مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
٢٤ فبراير ٢٠١٨
لا أحد يربي كلبا كي يقتله!

لا يسعك وأنت ترى بعض المعارضات وبعض الشعوب العربية المنكوبة وهي تستنجد بالقوى الكبرى لإنقاذها من طواغيتها السفاحين، لا يسعك إلا أن تضحك عليها بملء شدقيك، وأن تسخر من سذاجتها وأميتها السياسية الصارخة. ما أسخف الذين يستصرخون الضمير الأمريكي أو الأوروبي لحمايتهم من الذبح والتهجير والقتل في سوريا أو العراق أو اليمن أو ليبيا أو أي مكان عربي آخر منكوب بالظلم والطغيان والتخريب والتدمير. كم هم مغفلون أولئك المعارضون السوريون مثلا الذي يتقاطرون على أمريكا وإسرائيل لمساعدتهم في إسقاط النظام السوري، أو على الأقل إصلاحه أو قف همجيته ووحشيته بحق شعب أعزل.

ذات يوم قبل الثورة السورية، زار أحد المعارضين السوريين واشنطن والتقى بالعديد من القيادات السياسية والأمنية طالبا منها مساعدة الشعب السوري والمعارضة في تحقيق الديمقراطية في سوريا وإنهاء نظام البطش والقتل هناك، فسأله أحد المسؤولين الأمريكيين: "وماذا يمكن أن تقدموا لنا إذا ساعدناكم في سوريا"، فقال المعارض: "نحن ليس لدينا شيء نقدمه لكم، لكننا طامعون بكرمكم كونكم الديمقراطية الأولى في العالم"، فرد المسؤول الأمريكي بسخرية فاقعة: "هل تعلم أن النظام في دمشق مستعد أن يعطينا أكثر مما نطلب منه أضعافا مضاعفة، فإذا طلبنا منه مثلا أن يحقق لنا أربعين بالمائة من طلب ما، فنتفاجأ في اليوم التالي أنه حقق لنا مائة وأربعين بالمائة، فكيف تريد منا أن نساعدكم ببلاش؟"

كم أنتم مغفلون، تقدمون خدمة جليلة للنظام ليتهمكم بالعمالة لتل أبيب، وتجعلونه يبدو وطنيا، بينما هو في الواقع ذخر استراتيجي لإسرائيل، أما أنتم مجرد ألاعيب صغيرة في أيدي الإسرائيليين، لا يمكن أن تفضلكم إسرائيل على النظام مهما تقربتم منها

من السخف الشديد أن تطلب من الكفيل الغربي أن يعاقب الوكيل العربي العميل. كيف تطلب من الغرب أن يساعدك على القضاء على وكلائه وأدواته ومرتزقته وكلاب صيده في بلادنا؟ وهل وصل هؤلاء الطغاة الذين ينهبون بلادنا ويسومون شعوبنا سوء العذاب إلى السلطة بأنفسهم، أم إنهم وصلوا بدعم غربي وأمريكي لا يخفى على أحد؟ وهل يمكن لأمريكا وإسرائيل أن ترضيا عن نظام لا يحقق لهما ما تريدان؟ ألم نر ماذا فعلت أمريكا بأي زعيم لا ينصاع لإملاءاتها؟ ألم تروا ماذا فعلوا بصدام حسين لأنه حاد عن الخط المرسوم له؟ ألم يكن إعدام صدام درسا لكل الوكلاء العرب بأن لا يفكروا أبدا في التمرد على سيدهم الأمريكي؟ وكما ترون فإن العقاب الغربي لعملائه العرب ليس واحدا، فإذا كان التمرد قويا، فلا يكتفي السيد الأمريكي إلا بإعدام المتمرد كما فعلوا بصدام، وإذا كان التمرد بسيطا، فيمكن أن لا يعدموا المتمرد، لكنهم يؤدبونه بطريقة بشعة، مع الاحتفاظ به في السلطة طبعا، لأنه يبقى كلبهم في نهاية النهار، حتى لو لعب بذيله قليلا؛ النظام السوري مثالا.

باختصار شديد، دعونا نكون واقعيين، فتغيير الأوضاع في بلادنا والانتقال من عهد إلى عهد ليس بيد الشعوب، حتى لو ثارت وقدمت ملايين الشهداء، وتشردت بالملايين، وخسرت أوطانها، كما هو الحال في سوريا وبقية البلدان التي ثارت على طغاتها. هل قدم شعب تضحيات كما قدم السوريون؟ لا أعتقد، مع ذلك لم يحققوا أهدافهم، لأن السيد الأمريكي لم يسمح لهم بتغيير النظام الذي سلطه الغرب على السوريين، وكذلك الأمر في بقية البلدان. الكارثة السورية كانت درسا لكل الشعوب التي تفكر بتغيير حكامها وأنظمتها رغما عن الغرب.

كم تشعر برغبة شديدة بالضحك عندما ترى بعض المعارضين السوريين يتقاطرون على إسرائيل كي يغيضوا النظام السوري. لقد قلناها مرات ومرات ونكررها: على المعارضين السوريين الذين يتقربون من إسرائيل نكاية بالنظام أن يعلموا أن النظام يبقى أقرب إلى قلب إسرائيل ومصالحها منكم بمئات المرات. كم أنتم مغفلون. تقدمون خدمة جليلة للنظام ليتهمكم بالعمالة لتل أبيب، وتجعلونه يبدو وطنيا، بينما هو في الواقع ذخر استراتيجي لإسرائيل، أما أنتم مجرد ألاعيب صغيرة في أيدي الإسرائيليين، لا يمكن أن تفضلكم إسرائيل على النظام مهما تقربتم منها. فقط انظروا ماذا فعل الأسد بسوريا خدمة لإسرائيل.

هل يخشى الغرب من الإسلام الوحشي المتطرف الذي تمثله داعش وأخواتها المارقة فعلا؟ لو كان يخشاها، ويريد القضاء عليها لسمح لشعوب المنطقة أن تخرج من تحت ربقة الاستبداد والديكتاتورية والطغيان الذي يغذي داعش ومثيلاتها ليل نهار، ولما دعم الطغاة الذين يحكموننا ويتسببون في ظهور هذه التنظيمات الإرهابية الوحشية. لكن يبدو أن الغرب يستثمر في الديكتاتورية والتطرف لاستنزاف هذه المنطقة وإبقائها تحت التخلف والخراب؟

باختصار شديد: لا تستنجدوا بصاحب المزرعة على كلاب حراسته. لا أحد يربي كلبا كي يقتله.

اقرأ المزيد
٢٤ فبراير ٢٠١٨
الغوطة.. عناقيد عتب

ذات سلام، عندما كانت للإنسانية أجنحة ملائكية بيضاء، والأنظمة تمارس دور الأمهات الرحيمات وبتنطّع واضح في الخوف على سلامة أطفالنا ونسلنا من الخطأ والنسيان، كانوا يكتبون على الطرف الأسفل من عبوات الأدوية تحذيرا رقيقا: "يحفظ بعيدا عن متناول الأطفال".. وعندما دارت رحى الحروب، ونبت للسوخوي قرون الشيطان.. صارت براميل الموت العائلية "ليست بعيدة عن متناول الأطفال" وتأخذ جرعة واحدة..

ما أبشع الموت عندما يداهم الطفولة الغافية، عندما يغتال الرسومات على "بيجاماتهم" فتموت الدببة والزرافات والعصافير فوق قلوبهم الطرية، ما أبشع الموت عندما يطوّق الدم القاني أعناقهم، ويسيل النزيف كآخر رضعات الحليب من زوايا أفواههم، ما أبشع الموت عندما يغتال الغزالة الماشية بين عشب أهدابهم، ويبعثر ريش أعمارهم، فيموتون دفعة واحدة كما كانوا ينامون دفعة واحدة أيام الشتاء الطويلة.

لمن يزهر شجر الغوطة هذا الربيع؟ لمن يرعى "براعمه"؟ لمن تزدهي كروم العنب، لمن تبوح بحصرم الألم وفي قلبها عناقيد "عتب"؟؟.. لمن وعيون الأطفال الموتى نصف مفتوحة على الحياة ونصف مفتوحة على الغضب!

ما أبشع الموت عندما يغمر الشعر الذهبي الخفيف غبار الإسمنت وطحين الجدار، والسقف الذي رسموا عليه بأصابعهم قبيل النعاس غيمة وكوخا وزهرة وقطعة حلوى، صار لحاف الموت الثقيل الذي جثى على صدورهم لحظة التفجير، ما أبشع الموت عندما يداهم من لم يحسنوا تهجئة الحياة بعد، من لم يشتمّوا رائحة زهر الليمون أول الربيع، ولم يقطفوا "نوّارة" اللوز البيضاء، ولم يفاوضوا "زهرة" الكرز بغرّة طفلة.. ما أبشع أن تعدَ الأم الصغار: "من ينام باكرا سأعطيه في الصباح التالي لوحا من الحلوى"، فيتسابقون إلى النوم لكنهم لا يستيقظون أبدا.. ما أبشع الموت لأنه موت وحسب!

هذا الربيع ستفتقد الغوطة الزائرين، ستفتقد حلقات المتنزّهين، بعدما اصطفت الجثث سطورا بيضاء في دفتر الموت الأسود، وسيفتقد الشجر أصوات العائلات وضحكات الأطفال، وثرثرات "الأرجيلة"، وغفوة العصرية، و"بلايز" المصطافين المربوطة على خصرها.. ستلوّح للريح مودّعة كل الذين اتكؤوا على سيقانها، وكل الذين افترشوا تحتها وعلقوا أحلامهم وكلامهم على أغصانها الصامتة، وستنعى أسرّة الأطفال التي اهتزت تحتها وداعبت بظل أوراقها الجفون النائمة.


هذا الربيع موجع، موحش، وغريب.. للخوخ شكل الرصاص، وللمشمش الحموي طعم الدمع المالح، وللوز رائحة "اليود".. لا حلاوة في عروق الغوطة كلها، لقد أنهكها الحزن على "نوارها" الذي قطفته ريح السياسة وأصابع السلطة، وصرصر الصراعات الدولية..

لمن يزهر شجر الغوطة هذا الربيع؟ لمن يرعى "براعمه"؟ لمن تزدهي كروم العنب، لمن تبوح بحصرم الألم وفي قلبها عناقيد "عتب"؟؟.. لمن وعيون الأطفال الموتى نصف مفتوحة على الحياة ونصف مفتوحة على الغضب!.. لا شيء يستدعي الحياة.. فالسيقان بترت.. والأغصان كسرت.. والدراق الموسمي سقط أرضاَ.. عندما سمع أنين الأطفال.. كل الأشجار جعفر، كل الأطفال جعفر،  فمن يحمل الراية من بعد "جعفر"،  فزيد تحت ردم البيت، وعبد الله في ذمة الله، وخالد في "المهجر"!!! من يحمل الراية من بعد جعفر؟!

