العالم إذ يتفرّج على وحشية روسيا وحلفائها في الغوطة
في نهاية المطاف، برهنت القوى الدولية أنها لا تستطيع شيئاً أمام وحشية روسيا وإيران ونظام بشار الأسد. قرار وقف إطلاق النار لم ينفّذ لأن موسكو كانت ترفضه مهدّدة بـ «الفيتو» واستمرّت ترفضه بعدما وافقت عليه، بل أعطت الضوء الأخضر للبدء بالهجمات البرّية. روسيا وحلفاؤها فهموا القرار 2401 كإقرار دولي ضمني بأن الغوطة باتت «ساقطة عسكرياً» من جهة، طالما أنها مطوّقة، وبأن إفراغها من السكان والمقاتلين قد يكون أهون الشرور من جهة أخرى. لا أهمية للخطب التي تعلي من شأن القيم والمبادئ والقوانين الدولية طالما أن دولة «عظمى» تتحالف مع دول مارقة وتتماهى معها. لذلك تغطّي الدول الأخرى عجزها أو لامبالاتها بالاتصالات في ما بينها، بتصريحات الإدانة والاستنكار، بالسعي الى قرار جديد في مجلس الأمن للدعوة الى تنفيذ قرار لم يُحترم ولا لحظة، أي أنها ترضخ لموقع المتفرّج الذي فُرض عليها. وهي سبقت أن تفرّجت على التدمير الشامل لمواقع عدة، من شرق حلب الى حي الوعر الى حي بابا عمرو الى الزبداني ومضايا وداريا وصولاً الى الغوطة الشرقية.
تعطي الولايات المتحدة وفرنسا وحتى بريطانيا انطباعاً بأنها تبلور فكرة معاقبة النظام السوري على استخدامه السلاح الكيماوي، حتى لو تطلّب الأمر ضربات عسكرية، لكنها تنتظر أدلة، والأدلّة موجودة، بل تنتظر أن تعترف روسيا بها، وهي لن تفعل في أي حال، ولم يعد يُشغلها أن يكون هذا السلاح محظوراً أم لا بعدما استطاعت استدراج المجتمع الدولي الى تمرير انتهاكاتها وانتهاكات نظام الأسد عشرات القوانين الدولية. فالرئيس الروسي قال مرّةً أخرى أن الكثير من أسلحته الجديدة اختُبرت في سورية وأن العسكرية هناك أظهرت «زيادة قدراتنا الدفاعية». وإذ أكّد أن العالم بات يعرف أسماء تلك الأسلحة، فمن شأن أميركا والدول الأخرى المعنية أن تكشف أي أسلحة متطوّرة وفّرتها روسيا للعصابة الأسدية - الإيرانية التي تمضي في الإجهاز على الغوطة. فبعد نحو أربعة أعوام من العجز عن اختراق دفاعات فصائل الغوطة، ها هي الأسلحة الروسية فوق الكيماوية تتيح قضم قراها وبلداتها بعد تدميرها بالكامل، من دون اللجوء الى استخدام كثيف للغازات السامة.
كان فلاديمير بوتين عرض على إدارة باراك اوباما المساومة على حلب قبل إسقاطها مستشفى بعد مستشفى ومخبزاً مخبزاً ومدرسةً مدرسةً، ولم يلقَ الاستجابة التي توقّعها، وتريّث حتى انتخاب دونالد ترامب الذي كان «غازل» الأسد في بعض تصريحاته ولم يُبدِ أي اهتمام بمحنة الشعب السوري، وما لبث بوتين أن قدم جثة شرقي حلب «هديةً» الى ترامب، إلا أنها سقطت واقعياً في أيدي الإيرانيين. تغيّرت الأحوال بين الرئيسَين ولم يعد بوتين يقيم «تنسيقاً» وثيقاً مع أميركا، كما في أيام اوباما، لكنه تمتّع بإدارة منفردة للشأن السوري فيما تدهورت توقّعاته من ترامب وإدارته، الى حدّ أن الاتصالات صارت شبه مقطوعة، تحديداً منذ انتهاء العمليات الحربية ضد تنظيم «داعش». أصبحت الدولتان تتخاطبان بعمليات «بالوكالة» للقوات التي تدعمانها، مرّة بإبادة وحدة من المرتزقة الروس في دير الزور ومرّة بإسقاط طائرة روسية يليه إسقاط طائرة أميركية (اسرائيلية)، أو تتبادلان الضربات السياسية لتعطيل مساري سوتشي وجنيف. وقد شكّل استهداف الغوطة الشرقية فرصة لبوتين كي يختبر استعدادات واشنطن لإنهاء القطيعة طالما أنها قادت وسائر الدول الغربية حملةً للدفاع عن المدنيين، لكنها قيادة «من الخلف»، تدعم تحركات الدول الأخرى، من دون أن تفتح خطاً مع روسيا، لعلمها بأن بوتين يريد أن يساومها على أمور أخرى ولم يعد قادراً على وقف إسقاط الغوطة. إذاً فليُسقطها وليتورّط أكثر في سورية.
