تعيش الغوطة الشرقية اليوم أسوأ أيامها، وحين نقول “أسوأ”، فلمتتبع أخبارها أن يخمن معنى ما تواجهه من إبادة، فالتوصيف الدقيق، لما يجري في الغوطة الشرقية اليوم، لا يمكن لمفردة غير “إبادة” أن تصفه، ولندع جانبًا كل ما كُتب سابقًا عن إمكانية الوصول إلى هذا الواقع، نتيجة حالة التشرذم والاقتتال الداخليين، ولنكتفِ بالحالة الإنسانية هناك، حيث فصول إجرام الأسد والروس تزداد قبحًا وهمجية، وليس من اللائق أمام الكوارث الإنسانية أن تتم مراجعة سلوكيات، ساهمت في إيصال حال المدنيين في الغوطة إلى ما هم عليه اليوم.
نقرأ إحصاءات الشهداء يوميًا، كما نقرأ إحصاءات وأخبارًا أخرى: القتلى، الجرحى، أطفالًا ونساءً، عدد النقاط الطبية التي أصبحت خارج الخدمة، استهداف ممنهج للأفران ومقار الدفاع المدني وغيرها. نتأثر، نُصاب بالحنق، نلعن ونشتم، ثم تتحرر ذاكرتنا هروبًا من عجزنا المطبق، الغوطة الشرقية محاصرة أيضًا! نعم، وهناك أسلحة جديدة أشد فتكًا بدأ الأسد باستخدامها، العملية التعليمية متوقفة بسبب القصف والحصار. فنتوقف دقيقة لنجمع كل هذه الذاكرة؛ فبهذا يمسي المشهد أكثر وضوحًا وأكثر ألمًا.
“الطيران الروسي وطيران الأسد يستهدفان الغوطة الشرقية بعدة صواريخ موجهة، وارتقاء عشرة شهداء وجرح ثلاثين، بينهم عشرة أطفال وثمانية نساء”. انتهى الخبر، ولكن هناك أشياء لم تُذكر، وأشياء لمّا تنتهِ بعد؛ ففي مكان الاستهداف هناك عوائل عانت -وما تزال- الجوع، منذ أشهر عديدة، وهناك أطفال يخجلون من التذمر أو الشكوى لجوع أصابهم، فآبائهم وأمهاتهم -إن وجدوا- عاجزون عن تأمين بضع لقيمات لهم. أليس لهذا السبب خرج رجل من دوما إلى الشارع، بعد أن اكتظت سماؤها بالطائرات الحربية والمروحيات المحملة بالبراميل المتفجرة؟ بلى، لقد خرج إلى الشارع وصاح وبكى مخاطبًا الطيارين: “اقصفوني! لن أتحرك، سأبقى في مكاني كي تكون إصابتكم محققة”. هل قرأتم هذا في الخبر!
عشرات العوائل انحشرت في قبوٍ لا يتسع إلا لرُبعهم، هم يسمعون هدير الصاروخ وانفجاره، وهذا ما لا يُذكر في الخبر. يسمعونه رغم أصوات القصف الأخرى وضجيج مئات الأصوات داخل “القبو”، صادرة عن ملايين الأسباب! فبينهم طفل مصاب وجائع، يُجرون له في “القبو” بعض الإسعافات، فلا يمكن الخروج به تحت أمطار القذائف، وإلى أين سيأخذونه؟ إلى نقطة طبية لم تعد تمتلك حتى “الشاش”! والطبيب الوحيد هناك استشهد في مكان إصابة الطفل ذاته، وليعلن بعد ساعات قليلة: “خروج النقطة الطبية عن الخدمة”، فالطيار الروسي ماهرٌ باستهدافها، نعم، ربط تسلسل الأخبار يغيب عنا، حين نقرأ أخبارًا متفرقة!
يتخلل هذا المشهد أخبار استشهاد فلان وعائلته، والحي الفلاني تجاوزت فيه الإصابات ثلاثمئة شخص. وعلينا أن نعلم أن مَن في “القبو” هم هناك منذ أيام، ولم يستطع أحد الوصول إليهم نتيجة أمطار القذائف، هذا الحال لا يتوقف بين قراءتنا لخبر وزمن قراءتنا لخبر آخر مشابه!
في المكان ذاته الذي استهدفه طيران الأسد والروس في الغوطة الشرقية، علقت عائلة كاملة تحت الأنقاض، ورغم أمطار القذائف يتوجه رجال الدفاع المدني إلى هناك، فيسعفون من هذه العائلة الأم وطفلين، ويبقى البقية تحت الركام، إما ميتون أو أنهم سيموتون خلال دقائق، هي دقائق لقارئ الخبر، أما بالنسبة إليهم، فتحت الركام الدقيقة بألفٍ مما تعدّون، أحد أطفال الأم المُسعفة إصابته خطرة، بل بالغة الخطورة، فقطعة من رأسه ليست في مكانها، كما أن نصف قدمه اليسرى يتأرجح، رغم عدم وجود مفصلٍ في مكان التأرجح، يبكى وينوح، وينزف، وينظر إلى من هم حوله: ماذا تستطيعون عمله لي؟ هذا السؤال لا يظهر في الخبر! كما لا يظهر فيه طلب الأم المُسعفة من أحد المسعفين أن يقتل طفلها، فآلامه أصعب عليها من موته!
هناك أشياء لم تُذكر، وأشياء لمّا تنتهِ بعد حتى في هذا المقال، ليس ضعفًا في إمكانية التوصيف، بل لأنها خارج إمكانيته، هي أشياء لا توصَّف، هي أشياء لا مفردات لها في اللغة، لأنها لم تحدث من قبل.
إطلاق موسكو مفاوضات الهدنة حول الغوطة الشرقية في مجلس الأمن، تسليح واشنطن لقوات سورية الديموقراطية وقصفها لما يقل عن مئة من المرتزقة الروس في الشرق السوري، وثم موافقتها على بيع أسلحة متطورة لأوكرانيا كلها مؤشرات على عودة الحرب الباردة إنما بعيار أقوى بين أميركا وروسيا.
وإذا كانت الحرب الباردة التي انتهت في ١٩٩١ أحاطها تنافس أيديولوجي وفكري حول نهج الحكم بين الليبرالية الديموقراطية والعقيدة الشيوعية، فإن مواجهة اليوم لا ترتقي إلى مستوى التنافس الأيديولوجي وهي في شكلها وأدواتها أشرس وأوسع، وتدور حول تقاسم النفوذ وخوض حروب استخباراتية وعمليات تجسس، وأخرى بالوكالة بأدوات وفرق مختلفة على الأرض.
وهذا الشهر، هناك اسم واحد يلخص هذه المواجهة وهو رجل الأعمال الروسي والأوليغارك المقرب من فلاديمير بوتين يفجيني بريغوزين. بريغوزين ووفق «واشنطن بوست» كان الوسيط بين الكرملين ونظام الأسد في تخطيط هجوم 7 شباط (فبراير) الفاشل ضد قوات سورية الديموقراطية ومعهم جنود أميركيين في شرق سورية، والذي ردت واشنطن عليه بالدفاع عن قواتها وإسقاط مئتي ضحية وفق رويترز من شركة «فاغنر» الروسية التي يشرف عليها بريغوزين.
مخطط بريغوزين في شرق الفرات لضرب الوجود الأميركي تم تنسيقه مع وزير الشؤون الرئاسية السوري منصور فضل الله عزام، وفيه بحسب تقارير استخباراتية على الأرجح أميركية تجسست على اتصالاته وعد الأوليغارك الروسي نظام الأسد بـ «بمفاجأة جيدة بين 6 و9 شباط (فبراير)» وأكد له عزام أنه «سيحصل على مستحقاته». المفاجأة انهارت أمام الطائرات الأميركية، ووجد بريغوزين نفسه بعد الاعتداء منزوع الغطاء من الكرملين الذي أبقى مسافة من الاعتداء، وأكد فقط مقتل خمسة أشخاص.
إلا أن اسم بريغوزين تكرر مرة أخرى في التحقيق في تدخل روسيا وإدانته من المحقق الأميركي الخاص روبرت مولر الأسبوع الفائت، بتمويل والإشراف على حملة دعائية روسية داخل الولايات المتحدة روجت لدونالد ترامب وبيرني ساندرز وجيل ستاين وهاجمت هيلاري كلينتون. وما من شك أن الكرملين سينفي وقد يستخدم بريغوزين ككبش محرقة، إلا أن دوره يعكس حجم المواجهة وتعدد أدواتها بين الطرفين.