في الغوطة، التقط أحد الناجين صورة لقدم طفل قد قضى في الركام، قدمه هي الطالعة من الأرض المسوّاة، وكأنها بذرة كمثرى تطل من جديد، الجسد تحت الردم، والقدم إلى أعلى، ما أجملها من رسالة كتبت بالمقلوب، وكأن الطفل بموته يقول قدمي أعلى من رؤوسكم جميعا، ستمطر الدنيا وستكبر قدمي، وستطول وتطول لتطأكم جميعا، هي معراجي نحو الوطن وهي معراجي نحو الحرية.. أنا الغارق في الموت الصاعد برجلي إلى الحياة، هذه أولى رسائلي إليكم، فانتبه يا سامعي:
إذا ما هبت الريح وماج الجذع طويلا، تأكّد هذا تململي، فشجر الحور كعبي والأغصان أصابعي..

اقرأ المزيد
٢٤ فبراير ٢٠١٨
كفّوا البكاء

بعد سبعة أعوام من تجاهل عالمي، ملحوظ ومتزايد، لما يرتكب في بلادنا (سورية) من جرائم روسية/ إيرانية/ أسدية ضد شعبنا، لم تخرج معظم ردود فعلنا إلى اليوم عن الميل إلى تحميل الآخرين المسؤولية عما يجري لنا، وغمرهم بالشتائم. لم تكن هذه السنوات السبع كافيةً لأن نفكر بأن علينا نحن أنفسنا مسؤولية ما عن الذي وصلنا إليه.

إذا كان العالم لا يريد مساعدتنا، أو تفهم قضيتنا العادلة، ألا نريد نحن مساعدة أنفسنا والانتصار لقضيتنا، أم أن دورنا يجب أن يقتصر على شتم الآخرين، والامتناع، في الوقت نفسه، عن القيام بواجبنا تجاه شعبنا، المرشح جديا للإبادة، فلا يكون موقفنا هو الوجه الآخر لموقف العالم منا، ونتوقف عن شتمه، لأنه لا ينصفنا، ونبدأ بما علينا فعله لإنقاذ أنفسنا من محنةٍ أصبح من المسلم به عموما أن ما اعتمدناه إلى اليوم من سياساتٍ ومواقف لن يخرجنا منها.

من المفهوم أن يتسلل اليأس إلى نفوسنا، بسبب موقف العالم منا، لكنه ليس مفهوما أن نسهم بتقصيرنا في تعميق يأسنا، وتحويله إلى إحباط يسبق عادة الهزيمة، وما يصحبها من تحول الصراع ضد النظام إلى صراعاتٍ تدميرية في صفوف شعبنا، تمعن في تمزيقه أكثر مما هو ممزق، وتغرقه في حالٍ من التخبط، لطالما قادت الثورات إلى الفشل.

بدل الشكوى الدائمة من ظلم العالم وانحيازه إلى موتنا، أليس من واجبنا أخذ هذه الحقيقة بعين الاعتبار في حساباتنا، لمواجهتها في إطار خطط مدروسة نبلورها ونطبقها أخيرا لترميم أوضاعنا وإصلاحها، ليس فقط بسبب دورها الذي لا يجوز أن نستهين به، بالنسبة لابتعاد العالم عنا، وإنما أيضا، وقبل كل شيء، لأن صمودنا اليوم وانتصارنا غدا رهنٌ بمبارحة واقعنا المريض، وإصلاح مواقف الدول منا، وإقناعها بأن مصالحها لن تكون محفوظةً عندنا، إلا بقدر ما تكون حقوقنا مصونةً عندها، وأننا طرفٌ مقرّر في الصراع، سيحدد أيضا من سيفوز أو سيهزم، ومن مصلحتها تبديل مواقفها من النظام، إذا كانت تريد حقا حصة من الفوز.

بعد ستة أعوام من إدانة مواقف العالم، حان الوقت كي ندير ظهرنا لهذا النهج العبثي، ونلتفت إلى ما أهملناه دوما: وضعنا نحن، وضع قوانا السياسية والعسكرية، ووضع شعبنا في الداخل والخارج، ونمط ما اتخذناه من مواقف، وبلورناه من رؤى وبرامج، لمواجهة ما مررنا ونمر به من تحديات، ووضع ممارساتنا والأساليب التي استخدمناها في معركتنا الشاقة، من أجل حريتنا، وما قمنا به من تدابير، كي لا يتقدم أعداؤنا علينا، ونجد أنفسنا محكومين بردود فعل تترك لهم المبادرة والخطوات الاستباقية، وتجبرنا على انتهاج سياساتٍ لا يمكن أن يحترمها أحد، قليلةٍ أو عديمة الترابط، لحاقية وجزئية، وتفتقر إلى الواقعية والانسجام، مثلما كانت سياساتنا خلال نيفٍ وستة أعوام، لم نتعلم خلالها الكثير.

إذا كانت الدول تتخذ موقفا ظالما منا، هل هذا سببٌ كافٍ لأن نتخذ، نحن أيضا، الموقف نفسه من أنفسنا وثورتنا، ونظل أسرى علاقات مركزها الآخر وليس نحن، على الرغم من أننا نحن أصحاب قضيتنا، وليس هو أو أي أحد سوانا.

منذ سبعة أعوام، ونحن نندب حظنا، وندين ظلم العالم وتجاهله لنا. أما حان الوقت، كي نخرج من هذا المرض الذي جعل منا ندّابين بكائين، لا خير فيهم لقضيتهم وشعبهم الذي يتعرّض على أيديهم لأفدح ظلمٍ وتجاهلٍ ينزل بهما.

اقرأ المزيد
٢٤ فبراير ٢٠١٨
المجزرة: حصة سورية من العالم

ضع مقالات منحازة إلى ضحايا الهمجية في الغوطة ينشرها عدد متضائل من الصحف الغربية، هي كل ما تبقى من شعارات أرادت لنفسها أن تكون عالمية. يقول لنا الأطفال المقطّعة أطرافهم والقابعة جثثهم تحت الجدران المنهارة عليهم بفعل قذائف التحالف الروسي - الإيراني - الأسدي، إن العالم ليس «قرية صغيرة» وأن قيماً مثل حقوق الإنسان وأولوية الحياة البشرية، ليست كونية بل محصورة ويخضع إشهارها أو طيها إلى الاستنساب والتمييز وآليات السوق السياسية.

التأمل في الأرقام والصور الآتية من الغوطة في هدوء المكاتب، يرفع حاجزاً عالياً بين حقيقة ما يجري في الواقع وبين القدرة على التأثير فيه. لقد بلغ العالم من الانقسام حداً لم يعد معه من الممكن الانتقال من حيز التضامن العاطفي مع قتلى الغوطة وسراقب (قبلهم بأسابيع) أو حلب أو أي مدينة سورية منكوبة، إلى حيز التغيير الملموس والسعي إلى وقف المذبحة الشاملة الجارية بموافقة العالم، الضمنية أو العلنية لا فرق. لم يعد ذاك الانتقال ممكناً من دون إعادة نظر بكل المقولات التي اعتُبرت مسلمات أو بداهات منذ نهاية الحرب العالمية الثانية والتي حاول كتّاب على مدى التسعينات إقناعنا أنها انقلبت إلى حقائق كونية.

أعادت أزمات الغرب وسياساته تظهير ضحالة الديموقراطية الليبرالية عندما تواجه اختبارات قاسية. تراجعت الحكومات الغربية إلى قلاعها الحصينة وأغلقت أبوابها أمام موجات اللاجئين واكتفت بشن غارات على من اعتبرتهم إرهابيين في الموصل والرقة. رفضت هذه الحكومات مواجهة الهمجية العالمية التي ساهمت في إطلاقها وامتنعت عن رؤية خطر المشاريع الإمبراطورية المنبعثة من موسكو وطهران، خطرها على كامل منظومة الحداثة الغربية التي بلغت أزمتها مستوى جعل من شخص مثل دونالد ترامب وأفراد عائلته، على رأس أقوى دولة في العالم. هذه الأزمة تسبق تغول فلاديمير بوتين على سورية وعلي خامنئي على أهالي حلب والغوطة، وتعلن انهيار البناء المقام من أوراق اللعب بمجرد أن ظهر من يملك العزم الكافي على إسقاطه.

وقعت الكارثة السورية بالضبط في الهوة الفاصلة بين عالمين. بين عالم الحداثة والديموقراطية التي زال الطلاء عن وجهها وبانت كواجهة للحصرية الغربية ولتمييز عميق لم تنجُ منه إلا حكومات تعد على أصابع اليد الواحدة، وبين عالم الهمجية الفالتة من أي عقاب والتمدد الإمبراطوري والحسابات الجيوسياسية والتطهير الطائفي الذي لم يعد يخجل من الظهور بكل عريه وبشاعته.

ليس هذا الكلام لتغطية المأساة الملموسة بكلام مجرد ومتعالٍ. فلا شيء سيغسل عار البشرية التي ضجرت من قدرة الضحايا على هذا الموت الكثير ومن العناد في رفض «العودة إلى حضن الوطن» - المقبرة. لكن البشرية اعتادت على العيش مع العار بل أدمنت عليه، وليس أيضاً لتحذير من غضب وثأر مقبلين قد يخرجان من بين صفوف ضحايا اليوم ومن تحت أنقاض بيوتهم ومدارسهم. بل للقول إن الحروب السورية هي حصة المشرق العربي من انهيار صورة للعالم جرى الترويج لها كطوبى قابلة للتحقيق في أحضان التعدُّد والديموقراطية وحكم القانون والعدالة، طوبى تستطيع فيها الأمم المتحدة أن توقف العدوان وأن تمنع الحروب وأن تنقذ الضعفاء.

الديموقراطية الليبرالية التي نعاها كتاب وباحثون مرات عدة، أخفقت في كل اختبار يتعلق بتلازم الشعار مع الفعل في كل مرة لم تكن المصالح المادية المباشرة على المحك. وسورية ليست استثناء في هذا الإخفاق. حصة سورية من هذا الإخفاق لم تكن غير مجزرة مجنونة بأيدي قتلة باردي الدماء.

اقرأ المزيد
٢٣ فبراير ٢٠١٨
محور المقاومة يصحو

فجأة يُعلن عن ظهور محور المقاومة، بعد أن كان افتراضياً، وأصبح هناك من يركض، لكي ينخرط فيه. لقد جرى اعتبار إسقاط الدفاعات الجوية السورية طائرة صهيونية بداية هجوم محور المقاومة المشكّل من إيران وأدواتها، وحزب الله، وحركة النجباء العراقية، والنظام السوري. محور يروّج بدء الحرب ضد الدولة الصهيونية (بدل أن أقول لتحرير فلسطين).

