدة من منطلق طائفي ومذهبي ليس لإيران غيره لتبرير تحولّها إلى دولة متوسطية تستخدم فيها سوريا جسرا إلى لبنان الذي لم تعد تحتاج فيه إلى الكثير من أجل الإمساك به.
تبقى علامة استفهام تتعلّق بالموقف الأمريكي وما إذا كانت هناك استراتيجية أمريكية تتجاوز الاكتفاء بالاحتفاظ بـ«سوريا المفيدة» والتفرّج على إحدى أفظع الجرائم منذ بداية هذا القرن، أي جريمة الغوطة الشرقية.. هذه الجريمة المرتبطة بالحقيقة الديموغرافية الجديدة في سوريا.
الغوطة الشرقية تقع بريف دمشق الشرقي، ويقطنها حاليا أكثر من 350 ألف مدني، تتعرض للقصف بشكل شبه يومي منذ خروجها عن سيطرة النظام السوري لصالح فصائل المعارضة عام 2012، إلا أن الأيام الأخيرة كانت الأكثر ضراوة من خلال "حرب إبادة" قُتل فيها أكثر من 500 إنسان، وإصابة أكثر من 1000 آخرين، جرّاء قصف مستمر بأعتى أنواع الأسلحة التي تتغنى روسيا بتزويد النظام السوري بها، كجزء من حربها على ما يُسمى الإرهاب في سوريا! ناهيكم عن نقص حاد في المستلزمات الطبية الأولية، وتدمير 13 مشفى، تدعمها منظمة أطباء بلا حدود، ومراكز طبية أخرى، باستخدام الطيران الحربي والمدفعية وراجمات الصواريخ، التي خلّفت أطفالا ونساء ورجالا تحت الأنقاض، وبعضهم قد أصبح أشلاء، وهذا خرقٌ فاضح لجميع الاتفاقات والأعراف الدولية!
ولم يتورع نظام الأسد الإجرامي عن استخدام الأسلحة المُحرمة دوليا، حسب ما ورد في موقع "BBC" عربي، حيث أن "السلطات الصحية التابعة للمعارضة السورية في منطقة الغوطة الشرقية أعلنت أن العديد من الأشخاص عانوا أعراضا، تشبه أعراض استنشاق غاز الكلور السام، خلال القصف الجوي المستمر من جانب القوات الحكومية".
وقد رصدت عدسات قناة الجزيرة بعض المشاهد الإجرامية منها:
المشهد الأول: هذه عربين، رجال بخوذات بيض يتسلقون كومة من الدمار يرفعون من بين الحجارة أجسادا دامية، وغير بعيد رجل يقول، بعد أن قبّل جثة مكفّنة: "هذا يوم عرس ابني. لن نبكي. إذا كان بشار يريد أن نبكي فلن نبكي".
المشهد الثاني: دائما في عربين، صوت شاب تخنقه العبرات: "حسبنا الله ونعم الوكيل يا أمي. أنا عم أنقذ العالم يا أمي وما أقدر أنقذك يا أمي. حسبنا الله ونعم الوكيل. الله يرحمك يا أمي.."، والأم هامدة هادئة تنعم في عالم آخر.
المشهد الثالث: طفل محمول والدماء تسيل من وجهه، يصرخ وكأنه لا يحس بما هو فيه "أبي يا حبيبي" بصوت يقطعه البكاء.
المشهد الرابع من سقبا: صفائح إسمنتية ضخمة، يحاول رجال الدخول بينها، يتلاحق معه المشهد الخامس، حيث أكوام الحجارة تشهد على ما أصاب المكان من قوة تدميرية.. وهل يطيق البشر تحمل ما لم يتحمله الصخر؟!
هذه الصور والمشاهد المروعة التي تنقلها وسائل الإعلام العالمية والعربية لمعاناة أهالي الغوطة، والعالم يتفرج، يرى وكأنه لا يرى، ولك أيضا أن تتصور وتتخيل ما لم تلتقطه الكاميرات ولم يصل إليه المنقذون!
كل هذا يُوجب على كل إنسان في قلبه ذرة من كرامة أن يتحرك بقدر استطاعته لإيقاف دوامة الدمار والاقتتال المستمر منذ سنوات في سوريا، والتي راح ضحيتها مئات الآلاف من أبناء الشعب السوري، فضلا عن تشريد عدة ملايين آخرين.
ركائز مهمة لمواجهة الظلم والطغيان
كل هذه المآسي التي تحدث في ديار المسلمين، لم تكن لتحدث لولا وجود الحكام المستبدين على رأس السلطة في المنطقة العربية، وخصوصا في مصر وسوريا، حيث يسعون بكل السبل للقضاء على بارقة الأمل في الشعوب، وطمس هوية الأمة، وتدمير مقدراتها، وبيع أراضيها، واستباحتها للأعداء الغاصبين من الصهاينة والروس والأمريكان!
فالواجب الحقيقي على كل أفراد الأمة، وخصوصا في مصر وسوريا، التفكير بشكل جدّي وعملي للتخلص من كل مستبد، والسعي لإزاحة الظالمين المستبدين، وتفكيك منظومتهم، وهذا لن يتأتى إلا بعد فهم القضايا التالية:
أولا: ينبغي أن يفهم كل الناس أن الحرية مثل الماء والهواء، ولا يمكن الاستغناء عنها، فلا قيمة للإنسان بدون حرية، والله سبحانه وتعالى كرّمه بالعقل، وأنعم عليه بالحرية التي أرسل الرسل من أجلها. والدين يزدهر في ظل الحرية، والإسلام هو في جوهره ثورة تحررية شاملة؛ ثورة في العقيدة تحرر الإنسان من كل عبودية إلا لله سبحانه وتعالى، وألّا يكون عبدا للدرهم والدينار، أو عبدا لشهواته وغرائزه. فهذه الحرية النفسية، والروحية، والاجتماعية، وفي كل العبادات يظهر مفهوم الحرية في أسمى معانيها.