روسيا تحاول منافسة واشنطن في عقود النفط والغاز من جزيرة القرم وإلى الدول الخليجية وحتى تركيا، وحديثاً في لبنان حيث استحوذت شركة نوفاتيك على أحد العقود الثلاثة للتنقيب عن النفط والغاز. وهي تستخدم الورقة الكردية في سورية للمناورة مع أنقرة بفتح الأجواء حيناً والتشدد حيناً آخر.
هذه الرقصة الروسية تقلق الأميركيين خصوصا النخبة الاستخباراتية والخارجية والدفاعية. فعمليات القرصنة والتدخل في انتخابات 2016 كانت بحجم غير مسبوق من موسكو في الولايات المتحدة، كذلك محاولاتها أثارة الانقسام بين أميركا وحلفائها بينهم تركيا، ومواجهة الوجود الأميركي العسكري مباشرة في سورية. وفي حين كان الرد الأميركي دفاعياً حازماً وقاسياً، فإن الرد السياسي والاستخباراتي أصعب.
وحاول وزير الخارجية ريكس تيلرسون في زيارته طمأنة أنقرة والبحث بحلول تستجيب لمطالب الجانبين، وفي بيروت الدخول على مفاوضات النفط والغاز وإيجاد حل مع إسرائيل حول «البلوك9».
ما هو مؤكد أن الاشتباكات الروسية - الأميركية لم تعد تحت الطاولة، والمواجهة دخلت مرحلة شرسة ومفتوحة في عدة ملفات وتطال علاقات جيواستراتيجية للطرفين. وفي حين تجاهلت الإدارة الأميركية المتعاقبة منذ سقوط الاتحاد السوفياتي، الخطر الروسي ورفضت التعامل مع بوتين بداية كتهديد استراتيجي، لا تمتلك إدارة دونالد ترامب سوى خيار المواجهة الذكية. وهي رغم العلاقة التجارية التي كانت لترامب مع الروس، ستنصاع لرأي المؤسسات الاستخباراتية والدفاعية، والتي ترى وتقدم أدلة للرئيس حول الإندفاعة الروسية الساخنة من شرق الفرات والى جزيرة القرم وحتى باستهداف الماكينات الانتخابية الأميركية.
وحشية النظام السوري وداعميه الروسي والإيراني، ومن يدور في فلكهم، ليست أمراً جديداً، ونحن نراها اليوم واقعاً، مرة أخرى في الغوطة الشرقية في ريف دمشق، والتي تتعرّض لقصف همجي قتل وجرح مئات من أبنائها، وذلك بعد حصار لئيم استمر سنواتٍ عجاف. أيضاً، ليس النفاق الدولي في سورية أمراً جديداً منذ انطلقت ثورة شعبها عام 2011، لا لشيء إلا كي يحيا حراً كريماً، فكانت النتيجة أن سُحق بالطائرات والصواريخ والمدفعيات، بل حتى بالغاز السام، في حين يكتفي العالم بالتنديد بـ"جرائم ضد الإنسانية" من دون فعل حقيقي لوقفها. وإذا ما أخذنا بالتجارب السابقة التي خبرها الشعب السوري في السنوات السبع الأخيرة، فإن موجة التنديد الدولية، وفي مقدمتها الأميركية والغربية، بما يجري للغوطة الشرقية وقاطنيها الثلاثمائة وخمسين ألف نسمة، لن تفضي إلى وقفها، بقدر ما أنه سيتم الالتفاف عليها، عبر اتفاقات غبن تقوم على إخراج المعارضة المسلحة منها، وإجلاء نسبةٍ كبيرةٍ من سكانها، تماماً كما جرى في حلب أواخر عام 2016، وكما يتم الإعداد له في إدلب اليوم. هذا هو حصاد الوحشية والنفاق الغربي والروسي والإيراني، دع العربيَّ جانباً الآن. فما العرب إلا بيدق يتبعون قوى كبرى أخرى توجه بوصلتهم.
المفارقة أن نفاق الغرب، وفي مقدمته الولايات المتحدة، وروسيا وإيران، يتجاوز الممارسة إلى المزاودة على بعضهم بعضاً، أيهم أكثر نفاقاً وكذباً، بل وقل إجراماً. إلى اليوم، لم نسمع موقفاً أميركياً أو غربياً حازماً، ولو من باب ذرِّ الرماد في العيون، مما يجري من مذابح في الغوطة الشرقية. الولايات المتحدة مشغولة بتثبيت نفوذها عند حقول النفط والغاز السورية في ديرالزور والرقة والحسكة. وهي، قبل أسابيع قليلة، قصفت قوات موالية لبشار الأسد، كان فيها مرتزقة روس، تقدموا نحو دير الزور، وهاجمت، كما قالت واشنطن، حلفاءها في قيادة قوات سورية الديمقراطية التي يسيطر عليها الأكراد. النكتة الأكثر سماجةً أن يتهم وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، قبل أيام قليلة، الولايات المتحدة بأنها قوة احتلال في سورية، في حين يدافع عن وجود قوات بلاده، وطبعاً القوات الروسية في سورية، على أساس أن النظام السوري "الشرعي" هو من استدعاها! أي نفاق هذا! هو لم يستدعها لدفع عدوانٍ أجنبيٍّ على سورية، وإنما لإعانة نظامه الهمجي على قتل شعبه الذي ثار عليه.
قبل أيام من تصريحات ظريف، طالب وزير الخارجية الأميركي، ريكس تيلرسون، من عمّان، إيران بسحب جنودها والمليشيات التي تدعمها من الأراضي السورية. وفي سبتمبر/ أيلول 2016 اتهمت الولايات المتحدة روسيا بأنها تقوم بأعمال "وحشية" في سورية، وبأنها تحتمي وراء حق النقض الذي تمتلكه في مجلس الأمن الدولي، وكأن الولايات المتحدة لا تفعل الأمر نفسه، وما غزوها العراق وتدميره إلا نقطة صغيرة في بحر سوء أفعالها. ولكن لعبة الباب الدَّوارِ لا تتوقف عند حدٍّ، فروسيا تعرف أيضاً كيف ترد. ها هو وزير خارجيتها، سيرغي لافروف، يحذّر قبل أيام أميركا من اللعب بالنار، ويتهمها بمحاولة تقسيم سورية، عبر دعمها المقاتلين الأكراد في الشمال. المفارقة الثانية، في هذا السياق، أن يدعو لافروف واشنطن إلى الالتزام باتفاق خفض التصعيد جنوبي سورية. وحسب تعريفه، فإن الالتزام بالاتفاق يكون بتسليم الجنوب لقوات النظام. يبدو أن هذا هو تماماً الفهم الذي يحرّك روسيا وإيران ونظام الأسد في الغوطة الشرقية.
لقد تحولت سورية إلى كعكةٍ تتنافس الأيادي على تقاسمها، والظفر بأحسن ما فيها. أيضاً، تحولت سورية إلى ساحة حرب إقليمية ودولية، وهي كذلك ساحة حرب بالوكالة. لم يعد القرار قرار النظام، ولا هو قرار المعارضة. كلهم مرتهنون لمصالح وأجندات خارجية. سورية اليوم ممزقة إلى مناطق نفوذٍ روسية وأميركية وإيرانية وتركية وإسرائيلية. وحدهم السوريون أصبحوا غرباء في وطنهم. إنها لعبة شطرنج، إقليمية ودولية، على الجثة السورية، يكسب الكل فيها شيئاً إلا أبناؤها وأهلها. هذا ما جناه نظام الأسد على سورية والسوريين.
كنت أتمنّى أن أختم هذه المقالة برسالة أمل، بالحديث عن ضوء في نهاية النفق، لكن الوقائع تكذب ذلك. لقد انتهى الحال بكثيرين منَّا أن يفرح حين تضرب إسرائيل قوات النظام أو إيران أو مليشياتهما في سورية. ويفرح آخرون حين تُسقط دفاعات النظام الجوية طائرة إسرائيلية معتدية، دمرت بعض قواعد النظام وإيران التي تمارس القتل في حق السوريين. وطرف ثالث يؤيد دخول تركيا إلى الشمال السوري، ورابع يفرح بأي خسائر تلحق بها هناك. وخامس يتمنى صراعاً أميركياً - روسياً على الأرض السورية. وهكذا دواليك. ولكن، ومن أسفٍ، ما عاد أحد يتحدّث عن انتصار إرادة الشعب السوري، أو حتى عن إحلال السلام في سورية، فذلك أمرٌ مؤجل، ولا يعلم متى يأتي إلا رَبُّ العزة جَلَّ وعلا.