تحققت هذه النقلة "المعنوية"، والإعلامية، بعد أن جرى التعامل خلال الأشهر الماضية على أن النظام السوري المدعوم إيرانياً، ومن حزب الله قد انتصر (بتجاهل الدور المحوري لروسيا). وأنه يجب أن يجري الالتفاف حوله لإكمال الانتصار. ثم جاء إسقاط الطائرة الصهيونية ليفرض إعلان نشوء هذا المحور، وانطلاقاً من أن هذا الحدث هو البداية في المواجهة. ولا شك في أن إعلام "المقاومة" هلَّل، ولا زال يهلِّل، فرحاً لـ "التطورات الكبيرة" التي توضِّح انتصار المحور هذا.

أولاً، لا زال الانتصار بعيداً، وأظن أنه لن يتحقق، حيث إن الأمور أعقد من أن تُحسم، سواء نتيجة التدخلات الإقليمية والدولية المتعددة، أو نتيجة عجز النظام عن أن يعيد بناء الدولة، حتى وإنْ حسم الأمر عسكرياً، بقوى روسيا وإيران وحزب الله، وأشتات المرتزقة الآخرين من أفغانستان وباكستان.
وثانياً، يجري تجاهل روسيا التي هي وحدها فرضت تغيير ميزان القوى، على الرغم من أنه ليس بالضرورة أن تحقق الانتصار. وتتمثل المسألة هنا في أن روسيا هي التي باتت مهيمنة، وتملك القرار السياسي والعسكري. وهي في تناقض مع أوهام محور "المقاومة"، حيث تعتبر الدولة الصهيونية حليفاً، ولقد أعلنت أنه في حال أي اعتداء إيراني سوف يدافع عن الدولة الصهيونية ليس أميركا فقط، بل روسيا كذلك.

والصراع على الاستحواذ على سورية في تصاعد بين إيران وروسيا. فقد فرضت روسيا اتفاقات جعلتها تسيطر على النفط والغاز، ثم الآن على إعادة الإعمار.

كيف سيتصرف "محور المقاومة" في هذه الوضعية، التي جعلت روسيا تسمح للطيران الصهيوني أن يستهدف كل مواقع إيران وحزب الله في سورية؟ وكيف سيبدأ الهجوم على الدولة الصهيونية وهو عاجز عن حماية ذاته في سورية، وربما سيكون الأمر ذاته في لبنان؟

إيران هي التي سلَّمت سورية لروسيا حينما هرع قاسم سليماني يطلب الدعم وقواته تنهار. فأتى بالدب الروسي إلى كرمه.

الأمر أعقد من ذلك، فليس من الممكن أن تكون لا إيران ولا النظام، ولا حزب الله الآن، ولا كل القوى التي تلتحق بهذا المحور، في وضعيةٍ تسمح بمواجهة الدولة الصهيونية. إيران تناور فقط، حيث تريد موقعاً متميزاً في المنطقة على حساب العرب. وحزب الله غرق في حروبٍ ضد شعوب المنطقة، ولن يكون قادراً على المواجهة، وهو أصلاً التزم بقرار مجلس الأمن 1701 الذي فرض عليه التخلي عن المقاومة. لهذا بات يطرح بناء "سياسة دفاعية". والنظام السوري هو الآن "هيكل عظمي" بلا أرجل، ولا جيش، ومتحكَّم به من روسيا حليفة الدولة الصهيونية.

مَنْ إذن، سيقاوم؟ هناك مَنْ يتعلق بالأوهام، فيفرح ويزغرد لسقوط طائرة صهيونية، وهو عاجز عن أي فعل، وينتظر من سيقوم بمهمة كبيرة، كمهمة تحرير فلسطين. هذا هو وضع اليسار العربي في غالبيته. اليسار الممانع الذي بات يزحف، لكي يقبِّل عتبات الممانعة في دمشق، من دون أن يلمس أنه يفعل ذلك نتيجة عجزه الذاتي، وفشله الطويل، وهامشيته. لهذا يتعلق بأوهام، ويعزّي نفسه أنه يقف خلف كل من يعممها.

مواجهة الدولة الصهيونية، وتحرير فلسطين، يحتاجان إلى شيء آخر، إلى وضع آخر. يحتاجان إلى نظم تعبّر عن الشعوب، وبالتالي، لا بدّ من إسقاط النظم القائمة، ولا يتوهم أحدٌ أن نظم الممانعة يمكن أن تفعل ذلك. ويحتاجان إلى قوى وأحزاب ليست طائفية، ولا تابعة، وتريد تحقيق مشروع جذري.

على مَنْ يريد تحرير فلسطين أن ينزع من عقله كل الأوهام، لكي يستطيع بناء قوىً قادرة على ذلك.

اقرأ المزيد
٢٣ فبراير ٢٠١٨
الغوطة مذبحة روسية بامتياز

تتعرّض منطقة الغوطة في ريف دمشق لحرب إبادة بلغ ضحاياها في الأيام الأخيرة مئات القتلى من المدنيين، منهم نسبة كبيرة من النساء والأطفال، وسط صمت دولي وعربي على الجرائم التي ترتكبها روسيا والنظام السوري ضد قرابة 400 ألف محاصَر هناك منذ عام 2013.

باتت الغوطة الشرقية تنتظر مصيرا مشابها لما تعرّضت له حلب الشرقية في نهاية عام 2016، على يد الروس والمليشيات الإيرانية، حيث تم حرث المدينة بالطيران الحربي والقصف المدفعي، وجرى تهجير من بقي على قيد الحياة من المدنيين.

معركة إبادة الغوطة روسية بامتياز. القرار روسي والسلاح روسي، ويساعد في ذلك النظام والمليشيات الايرانية، وقد تم تصنيفها من روسيا والنظام ضمن المنطقة التي أطلقوا عليها اسم "سورية المفيدة" أو "النافعة". وحصل تنافس بين طهران وموسكو عليها، نظرا لأهميتها الاستراتيجية بالنسبة للعاصمة دمشق، ولغناها منطقةً زراعيةً خضراء، ورئةً تتنفس منها العاصمة التي اختنقت بالإسمنت منذ حوالي ثلاثة عقود، بسبب البناء العشوائي جرّاء النزوح من المدن الأخرى.

يعود تصميم روسيا على إسقاط الغوطة عسكريًا، وتفريغها من أهلها وطرد الفصائل المسلحة منها إلى عدة أسباب. أولها العودة الأميركية إلى الملف السوري. وكانت الشرارة من لحظة استقبال وزير الخارجية الأميركي، ريكس تيلرسون، وفد الهيئة العليا للمفاوضات برئاسة نصر الحريري في الرابع عشر من فبراير/ شباط الحالي في العاصمة الأردنية. وكان واضحا أن روسيا لم تتقبل الأمر، بعد أن فشلت في إقناع الهيئة بحضور مؤتمر سوتشي الذي انعقد في نهاية الشهر الماضي، وانتهى إلى فشل ذريع.

والسبب الثاني أن العودة الأميركية إلى الملف السوري باتت تترجم نفسها على الأرض، من خلال السيطرة على كامل منطقة الجزيرة السورية التي تشكل قرابة ثلث الجغرافيا السورية، وهي غنية بالنفط والغاز والقطن والحبوب، وقد تم ذلك من خلال التحالف مع الأكراد الذين شكلت لهم واشنطن "قوات سورية الديمقراطية"، وقامت في الآونة الأخيرة بزيادة عديد هذه القوات بمعدل 50 ألف مقاتل، ورصدت لها موازنة بمقدار 500 مليون دولار، وأسندت لها مهمة حماية الحدود السورية مع العراق وتركيا. وحينما حاولت روسيا إرسال مليشيات تابعة لها إلى حقل نفطي شرق دير الزور، وقضى عليها الطيران الأميركي كليا، وهناك معلومات متداولة عن مصرع 300 روسي.

أما السبب الثالث فهو يعود إلى عملية تقاسم نفوذ على الأرض السورية، بين كل من روسيا والولايات المتحدة وإيران وتركيا وإسرائيل. وفي الوقت الذي يبدو أن منطقة الجزيرة صارت من حصة أميركا، فإن بقية الأطراف لم تحدّد حدودها النهائية، وهناك صراعٌ حتى بين أقرب الحلفاء، كما هو الحال بين موسكو وطهران على الغوطة الشرقية. وحسب أوساط سورية، قد تضطر روسيا للتنازل عن الغوطة لإيران في مقابل تسليم الأخيرة لروسيا بقية المناطق، وخصوصا القواعد العسكرية في طرطوس واللاذقية، وثمنا لسكوت طهران عن التفاهمات الروسية الإسرائيلية في الجنوب.

صراع النفوذ يتم على حساب الدم السوري. السوريون ضحايا نزاعات الأطراف وخلافاتهم، ولا يبدو أن هناك بارقة أمل لتحرك دولي، من أجل تحييد المدنيين على الأقل، وإخراجهم من دوائر حروب المصالح الدولية على الأرض السورية، ولخص وزير خارجية فرنسا، جان إيف لودريان، الموقف بقوله "القادم في سورية أسوأ إذا لم نتحرّك".

يحتاج الأمر إلى تحرك دولي جاد لوقف روسيا التي ترتكب جرائم ضد الإنسانية في سورية، وإلا فإنها ماضية، ولن يردعها سقوط ضحايا مدنيين، فقد جرّبت ذلك في حلب، ولم تتعرّض للمساءلة، ويزيد تصميمها على ارتكاب الجرائم، مع اقتناعها بأن هذا الطريق سوف يقود إلى تركيع الشعب السوري، ليقبل ببشار الأسد رئيساً من جديد.

اقرأ المزيد
٢٣ فبراير ٢٠١٨
كأنها حرب عالمية في سورية

شهدت الأسابيع القليلة الماضية تصعيداً كبيراً في الصراع بين القوى الدولية والإقليمية المنخرطة في الصراع المحتدم في سورية، منذ سبعة أعوام، أو ما يمكن اعتباره بمثابة حرب عالمية مصغّرة على أراضيها، الأمر الذي ينذر إما بتصعيد عسكري كبير في هذا البلد، أو باحتمال أن يكون ذلك تسخيناً للتمهيد لفرض حلّ ما، وثمة احتمال ثالث مفاده الاستمرار بالاستراتيجية المتبعة، أي الحفاظ على ديمومة الصراع بين الأطراف المعنية.