ثانيا: امتلاك الإرادة، بمعنى أن يُصبح الإنسان لديه إرادة حقيقية في الوقوف ضد الظالمين، والقول لهم: لا. فالحرية هي أن تمتلك إرادتك وتكون قادرا على أن تقرر في شأنك مهما كانت الضغوط من حولك، والتحديات التي تواجهك، وبقدر ما تزيد عبوديتنا لله بقدر ما نمتلك إرادتنا أكثر. ولذلك، أعظم المجاهدين وأشجعهم الجندي الذي تدرّب في مدرسة الإسلام على الحرية، يعتقد أن الموت والحياة والرزق بيد الله سبحانه وتعالى، وليس بيد عدوه.
ثالثا: لا بد أن نعلم أن النظم المستبدة تتناقض مع العقيدة؛ لأنه يجعل من الحكام آلهة، فالنموذج الذي حاربه القرآن ورماه بكل سهم هو النموذج الفرعوني، مقابل النموذج النبوي، الذي يجعل السلطة للأمة في إطار قيم الإسلام، هذا النموذج كان في الحقيقة غريبا على الثقافة السائدة في العالم. وهذا على كل حال درس بالنسبة لثوراتنا اليوم بأن تحذر من إدارة الاستبداد في منطقتنا العربية، التي لا تزال قائمة، وتقوم ثقافتها على الطاعة المطلقة للحاكم المستبد، ولذلك نحتاج باستمرار إلى تجديد الثورة، وإلى الوعي بأن لكل ثورة ثورة مضادة تعرقل مسيرتها.
رابعا: التطبيق العملي لخيرية الأمة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: "كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ" (آل عمران: 110).
ولذلك ينبغي على المسلم أن يكون إيجابيا في هذا الكون، فاعلا لا متفرِّجا، فالذي يليق به كمسلم أن يكون مؤثرا في هذا العالم فاعلا فيه، من خلال مواجهة الاستبداد والظلم، كل حسب استطاعته. فحكم الاستبداد مصدر كل البلاء في الأمة، والإسلام لا يتعايش مع الاستبداد لأنهما نقيضان، ولا يمكن تحرير الأوطان والمقدسات إلا بإزاحة الاستبداد والفساد.
خامسا: لا بد أن نعلم أن أفضل الجهاد هو إزاحة الطغاة والجبارين، وتحرير إرادة الأمة من العبودية لغير الله، وتحرير النفس لتكون متحررة من الشوائب، ورسالة الإسلام الأساسية هي تحرير البشرية من الطغيان بكل أنواعه، الطغيان السياسي، والطغيان الاقتصادي، والطغيان الإعلامي، والطغيان الفكري، لأن الله سبحانه وتعالى فطر الناس على الخير، فإذا تحرر الناس من الاستبداد، فسيكونون سعداء في الدنيا والآخرة.
كل ذلك يكون من خلال بذل كل واحد مِنّا ما يستطيعه في مجال عمله، وتخصصه الذي يبرع فيه، لكي تكون هذه المفاهيم والقضايا هي المحرك للجميع، والدافع للتخلص من براثن الجهل وجموح الطغيان في عالمنا العربي.
لا تعرف بناتي معنى الموت، تسألني طفلتي الكبرى حينما قلت لها إن العنكبوت الذي قبضت عليه تحت المنديل "مات": "شو يعني مات؟ وأين سيذهب؟" فلا أجيب وأطرق رأسي هربا من إجابة معقدة حتى على عقلي. وأمهات سوريا؟ كيف يشرحن الموت لأبنائهن؟ أم أن القصف يروي لهم بالصوت والصورة التفاصيل التي لا يردن لهم أن يعرفوها؟ أم أن الموت بنفسه يأخذهم ليشرح لهم ما معناه وكيف يكون؟ وكيف يحكين للعالم الماجن بصمته وتفرجه عليهن ماذا تعني لهن الحياة؟ الحياة التي لا يعرفن عنها سوى توقع الموت في أي لحظة؟
بائسة هي حياتنا نحن الأمهات المترفات ونحن نُقصي أطفالنا بعيدا عن كل ما هو مؤلم حتى بالمشاعر، جرحتْ طفلتي رأسها في الحديقة وهي تلعب فهرعتُ كالمجنونة أستعلم ما جرى وصرخت عندما شاهدت بعض الدم بين شعرها؟ كيف تشعر أمهات سوريا وهن يرين الدم يَسحُّ من كل جزء من أجزاء أبنائهن وبناتهن... وبعضهم قد مات بدمائه بالفعل؟
صعب أن نظل نفكر بمشاعرهن ومهما حاولنا فلن نفهمها، ولن نعرف ولو وصفت تلك الأم السورية التي تنقل يومياتها تحت القصف عن أحاسيسها وهي تريد أن تضم طفليها إلى جسدها "ما عم أقدر أستوعب إني مابقدر غطي بايدي قصي ومايا.. وإنو لسا في أجزاء مكشوفة منهم ومو محميين ومخبايين جواتي...".