لا يسعك وأنت ترى بعض المعارضات وبعض الشعوب العربية المنكوبة وهي تستنجد بالقوى الكبرى لإنقاذها من طواغيتها السفاحين، لا يسعك إلا أن تضحك عليها بملء شدقيك، وأن تسخر من سذاجتها وأميتها السياسية الصارخة. ما أسخف الذين يستصرخون الضمير الأمريكي أو الأوروبي لحمايتهم من الذبح والتهجير والقتل في سوريا أو العراق أو اليمن أو ليبيا أو أي مكان عربي آخر منكوب بالظلم والطغيان والتخريب والتدمير. كم هم مغفلون أولئك المعارضون السوريون مثلا الذي يتقاطرون على أمريكا وإسرائيل لمساعدتهم في إسقاط النظام السوري، أو على الأقل إصلاحه أو قف همجيته ووحشيته بحق شعب أعزل.
ذات يوم قبل الثورة السورية، زار أحد المعارضين السوريين واشنطن والتقى بالعديد من القيادات السياسية والأمنية طالبا منها مساعدة الشعب السوري والمعارضة في تحقيق الديمقراطية في سوريا وإنهاء نظام البطش والقتل هناك، فسأله أحد المسؤولين الأمريكيين: "وماذا يمكن أن تقدموا لنا إذا ساعدناكم في سوريا"، فقال المعارض: "نحن ليس لدينا شيء نقدمه لكم، لكننا طامعون بكرمكم كونكم الديمقراطية الأولى في العالم"، فرد المسؤول الأمريكي بسخرية فاقعة: "هل تعلم أن النظام في دمشق مستعد أن يعطينا أكثر مما نطلب منه أضعافا مضاعفة، فإذا طلبنا منه مثلا أن يحقق لنا أربعين بالمائة من طلب ما، فنتفاجأ في اليوم التالي أنه حقق لنا مائة وأربعين بالمائة، فكيف تريد منا أن نساعدكم ببلاش؟"
كم أنتم مغفلون، تقدمون خدمة جليلة للنظام ليتهمكم بالعمالة لتل أبيب، وتجعلونه يبدو وطنيا، بينما هو في الواقع ذخر استراتيجي لإسرائيل، أما أنتم مجرد ألاعيب صغيرة في أيدي الإسرائيليين، لا يمكن أن تفضلكم إسرائيل على النظام مهما تقربتم منها
من السخف الشديد أن تطلب من الكفيل الغربي أن يعاقب الوكيل العربي العميل. كيف تطلب من الغرب أن يساعدك على القضاء على وكلائه وأدواته ومرتزقته وكلاب صيده في بلادنا؟ وهل وصل هؤلاء الطغاة الذين ينهبون بلادنا ويسومون شعوبنا سوء العذاب إلى السلطة بأنفسهم، أم إنهم وصلوا بدعم غربي وأمريكي لا يخفى على أحد؟ وهل يمكن لأمريكا وإسرائيل أن ترضيا عن نظام لا يحقق لهما ما تريدان؟ ألم نر ماذا فعلت أمريكا بأي زعيم لا ينصاع لإملاءاتها؟ ألم تروا ماذا فعلوا بصدام حسين لأنه حاد عن الخط المرسوم له؟ ألم يكن إعدام صدام درسا لكل الوكلاء العرب بأن لا يفكروا أبدا في التمرد على سيدهم الأمريكي؟ وكما ترون فإن العقاب الغربي لعملائه العرب ليس واحدا، فإذا كان التمرد قويا، فلا يكتفي السيد الأمريكي إلا بإعدام المتمرد كما فعلوا بصدام، وإذا كان التمرد بسيطا، فيمكن أن لا يعدموا المتمرد، لكنهم يؤدبونه بطريقة بشعة، مع الاحتفاظ به في السلطة طبعا، لأنه يبقى كلبهم في نهاية النهار، حتى لو لعب بذيله قليلا؛ النظام السوري مثالا.
باختصار شديد، دعونا نكون واقعيين، فتغيير الأوضاع في بلادنا والانتقال من عهد إلى عهد ليس بيد الشعوب، حتى لو ثارت وقدمت ملايين الشهداء، وتشردت بالملايين، وخسرت أوطانها، كما هو الحال في سوريا وبقية البلدان التي ثارت على طغاتها. هل قدم شعب تضحيات كما قدم السوريون؟ لا أعتقد، مع ذلك لم يحققوا أهدافهم، لأن السيد الأمريكي لم يسمح لهم بتغيير النظام الذي سلطه الغرب على السوريين، وكذلك الأمر في بقية البلدان. الكارثة السورية كانت درسا لكل الشعوب التي تفكر بتغيير حكامها وأنظمتها رغما عن الغرب.
كم تشعر برغبة شديدة بالضحك عندما ترى بعض المعارضين السوريين يتقاطرون على إسرائيل كي يغيضوا النظام السوري. لقد قلناها مرات ومرات ونكررها: على المعارضين السوريين الذين يتقربون من إسرائيل نكاية بالنظام أن يعلموا أن النظام يبقى أقرب إلى قلب إسرائيل ومصالحها منكم بمئات المرات. كم أنتم مغفلون. تقدمون خدمة جليلة للنظام ليتهمكم بالعمالة لتل أبيب، وتجعلونه يبدو وطنيا، بينما هو في الواقع ذخر استراتيجي لإسرائيل، أما أنتم مجرد ألاعيب صغيرة في أيدي الإسرائيليين، لا يمكن أن تفضلكم إسرائيل على النظام مهما تقربتم منها. فقط انظروا ماذا فعل الأسد بسوريا خدمة لإسرائيل.
هل يخشى الغرب من الإسلام الوحشي المتطرف الذي تمثله داعش وأخواتها المارقة فعلا؟ لو كان يخشاها، ويريد القضاء عليها لسمح لشعوب المنطقة أن تخرج من تحت ربقة الاستبداد والديكتاتورية والطغيان الذي يغذي داعش ومثيلاتها ليل نهار، ولما دعم الطغاة الذين يحكموننا ويتسببون في ظهور هذه التنظيمات الإرهابية الوحشية. لكن يبدو أن الغرب يستثمر في الديكتاتورية والتطرف لاستنزاف هذه المنطقة وإبقائها تحت التخلف والخراب؟
باختصار شديد: لا تستنجدوا بصاحب المزرعة على كلاب حراسته. لا أحد يربي كلبا كي يقتله.
ذات سلام، عندما كانت للإنسانية أجنحة ملائكية بيضاء، والأنظمة تمارس دور الأمهات الرحيمات وبتنطّع واضح في الخوف على سلامة أطفالنا ونسلنا من الخطأ والنسيان، كانوا يكتبون على الطرف الأسفل من عبوات الأدوية تحذيرا رقيقا: "يحفظ بعيدا عن متناول الأطفال".. وعندما دارت رحى الحروب، ونبت للسوخوي قرون الشيطان.. صارت براميل الموت العائلية "ليست بعيدة عن متناول الأطفال" وتأخذ جرعة واحدة..
ما أبشع الموت عندما يداهم الطفولة الغافية، عندما يغتال الرسومات على "بيجاماتهم" فتموت الدببة والزرافات والعصافير فوق قلوبهم الطرية، ما أبشع الموت عندما يطوّق الدم القاني أعناقهم، ويسيل النزيف كآخر رضعات الحليب من زوايا أفواههم، ما أبشع الموت عندما يغتال الغزالة الماشية بين عشب أهدابهم، ويبعثر ريش أعمارهم، فيموتون دفعة واحدة كما كانوا ينامون دفعة واحدة أيام الشتاء الطويلة.
لمن يزهر شجر الغوطة هذا الربيع؟ لمن يرعى "براعمه"؟ لمن تزدهي كروم العنب، لمن تبوح بحصرم الألم وفي قلبها عناقيد "عتب"؟؟.. لمن وعيون الأطفال الموتى نصف مفتوحة على الحياة ونصف مفتوحة على الغضب!