هكذا سمعنا فجأة عن غارة لطائرات موجّهة (من دون طيار) على مطار حميميم (31/1)، دمرت سبع طائرات عسكرية روسية، ومستودع ذخيرة، من دون أن يعلن طرف محدّد مسؤوليته عن ذلك، بل إن الأمر تكرّر، بعد أيام قليلة، بإسقاط طائرة حربية روسية، في ريف إدلب (3/2)، لكن هذه المرة بواسطة صاروخ محمول مضاد للطائرات، لم يعرف أحد مصدره أو مصدر إطلاقه! لم يتوقّف الوضع عند هذا الحد، بالنسبة لروسيا، إذ قامت طائرة عسكرية أميركية، بدون طيار (11/2)، بتدمير دبابة روسية الصنع، شرق دير الزور، قيل إن طاقمها كان من الروس (المرتزقة) في سورية، أي بنفي اعتبارهم من الجيش الروسي، وذلك في ثاني ضربة دفاعية ضد قوات موالية للحكومة السورية خلال أقل من أسبوع. والمشكلة أن كل ذلك أتى بعد جملة ضربات وجّهت إلى روسيا على خلفية عقدها مؤتمر «سوتشي» (أواخر الشهر الماضي)، إذ تم تحجيم طموحاتها من هذا المؤتمر، الذي تحول إلى مجرد مهرجان، وباتت قراراته مجرد توصيات، سيما مع كشف الغطاء الدولي عنه، والتأكيد أن مسار جنيف التفاوضي والقرار 2254 هما مرجعية الحل السوري.

وفي ما يخصّ حصّة إيران في الصراع الدائر، فقد حاولت قوات ميليشياوية مرتبطة بها شنّ هجوم واسع على مواقع لـ «قوات سورية الديموقراطية»، على الضفة الشرقية لنهر الفرات في ريف دير الزور الشمالي الشرقي (8/2)، إلا أن طائرات قوات التحالف صدّت هذا الهجوم ونتج عنها مصرع ما يزيد عن مئة من أفراد تلك الميليشيات، في حادثة غاية في الأهمية، لم يتم تسليط الأضواء عليها بما يتناسب مع حجمها أو معناها. ويمكن أن نقدّر معنى ذلك، بالنسبة لإيران، على ضوء أن قواتها، الموجودة في سورية، حاولت بعد ذلك بيومين (10/2) الاحتكاك بإسرائيل، من خلال إرسال طائرة موّجّهة من دون طيار، لاختراق أجوائها، إذ جاء ردّها سريعاً وقوياً، ليس فقط بإسقاط تلك الطائرة، وإنما بإرسال ثماني طائرات حربية للإغارة على أهداف عسكرية في سورية عدة، منها مطارين عسكريين (تيفور، قرب تدمر، والمزة، في دمشق)، وثلاث قواعد للدفاعات الجوية، ومواقع عسكرية مهمة في ريفي دمشق ودرعا. وقد نتج عن هذه الغارة إسقاط طائرة إسرائيلية، تعرضت لهجومات صاروخية، في سابقة فريدة من نوعها، من نظام تعود على التعايش مع الغارات من دون أي رد، بدعوى أنه سيرد في المكان والزمان الملائمين، والتي باتت مدعاة للسخرة والتندر. على ذلك من الواضح أن نظام إيران بات يجد نفسه في مكان صعب، بعد تدخّل روسيا العسكري المباشر في الصراع السوري، إذ باتت هي التي تمسك الملف السوري على حسابه، في حين أن الولايات المتحدة باتت تطالب بإخراج القوات الإيرانية وميليشياتها من سورية، وإغلاق «الكرادور» بين طهران ولبنان، مروراً بسورية والعراق، إضافة إلى أن الولايات المتحدة تضيق عليها بالحصار وبمراجعة ملف الاتفاق النووي.

أما عن الحصّة الإسرائيلية في الصراع السوري، فقد دأبت إسرائيل طوال الأعوام السبعة الماضية على إبعاد الصراع المسلح عن حدودها، وهو ما توج أخيراً باتفاقية وقف التصعيد، التي عقدتها الولايات المتحدة مع روسيا وإيران، من فوق مسار «آستانة»، الذي يجمع روسيا وإيران وتركيا؛ هذا أولاً. ثانياً، التوصل إلى تفاهمات ثنائية مع روسيا لاستبعاد أي تواجد لقوات إيرانية أو حليفة لها قرب حدودها، ما يفسر علاقات التنسيق العالية بين الطرفين، والزيارات المتكررة لرئيس حكومتها إلى روسيا للقاء بوتين. ثالثاً، كالعادة فإن إسرائيل لا تكتف بالتأكد من الحفاظ على مصالحها عبر حلفائها، وإنما تقوم بذلك بنفسها، الأمر الذي ترجمته بشن عشرات الغارات على مواقع عسكرية، وسط وجنوب سورية، وضمن ذلك على مواقع لقوات إيرانية ولمليشيات تتبع لها، لا سيما حزب الله، كما على مستودعات وقوافل تسلح، من دون أن تلقى أي رد، باستثناء الرد المحدود والدفاعي مؤخراً. رابعاً، ظلت إسرائيل طوال السنوات الماضية تظهر نوعاً من النأي بالنفس عما يجري، لكنها كانت تؤكد دوما على حصتها في تقرير مستقبل سورية، بما يتلاءم مع رؤيتها لأمنها ومصالحها، أسوة بغيرها، مع تبنيها استراتيجية أخرى تتأسس على عبارة: «دع العرب ينتحرون»، إذ تعتبر أن خراب سورية والمشرق العربي سيعود عليها بالفائدة لعقود.

في شأن تركيا وحصّتها تبدو هذه الدولة في وضع صعب، إذ علاقاتها مع الولايات المتحدة، وهي حليفها الطبيعي، ليست على ما يرام، في حين أن تحالفها الاضطراري، مع روسيا أو إيران، لا يتأسس على تفاهمات ثابتة أو دائمة، إذا استثنينا العلاقات الاقتصادية، فثمة هنا تباين في الأجندة والدور. كما أن تركيا تجد نفسها بعد اتفاقات وقف التصعيد كأنها خاسرة، لذا ربما تعوض عن ذلك في جعل منطقة ادلب بمثابة منطقة نفوذ لها، لكن هنا ثمة مشكلتان، الأولى، جبهة النصرة، المصنفة كمنظمة ارهابية، ومنطقة عفرين حيث يسيطر البي ي دي، الذي تراه امتدادا لحزب ب ك ك الكردي (التركي) الذي تصنفه كمنظمة إرهابية، لذا فهي تشن حربها الخاصة في عفرين، من دون أفق سياسي أو عسكري، في هذه الظروف المضطربة.

في الغضون، يجدر بنا أن نذكر أن احتدام الصراع العسكري جاء بعد احتدام الأجندات السياسية لحل الصراع السوري، فمقابل مؤتمر سوتشي (الروسي) أعلنت الولايات المتحدة منتصف الشهر الماضي استراتيجيتها للحل، ودعمتها بما أسمته «اللاورقة»، التي توافقت عليها مع فرنسا وبريطانيا وألمانيا والأردن والسعودية (ويحتمل أن تنضم دول أخرى إليها)، وقوامها تعزيز التدخل السياسي والديبلوماسي والعسكري في الصراع السوري (للولايات المتحدة ثماني قواعد عسكرية شرق الفرات)، وفرض حل يتأسس على تغيير النظام، بتغيير قواعد اللعبة التفاوضية العقيمة، بصوغ دستور يتأسس على تقليص صلاحيات الرئيس، والفصل بين السلطات، وإقامة نظام برلماني، وتداول السلطة وضمان حقوق المواطنين وإعادة بناء الجيش والأجهزة الأمنتية وإجراء انتخابات، وفقاً لمعايير وضمانات دولية.

الفكرة، ربما، أن التوكيل الروسي انتهى، وأن المهمة الإيرانية في تخريب المشرق العربي انتهت، وأنه آن الأوان لفعل شيء آخر، وهو ما يفترض معرفته في قادم هذه الأيام الساخنة.

اقرأ المزيد
٢٢ فبراير ٢٠١٨
روسيا تسترد هيبتها بقتل السوريين

من التنبيهات التي أرسلتها روسيا إلى إسرائيل في أعقاب غارات الأخيرة على مواقع قرب دمشق، تأكيدها أن هذا الفعل يضر بما أسمته موسكو تصفية الجيب الإسلامي شرق الغوطة، ما يوضح مخططاً روسياً لإنهاء عملية خفض التصعيد التي رعتها مع تركيا وإيران في أستانة بعد السيطرة على حلب. والواضح أن النية معقودة على إخراج الغوطة الشرقية وشمال حمص وجنوب حماة بالدرجة الأولى من قائمة خفض التصعيد، وهي مناطق ليس لها ظهير إقليمي، ولا طرف دولي ضامن. وبالنسبة لروسيا، تجاوزت الوقائع عملية أستانة، كما أن الأهداف التكتيكية التي جرى من أجلها إبرام اتفاق خفض التصعيد تحققت، وخصوصاً هدف تفريغ جزء كبير من المليشيات للمشاركة في معارك دير الزور، ولم يعد في شمال شرق سورية ما يستدعي بقاء مزيد من القوات، بعد أن تأكدت روسيا، بعد المذبحة التي تعرّضت لها قواتها والمليشيات المشتركة، أن أميركا جادة في حماية مناطقها ومستعدة للذهاب بعيداً، ولا داعي لإعادة اختبارها.

يضاف إلى ما سبق أن روسيا لم تعد معنيةً بالوقوف على خاطر المعارضة، بعد رفض الأخيرة الذهاب إلى مؤتمر سوتشي، وبعد فشل المؤتمر بالأصل، وإدراك روسيا أن هذا الباب أغلق نهائياً، ولم يعد ثمّة أهمية لعملية أستانة برمتها، خصوصاً وأن علاقاتها مع تركيا لن تتأثر، طالما سمحت لأنقرة بدور في إدلب، وبالتحرك تجاه عفرين. وبالتالي، هي لم تعد ملزمة تجاهها في مناطق أخرى. أما منطقة الجنوب فهي خارج اتفاقات أستانة، وتخضع لترتيبات وتفاهمات مشتركة مع الأردن وإسرائيل وأميركا.

غير أن السبب الأهم الذي يدفع روسيا إلى اتخاذ قرار السيطرة على الغوطة الشرقية وأرياف حمص وحماة، التعقيدات الجديدة التي ظهرت على المشهد السوري في الآونة الاخيرة، وما اعتبرته موسكو استهتاراً بنفوذها وهيمنتها على سورية، وخصوصاً بعد إقدام إسرائيل على شن حرب مصغرة، شملت مساحة واسعة من سورية، واستهدفت خلالها أهدافاً استراتيجية، تتبع نظام الأسد والإيرانيين.