وأنا التي أمنع أي صورة عنيفة وأي صورة من الحروب عن بناتي لأنهن لا يدركن بعد ماذا يحصل في العالم من دمار وقهر وحروب ولا يتخيلن شكل الموت الذي يعيشه أطفال مثلهن يوميا، وأسأل نفسي ترى متى علي أن أبدأ بشرح الحياة على حقيقتها لهن؟ ومن أين أبدأ؟ من الغوطة مثلا؟
قضيت أكثر من ساعة وأنا أتابع ما كتبت تلك الأم على حسابها على الفيس بوك وكيف تناقل الناس كلماتها وحاولتُ أن أشعر بما تشعر به وأتخيل شكل الحياة التي تحياها تحت القصف وهي تستميت لحماية طفليها بأي وسيلة ممكنة، وقد تركت بيتها الجميل وحياتها الطبيعية لتسكن القبو المظلم مع عشرات من الناس الذين هم في الغالبية من النساء والأطفال.
مريرة هي الأمومة في ظل الحرب، وصعب تخيل الحياة في سوريا وفي الغوطة وهي تحت القصف، وجُل الذي يمكن للأم أن تفعله هناك أن تدعو الله في كل لحظة وكل ساعة وتجمع قواها لحماية أبنائها وعائلتها، ثم يشتد القصف فجأة فتفقدهم أو يفقدوها في ثوان معدودة... وترى الأطفال يصرخون بجهل وضياع والرماد يغطي كل الأشياء من حولهم: ماما... ماما... فلا صدى ولا رد.
الذين يتابعون القصف ويقلبون الأكف على الأبرياء المدنيين الذين يقتلون... يكتبون على الفيس بوك وتويتر وينتظرون كل صورة تصل كي يبكون... يبكون ضعفهم وهوانهم وقلة حيلتهم، ثم يلومون بعضهم على التقصير بالكتابة والتعبير عما يحصل ولو بـ"بوست" صغير على أحد مواقع التواصل... كأضعف الإيمان.
أنا لم أكتب على صفحتي منذ بداية القصف وانتشار الصور من هناك أي كلمة... أصيب قلبي بالخرس من جديد... فهل يمكنه الكلام وهو يطالع المجزرة الهائلة التي لا تصدق... والعالم كله صامت أمامها؟ هل نكتب عن مشاعرنا المشلولة والمنهكة كل مرة؟ عن دعواتنا لهم بأن يصمدوا ونحن منهارون... عن ضعفنا وقهرنا وهم يقصفون... أم نكتفي بالبكاء مع أنفسنا على الغوطة، وعلى حلب وعلى سوريا؟ هل نساهم في التبرعات ونشفي بعض الغل الذي يقهرنا ونرتاح بعدها؟ وهل يكفي هذا؟
تخرسنا الأمومة التي نشهدها في الغوطة، تُخجل مشاعرنا التي تبدو كاذبة أمام مشاعرهن... ويخجل قلبي وأنا أحس بأنني لا أصلح أن أكون أما أمام أمومتهن، فلا المشاعر التي تعتريهن تعتريني ولا الخوف الذي يُقذف في قلوبهن يشبه ما في قلبي.
أمهات صامدات بدون طعام وماء... بماذا يبررن عجزهن عن طبخ الغداء لأبنائهن وبناتهن؟ كيف تتعامل أمهات الحروب مع الخوف والصدمات النفسية التي تسري في قلوبهن وقلوب أطفالهن الصغيرة، وكثيرون منهم قد ولدوا في الحرب ولم يعرفوا غيرها منذ سبع سنوات؟ أي قصص يحكينها لهم قبل النوم وكيف يتخيل هؤلاء الأطفال أبطال الحكايات من غير حرب ومن غير قصف؟ وهل ينامون أصلا كي يحلموا بغير ذلك الكابوس الذي يعيشونه؟
تتعرّض غوطة دمشق الشرقية، منذ مطلع شباط/ فبراير 2017، لهجوم عنيف، في ما يبدو محاولةً من النظام وحلفائه لاقتحامها والسيطرة عليها، عبر الاستهداف الناري الكثيف للحاضنة الشعبية؛ من أجل الضغط على الفصائل المسلحة، حتى تقبل بالخروج منها. وقد أدى القصف الجوي والمدفعي، حتى الآن، إلى سقوط أكثر من 600 شهيد، أكثرهم من الأطفال والنساء. ويسعى النظام، كما صرح مندوبه الدائم في الأمم المتحدة، بشار الجعفري، إلى تكرار سيناريو شرق حلب؛ إذ أدى القصف الجوي الروسي الكثيف إلى إجبار الفصائل المسلحة على مغادرة المدينة، وإجلاء أهلها عنها. فهل يتكرر سيناريو حلب في غوطة دمشق الشرقية؟ أم هل يمكنها الصمود والاستمرار في المقاومة؟ وما هي عوامل الصمود في هذه الحالة؟
حصار الغوطة
تقع الغوطة الشرقية، كما يدل اسمها على ذلك، في شرق مدينة دمشق، وسُميت بهذا الاسم لأنها بساتين غنّاء من أشجار مثمرة تحيط بمدينة دمشق، وقد كانت تشكّل تاريخيًا جزءًا من حزامها الأخضر (إلى جانب الغوطة الغربية)، وسلّة غذائها الرئيسة، وتبلغ مساحتها نحو 110 كيلومترات مربعة، وتضم مجموعة من المدن والبلدات، أكبرها دوما التي تُعد عاصمة إدارية للمنطقة، وحرستا وغيرها من المدن والبلدات التي يصل عددها إلى عشرين مدينة أو بلدة. يشتغل معظم أهلها، وقد كان عددهم قبل الثورة أكثر من مليوني نسمة، في الزراعة. اشتهرت غوطة دمشق بمقاومتها الشديدة للاحتلال الفرنسي. وبالنظر إلى أنها غطاء أخضر متصل بالبادية، مثّلث ملجأً آمنًا للثوار على مر العصور. كانت غوطة دمشق من أوائل المناطق التي ثارت على النظام في آذار/ مارس 2011، بسبب الظلم الذي لحق بها من سياساته الزراعية، وتمليك الأراضي لمشاريع رجالات النظام، واتباع سياسة الاستيراد لبضائع تنتج فيها مثل الأثاث وغيرها. وقد سيطرت عليها المعارضة بداية من عام 2012، وهي تخضع، منذ ذلك الوقت، لحصار شديد من قوات النظام الذي حاول اقتحامها من محاور مختلفة أكثر من مرة خلال السنوات الخمس الماضية، إلا أن كل محاولاته باءت بالفشل. يعيش في الغوطة اليوم، بحسب أكثر التقديرات، نحو 400 ألف نسمة، رفضوا الخروج من أراضيهم وبيوتهم، على الرغم من إجراءات الحصار التي أوصلتهم، في بعض الأوقات، إلى حافة الجوع.