ما أبشع الموت عندما يغمر الشعر الذهبي الخفيف غبار الإسمنت وطحين الجدار، والسقف الذي رسموا عليه بأصابعهم قبيل النعاس غيمة وكوخا وزهرة وقطعة حلوى، صار لحاف الموت الثقيل الذي جثى على صدورهم لحظة التفجير، ما أبشع الموت عندما يداهم من لم يحسنوا تهجئة الحياة بعد، من لم يشتمّوا رائحة زهر الليمون أول الربيع، ولم يقطفوا "نوّارة" اللوز البيضاء، ولم يفاوضوا "زهرة" الكرز بغرّة طفلة.. ما أبشع أن تعدَ الأم الصغار: "من ينام باكرا سأعطيه في الصباح التالي لوحا من الحلوى"، فيتسابقون إلى النوم لكنهم لا يستيقظون أبدا.. ما أبشع الموت لأنه موت وحسب!
هذا الربيع ستفتقد الغوطة الزائرين، ستفتقد حلقات المتنزّهين، بعدما اصطفت الجثث سطورا بيضاء في دفتر الموت الأسود، وسيفتقد الشجر أصوات العائلات وضحكات الأطفال، وثرثرات "الأرجيلة"، وغفوة العصرية، و"بلايز" المصطافين المربوطة على خصرها.. ستلوّح للريح مودّعة كل الذين اتكؤوا على سيقانها، وكل الذين افترشوا تحتها وعلقوا أحلامهم وكلامهم على أغصانها الصامتة، وستنعى أسرّة الأطفال التي اهتزت تحتها وداعبت بظل أوراقها الجفون النائمة.
هذا الربيع موجع، موحش، وغريب.. للخوخ شكل الرصاص، وللمشمش الحموي طعم الدمع المالح، وللوز رائحة "اليود".. لا حلاوة في عروق الغوطة كلها، لقد أنهكها الحزن على "نوارها" الذي قطفته ريح السياسة وأصابع السلطة، وصرصر الصراعات الدولية..
لمن يزهر شجر الغوطة هذا الربيع؟ لمن يرعى "براعمه"؟ لمن تزدهي كروم العنب، لمن تبوح بحصرم الألم وفي قلبها عناقيد "عتب"؟؟.. لمن وعيون الأطفال الموتى نصف مفتوحة على الحياة ونصف مفتوحة على الغضب!.. لا شيء يستدعي الحياة.. فالسيقان بترت.. والأغصان كسرت.. والدراق الموسمي سقط أرضاَ.. عندما سمع أنين الأطفال.. كل الأشجار جعفر، كل الأطفال جعفر، فمن يحمل الراية من بعد "جعفر"، فزيد تحت ردم البيت، وعبد الله في ذمة الله، وخالد في "المهجر"!!! من يحمل الراية من بعد جعفر؟!
في الغوطة، التقط أحد الناجين صورة لقدم طفل قد قضى في الركام، قدمه هي الطالعة من الأرض المسوّاة، وكأنها بذرة كمثرى تطل من جديد، الجسد تحت الردم، والقدم إلى أعلى، ما أجملها من رسالة كتبت بالمقلوب، وكأن الطفل بموته يقول قدمي أعلى من رؤوسكم جميعا، ستمطر الدنيا وستكبر قدمي، وستطول وتطول لتطأكم جميعا، هي معراجي نحو الوطن وهي معراجي نحو الحرية.. أنا الغارق في الموت الصاعد برجلي إلى الحياة، هذه أولى رسائلي إليكم، فانتبه يا سامعي:
إذا ما هبت الريح وماج الجذع طويلا، تأكّد هذا تململي، فشجر الحور كعبي والأغصان أصابعي..
بعد سبعة أعوام من تجاهل عالمي، ملحوظ ومتزايد، لما يرتكب في بلادنا (سورية) من جرائم روسية/ إيرانية/ أسدية ضد شعبنا، لم تخرج معظم ردود فعلنا إلى اليوم عن الميل إلى تحميل الآخرين المسؤولية عما يجري لنا، وغمرهم بالشتائم. لم تكن هذه السنوات السبع كافيةً لأن نفكر بأن علينا نحن أنفسنا مسؤولية ما عن الذي وصلنا إليه.
إذا كان العالم لا يريد مساعدتنا، أو تفهم قضيتنا العادلة، ألا نريد نحن مساعدة أنفسنا والانتصار لقضيتنا، أم أن دورنا يجب أن يقتصر على شتم الآخرين، والامتناع، في الوقت نفسه، عن القيام بواجبنا تجاه شعبنا، المرشح جديا للإبادة، فلا يكون موقفنا هو الوجه الآخر لموقف العالم منا، ونتوقف عن شتمه، لأنه لا ينصفنا، ونبدأ بما علينا فعله لإنقاذ أنفسنا من محنةٍ أصبح من المسلم به عموما أن ما اعتمدناه إلى اليوم من سياساتٍ ومواقف لن يخرجنا منها.
من المفهوم أن يتسلل اليأس إلى نفوسنا، بسبب موقف العالم منا، لكنه ليس مفهوما أن نسهم بتقصيرنا في تعميق يأسنا، وتحويله إلى إحباط يسبق عادة الهزيمة، وما يصحبها من تحول الصراع ضد النظام إلى صراعاتٍ تدميرية في صفوف شعبنا، تمعن في تمزيقه أكثر مما هو ممزق، وتغرقه في حالٍ من التخبط، لطالما قادت الثورات إلى الفشل.
بدل الشكوى الدائمة من ظلم العالم وانحيازه إلى موتنا، أليس من واجبنا أخذ هذه الحقيقة بعين الاعتبار في حساباتنا، لمواجهتها في إطار خطط مدروسة نبلورها ونطبقها أخيرا لترميم أوضاعنا وإصلاحها، ليس فقط بسبب دورها الذي لا يجوز أن نستهين به، بالنسبة لابتعاد العالم عنا، وإنما أيضا، وقبل كل شيء، لأن صمودنا اليوم وانتصارنا غدا رهنٌ بمبارحة واقعنا المريض، وإصلاح مواقف الدول منا، وإقناعها بأن مصالحها لن تكون محفوظةً عندنا، إلا بقدر ما تكون حقوقنا مصونةً عندها، وأننا طرفٌ مقرّر في الصراع، سيحدد أيضا من سيفوز أو سيهزم، ومن مصلحتها تبديل مواقفها من النظام، إذا كانت تريد حقا حصة من الفوز.
بعد ستة أعوام من إدانة مواقف العالم، حان الوقت كي ندير ظهرنا لهذا النهج العبثي، ونلتفت إلى ما أهملناه دوما: وضعنا نحن، وضع قوانا السياسية والعسكرية، ووضع شعبنا في الداخل والخارج، ونمط ما اتخذناه من مواقف، وبلورناه من رؤى وبرامج، لمواجهة ما مررنا ونمر به من تحديات، ووضع ممارساتنا والأساليب التي استخدمناها في معركتنا الشاقة، من أجل حريتنا، وما قمنا به من تدابير، كي لا يتقدم أعداؤنا علينا، ونجد أنفسنا محكومين بردود فعل تترك لهم المبادرة والخطوات الاستباقية، وتجبرنا على انتهاج سياساتٍ لا يمكن أن يحترمها أحد، قليلةٍ أو عديمة الترابط، لحاقية وجزئية، وتفتقر إلى الواقعية والانسجام، مثلما كانت سياساتنا خلال نيفٍ وستة أعوام، لم نتعلم خلالها الكثير.
إذا كانت الدول تتخذ موقفا ظالما منا، هل هذا سببٌ كافٍ لأن نتخذ، نحن أيضا، الموقف نفسه من أنفسنا وثورتنا، ونظل أسرى علاقات مركزها الآخر وليس نحن، على الرغم من أننا نحن أصحاب قضيتنا، وليس هو أو أي أحد سوانا.
منذ سبعة أعوام، ونحن نندب حظنا، وندين ظلم العالم وتجاهله لنا. أما حان الوقت، كي نخرج من هذا المرض الذي جعل منا ندّابين بكائين، لا خير فيهم لقضيتهم وشعبهم الذي يتعرّض على أيديهم لأفدح ظلمٍ وتجاهلٍ ينزل بهما.
ضع مقالات منحازة إلى ضحايا الهمجية في الغوطة ينشرها عدد متضائل من الصحف الغربية، هي كل ما تبقى من شعارات أرادت لنفسها أن تكون عالمية. يقول لنا الأطفال المقطّعة أطرافهم والقابعة جثثهم تحت الجدران المنهارة عليهم بفعل قذائف التحالف الروسي - الإيراني - الأسدي، إن العالم ليس «قرية صغيرة» وأن قيماً مثل حقوق الإنسان وأولوية الحياة البشرية، ليست كونية بل محصورة ويخضع إشهارها أو طيها إلى الاستنساب والتمييز وآليات السوق السياسية.