وكانت روسيا، قبل ذلك، قد تعرّضت، لجملةٍ من الصفعات المؤلمة، عبر تدمير عدد من طائراتها في قاعدة حميميم، وإسقاط فخر صناعاتها "سو 25" الجوية في ريف إدلب، وثالثة الأثافي مقتل وجرح المئات من المقاتلين الروس، وعلى يد القوات الأميركية في دير الزور، وهو ما وضع مقولة إن روسيا صاحبة الأمر في سورية موضع شك، أو على الأقل عكست هذه الحوادث مدى هشاشة الوضع الروسي في سورية، وبطلان مزاعم الانتصار التي بشر بها الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، نهاية العام الماضي.

تدرك روسيا أن الطريقة التي صنعت بها إنجازها السوري تنطوي على ضعف وهشاشة خطيرتين، وهي ليست سوى توليفةٍ من تفاهماتٍ وتنازلاتٍ لأطراف إقليمية ودولية، وألعاب دهاء ضد قوى المعارضة السورية، المسلحة والسياسية، مع مزيج من أساليب حروب الإبادة وسياسات الأرض المحروقة التي أجرتها تحت ستار إعلامي، يدمج إدعاءات الحرب على الإرهاب ومحاولات إعادة الاستقرار لبلدٍ مزقته الحرب الأهلية، والوعد بتحقيق سلام متوازن، يرضي جميع الأطراف.

لكن، ومن أجل تمرير هذه التوليفة المتناقضة، اضطرت روسيا إلى الانخراط في تفاهماتٍ متناقضة ومتعاكسة، وتبدت هذه المسألة بوضوح في عدم قدرة موسكو على صياغة قواعد اشتباك صريحة وواضحة، جعلت الأطراف المتصارعة تمارس لعبة حافة الهاوية إلى أقصاها، من دون ضابط أو رقيب، وكانت النتيجة أن أغلب الأطراف مارست لعبة ابتزاز روسيا، ووضعت الأولوية لتحقيق مصالحها، ولم تستطع روسيا سوى ابتلاع الإهانات، ومحاولة لعب دور الساعي إلى تحقيق الأمن والاستقرار الإقليميين، والمتفهم لمصالح الجميع والمراعي هواجسهم. وبالطبع، باستثناء العرب الذين لم تهتم روسيا لمصالحهم الأمنية، بدليل أن الغوطة الشرقية وريف حمص كانت مصر ضامنتهما.

وعلى الرغم من كل ما فعلته روسيا، إلا أنها وجدت نفسها في وضعٍ لا يليق بالمكانة التي تتصوّرها عن نفسها، ولا بالوضع الذي تطرح نفسها من خلاله، بصفتها دولةً قابضةً على سورية، ومتحكمة بالتفاعلات في شرق البحر الأبيض المتوسط، والصانعة لتأثيرات ما بعد هذه المنطقة، فلا أحد من الدول المعنية احترم دعوتها إلى مؤتمر سوتشي، ولولا حضور المبعوث الأممي، دي ميستورا، لظهر كما لو أنه مؤتمر بعثي لأعضاء من الدرجة الثانية، كما أن أي طرفٍ لم يحترم خطوطها الحمراء في سورية، هل لروسيا أصلاً خطوط حمراء؟.

إلى ذلك، روسيا بصدد تعديل طريقة إدارتها الحرب السورية، وبما أن قدرتها على ضبط اللاعبين الآخرين منخفضة، وبالكاد تتوّسط بينهم في حال الاختلاف، إيران وإسرائيل، أو تحاول النفخ في النيران، كما في الخلاف الأميركي – التركي، فإن خياراتها في التعديل تبدو منحصرةً في الاستقواء على المعارضة السورية، وستحاول في المرحلة المقبلة إعادة صيانة هيبتها ومكانتها، باستخدام أقصى درجات العنف تجاه المعارضة السورية، وعبر استعادة السيطرة على مناطق جديدة، وتحديداً في الغوطة وأرياف حمص وحماة.

لكن لماذا الاستغراب والحرب في سورية ليست سوى صراع على النفوذ والحصص من جميع الأطراف، وهم جميعاً رحماء فيما بينهم وأشداء على السوريين، ثم إن روسيا لم تفعل شيئاً منذ تدخلها سوى القتل والحرق، وحتى اقتراحها المسمى مناطق خفض التصعيد لم يكن سوى إقامة معازل مرحلية، إلى حين التفرغ لاجتثاثها، وقد حان الوقت.

اقرأ المزيد
٢٢ فبراير ٢٠١٨
هل يمكننا أن نرمي بسهم من جعبة تيلرسون؟

منذ بدايتها كانت مباحثات أستانة مسارًا معقدًا للغاية. فهي جمعت على طاولتها إيران، التي يتمثل هدفها الرئيسي في الحفاظ على كرسي الأسد وبالتالي الوضع القائم، وروسيا التي تدعم الأسد خشية وقوع سوريا في يد الولايات المتحدة وحرصًا على مصالحها في الشرق الأوسط، وتركيا التي اتبعت أشد السياسيات في مواجهة الأسد منذ سبع سنوات.

ولأن روسيا يهمها من سيحل محل الأسد في المرحلة الانتقالية أكثر من الأسد نفسه، فقد استطاعت تسجيل هدف في مرمى من يلعبون الكرة في جنيف منذ سنوات، وكسبت تركيا في صفها.

أدت محادثات أستانة ومن بعدها قمة سوتشي لصياغة الدستور السوري إلى نتائج أكثر فعالية من كافة الاجتماعات التي عقدتها الولايات المتحدة. أما تركيا فقد نفذت عملية درع الفرات أولًا والآن غصن الزيتون بدعم من روسيا على الرغم من اعتراضات الأسد.

بالتزامن مع زيارة وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون إلى أنقرة كان وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف يوجه رسالة إلى تركيا من خلال الإدلاء بتصريحات انتقد فيها دعم الإدارة الأمريكية لوحدات حماية الشعب.

وقال لافروف: "لم تغير الولايات المتحدة خططها في تكوين قوة أمن حدودية في منطقة الحدود السورية التركية"، في تلميح إلى تركيا كي لا تجلس إلى طاولة المباحثات مع الولايات المتحدة.

ويبدو أن شكوك روسيا بخصوص تركيا ثارت مع زيارة وزير الخارجية الأمريكي لأنقرة. فخطة هذا الأخير تقضي بانسحاب وحدات حماية الشعب من منبج، وبسيطرة القوات التركية والأمريكية معًا علي المدينة.

ولا شك أن مثل هذا الاتفاق دفع موسكو للتفكير بأن تركيا ستتفق مع الولايات المتحدة وتتصرف ضد مصالح الروسية، إلى درجة أن قناة روسيا اليوم نشرت ليلة الاجتماع مع تيلرسون، مزاعم كاذبة من مصادر في وحدات حماية الشعب عن استخدام تركيا أسلحة كيميائية في عفرين.

ونعلم أن روسيا ضغطت على تركيا حتى اللحظة الأخيرة كي تعتبر وحدات حماية الشعب ممثلًا شرعيًّا كي تشارك في الحوار السوري، وأنه لولا تغاضي ودعم روسيا لما تحقق وجود الوحدات في عفرين. كما أن الدعم الصامت الذي يقدمه النظام السوري للوحادت ليس سرًّا.

لكن هناك حقيقة أن الولايات المتحدة وروسيا تتصارعان على المناطق الغنية بالنفط مثل دير الزور، وأن مقاتلين مرتزقة روس قُتلوا ودبابات لهم تعرضت لقصف مقاتلات أمريكية.

ولا يبدو منطقيًّا توقع أو تأمل سحب واشنطن دعمها كليًّا لوحدات حماية الشعب. فحتى هوليود بدأت بتلميع التعاون الأمريكي مع الوحدات، حيث من المنتظر أن يدخل العرض هذا العام فيلم يروي قصة انضمام مجموعة من الأمريكيين إلى الوحدات من أجل محاربة داعش. ولا شك أنها لا تحبب وحدات حماية الشعب للشارع الأمريكي عن عبث.

ومن جهة أخرى، لا بد من التذكير بأن روسيا لا تدرج حزب العمال الكردستاني على قائمة التنظيمات الإرهابية.

بمعنى أن المعادلة شديدة التعقيد ولا مجال أمامنا لارتكاب أخطاء. علينا أن نكون متأكدين من السهم الذي سنطلقه. فلست على ثقة من أن خطة تيلرسون المثيرة للشكوك، هي السهم المناسب.

اقرأ المزيد
٢١ فبراير ٢٠١٨
الأزمة السورية والتدخلات الأجنبية

يلاحظ بعض المتابعين لوسائل التواصل الاجتماعي ولا سيما على موقع «فيسبوك»، أن سوريين يضعون لافتات تشيد بالوجود الأجنبي ولا سيما العسكري في سوريا، الأمر الذي جعل بعضهم يذهب إلى قول، إن السوريين باتوا يرحبون باحتلال بلادهم من قبل دول وميليشيات مسلحة.

وللحق، فإن ثمة ما هو واقع في هذه الملاحظة. فبعد توسع عمليات القمع الدموي التي باشرها نظام الأسد قتلاً وجرحاً واعتقالاً للسوريين وحصاراً وتدميراً للمدن والقرى والأحياء الثائرة، ارتفعت أصوات سورية في أواخر عام 2011، تطالب بالتدخل الدولي من أجل لجم السياسة الدموية للنظام ووضع حد لها، فيما اتجه النظام للاستعانة بحلفائه الإيرانيين وميليشياتهم اللبنانية والعراقية والأفغانية والإيرانية لقمع حركة الاحتجاج الشعبي بعد أن عجز وحيداً عن فعل ذلك، وسط تزايد عدد ومساحة المناطق الخارجة عن سيطرته، وبهذا فتح الباب واسعاً أمام التدخل العسكري الأجنبي في البلاد.

وبطبيعة الحال، فقد طورت القوى الأجنبية تدخلاتها العسكرية في العامين الأخيرين وخصوصاً الحليفة لنظام الأسد. فبعد أن دفعت إيران بميليشياتها للقتال إلى جانب النظام في العامين الأولين 2011 - 2012 زاد عدد مستشاريها الأمنيين والعسكريين والتقنيين، ثم دفعت بقواتها من الحرس الثوري للقتال ضد جماعات المعارضة المسلحة، وبنت قواعد لها في عدد من المناطق السورية ولا سيما في ريفي دمشق وحمص، ومضت روسيا في خطوات مماثلة، فعززت وجودها العسكري والأمني والتقني، قبل أن ترسل قواتها البحرية والجوية أواخر عام 2015 للمشاركة الأوسع والأهم في الحرب، وقامت بتثبيت وجودها في قواعد برية وبحرية وجوية في مناطق سوريا الغربية ومطاراتها.