حتى الآن ليست هناك أسباب تستدعي أن يتخوّف بوتين من هذا التورّط، فالتشابهات ضئيلة مع التورّط السابق في افغانستان، من طبيعة القتال والمقاتلين الى ظروف الحرب الباردة الى إرهاصات انهيار الاتحاد السوفياتي. ثم أن الروس في سورية يتحكّمون باللعبة وإلى حدّ كبير باللاعبين سواء كانوا إيرانيين أو أتراكاً أو أسديين فضلاً عن الأكراد. صحيح أن لديهم متاعب مع صراعات هؤلاء على مصالحهم، إلا أن الهيمنة الروسية تبقى كافية لإدارة الأزمة، وليس لإدارة حلّها، بل ترى موسكو على العكس أن وجود جميع هؤلاء اللاعبين بالإضافة الى الأميركيين يمنحها أوراقاً في المساومات الدولية، خصوصاً مع الولايات المتحدة، إمّا بتجاذب المصالح أو بحكم الأمر الواقع. ولا تزال «ورقة الأسد» هي الأقوى بالنسبة الى الروس، ليس فقط لأنها عنوان «شرعية» تدخّلهم بل لأنها الوسيلة التي مكّنتهم من المشاركة المبكرة للأسد في اتخاذه الشعب والجيش ومؤسسات الدولة رهائن لديه. أما إيران، على رغم تعقيداتها، فتبقى ورقة مفيدة لروسيا في مختلف سيناريوات/ ابتزازات المواجهة أو التوافق مع أطراف كثيرة، بدءاً من الولايات المتحدة وإسرائيل، وامتداداً الى دول الخليج وحتى تركيا. ولا شك في أن الاستخدام الروسي لـ «ورقة أنقرة» حقّق الكثير من أغراضه، تحديداً في إزعاج الأميركيين ودفع علاقتهم مع الحليف التركي الى محكّ صعب.
على رغم أن المحطّات الدموية السابقة كانت كلّها موجعة في الصميم، إلّا أن السوريين يرون أن الغوطة هي الأسوأ والأكثر إيلاماً، إذ يستشعرون بأنها ستضفي «معنى» ما لـ «انتصار الأسد»، ولو بفضل حلفائه وبتبعيّته لهم الآن وفي المستقبل. كما لو أن الغوطة هي قلب سورية ومَن يظفر به يظفر بها، أو ربما لأنها استطاعت الصمود على رغم الحصار وشكّلت القلعة الأخيرة المهدّدة للعاصمة ورمزيتها بالنسبة الى النظام. هناك مناطق في الغوطة الغربية لا يُصادف فيها سوريون، لكن يكثر فيها الإيرانيون الذين يستغلّون المزارع لتلبية حاجات الجبهات ويقوم على خدمتهم ميليشياويون من جنسيات شتّى. في الشرقية قد يحول الدمار الكبير دون استغلال مرافقها أو إسكانها بأتباع إيران.
مهما كان هذا «الانتصار» واقعياً، فإنه لا يصلح لـ «تسوية» بين السوريين ولا بين المتدخّلين في سورية، ولا يمكن أن يكون أساساً لوضع دائم بل لصراع دائم. ومع أن أصحابه منهمكون منذ الآن بتدبير قبول دولي لـ «انتصارهم» إلّا أنهم لا يعرفون كيف سيديرونه ومن المشكوك به أنهم سيتمكّنون من استثماره بوجهة استقرارية. فبعدما نجح الروس والإيرانيون في تأمين الأسد والحفاظ عليه كـ «غطاء شرعي» ولو مضروب لوجودهم، لم يعودوا يفكّرون فيه عملياً كونه غير قادر على شيء بمعزل عنهم. فالأولوية عنده أن يستعيد الاعتراف الدولي به ومن دون ذلك شروط لا يستطيع تلبيتها. أما الأولوية عندهم فهي لمستقبل احتلال استثمروا فيه وغنموه. تتحدّث إيران عن 22 بليون دولار تريد استرجاعها من خلال قواعدها وانتشار ميليشياتها، أما روسيا فاستردّت بعضاً مهمّاً من أكلافها في الاختبار الحيّ لأسلحتها الجديدة وباتت قريبة من التربّح من خلال المرافق التي تضع يدها عليها بتراخيص من الأسد، لكنها تتطلّع الى أرباح أكبر بإدارتها مشاريع إعادة الإعمار. يفتقد الروس والإيرانيون الرغبة في/ والقدرة على إنهاء حربٍ تقلّبت من مواجهة بين الشعب والنظام الى مواجهات اقليمية ثم دولية من خلال النظام وفصائل المعارضة، الى أن بلغت الآن مرحلة مواجهات دولية تكاد تصبح مباشرة على أرض سورية، بمعزل عن النظام والمعارضة. كان الروس أشاروا منذ بداية تدخّلهم الى أن لديهم مصلحة في إنهاء الحرب، وفي منتصف 2017 راحوا يروّجون أن «مسار آستانة» أنهى العمليات القتالية (اتفاقات مناطق خفض التصعيد) ثم ابتكروا «مسار سوتشي» لترجمته الى «حل سياسي»، لكن تبيّن أنهم تعجّلوا في الحالَين وأخطأوا تقدير «إنجازاتهم». ومع تبنّيهم جرائم الحرب الجارية في الغوطة بات من الصعوبة بمكان تصوّر أي عودة الى التفاوض بين النظام والمعارضة، أو حتى تصوّر نهاية ما لهذه الحرب من دون توافقٍ يبدو مستحيلاً بين اللاعبين الخارجيين واقتناعٍ أكثر استعصاءً بحصصهم من خريطة سورية.