التأمل في الأرقام والصور الآتية من الغوطة في هدوء المكاتب، يرفع حاجزاً عالياً بين حقيقة ما يجري في الواقع وبين القدرة على التأثير فيه. لقد بلغ العالم من الانقسام حداً لم يعد معه من الممكن الانتقال من حيز التضامن العاطفي مع قتلى الغوطة وسراقب (قبلهم بأسابيع) أو حلب أو أي مدينة سورية منكوبة، إلى حيز التغيير الملموس والسعي إلى وقف المذبحة الشاملة الجارية بموافقة العالم، الضمنية أو العلنية لا فرق. لم يعد ذاك الانتقال ممكناً من دون إعادة نظر بكل المقولات التي اعتُبرت مسلمات أو بداهات منذ نهاية الحرب العالمية الثانية والتي حاول كتّاب على مدى التسعينات إقناعنا أنها انقلبت إلى حقائق كونية.
أعادت أزمات الغرب وسياساته تظهير ضحالة الديموقراطية الليبرالية عندما تواجه اختبارات قاسية. تراجعت الحكومات الغربية إلى قلاعها الحصينة وأغلقت أبوابها أمام موجات اللاجئين واكتفت بشن غارات على من اعتبرتهم إرهابيين في الموصل والرقة. رفضت هذه الحكومات مواجهة الهمجية العالمية التي ساهمت في إطلاقها وامتنعت عن رؤية خطر المشاريع الإمبراطورية المنبعثة من موسكو وطهران، خطرها على كامل منظومة الحداثة الغربية التي بلغت أزمتها مستوى جعل من شخص مثل دونالد ترامب وأفراد عائلته، على رأس أقوى دولة في العالم. هذه الأزمة تسبق تغول فلاديمير بوتين على سورية وعلي خامنئي على أهالي حلب والغوطة، وتعلن انهيار البناء المقام من أوراق اللعب بمجرد أن ظهر من يملك العزم الكافي على إسقاطه.
وقعت الكارثة السورية بالضبط في الهوة الفاصلة بين عالمين. بين عالم الحداثة والديموقراطية التي زال الطلاء عن وجهها وبانت كواجهة للحصرية الغربية ولتمييز عميق لم تنجُ منه إلا حكومات تعد على أصابع اليد الواحدة، وبين عالم الهمجية الفالتة من أي عقاب والتمدد الإمبراطوري والحسابات الجيوسياسية والتطهير الطائفي الذي لم يعد يخجل من الظهور بكل عريه وبشاعته.
ليس هذا الكلام لتغطية المأساة الملموسة بكلام مجرد ومتعالٍ. فلا شيء سيغسل عار البشرية التي ضجرت من قدرة الضحايا على هذا الموت الكثير ومن العناد في رفض «العودة إلى حضن الوطن» - المقبرة. لكن البشرية اعتادت على العيش مع العار بل أدمنت عليه، وليس أيضاً لتحذير من غضب وثأر مقبلين قد يخرجان من بين صفوف ضحايا اليوم ومن تحت أنقاض بيوتهم ومدارسهم. بل للقول إن الحروب السورية هي حصة المشرق العربي من انهيار صورة للعالم جرى الترويج لها كطوبى قابلة للتحقيق في أحضان التعدُّد والديموقراطية وحكم القانون والعدالة، طوبى تستطيع فيها الأمم المتحدة أن توقف العدوان وأن تمنع الحروب وأن تنقذ الضعفاء.
الديموقراطية الليبرالية التي نعاها كتاب وباحثون مرات عدة، أخفقت في كل اختبار يتعلق بتلازم الشعار مع الفعل في كل مرة لم تكن المصالح المادية المباشرة على المحك. وسورية ليست استثناء في هذا الإخفاق. حصة سورية من هذا الإخفاق لم تكن غير مجزرة مجنونة بأيدي قتلة باردي الدماء.
فجأة يُعلن عن ظهور محور المقاومة، بعد أن كان افتراضياً، وأصبح هناك من يركض، لكي ينخرط فيه. لقد جرى اعتبار إسقاط الدفاعات الجوية السورية طائرة صهيونية بداية هجوم محور المقاومة المشكّل من إيران وأدواتها، وحزب الله، وحركة النجباء العراقية، والنظام السوري. محور يروّج بدء الحرب ضد الدولة الصهيونية (بدل أن أقول لتحرير فلسطين).
تحققت هذه النقلة "المعنوية"، والإعلامية، بعد أن جرى التعامل خلال الأشهر الماضية على أن النظام السوري المدعوم إيرانياً، ومن حزب الله قد انتصر (بتجاهل الدور المحوري لروسيا). وأنه يجب أن يجري الالتفاف حوله لإكمال الانتصار. ثم جاء إسقاط الطائرة الصهيونية ليفرض إعلان نشوء هذا المحور، وانطلاقاً من أن هذا الحدث هو البداية في المواجهة. ولا شك في أن إعلام "المقاومة" هلَّل، ولا زال يهلِّل، فرحاً لـ "التطورات الكبيرة" التي توضِّح انتصار المحور هذا.
أولاً، لا زال الانتصار بعيداً، وأظن أنه لن يتحقق، حيث إن الأمور أعقد من أن تُحسم، سواء نتيجة التدخلات الإقليمية والدولية المتعددة، أو نتيجة عجز النظام عن أن يعيد بناء الدولة، حتى وإنْ حسم الأمر عسكرياً، بقوى روسيا وإيران وحزب الله، وأشتات المرتزقة الآخرين من أفغانستان وباكستان.
وثانياً، يجري تجاهل روسيا التي هي وحدها فرضت تغيير ميزان القوى، على الرغم من أنه ليس بالضرورة أن تحقق الانتصار. وتتمثل المسألة هنا في أن روسيا هي التي باتت مهيمنة، وتملك القرار السياسي والعسكري. وهي في تناقض مع أوهام محور "المقاومة"، حيث تعتبر الدولة الصهيونية حليفاً، ولقد أعلنت أنه في حال أي اعتداء إيراني سوف يدافع عن الدولة الصهيونية ليس أميركا فقط، بل روسيا كذلك.
والصراع على الاستحواذ على سورية في تصاعد بين إيران وروسيا. فقد فرضت روسيا اتفاقات جعلتها تسيطر على النفط والغاز، ثم الآن على إعادة الإعمار.
كيف سيتصرف "محور المقاومة" في هذه الوضعية، التي جعلت روسيا تسمح للطيران الصهيوني أن يستهدف كل مواقع إيران وحزب الله في سورية؟ وكيف سيبدأ الهجوم على الدولة الصهيونية وهو عاجز عن حماية ذاته في سورية، وربما سيكون الأمر ذاته في لبنان؟
إيران هي التي سلَّمت سورية لروسيا حينما هرع قاسم سليماني يطلب الدعم وقواته تنهار. فأتى بالدب الروسي إلى كرمه.
الأمر أعقد من ذلك، فليس من الممكن أن تكون لا إيران ولا النظام، ولا حزب الله الآن، ولا كل القوى التي تلتحق بهذا المحور، في وضعيةٍ تسمح بمواجهة الدولة الصهيونية. إيران تناور فقط، حيث تريد موقعاً متميزاً في المنطقة على حساب العرب. وحزب الله غرق في حروبٍ ضد شعوب المنطقة، ولن يكون قادراً على المواجهة، وهو أصلاً التزم بقرار مجلس الأمن 1701 الذي فرض عليه التخلي عن المقاومة. لهذا بات يطرح بناء "سياسة دفاعية". والنظام السوري هو الآن "هيكل عظمي" بلا أرجل، ولا جيش، ومتحكَّم به من روسيا حليفة الدولة الصهيونية.
مَنْ إذن، سيقاوم؟ هناك مَنْ يتعلق بالأوهام، فيفرح ويزغرد لسقوط طائرة صهيونية، وهو عاجز عن أي فعل، وينتظر من سيقوم بمهمة كبيرة، كمهمة تحرير فلسطين. هذا هو وضع اليسار العربي في غالبيته. اليسار الممانع الذي بات يزحف، لكي يقبِّل عتبات الممانعة في دمشق، من دون أن يلمس أنه يفعل ذلك نتيجة عجزه الذاتي، وفشله الطويل، وهامشيته. لهذا يتعلق بأوهام، ويعزّي نفسه أنه يقف خلف كل من يعممها.