ومما لا شك فيه، أن تطورات الوجود العسكري لحلفاء النظام، وتأثيراته على الصراع في سوريا وحولها، دفع دولاً أخرى للبحث عن موطئ قدم على الأرض السورية، ولئن كان البعض منهم له وجود غير مباشر عبر علاقاته وصلاته بأطراف مسلحة مثل الولايات المتحدة، التي لها علاقات قوية مع حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (Pyd) وميليشياته من وحدات الحماية الكردية، وتركيا التي لها علاقات مع أغلب جماعات المعارضة المسلحة، فإن تلك الدول اندفعت باتجاه إرسال قواتها مباشرة إلى الداخل السوري، فأرسلت واشنطن إضافة إلى الخبراء والمستشارين جنوداً وأسلحة، وأقامت قواعد جوية وبرية في شمال شرقي سوريا، فيما دفعت تركيا بقواتها بالمشاركة مع جماعات المعارضة المسلحة في موجتين، كانت أولاهما عملية درع الفرات التي دخلت محيط جرابلس أواسط 2016، ثم عملية غصن الزيتون، التي توجهت إلى عفرين في 2018 لطرد وحدات الحماية الكردية من هناك التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (Pyd).

وباستثناء الوجود الأجنبي السابق والكبير نسبياً الذي بات يسيطر على غالبية الأراضي مباشرة، أو عبر حلفائه المحليين من قوات الأسد وقوات الحماية الكردية وتشكيلات المعارضة المسلحة، فإن هناك وجوداً عسكرياً مباشراً لدول أخرى لها علاقات ونفوذ على بعض التشكيلات المسلحة.
إن الانعكاس المباشر للتدخلات الأجنبية ولا سيما العسكرية على واقع الصراع السوري، جعل من سوريين ينظرون بشكل متفاوت لهذا الوجود. فبدا من الاعتيادي أن ينظر مؤيدو النظام إلى الروس والإيرانيين وميليشياتهم باعتبارهم حماة لهم ولنظامهم، وأن ينظروا للأتراك باعتبارهم قوة احتلال، وهو موقف يخالف كلياً نظرة فئات من معارضي النظام الذين يرون في الأتراك حلفاء لهم في مواجهة نظام الأسد وحلفائه من روس وإيرانيين وميليشيات باعتبارهم محتلين، خاصة في ضوء ما تم من اتفاقات جرى توقيعها بين النظام والطرفين الروسي والإيراني.

وبخلاف ما سبق، فإن الموقف من الوجود الأميركي بدا أكثر تعقيداً. ووحدهم أكراد (Pyd) وحلفاؤهم، كانوا متحمسين للوجود العسكري الأميركي باعتباره قوة دعمهم السياسي والعسكري في مواجهة الآخرين، وكانوا الأكثر شراسة في مواجهة الوجود العسكري التركي الذي يستهدفهم، ويعتبرهم «جماعة إرهابية» تمثل امتداداً لحزب العمال الكردي في تركيا (Pkk)، فيما يحيط الضباب بموقفهم من الوجودين الإيراني والروسي، بينما يعارض أغلب السوريين من النظام والمعارضة الوجود الأميركي من منطلقات ليست واحدة، أبرزها موقفهم من ميليشيات حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (Pyd).

وسط تلك اللوحة المعقدة من المواقف حيال الوجود العسكري الأجنبي، لا يمكن القول، إن السوريين أو جزءاً كبيراً منهم يرحب بالاحتلال الأجنبي لبلدهم، كما يلوح للبعض أو يتوهم. بل الأمر لا يتعدى صلة موقفهم بواقع الصراع السياسي والمسلح الذي صاروا إليه والذي تهددهم تداعياته بشراً وكياناً، تضاف إلى التدخلات الدولية والإقليمية العنيفة، التي اتخذت من بلدهم وأرضهم ميداناً لتصفية حساباتها، وخدمة استراتيجياتها في المنطقة.

ومما لا شك فيه، أن تلك الحيثيات، تجعل من أي مواقف سورية تتناغم مع إحدى قوى الوجود والاحتلال العسكري لأرض سورية، مواقف غير حقيقية، وغالباً هي مواقف «مؤقتة» مرهونة بوقف الحرب وعودة السلام إلى سوريا، التي كثيراً ما حفل تاريخها بما فيه الحديث باحتلالات أجنبية انحسرت، وشهدت انقسامات وصراعات داخلية انتهت، وكلتاهما دفعت السوريين بكل مكونات جماعتهم الوطنية إلى تأسيس كيانهم الواحد في منتصف ثلاثينات القرن الماضي، التي بلورت صورة سوريا، التي كانت عليها في عام 2011، والتي وإن قال البعض إنها لن تعود، فإن صورة سوريا المقبلة، لن تكون بعيدة كثيراً، عما كانت عليه كدولة مستقلة، فيها أغلب مكوناتها القومية والدينية والطائفية.

اقرأ المزيد
٢١ فبراير ٢٠١٨
سورية.. حضور أميركا وغيابها

تتوافق المخاوف الأميركية مع المعارضة السورية، بما يتعلق "بخطورة الوضع الراهن، وما يمكن أن تؤدي إليه عرقلة العملية السياسية"، حسب بيان الهيئة العليا للمفاوضات لقوى الثورة والمعارضة السورية، الصادر يوم 14 فبراير/ شباط الجاري، إثر لقاء جمع وفداً من الهيئة بوزير خارجية الولايات المتحدة الأميركية، ريكس تيلرسون، في عمّان، على الرغم من أن تلك المخاوف نابعةٌ من موقف العجز الذي تمر به المعارضة السورية، أشمام قوى التصارع الدولية على سورية، وفيها، وقدرة هذه الدول على التحكّم بمآلات تصعيد التوتر داخل الأراضي السورية، والتلاعب بمسار المفاوضات، سواء المتعلقة بوقف إطلاق النار، أو التي تحرف المسار السياسي من مكانته الأممية إلى الرعاية الثلاثية (روسيا، إيران، تركيا)، كما كانت المحاولة التي تمت في مؤتمر سوتشي، إلا أن المخاوف الأميركية لا يمكن أن تنبع من المكانة نفسها غير القادرة على تحريك العملية السياسية، والحد من مستوى العنف في سورية، إلا إذا كانت أميركا تريد أن تأخذ دور المتفرج والرابح في النهاية.

يتميز الحضور الأميركي في سورية والعراق بأنه كالحاضر الغائب، ففي حين يستوجب وجود قوة عظمى في المنطقة حفظ السلام والأمن الدوليين، حسب دورها العالمي، فإن كلا البلدين اللذين "ينعمان" بالوجود الأميركي، قوة عسكرية متفاعلة، يعيشان حالةً من الفوضى، والحروب المتعدّدة الأطراف التي تقع الولايات المتحدة طرفا متحاربا فيها، بدل أن تكون حامية للاستقرار، وعامل ضمان لمنع التمدّد الإيراني الذي تتكاثف التصريحات الأميركية بشأن محاربته، وإرغام إيران على الانكفاء داخل حدودها، ما يثير الشبهات في ما يتعلق بمصداقية تلك التصريحات التي لا تقترن على الأرض بأي حراكٍ فاعل، يهدد المصالح الإيرانية، باستثناء التصريحات والتلميحات التي لا تثمر في المعارك عن أي انتصارات، ولم تأت بأي تفاهماتٍ دوليةٍ، تعيدها إلى داخل حدودها، بعيدا عن العواصم العربية الأربع التي تمارس عبرها التدخل في منظومة الحكم فيها، من بغداد إلى بيروت ودمشق وصنعاء.

وعندما تأخذ الإدارة الأميركية دور الحاضر في الشأن السوري تميز بين حضورها العسكري لمشروعها الخاص بها في الشمال السوري، تحت غطاء الوجود الكردي، ودعمها له في حربها على "داعش"، وبين غيابها التام عما يحدث في مناطق مختلفة من سورية، مثل ريفي دمشق وإدلب، وحتى عفرين الواقعة تحت سيطرة حلفائها من الكرد، فبين حضورها في الشمال، وتمتعها بكامل حصانتها التي تدافع عنها، تارة، متصدّرة قواتها التي يزيد تعدادها المعلن عن ألفي جندي أميركي المشهد، وتارة أخرى، مختبئة بعباءة التحالف الدولي ضد الإرهاب، بينما تترك المناطق الساخنة تشتعل بنيران القوات الروسية والإيرانية، إضافة إلى التدخل التركي، أخيرا، والذي يمكن تسميته حالة تعميم الغرق لكل الجهات الضامنة لخفض التصعيد الموقع في العاصمة الكازاخستانية أستانة، مكتفية بطلب ضبط النفس، أو التنديد بما ينتجه ذلك التصعيد من مآسٍ إنسانية في مناطق التخفيض.

من الملاحظ أن الولايات المتحدة مارست سياسة إغراق كل الأطراف في مستنقع الحرب، لإعادة توزيع الأدوار من داخل الصراع، وليس من خارجه، فالوجود الكردي في منبج وعفرين كان بمثابة التهديد الذي تعلم الإدارة الأميركية أن تركيا لن تصمت تجاهه طويلاً، وهي أمام خيار القبول به من باب الرضوخ للإرادة الأميركية، متعاليةً على جراحها، أو خيار المواجهة (الذي اختارته) لتغيير قواعد اللعبة مع واشنطن، والدخول في حربٍ مع كرد سورية تحت غطاء الحفاظ على أمنها القومي، وحماية حدودها من أطماع حزب العمال الكردستاني التي تصنفه "إرهابيا"، على الرغم من أن مغالطات كثيرة بنيت عليها هذه الحرب، ونتج عنها خسائر في البشر والبنية التحتية، والأهم من هذا وذاك ما نتج من خلط الأوراق بين القضيتين، الكردية السورية والتركية الكردية، والتعاطي مع الأمر من منظور اللحظة الراهنة، من دون النظر إلى أبعاد هذه الحرب، في ظل إشراك فصائل سورية معارضة إلى جانب القوات التركية، في مواجهة القوات الكردية التي معظمها من السوريين.

تتمسّك تركيا بفرض خريطة جديدة لتوزيع قواتها داخل الأراضي السورية، ومنها نقاط سيطرة لها في عفرين ومنبج وإدلب شرق السكة والريف الحلبي. وفي المقابل، يستوجب ذلك عليها تفاهمات مع روسيا وإيران، تسمح من خلالها لكل من الدولتين ممارسة أقصى حدود العنف، لفرض سيطرتهم على ما تبقى من خارطة أستانة، لإعادة الاعتبار إلى هذا المسار، بعد انهيار تخفيض التوتر، الذي تمهد له كل من الدول الثلاث الضامنة "برفع مستوى التصعيد" الذي تشهده سورية، ويعد من أسوأ المراحل العنفية التي مرت عليها خلال سنوات الحرب. وبذلك تتجاهل تركيا ما ينتج عن التصعيد من مجازر، وخسائر في صفوف المعارضة التي تقف تركيا في المحافل الدولية داعمة لهم، على نقيض موقف كل من إيران وروسيا الداعمتين للنظام السوري.