أسباب التصعيد
كانت الغوطة الشرقية تمثّل إحدى مناطق خفض التصعيد الأربع الرئيسة إلى جانب إدلب، ريف حمص الشمالي، ومنطقة جنوب سورية الغربي (درعا والقنيطرة) التي نشأت نتيجة اتفاق روسي – تركي، فتَح الباب أمام ظهور مسار أستانة، بعد سقوط الجزء الشرقي من مدينة حلب بيد روسيا وحلفائها في كانون الأول/ ديسمبر 2016. وقد تم التوصل إلى تفاصيل شمول الغوطة بنظام الهدنة في اتفاق وقعته روسيا، بوساطة مصرية، في القاهرة، في تموز/ يوليو 2017، مع جيش الإسلام (أحد فصيلَي المعارضة الكبيرين اللذين يسيطران على الغوطة الشرقية)، ثم انضم إليه فيلق الرحمن في الشهر التالي. وقد وافقت روسيا على ترؤس أحد قياديي جيش الإسلام (محمد علوش) وفد المعارضة السورية في اجتماعات أستانة، على الرغم من معارضة إيران والنظام لهذه الخطوة.
كانت فكرة مناطق خفض التصعيد تهدف إلى الإعداد لمسار سياسي للحل؛ وفق الرؤية الروسية التي برزت بعض ملامحها خلال جولات أستانة الثماني التي عقدت على امتداد عام 2017، وتوجت بمؤتمر سوتشي في 29 كانون الثاني/ يناير 2018، وكانت روسيا تريده بديلًا من مسار جنيف الذي لم تساعد في إيصاله إلى أي نتيجة، على الرغم من اضطلاعها بدور رئيس فيه من خلال مشاركتها في إصدار قرار مجلس الأمن رقم 2254، والذي غدا مرجعيةً رئيسةً للحل في سورية. لكن سلسة من التطورات الأخيرة أدت إلى إفشال هذه الجهود، واتجاه روسيا إلى الموافقة على توجهات إيران والنظام، إلى التخلي عن فكرة مناطق خفض التصعيد، والذهاب في اتجاه الحسم العسكري، ابتداءً من الغوطة الشرقية (هذا إذا لم تكن مناطق خفض التصعيد تكتيكًا مؤقتًا أصلًا يهدف إلى الاستفراد بمناطق المعارضة المسلحة، والتخلص منها واحدة بعد الأخرى). فقد تعرّضت روسيا لسلسة من النكسات الميدانية والسياسية التي تنتقص من "النصر" الذي أراد الرئيس، فلاديمير بوتين، استثماره إلى الحد الأقصى في انتخابات الرئاسة التي تجري في 18 آذار/ مارس 2018.
فبعد مرور أيام قليلة على زيارةٍ قام بها الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، إلى قاعدة حميميم الجوية الروسية على الساحل السوري، في كانون الأول/ ديسمبر الماضي، وإلقائه ما بدا كأنّه خطاب "النصر" أعلن فيه عن بدء خفْض القوات العسكرية الروسية في سورية، تعرّضت القاعدة نفسها لهجماتٍ صاروخيةٍ، أدت إلى إعطاب سبع طائرات كانت في أرض المطار، ثم تعرّضت القاعدة نفسها لهجمات منسقة، قامت بها طائرات من دون طيار (درونز)، عشية رأس السنة، لم تتمكن وسائط الدفاع الجوي عن القاعدة من رصدها، قبل أن يتم في مطلع شباط/ فبراير 2018 إسقاط طائرة "سوخوي" روسية فوق إدلب بصاروخٍ يعتقد الروس أنه محمول على الكتف. وقد اتهمت موسكو الولايات المتحدة الأميركية بوجود دور لها في هذه الهجمات المنسقة للانتقاص من "الإنجاز" الروسي في سورية. ثم جاءت الضربة الأخيرة، عندما وجهت طائرات أميركية معزّزة بالمدفعية ضربة كبيرة إلى مليشيا مرتبطة بشركة أمنية روسية خاصة (كانت تعمل في أوكرانيا قبل أن تنقل مسرح عملياتها إلى سورية)؛ عندما حاولت مهاجمة مقار عسكرية تابعة لقوات سورية الديمقراطية (قسد)، يوجد فيها جنود أميركيون قرب مدينة دير الزور شرق سورية. وقد أدى الهجوم الأميركي إلى مصرع عدد كبير من عناصر المرتزقة الروس، الأمر الذي تسبب بضجةٍ كبيرة في روسيا، وإحراج شديد لنظام الرئيس بوتين الذي حاول، أول الأمر، تجاهل الحادثة كليًا، قبل أن تضطر وزارة الخارجية الروسية إلى الاعتراف، فقط، بمصرع خمسة مواطنين روس في العملية، قالت إنهم غير مرتبطين بالقوات الروسية العاملة في سورية.