مواجهة الدولة الصهيونية، وتحرير فلسطين، يحتاجان إلى شيء آخر، إلى وضع آخر. يحتاجان إلى نظم تعبّر عن الشعوب، وبالتالي، لا بدّ من إسقاط النظم القائمة، ولا يتوهم أحدٌ أن نظم الممانعة يمكن أن تفعل ذلك. ويحتاجان إلى قوى وأحزاب ليست طائفية، ولا تابعة، وتريد تحقيق مشروع جذري.
على مَنْ يريد تحرير فلسطين أن ينزع من عقله كل الأوهام، لكي يستطيع بناء قوىً قادرة على ذلك.
تتعرّض منطقة الغوطة في ريف دمشق لحرب إبادة بلغ ضحاياها في الأيام الأخيرة مئات القتلى من المدنيين، منهم نسبة كبيرة من النساء والأطفال، وسط صمت دولي وعربي على الجرائم التي ترتكبها روسيا والنظام السوري ضد قرابة 400 ألف محاصَر هناك منذ عام 2013.
باتت الغوطة الشرقية تنتظر مصيرا مشابها لما تعرّضت له حلب الشرقية في نهاية عام 2016، على يد الروس والمليشيات الإيرانية، حيث تم حرث المدينة بالطيران الحربي والقصف المدفعي، وجرى تهجير من بقي على قيد الحياة من المدنيين.
معركة إبادة الغوطة روسية بامتياز. القرار روسي والسلاح روسي، ويساعد في ذلك النظام والمليشيات الايرانية، وقد تم تصنيفها من روسيا والنظام ضمن المنطقة التي أطلقوا عليها اسم "سورية المفيدة" أو "النافعة". وحصل تنافس بين طهران وموسكو عليها، نظرا لأهميتها الاستراتيجية بالنسبة للعاصمة دمشق، ولغناها منطقةً زراعيةً خضراء، ورئةً تتنفس منها العاصمة التي اختنقت بالإسمنت منذ حوالي ثلاثة عقود، بسبب البناء العشوائي جرّاء النزوح من المدن الأخرى.
يعود تصميم روسيا على إسقاط الغوطة عسكريًا، وتفريغها من أهلها وطرد الفصائل المسلحة منها إلى عدة أسباب. أولها العودة الأميركية إلى الملف السوري. وكانت الشرارة من لحظة استقبال وزير الخارجية الأميركي، ريكس تيلرسون، وفد الهيئة العليا للمفاوضات برئاسة نصر الحريري في الرابع عشر من فبراير/ شباط الحالي في العاصمة الأردنية. وكان واضحا أن روسيا لم تتقبل الأمر، بعد أن فشلت في إقناع الهيئة بحضور مؤتمر سوتشي الذي انعقد في نهاية الشهر الماضي، وانتهى إلى فشل ذريع.
والسبب الثاني أن العودة الأميركية إلى الملف السوري باتت تترجم نفسها على الأرض، من خلال السيطرة على كامل منطقة الجزيرة السورية التي تشكل قرابة ثلث الجغرافيا السورية، وهي غنية بالنفط والغاز والقطن والحبوب، وقد تم ذلك من خلال التحالف مع الأكراد الذين شكلت لهم واشنطن "قوات سورية الديمقراطية"، وقامت في الآونة الأخيرة بزيادة عديد هذه القوات بمعدل 50 ألف مقاتل، ورصدت لها موازنة بمقدار 500 مليون دولار، وأسندت لها مهمة حماية الحدود السورية مع العراق وتركيا. وحينما حاولت روسيا إرسال مليشيات تابعة لها إلى حقل نفطي شرق دير الزور، وقضى عليها الطيران الأميركي كليا، وهناك معلومات متداولة عن مصرع 300 روسي.
أما السبب الثالث فهو يعود إلى عملية تقاسم نفوذ على الأرض السورية، بين كل من روسيا والولايات المتحدة وإيران وتركيا وإسرائيل. وفي الوقت الذي يبدو أن منطقة الجزيرة صارت من حصة أميركا، فإن بقية الأطراف لم تحدّد حدودها النهائية، وهناك صراعٌ حتى بين أقرب الحلفاء، كما هو الحال بين موسكو وطهران على الغوطة الشرقية. وحسب أوساط سورية، قد تضطر روسيا للتنازل عن الغوطة لإيران في مقابل تسليم الأخيرة لروسيا بقية المناطق، وخصوصا القواعد العسكرية في طرطوس واللاذقية، وثمنا لسكوت طهران عن التفاهمات الروسية الإسرائيلية في الجنوب.
صراع النفوذ يتم على حساب الدم السوري. السوريون ضحايا نزاعات الأطراف وخلافاتهم، ولا يبدو أن هناك بارقة أمل لتحرك دولي، من أجل تحييد المدنيين على الأقل، وإخراجهم من دوائر حروب المصالح الدولية على الأرض السورية، ولخص وزير خارجية فرنسا، جان إيف لودريان، الموقف بقوله "القادم في سورية أسوأ إذا لم نتحرّك".
يحتاج الأمر إلى تحرك دولي جاد لوقف روسيا التي ترتكب جرائم ضد الإنسانية في سورية، وإلا فإنها ماضية، ولن يردعها سقوط ضحايا مدنيين، فقد جرّبت ذلك في حلب، ولم تتعرّض للمساءلة، ويزيد تصميمها على ارتكاب الجرائم، مع اقتناعها بأن هذا الطريق سوف يقود إلى تركيع الشعب السوري، ليقبل ببشار الأسد رئيساً من جديد.
شهدت الأسابيع القليلة الماضية تصعيداً كبيراً في الصراع بين القوى الدولية والإقليمية المنخرطة في الصراع المحتدم في سورية، منذ سبعة أعوام، أو ما يمكن اعتباره بمثابة حرب عالمية مصغّرة على أراضيها، الأمر الذي ينذر إما بتصعيد عسكري كبير في هذا البلد، أو باحتمال أن يكون ذلك تسخيناً للتمهيد لفرض حلّ ما، وثمة احتمال ثالث مفاده الاستمرار بالاستراتيجية المتبعة، أي الحفاظ على ديمومة الصراع بين الأطراف المعنية.
هكذا سمعنا فجأة عن غارة لطائرات موجّهة (من دون طيار) على مطار حميميم (31/1)، دمرت سبع طائرات عسكرية روسية، ومستودع ذخيرة، من دون أن يعلن طرف محدّد مسؤوليته عن ذلك، بل إن الأمر تكرّر، بعد أيام قليلة، بإسقاط طائرة حربية روسية، في ريف إدلب (3/2)، لكن هذه المرة بواسطة صاروخ محمول مضاد للطائرات، لم يعرف أحد مصدره أو مصدر إطلاقه! لم يتوقّف الوضع عند هذا الحد، بالنسبة لروسيا، إذ قامت طائرة عسكرية أميركية، بدون طيار (11/2)، بتدمير دبابة روسية الصنع، شرق دير الزور، قيل إن طاقمها كان من الروس (المرتزقة) في سورية، أي بنفي اعتبارهم من الجيش الروسي، وذلك في ثاني ضربة دفاعية ضد قوات موالية للحكومة السورية خلال أقل من أسبوع. والمشكلة أن كل ذلك أتى بعد جملة ضربات وجّهت إلى روسيا على خلفية عقدها مؤتمر «سوتشي» (أواخر الشهر الماضي)، إذ تم تحجيم طموحاتها من هذا المؤتمر، الذي تحول إلى مجرد مهرجان، وباتت قراراته مجرد توصيات، سيما مع كشف الغطاء الدولي عنه، والتأكيد أن مسار جنيف التفاوضي والقرار 2254 هما مرجعية الحل السوري.