ويستجلب هذا التقاسم على النفوذ في سورية أشرس المعارك في أنحاء مختلفة من الغوطة الشرقية وإدلب وعفرين، ضمن عملية مواجهة مشتركة بين ثلاثي أستانة، لمواجه الرغبة الأميركية بالشراكة مع فرنسا وبريطانيا، المتمسكة بمسار مفاوضات جنيف، ضمن قواعد تفاوضية جديدة، مهدت لها "اللاورقة" التي نتجت عن اجتماع باريس (24/1)، وأسست لمفهوم جديد في العملية الانتقالية، يبدأ من تغييراتٍ في شكل الحكم ونظامه في سورية، وصولا إلى إقامة نظام حكم لامركزي، تمهد من خلاله الإدارة الأميركية تثبيت حضورها الدائم في الإقليم الشمالي الذي يعد المنطقة الاستراتيجية اقتصادياً وجغرافياً وسكانياً، ما يعني أن السوريين يواجهون مشروعين متضادين بالتبني الدولي، وبالآن نفسه، يلتقيان في خانة تقاسم النفوذ أحدهما (الروسي، التركي، الإيراني) يريدون سورية النظام مع امتيازات وجودهم الدائم. والمشروع الآخر يريد سورية جديدة مع حفظ حقوق الأقاليم بإدارتها نفسها، ضمن ما يمكن تسميتها فيدرالية خاصة، وأيضاً يبرّر هذا الشكل من الحكم الوجود الأميركي الذي لم تحدد الإدارة نهاية له.

فمن الوجود الأميركي العسكري الفعلي في الشمال، إلى شبه الصمت عما يحدث في الريف الدمشقي ووسط البلاد، إلى الحماية المطلقة للحدود "الإسرائيلية"، تتوزع الأدوار الأميركية بين الحضور والغياب، لكنها في المحصلة لا يمكن اعتبارها قوة مجهولة التأثير في المعادلة السورية، وإنما هي الطرف الذي على المعارضة السورية البناء على حضوره وغيابه، بما يتناسب والمشروع الوطني، لسحب الورقة الكردية منه، ضمن تفاهماتٍ للبحث عن حل عادل لها، وقطع الطريق على حربٍ شرسةٍ تخوضها تركيا في عفرين، بصياغة حل سوري - سوري يعالج مخاوف تركيا من جهة، ويبني على الوعود الأميركية في إقامة دولة سورية الديمقراطية، من دون أن يكون لأي مكون فيها ميزة التسلح بقوة خارجية.

اقرأ المزيد
٢١ فبراير ٢٠١٨
المواجهة الأمريكية الإيرانية في سوريا

خلقت الادعاءات المتسرعة بهزيمة "الإرهاب" في سوريا؛ دينامية جديدة من الصراعات الدولية والإقليمية، تؤذن بحلول حقبة من المعارك المحدودة دون أن تبلغ حد الحروب الشاملة. وإذا كان الاحتلال الأمريكي للعراق 2003 وإزاحة نظام صدام حسين السني قد أسفر عن وضع العراق تحت وصاية إيران، فإن التدخل الأمريكي في سوريا 2011، وهزيمة تنظيم أبو بكر البغدادي السني، أفضى إلى جعل سوريا تحت سيطرة إيران. وأحد أكبر المفارقات في التاريخ المعاصر أن أحد أهم ذرائع التدخلات الأمريكية في العراق وسوريا كانت تهدف إلى الحد من النفوذ الإيراني الشيعي ومحاربة "الإرهاب" السني، وعقب كل تدخل أمريكي كانت إيران تخرج أكثر قوة وأشد نفوذا، وكان "الإرهاب" يكتسب خبرة أكبر ونفوذا أوسع.

في هذا السياق، تبدو السياسات الأمريكية التي تسيير على هديها الدول الأوروبية تعمل على تحقيق نقيض أهدافها المتعلقة بحرب "الإرهاب". ففي كل جولة من التدخلات، تزداد قوة الجمهورية الإيرانية، وتتنامى قدرة المنظمات الجهادية. لكن ذلك لا يبدو غريبا في ظل هيمنة منظورات غربية تصر على ربط العنف والتطرف والإرهاب؛ بثقافة ودين المنطقة، وليس بالأسباب والشروط والظروف الموضوعية السياسية والاقتصادية. فتنامي الحالة الجهادية الموسومة بـ"الإرهابية" برز في سياق ثلاثة ظروف استراتيجية؛ الأولى: محلية وطنية، وتتمثل بانغلاق الأنموذج السياسي وفشل وعود التحول الديمقراطية ورسوخ الاستبداد، والثانية: إقليمية، وتتمثل بعدم التوصل إلى سلام عادل وحقيقي في فلسطين، والثالثة: عالمية، وتتمثل بانهيار الاتحاد السوفييتي وسيادة القطب الأمريكي الواحد وحلول العولمة.

تصر السياسات الأمريكية على السير على طريق تأجيج حالة العنف في المنطقة، وتدفع باتجاه تغذية منابع "الإرهاب" الرئيسية في المنطقة. فعقب إعلانها عن هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية تبنت منظورات استرتيجية توسس لديمومة العنف والإرهاب عبر أطروحة "صفقة القرن"؛ التي تقوم على أساس تصفية القضية الفلسطينية، وإدماج إسرائيل في المنطقة من خلال تأسيس تحالف بين الإمبريالية الأمريكية والدكتاتوريات العريية والاحتلال الإسرائيلي تحت ذريعة مواجهة الخطر المشترك المتمثل بالمنظمات "الإرهابية" والجمهورية "الإيرانية. وقد بات واضحا أن منظومة العنف الإرهابوي في المنطقة هو رد على نظام العنف البنيوي المتجسد بالإمبريالية الخارجية والاحتلالية الإسرائيلية والطائفية الإقليمية والدكتاتورية المحلية.

على مدى عقود ادعت الولايات المتحدة الأمريكية أن إيران تشكّل تحدياً شاملاً لمصالحها، وتهديدا واسعا لحلفائها وشركائها في الشرق الأوسط. ولم تخل أي وثيقة للأمن القومي الأمريكي منذ سقوط نظام الشاه وصعود الجمهورية الإيرانية الإسلامية؛ من الحديث عن الخطر الإيراني واعتبار إيران دولة راعية للإرهاب، فضلا عن كونها دولة مارقة، ومع ذلك من ذلك تمكنت إيران خلال العقود الأربعة الماضية من التمدد والانتشار، وتمكين سيطرتها وزيادة نفوذها، وخلق فضاء جيوسياسي من طهران إلى بغداد، مرورا بدمشق وصولا إلى بيروت، فضلا عن نفوذها في البحرين واليمن. وفي كل مرة ادعت أمريكا التصدي للنفوذ الإيراني، كانت إيران تخرج بنفوذ أكبر وتوسع أعظم.

منذ قدوم إدارة ترامب، بات الحديث عن الخطر الإيراني حدثا يوميا، وأصبحت التهديدات لازمة خطابية لأركان الإدارة الأمريكية، كان آخرها تحذير مستشار الأمن القومي الأمريكي هربرت ماكماستر؛ من تزايد قوة ما وصفها بـ"شبكة وكلاء" إيران في المنطقة، حيث قال ماكماستر، أثناء مؤتمر ميونيخ للأمن في 17 شباط/ فبراير 3018، إن إيران تبني وتسلح شبكة قوية على نحو متزايد من الوكلاء، في دول مثل سوريا والعراق واليمن. وأضاف أن شبكة وكلاء إيران أصبحت أكثر قوة، وأن الوقت حان للتصرف تجاه طهران.

إن المواجهة الأمريكية للنفوذ الإيراني هي أقرب إلى الأوهام، فبحسب الواشنطن بوست تفرض إيران اليوم هيمنتها ونفوذها على القوس الممتد من طهران وحتى البحر الأبيض المتوسط، ومن حدود حلف شمال الأطلسي إلى حدود الأراضي الفلسطينية المحتلة، وأيضاً على امتداد الطرف الجنوبي من شبه جزيرة العرب. فلدى إيران اليوم الآلاف من المليشيات المتحالفة معها، والجيوش التي تقاتل وكالة عنها في الخطوط الأمامية في سوريا والعراق واليمن، والتي تملك عربات مدرعة ودبابات وأسلحة ثقيلة، فضلاً عن آلاف من أعضاء الحرس الثوري الإيراني الذين يشاركون في تلك المعارك؛ ممّا أكسبهم خبرة كبيرة.

تشير التطورات المتسارعة في سوريا إلى بروز منطق جديد في نمط المواجهة بين أمريكا وإيران. ففي تطور مهم ولافت، أسقطت الدفاعات الجوية السورية مقاتلة إسرائيلية قصفت أهدافا عسكرية داخل سوريا في 10 شباط/ فبراير 2018، وسرعان ما اتهمت إسرائيل إيران بإسقاط الطائرة، وتنامى الحديث عن منطق المواجهة الجديد الذي يتجاوز حروب الوكالة. وعلى الرغم من حرص البلدين وكافة الأطراف الدولية والإقليمية على التهدئة وعدم التصعيد، فإن حقبة جديدة من الصراع تبرز في المنطقة، لكنها بعيدة عن منطق المواجهة الشاملة نظرا للكلفة الباهظة والعواقب الخطيرة.

في أعقاب الغارات الإسرائيلية على سوريا أصدرت إدارة ترامب بيانات تدعم حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، لكنها لم تقدم أي مساعدة عسكرية (على الأقل علناً) للعمليات ضد القوات الإيرانية في سوريا. وفي هذا الصدد، أعلنت واشنطن أنها تعتزم إبقاء نحو ألفي جندي شرقي نهر الفرات في شمال وشرق سوريا، ولا تزال مهمتهم غير واضحة المعالم، باستثناء دعوى هزيمة تنظيم "الدولة الإسلامية". وركزت الإدارة الأمريكية أيضاً على إدارة التوترات التركية - الكردية، من خلال زيارة كل من وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون ومستشار الأمن القومي هربرت رايموند ماكماستر؛ إلى أنقرة مؤخراً. وفي المقابل، هناك بعض المؤشرات الملموسة على الأرض بأن واشنطن تحاول جاهدة الحدّ من النشاط الإيراني في سوريا، فضلاً عن التصريحات العامة التي أدلى بها تيلرسون، ومفادها أن استمرار الوجود العسكري الأمريكي يهدف جزئياً إلى كبح نفوذ طهران المحلي.