من جهة ثانية، جاء الإعلان عن استراتيجية أميركية جديدة في سورية، بعد انتهاء الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية، واستعادة أكثر الأراضي التي يسيطر عليها، بمنزلة ضربة كبيرة لجهود روسيا من أجل الاستئثار بقيادة الحل في سورية. ففي 17 كانون الثاني/ يناير 2018، أعلن وزير الخارجية الأميركية، ريكس تيلرسون، في خطاب مخصص للسياسة الأميركية في سورية، أن الولايات المتحدة قرّرت عدم تكرار خطئها في العراق، عندما انسحبت منه بعد القضاء على تنظيم القاعدة، وتركته للنفوذ الإيراني، وأن الولايات المتحدة قرّرت، من ثمّ، الاحتفاظ بوجود عسكري لها شرق سورية، بعد طرد تنظيم الدولة الإسلامية. وحدد تيلرسون خمسة أهداف رئيسة، تسعى واشنطن إلى تحقيقها، من خلال الاحتفاظ بهذا الوجود، هي:
1. عدم السماح لتنظيم الدولة الإسلامية، أو القاعدة، بالانبعاث مجددًا، وعدم السماح بأن تعود سورية لتصبح قاعدة أو منطلقًا للتخطيط أو تجنيد أو تمويل أو شن هجمات ضد الولايات المتحدة، أو ضد مصالحها أو حلفائها.
2. إيجاد حل للصراع في سورية، من خلال عملية سياسية تقودها الأمم المتحدة، وفق نص القرار 2254، للوصول إلى دولة سورية مستقرة وموحدة ومستقلة، تحت قيادة جديدة لا يكون الأسد جزءًا منها.
3. تحجيم النفوذ الإيراني، ومنع إيران من إنشاء قوس نفوذ لها في المنطقة، ومنع تحول سورية إلى قاعدة لتهديد استقرار المنطقة والدول المجاورة.
4. توفير الظروف التي تسمح بعودة اللاجئين والنازحين داخل سورية إلى بيوتهم وبلداتهم.
5. إخلاء سورية من كل أسلحة الدمار الشامل.
اعتبرت روسيا الاستراتيجية الأميركية الجديدة عملًا عدائيًا يستهدف جهودها ومصالحها في سورية؛ إذ رفضت الولايات المتحدة حضور مؤتمر سوتشي، حتى بصفة مراقب، ومارست ضغوطًا على الهيئة العليا للمفاوضات المعارضة لمقاطعة المؤتمر، وأنشأت الولايات المتحدة لجنة خماسية تضمها، إلى جانب بريطانيا وفرنسا والسعودية والأردن، لمواجهة ترتيبات روسيا مع تركيا وإيران في سورية، وقدمت للمبعوث الأممي، ستيفان دي ميستورا، ورقة تتضمن رؤية اللجنة الخماسية للحل في سورية، في مواجهة مقررات مؤتمر سوتشي.
من أجل كل هذه الأسباب، قرّرت روسيا التي رأت أن استراتيجيتها السياسية والعسكرية في سورية تتداعى، مع تدهور علاقتها بالولايات المتحدة إلى مستوىً غير مسبوق، أن تنحو في اتجاه حل عسكري في الغوطة الشرقية، في خطوةٍ يكون الهدف منها هزيمة المعارضة كليًا ودفعها إلى الاستسلام، بدلًا من التفاهم معها على حل؛ مثلما كانت الفكرة، عندما انطلق مسار أستانة. ولهذه الأسباب بدأ التصعيد في الغوطة.
القرار 2401
بعد مفاوضات طويلة، وتعطيلٍ، ومحاولات كسب الوقت، على الرغم من الضغوط السياسية والإعلامية التي تصاعدت مع انتشار آثار الدمار والموت؛ بسبب القصف الروسي لمناطق المدنيين في الغوطة، وافقت روسيا على مسودة مشروع قرارٍ مشترك، تقدمت به السويد مع الكويت التي كانت ترأس دورة مجلس الأمن، خلال شباط/ فبراير 2017، لإطلاق هدنة إنسانية في سورية، مدتها ثلاثون يومًا، وفتح ممرات لإيصال المساعدات الإنسانية إلى المناطق المحاصرة. صدر القرار رقم 2401 في وقت متأخر من يوم الجمعة 23 شباط/ فبراير 2017، لكن روسيا لم توافق عليه إلا بعد تعديلات جوهرية؛ إذ حذفت منه فقرةً توجب بدء الهدنة خلال 72 ساعة من تبني القرار، وأصبحت، بدلًا من ذلك، "من دون تأخير". ومن بين التعديلات، أيضًا، أن تشمل الهدنة سورية كلّها، بدلًا من الغوطة فقط، وأن تستثنى منها الجماعات المتشددة التي يصنفها مجلس الأمن إرهابية (أي تنظيم داعش وجبهة النصرة)، على الرغم من أنه لا وجود لداعش في الغوطة الشرقية، أما جبهة النصرة فأعربت الفصائل المقاتلة عن استعداد هذه الجبهة إخراج قواتها المحدودة من الغوطة، لكن روسيا وحلفاءها طالما استخدموا هذه الحجة للاستمرار في القصف وإخضاع المعارضة.