وفي ما يخصّ حصّة إيران في الصراع الدائر، فقد حاولت قوات ميليشياوية مرتبطة بها شنّ هجوم واسع على مواقع لـ «قوات سورية الديموقراطية»، على الضفة الشرقية لنهر الفرات في ريف دير الزور الشمالي الشرقي (8/2)، إلا أن طائرات قوات التحالف صدّت هذا الهجوم ونتج عنها مصرع ما يزيد عن مئة من أفراد تلك الميليشيات، في حادثة غاية في الأهمية، لم يتم تسليط الأضواء عليها بما يتناسب مع حجمها أو معناها. ويمكن أن نقدّر معنى ذلك، بالنسبة لإيران، على ضوء أن قواتها، الموجودة في سورية، حاولت بعد ذلك بيومين (10/2) الاحتكاك بإسرائيل، من خلال إرسال طائرة موّجّهة من دون طيار، لاختراق أجوائها، إذ جاء ردّها سريعاً وقوياً، ليس فقط بإسقاط تلك الطائرة، وإنما بإرسال ثماني طائرات حربية للإغارة على أهداف عسكرية في سورية عدة، منها مطارين عسكريين (تيفور، قرب تدمر، والمزة، في دمشق)، وثلاث قواعد للدفاعات الجوية، ومواقع عسكرية مهمة في ريفي دمشق ودرعا. وقد نتج عن هذه الغارة إسقاط طائرة إسرائيلية، تعرضت لهجومات صاروخية، في سابقة فريدة من نوعها، من نظام تعود على التعايش مع الغارات من دون أي رد، بدعوى أنه سيرد في المكان والزمان الملائمين، والتي باتت مدعاة للسخرة والتندر. على ذلك من الواضح أن نظام إيران بات يجد نفسه في مكان صعب، بعد تدخّل روسيا العسكري المباشر في الصراع السوري، إذ باتت هي التي تمسك الملف السوري على حسابه، في حين أن الولايات المتحدة باتت تطالب بإخراج القوات الإيرانية وميليشياتها من سورية، وإغلاق «الكرادور» بين طهران ولبنان، مروراً بسورية والعراق، إضافة إلى أن الولايات المتحدة تضيق عليها بالحصار وبمراجعة ملف الاتفاق النووي.
أما عن الحصّة الإسرائيلية في الصراع السوري، فقد دأبت إسرائيل طوال الأعوام السبعة الماضية على إبعاد الصراع المسلح عن حدودها، وهو ما توج أخيراً باتفاقية وقف التصعيد، التي عقدتها الولايات المتحدة مع روسيا وإيران، من فوق مسار «آستانة»، الذي يجمع روسيا وإيران وتركيا؛ هذا أولاً. ثانياً، التوصل إلى تفاهمات ثنائية مع روسيا لاستبعاد أي تواجد لقوات إيرانية أو حليفة لها قرب حدودها، ما يفسر علاقات التنسيق العالية بين الطرفين، والزيارات المتكررة لرئيس حكومتها إلى روسيا للقاء بوتين. ثالثاً، كالعادة فإن إسرائيل لا تكتف بالتأكد من الحفاظ على مصالحها عبر حلفائها، وإنما تقوم بذلك بنفسها، الأمر الذي ترجمته بشن عشرات الغارات على مواقع عسكرية، وسط وجنوب سورية، وضمن ذلك على مواقع لقوات إيرانية ولمليشيات تتبع لها، لا سيما حزب الله، كما على مستودعات وقوافل تسلح، من دون أن تلقى أي رد، باستثناء الرد المحدود والدفاعي مؤخراً. رابعاً، ظلت إسرائيل طوال السنوات الماضية تظهر نوعاً من النأي بالنفس عما يجري، لكنها كانت تؤكد دوما على حصتها في تقرير مستقبل سورية، بما يتلاءم مع رؤيتها لأمنها ومصالحها، أسوة بغيرها، مع تبنيها استراتيجية أخرى تتأسس على عبارة: «دع العرب ينتحرون»، إذ تعتبر أن خراب سورية والمشرق العربي سيعود عليها بالفائدة لعقود.
في شأن تركيا وحصّتها تبدو هذه الدولة في وضع صعب، إذ علاقاتها مع الولايات المتحدة، وهي حليفها الطبيعي، ليست على ما يرام، في حين أن تحالفها الاضطراري، مع روسيا أو إيران، لا يتأسس على تفاهمات ثابتة أو دائمة، إذا استثنينا العلاقات الاقتصادية، فثمة هنا تباين في الأجندة والدور. كما أن تركيا تجد نفسها بعد اتفاقات وقف التصعيد كأنها خاسرة، لذا ربما تعوض عن ذلك في جعل منطقة ادلب بمثابة منطقة نفوذ لها، لكن هنا ثمة مشكلتان، الأولى، جبهة النصرة، المصنفة كمنظمة ارهابية، ومنطقة عفرين حيث يسيطر البي ي دي، الذي تراه امتدادا لحزب ب ك ك الكردي (التركي) الذي تصنفه كمنظمة إرهابية، لذا فهي تشن حربها الخاصة في عفرين، من دون أفق سياسي أو عسكري، في هذه الظروف المضطربة.
في الغضون، يجدر بنا أن نذكر أن احتدام الصراع العسكري جاء بعد احتدام الأجندات السياسية لحل الصراع السوري، فمقابل مؤتمر سوتشي (الروسي) أعلنت الولايات المتحدة منتصف الشهر الماضي استراتيجيتها للحل، ودعمتها بما أسمته «اللاورقة»، التي توافقت عليها مع فرنسا وبريطانيا وألمانيا والأردن والسعودية (ويحتمل أن تنضم دول أخرى إليها)، وقوامها تعزيز التدخل السياسي والديبلوماسي والعسكري في الصراع السوري (للولايات المتحدة ثماني قواعد عسكرية شرق الفرات)، وفرض حل يتأسس على تغيير النظام، بتغيير قواعد اللعبة التفاوضية العقيمة، بصوغ دستور يتأسس على تقليص صلاحيات الرئيس، والفصل بين السلطات، وإقامة نظام برلماني، وتداول السلطة وضمان حقوق المواطنين وإعادة بناء الجيش والأجهزة الأمنتية وإجراء انتخابات، وفقاً لمعايير وضمانات دولية.
الفكرة، ربما، أن التوكيل الروسي انتهى، وأن المهمة الإيرانية في تخريب المشرق العربي انتهت، وأنه آن الأوان لفعل شيء آخر، وهو ما يفترض معرفته في قادم هذه الأيام الساخنة.
من التنبيهات التي أرسلتها روسيا إلى إسرائيل في أعقاب غارات الأخيرة على مواقع قرب دمشق، تأكيدها أن هذا الفعل يضر بما أسمته موسكو تصفية الجيب الإسلامي شرق الغوطة، ما يوضح مخططاً روسياً لإنهاء عملية خفض التصعيد التي رعتها مع تركيا وإيران في أستانة بعد السيطرة على حلب. والواضح أن النية معقودة على إخراج الغوطة الشرقية وشمال حمص وجنوب حماة بالدرجة الأولى من قائمة خفض التصعيد، وهي مناطق ليس لها ظهير إقليمي، ولا طرف دولي ضامن. وبالنسبة لروسيا، تجاوزت الوقائع عملية أستانة، كما أن الأهداف التكتيكية التي جرى من أجلها إبرام اتفاق خفض التصعيد تحققت، وخصوصاً هدف تفريغ جزء كبير من المليشيات للمشاركة في معارك دير الزور، ولم يعد في شمال شرق سورية ما يستدعي بقاء مزيد من القوات، بعد أن تأكدت روسيا، بعد المذبحة التي تعرّضت لها قواتها والمليشيات المشتركة، أن أميركا جادة في حماية مناطقها ومستعدة للذهاب بعيداً، ولا داعي لإعادة اختبارها.
يضاف إلى ما سبق أن روسيا لم تعد معنيةً بالوقوف على خاطر المعارضة، بعد رفض الأخيرة الذهاب إلى مؤتمر سوتشي، وبعد فشل المؤتمر بالأصل، وإدراك روسيا أن هذا الباب أغلق نهائياً، ولم يعد ثمّة أهمية لعملية أستانة برمتها، خصوصاً وأن علاقاتها مع تركيا لن تتأثر، طالما سمحت لأنقرة بدور في إدلب، وبالتحرك تجاه عفرين. وبالتالي، هي لم تعد ملزمة تجاهها في مناطق أخرى. أما منطقة الجنوب فهي خارج اتفاقات أستانة، وتخضع لترتيبات وتفاهمات مشتركة مع الأردن وإسرائيل وأميركا.
غير أن السبب الأهم الذي يدفع روسيا إلى اتخاذ قرار السيطرة على الغوطة الشرقية وأرياف حمص وحماة، التعقيدات الجديدة التي ظهرت على المشهد السوري في الآونة الاخيرة، وما اعتبرته موسكو استهتاراً بنفوذها وهيمنتها على سورية، وخصوصاً بعد إقدام إسرائيل على شن حرب مصغرة، شملت مساحة واسعة من سورية، واستهدفت خلالها أهدافاً استراتيجية، تتبع نظام الأسد والإيرانيين.