يستند منطق المواجهة بين إيران وإسرائيل إلى قناعة إسرائيلية بأن الاستراتيجية الأمريكية المتعلقة بإيران قاصرة، ولا تتوافر آليات فاعلة للحد من النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط عموما، وفي سوريا خصوصا. فالاستراتيجية التي وضعها فريق الأمن القومي للرئيس الأمريكي دونالد ترامب للتصدي لإيران؛ تتضمن مجموعة من العناصر الأساسية تقوم على: تحييد التأثير "المزعزع للاستقرار للحكومة الإيرانية وكذلك تقييد عدوانيتها، ولا سيما دعمها للإرهاب والمسلحين"، وإعادة تنشيط التحالفات الأمريكية التقليدية والشراكات الإقليمية كـ"مصد ضد التخريب الإيراني واستعادة أكبر لاستقرار توازن القوى في المنطقة"، وحرمان النظام الإيراني، ولا سيما الحرس الثوري، من تمويل "أنشطته الخبيثة" ومعارضة أنشطة الحرس الثوري، ومواجهة تهديدات الصواريخ الباليستية والأسلحة الأخرى الموجهة ضد الولايات المتحدة وحلفائها، وحشد المجتمع الدولي لإدانة "الانتهاكات الجسيمة للحرس الثوري" لحقوق الإنسان، و"احتجازه لمواطنين أمريكيين وغيرهم من الأجانب بتهم زائفة"، وحرمان النظام الإيراني من المسارات المؤدية إلى سلاح نووي.

لا شك أن استراتيجية ترامب النظرية تتماهى مع الطرح الإسرائيلي، فقد عكفت واشنطن منذ تدخلها في المنطقة، في إطار بحثها عن حل إقليمي للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، على حشد جبهة موحدة تضم إسرائيل والقوى العربية السنية في وجه إيران، عدو واشنطن وإسرائيل اللدود، الأمر الذي دفع بنيامين نتنياهو إلى تقديم اقتراح بـتبني "مقاربة إقليمية" لإنهاء صراع الشرق الأوسط، حيث أشاد بما وصفها "فرصة غير مسبوقة تتمثل في تخلي بعض الدول العربية عن اعتبار إسرائيل عدوا، بل صارت ترى فيها حليفا في مواجهة إيران و"داعش"، القوتين التوأمين في "الإسلام المتطرف" واللتين تهددان الجميع". وتتوافق الرؤية المشتركة للمشروع الأمريكي الإسرائيلي بـترتيبات "صفقة القرن"، التي تقوم على تصفية القضية الفلسطينية، وإدماج إسرائيل في المنطقة من خلال تأسيس تحالف أمريكي إسرائيلي مع بعض دول المنطقة، تحت ذريعة مواجهة الخطر المشترك المتمثل بالمنظمات "الإرهابية" والجمهورية "الإيرانية".

لا جدال أن إسرائيل كانت الأكثر سعادة بقدوم إدارة ترامب ورحيل أوباما، نظرا للتباين الشديد في رؤية الرجلين لإيران ودورها في المنطقة. فأوباما أنجز الاتفاق النووي مع إيران ونظر إليها كعامل استقرار، بينما ترامب لا يدع مناسبة للحديث عن الخطر الإيراني المزعزع للاستقرار. فبحسب دينيس روس: "قد لا تكون أسهم الرئيس دونالد ترامب مرتفعة للغاية في الولايات المتحدة، لكن كل من أمضى مؤخراً بعض الوقت في إسرائيل أو السعودية، كما فعلتُ أنا، يمكنه أن يشهد أن الرئيس الأمريكي هو من المفضلين في أوساط قادة هاتين الدولتين الشرق أوسطيتين". لكن المشكلة بالنسبة لإسرائيل لخصها دينيس روس في عنوان مقالة في مجلة "فورين بوليسي"؛ بأن "ما يقوله ترامب بشأن إيران هو مجرد كلام، إذ يشعر جميع أولئك الذين تحدثتُ إليهم بأن الولايات المتحدة تنازلت عن سوريا لصالح روسيا، تاركةً إسرائيل للتعامل بمفردها مع الوجود الإيراني هناك. وبطبيعة الحال، يعتقد هؤلاء أنه لو كانت الولايات المتحدة مهيأة للإشارة إلى استعدادها لوضع حدّ للتوسّع الإيراني في سوريا، فإن السلوك الروسي قد يتغيّر أيضاً. ولكن على الرغم من تركيز خطاب وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون بشأن سوريا الشهر الماضي؛ على مواجهة إيران، إلّا أنّ مسؤولي الأمن الإسرائيليين الذين تحدثتُ معهم لم يروا أي مؤشر على أن الإدارة الأمريكية ستقابل أقوالها بأفعال".

في هذا السياق، تنظر إسرائيل إلى أن الاجراءات العملية للولايات المتحدة ضد إبران في سوريا لا يمكن أن تفضي إلى الحد من نفوذها، وكان آخرها توجيه ضربة عسكرية دفاعية في 7 شباط/ فبراير 2018، حيث أطلق طابور من الوحدات التي تقودها إيران قذائف مدفعية باتجاه "قوات سوريا الديمقراطية" المدعومة من الولايات المتحدة، جنوب دير الزور، على بعد ثمانية كيلومترات من خط تجنّب المواجهة في شرق نهر الفرات الذي أنشأته واشنطن وموسكو. وبحسب مايكل آيزنشتات ومايكل نايتس، في مقالة بعنوان" تجاوز الخطوط الحمراء: ديناميكيات التصعيد في سوريا"، شملت القوة (المؤلفة من حوالي 500 جندي) مقاتلين أفغان تابعين لمليشيا "لواء فاطميون" التى يقودها "حرس الثورة الإسلامية"، وعناصر قبليين محليين عرب تم تجنيدهم مؤخراً للقتال إلى جانب مليشيا "لواء الباقر" بقيادة ضباط إيرانيين، ومقاتلين من "قوات الدفاع الوطني" التابعة لنظام الأسد، إلى جانب القوات المساعدة "صائدو الدواعش" المجهزة من روسيا، والمقاتلين العسكريين الروس الذين يشاركون في الحرب بموجب عقود الخاصين من "مجموعة فاغنر". وقد دمرت القوات الجوية والمدفعية الأمريكية القوة المهاجمة، مما أسفر عن مقتل حوالي مئة شخص، من بينهم ما يقدر بنحو ثلاثين عنصرا من "قوات الدفاع الوطني"، وأربعين سورياً آخرين، وثلاثين مقاتلاً روسياً (يشاركون في الحرب بموجب عقود)، كما دُمّرت حوالي عشرين مركبة، منها تسع دبابات.

لم تكن ضربة جنوب دير الزور الحادثة الأولى في المواجهة الأمريكية الإيرانية في سوريا ولن تكون الأخيرة، لكنها كانت الأعنف. فعلى مدى الشهور الماضية شهدت المواجهة بين أمريكا وإيران في سوريا تصعيدا محدودا ومحسوبا. ففي 18 أيار/ مايو الماضي ضربت المقاتلات الأمريكية رتلا عسكريا للمليشيات الشيعية أثناء تقدمه نحو القاعدة الأمريكية، والتي كانت تهدف إلى تطويق قوات التحالف وعزلها على الأرض. وبعد الحادثة بأيام، قامت القوات الأمريكية بإسقاط طائرة إيرانية مسلحة بدون طيار؛ قالت الولايات المتحدة إنها كانت تهاجم مقاتلين أمريكيين وآخرين من قوات المعارضة في منطقة التنف، وقد برهنت تلك التحركات والحوادث على استعداد "فيلق القدس" لمواجهة نفوذ الولايات المتحدة في سوريا، كما ظهر جليا في 19 حزيران/ يونيو الماضي عندما أعلنت القوات الأمريكية عن إسقاطها طائرة إيرانية بدون طيار بالقرب من قاعدة التنف.

لم تنقطع الرسائل والمواجهات المحدودة بين أمريكا وإيران في سوريا في مناطق أخرى، فقد ظهرت ساحة جديدة للمعركة على طول وادي نهر الفرات. ففي 18 حزيران/ يونيو الماضي، هاجمت طائرة مقاتلة سورية قوات مدعومة من الولايات المتحدة جنوب مدينة الرقة، وهي منطقة تقوم القوات السورية فيها بدعم العمليات العسكرية التي يقودها "فيلق القدس"، الأمر الذي دفع القوات الجوية الأمريكية إلى إسقاط الطائرة، وهو أمر استدعى بعث رسالة إيرانية شديدة، حيث شنت إيران هجمات بالصواريخ الباليستية على أهداف قالت أنها تابعة لتنظيم "الدولة الإسلامية" في الوادي، ومن ضمنه مدينة دير الزور، معللة ذلك بالانتقام من الهجمات التي نفذها التنظيم على طهران، لكن الحقيقة أن الهجمات الصاروخية كانت تستهدف جميع خصومها، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة وحلفاؤها.

خلاصة القول، أن أمريكا تدرك تماما صعوية ومخاطر الدخول في مواجهة شاملة مع إيران، وتعتمد استراتيجيتها على تأسيس حلف عربي إسرائيلي، لكن الجميع يدرك صعوبة تحقيق ذلك، فالدول العربية المقصودة أعجز عن القيام بتلك المغامرة، وإسرائيل لا تحتمل تلك المقامرة، وبهذا سوف تبقى المواجهة في حدود المعارك المحدودة دون أن تبلغ حد المواجهة الشاملة، لكن المؤكد أن إيران خرجت مرة أخرى أكثر قوة وأوسع نفوذا بانتظار مواجهة منتظرة قادمة لا تزال معالمها مجهولة.

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
٨ ديسمبر ٢٠٢٤
لم يكن حلماً بل هدفاً راسخاً .. ثورتنا مستمرة لصون مكتسباتها وبناء سوريا الحرة
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
٦ ديسمبر ٢٠٢٤
حتى لاتضيع مكاسب ثورتنا ... رسالتي إلى أحرار سوريا عامة 
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
١٣ سبتمبر ٢٠٢٤
"إدلب الخضراء"... "ثورة لكل السوريين" بكل أطيافهم لا مشاريع "أحمد زيدان" الإقصائية
ولاء زيدان
● مقالات رأي
٣٠ يوليو ٢٠٢٤
التطبيع التركي مع نظام الأسد وتداعياته على الثورة والشعب السوري 
المحامي عبد الناصر حوشان
● مقالات رأي
١٩ يونيو ٢٠٢٤
دور تمكين المرأة في مواجهة العنف الجنسي في مناطق النزاع: تحديات وحلول
أ. عبد الله العلو 
● مقالات رأي
١٩ يونيو ٢٠٢٤
صمود المرأة ودورها القيادي في مواجهة التحديات
فرح الابراهيم
● مقالات رأي
١٩ يونيو ٢٠٢٤
العنف الجنسي في حالات النزاع: تحديات وآثار وحلول ودور المرأة في هذه الظروف
أحمد غزال