من جهة ثانية، حاولت روسيا الالتفاف على نص القرار الذي يسمح بتوفير معابر إنسانية لإدخال المساعدات، واقترحت، بدلًا من ذلك، هدنة يومية مدتها خمس ساعات تبدأ في التاسعة صباحًا وتنتهي في الثانية بعد الظهر، للسماح للمدنيين بالخروج من المنطقة؛ في محاولة واضحة لتهجير سكان المنطقة تحت القصف الذي يبدأ في الدقيقة الأولى بعد انتهاء مهلة الخروج، ويستمرّ 19 ساعة يوميًا.
مقومات الصمود
مستفيدةً من تجربة شرق حلب، وسحبًا للذرائع، اقترحت فصائل المعارضة داخل الغوطة، إخراج عناصر جبهة النصرة الذين تتخذهم روسيا ذريعةً لاستمرار القصف، مع أنّ عددهم لا يتجاوز 250 شخصًا مع عائلاتهم (بين 400 ألف نسمة). وعلى الرغم من أن روسيا رحبت بالمقترح، فإنها عرقلت تنفيذه حتى الآن؛ إذ تسعى عمليًا إلى القضاء على آخر جيوب المعارضة المهمة الموجودة حول دمشق، وكانت قد تمكنت، خلال العامين الأخيرين، نتيجةً للقوة الغاشمة والحصار وكثافة القصف الذي مارسته على المدنيين، من إخراج فصائل المعارضة، وتهجير السكان من أكثر مناطق الغوطة الغربية؛ من أقربها إلى دمشق (داريا والمعضمية وقدسيا ووادي بردى) إلى أبعدها عنها (الزبداني ومضايا.. إلخ). وقد عبرت روسيا، صراحةً، على لسان وزير خارجيتها، سيرغي لافروف، عن أنه من الممكن التوصل إلى اتفاقٍ لخروج فصائل المعارضة السورية من الغوطة الشرقية؛ على غرار الاتفاق الذي جرى في حلب عام 2016 وسمح للمقاتلين بالخروج نحو إدلب.
لكن تحقيق الأهداف الروسية ربما لا يكون بالسهولة نفسها التي تحققت في حلب، قبل أكثر من عام؛ ويعود ذلك إلى أن إمكانات الصمود في الغوطة الشرقية أفضل منها في حلب، على الرغم من أن المنطقة تعيش تحت حصار كامل منذ خمس سنوات. فمعظم (إن لم يكن جميع) مقاتلي المعارضة، من أهالي المنطقة؛ ومن ثمّ فإنهم يعرفون جغرافيتها جيدًا، ولن يكون من السهل على أي قوة عسكرية مهاجمة أن تتقدم. ومن أبرز الأدلة على ذلك أن النظام لم يتمكّن بعد خمس سنوات من القتال الضاري أن يتقدم، ولو مسافة قليلة في حي جوبر، على أطراف مدنية دمشق، والذي يُعد خط الدفاع الأول عن الغوطة، ثمّ إنّ مقاتلي المعارضة كثيرو العدد؛ فوفق أدنى إحصاء لهم، يصل عددهم إلى عشرة آلاف مقاتل، مجهزين بأسلحة ثقيلة غنموها من معسكرات النظام خلال سنوات القتال السابقة، كما أنّ هؤلاء المقاتلين يملكون مخزونًا كبيرًا من الذخيرة يكفي المقاومةَ فترةً زمنية طويلة. وفضلًا عن هذا، يتمتع المقاتلون بخبراتٍ قتالية كبيرة، ولديهم كل الأسباب للبقاء والمقاومة؛ فهم يدافعون عن أرضهم وأهلهم، والخيارات التي أمامهم، إنْ قرروا القبول بالخروج، ليست مشجعة، خصوصا أنّ من سبقوهم من فصائل المعارضة وأهاليهم يتعرّضون اليوم للمستوى نفسه من القصف في إدلب. زيادةً على ذلك، تمكن أهالي المنطقة، خلال سنوات من الحصار والقصف، من بناء شبكة كبيرة من الأنفاق، حتى إنه يمكن القول إن بلدات بكاملها تعيش تحت الأرض، كما أن طبيعة المنطقة الزراعية، وخبرة أهلها في هذا المجال، أمران يسمحان لهم بالصمود، ذلك أنّ المنطقة قادرةٌ على تحقيق الاكتفاء الذاتي في هذا المجال. وما يمكن أن يمثل فرقًا حقيقيًا هنا، هو، وحدة الفصائل في التعامل مع الهجمة العنيفة التي تواجهها الغوطة، وتجنب ما كان من تناحر واقتتال، لم يعد لهما من مبرّر مقبول للاستمرار في مثل هذه الظروف.
إن الصراع الحالي في سوريا له العديد من القواسم المشتركة مع حرب الثلاثين عاما، التي دمرت قلب أوروبا -ولاسيما مدينة ماغدبورغ الألمانية التي كانت في ذلك الوقت مثل حلب- ودامت ما بين عاميْ 1618 و1648.
وكما وُصفت اليوم تلك الحرب؛ فإنها كانت نتيجة لصراعات جلبت معاناة هائلة للأوروبيين، وانتهت بسلام وستفاليا بعد أن استنفدت كافة الأطراف المعنية أنفاسها تماما.
كانت حرب الثلاثين عاما ظاهريا بمثابة نزاع ديني بين المسيحيين الكاثوليك والبروتستانت، تماما مثل الانقسام الكبير بين المسلمين السنة والشيعة في الشرق الأوسط اليوم. ولكن، وكما هو الحال في سوريا اليوم؛ فإن الدين يخفي صراعا أعمق من أجل السلطة والهيمنة الإقليمية.