وكانت روسيا، قبل ذلك، قد تعرّضت، لجملةٍ من الصفعات المؤلمة، عبر تدمير عدد من طائراتها في قاعدة حميميم، وإسقاط فخر صناعاتها "سو 25" الجوية في ريف إدلب، وثالثة الأثافي مقتل وجرح المئات من المقاتلين الروس، وعلى يد القوات الأميركية في دير الزور، وهو ما وضع مقولة إن روسيا صاحبة الأمر في سورية موضع شك، أو على الأقل عكست هذه الحوادث مدى هشاشة الوضع الروسي في سورية، وبطلان مزاعم الانتصار التي بشر بها الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، نهاية العام الماضي.
تدرك روسيا أن الطريقة التي صنعت بها إنجازها السوري تنطوي على ضعف وهشاشة خطيرتين، وهي ليست سوى توليفةٍ من تفاهماتٍ وتنازلاتٍ لأطراف إقليمية ودولية، وألعاب دهاء ضد قوى المعارضة السورية، المسلحة والسياسية، مع مزيج من أساليب حروب الإبادة وسياسات الأرض المحروقة التي أجرتها تحت ستار إعلامي، يدمج إدعاءات الحرب على الإرهاب ومحاولات إعادة الاستقرار لبلدٍ مزقته الحرب الأهلية، والوعد بتحقيق سلام متوازن، يرضي جميع الأطراف.
لكن، ومن أجل تمرير هذه التوليفة المتناقضة، اضطرت روسيا إلى الانخراط في تفاهماتٍ متناقضة ومتعاكسة، وتبدت هذه المسألة بوضوح في عدم قدرة موسكو على صياغة قواعد اشتباك صريحة وواضحة، جعلت الأطراف المتصارعة تمارس لعبة حافة الهاوية إلى أقصاها، من دون ضابط أو رقيب، وكانت النتيجة أن أغلب الأطراف مارست لعبة ابتزاز روسيا، ووضعت الأولوية لتحقيق مصالحها، ولم تستطع روسيا سوى ابتلاع الإهانات، ومحاولة لعب دور الساعي إلى تحقيق الأمن والاستقرار الإقليميين، والمتفهم لمصالح الجميع والمراعي هواجسهم. وبالطبع، باستثناء العرب الذين لم تهتم روسيا لمصالحهم الأمنية، بدليل أن الغوطة الشرقية وريف حمص كانت مصر ضامنتهما.
وعلى الرغم من كل ما فعلته روسيا، إلا أنها وجدت نفسها في وضعٍ لا يليق بالمكانة التي تتصوّرها عن نفسها، ولا بالوضع الذي تطرح نفسها من خلاله، بصفتها دولةً قابضةً على سورية، ومتحكمة بالتفاعلات في شرق البحر الأبيض المتوسط، والصانعة لتأثيرات ما بعد هذه المنطقة، فلا أحد من الدول المعنية احترم دعوتها إلى مؤتمر سوتشي، ولولا حضور المبعوث الأممي، دي ميستورا، لظهر كما لو أنه مؤتمر بعثي لأعضاء من الدرجة الثانية، كما أن أي طرفٍ لم يحترم خطوطها الحمراء في سورية، هل لروسيا أصلاً خطوط حمراء؟.
إلى ذلك، روسيا بصدد تعديل طريقة إدارتها الحرب السورية، وبما أن قدرتها على ضبط اللاعبين الآخرين منخفضة، وبالكاد تتوّسط بينهم في حال الاختلاف، إيران وإسرائيل، أو تحاول النفخ في النيران، كما في الخلاف الأميركي – التركي، فإن خياراتها في التعديل تبدو منحصرةً في الاستقواء على المعارضة السورية، وستحاول في المرحلة المقبلة إعادة صيانة هيبتها ومكانتها، باستخدام أقصى درجات العنف تجاه المعارضة السورية، وعبر استعادة السيطرة على مناطق جديدة، وتحديداً في الغوطة وأرياف حمص وحماة.
لكن لماذا الاستغراب والحرب في سورية ليست سوى صراع على النفوذ والحصص من جميع الأطراف، وهم جميعاً رحماء فيما بينهم وأشداء على السوريين، ثم إن روسيا لم تفعل شيئاً منذ تدخلها سوى القتل والحرق، وحتى اقتراحها المسمى مناطق خفض التصعيد لم يكن سوى إقامة معازل مرحلية، إلى حين التفرغ لاجتثاثها، وقد حان الوقت.
منذ بدايتها كانت مباحثات أستانة مسارًا معقدًا للغاية. فهي جمعت على طاولتها إيران، التي يتمثل هدفها الرئيسي في الحفاظ على كرسي الأسد وبالتالي الوضع القائم، وروسيا التي تدعم الأسد خشية وقوع سوريا في يد الولايات المتحدة وحرصًا على مصالحها في الشرق الأوسط، وتركيا التي اتبعت أشد السياسيات في مواجهة الأسد منذ سبع سنوات.
ولأن روسيا يهمها من سيحل محل الأسد في المرحلة الانتقالية أكثر من الأسد نفسه، فقد استطاعت تسجيل هدف في مرمى من يلعبون الكرة في جنيف منذ سنوات، وكسبت تركيا في صفها.
أدت محادثات أستانة ومن بعدها قمة سوتشي لصياغة الدستور السوري إلى نتائج أكثر فعالية من كافة الاجتماعات التي عقدتها الولايات المتحدة. أما تركيا فقد نفذت عملية درع الفرات أولًا والآن غصن الزيتون بدعم من روسيا على الرغم من اعتراضات الأسد.
بالتزامن مع زيارة وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون إلى أنقرة كان وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف يوجه رسالة إلى تركيا من خلال الإدلاء بتصريحات انتقد فيها دعم الإدارة الأمريكية لوحدات حماية الشعب.
وقال لافروف: "لم تغير الولايات المتحدة خططها في تكوين قوة أمن حدودية في منطقة الحدود السورية التركية"، في تلميح إلى تركيا كي لا تجلس إلى طاولة المباحثات مع الولايات المتحدة.
ويبدو أن شكوك روسيا بخصوص تركيا ثارت مع زيارة وزير الخارجية الأمريكي لأنقرة. فخطة هذا الأخير تقضي بانسحاب وحدات حماية الشعب من منبج، وبسيطرة القوات التركية والأمريكية معًا علي المدينة.
ولا شك أن مثل هذا الاتفاق دفع موسكو للتفكير بأن تركيا ستتفق مع الولايات المتحدة وتتصرف ضد مصالح الروسية، إلى درجة أن قناة روسيا اليوم نشرت ليلة الاجتماع مع تيلرسون، مزاعم كاذبة من مصادر في وحدات حماية الشعب عن استخدام تركيا أسلحة كيميائية في عفرين.
ونعلم أن روسيا ضغطت على تركيا حتى اللحظة الأخيرة كي تعتبر وحدات حماية الشعب ممثلًا شرعيًّا كي تشارك في الحوار السوري، وأنه لولا تغاضي ودعم روسيا لما تحقق وجود الوحدات في عفرين. كما أن الدعم الصامت الذي يقدمه النظام السوري للوحادت ليس سرًّا.
لكن هناك حقيقة أن الولايات المتحدة وروسيا تتصارعان على المناطق الغنية بالنفط مثل دير الزور، وأن مقاتلين مرتزقة روس قُتلوا ودبابات لهم تعرضت لقصف مقاتلات أمريكية.
ولا يبدو منطقيًّا توقع أو تأمل سحب واشنطن دعمها كليًّا لوحدات حماية الشعب. فحتى هوليود بدأت بتلميع التعاون الأمريكي مع الوحدات، حيث من المنتظر أن يدخل العرض هذا العام فيلم يروي قصة انضمام مجموعة من الأمريكيين إلى الوحدات من أجل محاربة داعش. ولا شك أنها لا تحبب وحدات حماية الشعب للشارع الأمريكي عن عبث.
ومن جهة أخرى، لا بد من التذكير بأن روسيا لا تدرج حزب العمال الكردستاني على قائمة التنظيمات الإرهابية.
بمعنى أن المعادلة شديدة التعقيد ولا مجال أمامنا لارتكاب أخطاء. علينا أن نكون متأكدين من السهم الذي سنطلقه. فلست على ثقة من أن خطة تيلرسون المثيرة للشكوك، هي السهم المناسب.