بدأت الحرب السورية -التي جاءت ضمن الربيع العربي- بعد أن دعا المتظاهرون السوريون إلى الديمقراطية، وإلى وضع حد لدكتاتورية الرئيس بشار الأسد. لكنها سرعان ما أصبحت قضية دولية.
وتدخلت إيران وحزب الله (المليشيا الشيعية اللبنانية التي تدعمها طهران) عسكريا -إلى جانب روسيا- لمنع الأسد من السقوط في أيدي المتمردين المدعومين من تركيا والسعودية، والذين يمثلون الجانب السني من هذا التقسيم.
وفي الوقت نفسه؛ انتشرت الحرب لتحريك حملة بقيادة الولايات المتحدة ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). وعندما هُزمت التنظيم في العام الماضي، سرعان ما نشأ صراع جديد بين تركيا والأكراد في شمال سوريا.
وتستهدف تركيا الآن وحدات حماية الشعب الكردية المتحالفة مع الولايات المتحدة، والتي ثبت أنه لا غنى عنها في الحرب ضد "داعش"، مما يخلق خطر مواجهة عسكرية مباشرة بين عضوين في حلف شمال الأطلسي (الناتو) هما أميركا وتركيا. وهناك أيضا خطر المواجهة بين الولايات المتحدة وروسيا، فقد تأكد أن الغارة الجوية الأميركية الأخيرة قتلت عشرات من المرتزقة الروس في سوريا.
ومع كل فصل جديد، تكون المأساة السورية أكثر خطورة. فالصراع لم يعد يتعلق بمن سيتولى السلطة في دمشق، بل بمن سيبسط حكمه في الشرق الأوسط. لم تعد المعركة بين روسيا والولايات المتحدة فحسب، بل أيضا بين إيران الشيعية والسعودية السنية، التي تتفق مع إسرائيل التي هي حليفة لأميركا.
من جانبها، تهتم تركيا بشكل رئيسي بخطر إنشاء دولة كردية في شمال سوريا، من شأنها أن تحفز الفصائل الكردية الانفصالية الأخرى في جنوب شرق تركيا. ويعمل الأكراد في كردستان العراق بالفعل من أجل إنشاء دولتهم الخاصة، حيث قاموا العام الماضي بتنظيم استفتاء على الاستقلال.
وأخيرا، يجب على القوى العظمى العسكرية الإقليمية أن تدافع عن مصالحها الأمنية في لبنان وجنوب سوريا. وحتى وقت قريب، كانت إسرائيل قد ابتعدت عن الحرب؛ ومع ذلك كان عليها التدخل جواً لمنع تدفق الأسلحة إلى حزب الله، ومنع إيران من إقامة وجود قرب حدودها الشمالية.
واشتدت مشاركة إسرائيل هذا الشهر حيث أسقطت طائرة بدون طيارإيرانية دخلت مجالها الجوي من سوريا. ثم ردت المقاتلات الإسرائيلية بضرب أهداف إيرانية في سوريا. وقتل شخص إثر تفعيل الدفاع الجوي السوري (وعاد الطيارون إلى الأراضي الإسرائيلية بأمان)، مما دفع إسرائيل إلى شن غارة جوية على قوات الأسد مباشرة.
ومع كشف هذه الأحداث؛ سرعان ما اتضح أن إسرائيل لا تستطيع الاعتماد على العلاقة الخاصة المزعومة بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. فقد كانت روسيا مترددة أو غير قادرة على السيطرة على إيران. ولذلك -سواء قامت بذلك أم لا- فإن إسرائيل الآن فاعل نشط في سوريا.
وعلى وجه التحديد، يمكن أن تنشأ حرب بين إسرائيل وإيران. ورغم أن هذا الصراع ليس في صالح أي من الجانبين، فإنه ليس من الصعب تصور حدوث ذلك بالنظر إلى الحقائق الراهنة. ولا يمكن لإسرائيل أن تبقى خارج الصراع في الوقت الذي يحقق فيه نظام الأسد وإيران وحزب الله انتصارا عسكريا. إن الحقائق على الأرض تهدد أمن إسرائيل وتعزز -بشكل كبير- عدوتها إيران.
إن الحرب بين إيران وإسرائيل -التي ستجعل السعودية في الخلفية- ستعرض المنطقة بأسرها للخطر، لأنها ستخلق جبهة جديدة في النضال من أجل الهيمنة. ولكن أوروبا أيضا ستتأثر بشكل مباشر، وليس فقط لأن انتشار الصراع سيؤدي إلى زيادة عدد اللاجئين في الشمال.
ومع تهديد الرئيس الأميركي دونالد ترمب بإبطال الاتفاق النووي الإيراني، فإنه يمكن لأوروبا أن تجد نفسها في سباق تسلح خطير -أو حتى صراع عالمي جديد- بالقرب من حدودها.
وبالنظر إلى هذه الأخطار؛ لم تعد أوروبا قادرة على المراقبة من الهامش. ومن أجل أمنهم، على الأوروبيين الدفاع عن الاتفاق النووي الإيراني. وبما أن الاتحاد الأوروبي لديه التزامات طويلة الأمد تجاه إسرائيل، فإنه لا يمكن أن يُسمح للصراع العنيف من أجل الهيمنة أن يهدد إسرائيل مباشرة.
إن اليوم -أكثر من أي وقت مضى- هو الوقت المناسب للدبلوماسية الأوروبية. لقد بدت تلوح في الأفق حرب كبرى جديدة في الشرق الأوسط، ويجب على القادة الأوروبيين العمل من أجل تجنبها.
يحاول بعض الأشخاص الذين ذهبوا إلى دمشق في الفترة التي وصل خلالها الظلم والقتل إلى الذروة توريط الآخرين بالدماء التي تلطخوا بها نتيجة دعمهم لنظام الأسد.
اكتسبت الحملات الدعائية التي يرأسها كليجدار أوغلو وبيرنتشيك والتي تدعو للحوار مع بشار الأسد مجالاً واسعاً من خلال إثارة الإشاعة التالية "حزب الاتحاد الديمقراطي يسلّم عفرين للنظام السوري" في الأيام الأخيرة.
عند إدراك حزب الاتحاد الديمقراطي بعدم قدرته على مواجهة القوات المسلحة التركية أو الحصول على تأثير ملموس نتيجة الحملات الدعائية أصبح يلجأ إلى أساليب مختلفة للوصول إلى هدفه.
في البداية يجب أن نذكر أنه لم يتم تسليم عفرين لأي جهة، إنما يحاولون خلق هذه الأفكار لدى الرأي العام من خلال بعض الشحنات اللوجستية المدبرة بغرض الخداع فقط.
وبذلك سيستمر الإرهابيون ذاتهم باستخدام الأسلحة ذاتها في تنفيذ الهجمات الإرهابية، وكذلك لن تتمكن قوات الجيش التركي والجيش السوري الحر من الرد بسبب حرصهم على ضمان وحدة الأراضي السورية
تسبب رأس النظام في سوريا "بشار الأسد" في إفساد جميع المخططات التي تهدف لإيجاد الحل، مع بداية المظاهرات المعارضة له في الشهر الثالث من سنة 2011 قام الأسد بوضع الإرهابيين الذين أحضرهم من جبل قنديل العراقي على امتداد الحدود التركية، وبذلك تمكن بدايةً من قطع صوت الأكراد المعارضين له، ومع زيادة الدعم تم تأسيس حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يمثل امتداد بي كي كي في الأراضي السورية.
قام الأسد بدعم هؤلاء الإرهابيين بالسلاح، وذلك على الرغم من أن تلك الفترة كانت بداية انعكاس تأثير "فترة إيجاد الحل" المطروحة من قبل الحكومة التركية، لكن أفسد الأسد هذه الفترة بسبب دعمه للأكراد وتحريضهم ضد الدولة التركية من خلال تقديم الوعود التي تنص على تأسيس منطقة متستقلة للأكراد في الشمال السوري.
في هذا السياق تخلى بي كي كي عن فكرة ترك السلاح، وبدأ باستغلال فترة إيجاد الحل المطروحة بناء على الإرادة السياسية في الاستعداد لتنفيذ هجمات جديدة ضد تركيا، ويجدر بالذكر أنهم قاموا بذلك بدعم من تنظيم الكيان الموازي والمسؤولين عن الأقاليم الموجودة في المنطقة.
هل يمكن اعتبار حزب الاتحاد الديمقراطي ممثلاً للشعب الكردي؟
يجب على الأيدي الأمريكية الموجودة في سوريا والتي تزعم أن حزب الاتحاد الديمقراطي يمثل أكراد سوريا وتتحدث حول تأسيس إقليم مشابه للموجود في شمال العراق إدراك أن الإقليم العراقي ليس تنظيماً إرهابياً يوطد هيمنته من خلال ممارسة الظلم تجاه أكراد المنطقة بهدف خدمة القوى الإمبريالية.
على الرغم من خداع حزب الاتحاد الديمقراطي للنظام من خلال العروض الجاذبة التي قدمتها أمريكا إلا أن العلاقة بين الحزب والنظام السوري حافظت على استمرارها بناء على نظرية العدو المشترك، ولذلك عاد الحزب لطلب المساعدة من النظام السوري عندما فقد قدرة الاستمرار في مواجهة القوات المسلحة التركية.
لكن باءت محاولات الحزب بالفشل لأن الأسد لم يعد قادراً على تقديم أي مساعدة بعد أن أصبح دميةً في أيدي القوى الإمبريالية، في حين يستمر الحزب في محاولة تخفيف سرعة تقدّم القوات التركية بعد أن أدرك العواقب التي سيواجهها في عفرين.
لكن يجب طرح سؤال "كيف يمكن للأسد أن يضمن أمان الحدود التركية بعد أن تحالف مع المنظمات الإرهابية؟" للأشخاص الذين يزعمون أن تركيا ستتراجع عن الدخول إلى عفرين في حال تسليمها للنظام السوري.
من قام بتسليم عفرين لحزب الاتحاد الديمقراطي؟
لا يمكن اعتبار أن نظام الأسد يمثل دولةً يمكن الوثوق بها على أرض الواقع، لو كان الأمر كذلك لوقف النظام في وجه احتلال الإرهابيين التابعين لحزب الاتحاد الديمقراطي لمنطقة عفرين التي يشكل العرب معظم سكانها في سنة 2012.
وبصرف النظر عن ذلك، ألا يصل الدعم اللوجستي للإرهابيين الموجودين في عفرين مروراً عبر المناطق التي تقع تحت سيطرة النظام السوري؟ لهذا السبب يمكن القول إن الأسد يمثل الخطر الأكبر الذي يهدد وحدة الأراضي السورية.
كما أن الجهات التي تمدح القوات المسلحة التركية من جهة وتدعم نظام الأسد من جهة أخرى ستدخل في متاهة كبيرة ستؤدي نهايتها إلى تضرر المصالح القومية التركية.
إن اتفاق تركيا مع نظام الأسد يعني فقدانها لإمكانية التعاون مع الجيش السوري الحر نظراً إلى أن الأسد يعتبر أن الجيش السوري الحر هو تنظيم إرهابي، وبذلك ستكون في موضع المحتل للأراضي السورية.