... وفي السنة الثامنة من الحرب في سورية وعليها تنبهت واشنطن إلى أن موسكو سرقت منها بلاد الشام بما فيها من دول وأنظمة ومناطق ومواقع، ومفارق إستراتيجية تتحكم بالشرق الأوسط وبثرواته وقراراته الإقليمية والدولية، وعلى الأخص ما يتعلق منها بالكيان الإسرائيلي. ولذلك بادرت واشنطن إلى رفع علامة (Stop) في وجه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
لكن ما يدعو إلى الانتباه والتساؤل مع هذا التحوّل المفاجئ في الموقف الأميركي أنه جاء بعد يومين من إطلاق الصاروخ السوري الذي أسقط طائرة حربية إسرائيلية من فئة (F16)... ثم بعد ثلاثة أيام جاء مؤتمر السبعين دولة في الكويت بمشاركة دول الغرب الأميركي والأوروبي، فضلاً عن الدول العربية والآسيوية والأفريقية، وكانت نتيجته ثلاثين بليون دولار لحساب إعادة إعمار العراق، والعقبى لسورية التي أتيح لوفدها الذي يمثل المعارضة أن التقى وزير خارجية أميركا ريكس تيلرسون وأبلغه خلاصة مذكرة سياسية باسم الشعب السوري.
لكن، ماذا عن سورية؟
بعيداً من مدن «جنيف» السويسرية، و «سوتشي» الروسية، و «آستانة» الكازاخية، حيث دار في أروقتها «مؤتمر السلام» الخاص بسورية خلال سبع سنوات، ولا نتيجة منه سوى بيانات تتراكم على مواعيد جديدة لجولات أخرى، جاء الحدث الفاصل من الفضاء، ومعه التساؤلات:
هل هو صاروخ روسي أو إيراني، أو من صنع محلي سوري؟ لكن، أياً يكن المصنع فلن يغير في معنى الحدث والترددات التي تتوالى على الصعيدين الميداني والسياسي، وعلى الجبهتين السورية والإسرائيلية. ثم، وبكثير من الواقعية والتواضع، أعلنت دمشق بلسان معاون وزير الخارجية: على إسرائيل أن تتوقع مفاجآت أكثر.
ومع أن سورية، التي تكلمت في ذلك اليوم هي سورية النظام الذي كان السبب في المآسي والكوارث التي تتراكم على الشعب المندثر والموزع في أقطار الأرض، فلا بدّ أن هذا الشعب قد أصغى إلى ما سمع وقرأ بالقليل من الغبطة وبالكثير من الألم المتراكم عبر الترحال في التيه بعيداً من البيت والحي والأهل، والبلاد التي يملأ اسمها القلب والوجدان نعمة الصبر والأمل والرجاء: سورية...
وتتلاحق الأحداث والتطورات على الصعيد السوري في الداخل، وفي الإقليم، ومعظمها يوحي بالقلق على المصير. فوزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون أعلن في مؤتمر وزراء خارجية التحالف الدولي الذي عقد في الكويت في 13 شباط (فبراير) الجاري أن الولايات المتحدة الأميركية والدول الحليفة باتت تسيطر على مساحة 30 في المئة من الأراضي السورية، وضمنها حقول النفط، مع الإشارة إلى أن مساحة سورية تبلغ 185 ألف كيلومتر مربع، لكن خطر «داعش» لا يزال ماثلاً في الأراضي السورية، كما في الأراضي العراقية بعد استعادة أمنها بمعدل 98 في المئة.
منذ نحو ثماني سنوات، على الأقل، أي منذ بدايات الثورة السورية، تنازل النظام عن قراره للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بل يمكن القول إن الرئيس بوتين، شخصياً، أمسك بالقرار السوري، تاركاً هوامش للنظام على سبيل استطلاع الرأي، وفي ظل ذلك الوضع استفحلت تنظيمات الإرهاب في بعض المناطق التي استطاعت الاستيلاء عليها والتحكم بإنتاجها من النفط والغاز.
وبالعودة إلى تلك المرحلة تبرز سلسلة مقابلات أجراها محققون صحافيون من مجلة «فايننشال تايمز» بين 12 و16 تشرين الأول (أكتوبر) 2015، وقد كشفت التقارير التي أعدها الصحافيون، ونشرت في المجلة، عن تعاون وتنسيق مباشر بين حكومة النظام السوري وتنظيم «داعش» في إدارة واستثمار إنتاج الغاز في المناطق التي يسيطر عليها التنظيم، وعلى قاعدة المناصفة، من دون أن يغيّر ذلك التعاون القواعد المتبعة في العمليات الحربية على الجبهتين. وتأكيداً على صحة المعلومات ذكر مندوبو «فايننشال تايمز» أن فريق النظام السوري كان يضم موظفين مسيحيين مع الموظفين المسلمين، وقد فُرضت على هؤلاء الجزية ذهباً مع «الجَلد»!. وهكذا كانت حكومة النظام تتقاسم مع «داعش» إنتاج معامل توليد الطاقة الحرارية بمعدل سبعين ميغاوات لــ «داعش» مقابل خمسين ميغاوات للنظام.
فهل كانت موسكو تجهل ذلك الاتفاق بين النظام وعدو الشعب السوري، بل هل كانت موسكو خارج الاتفاق؟!
ويعود السؤال: «داعش» مع سواه من التنظيمات الإرهابية التي اخترقت سورية وبعض مناطق العراق منذ ثمان سنوات، من أين أتى؟... والى أين يذهب عندما يغيب في مهمة أو إجازة؟ وهل من سؤال عن العلاقة، (وربما الشراكة)، غير المباشرة بين «داعش» وإسرائيل؟
روسيا دولة عظمى في العالم، وبوجود رئيس أميركي من طراز دونالد ترامب يحق للرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن يقول إنه رئيس الدولة الأعظم!
وعلى هامش هذا الوضع الرديء جاء الصاروخ (المجهول الهوية المصنّعة) لينعش المزاج العربي بالضربة التي سدّدها إلى الطاووس الإسرائيلي بنيامين نتانياهو، الذي قد يفيده أن يراجع الأسطر التالية من حروبه على لبنان:
في أعقاب معركة بين المقاومة الوطنية اللبنانية وجنود الاحتلال الإسرائيلي في الجنوب أواخر صيف العام 1998 من القرن الماضي، كان بنيامين نتانياهو، رئيساً للحكومة، وكانت نتائج تلك المعركة باهرة بالنسبة إلى المقاومة والشعب اللبناني، فقد سقط من الجنود الإسرائيليين عدداً من القتلى والجرحى، وشهدت مناطق الاحتلال مناحات متفرقة كان نتانياهو خلالها يطوف معزياً عائلات الجنود القتلى، ويزور الجرحى الموزعين في المستشفيات حيث كان يواجه بصرخات غضب ودعوات إلى انسحاب كامل الجنود من جنوب لبنان. وفي ذلك الجو الأسود الذي خيّم على المناطق الفلسطينية المحتلة صدرت جريدة «هآرتس» الإسرائيلية بعنوان مقال لأحد كبار المعلقين في الصحيفة يتضمن جردة حساب مالية لـ «سعر» الجندي الإسرائيلي الذي يبقى حياً ويخدم في جنوب لبنان،» و «سعر» الجندي القتيل، وصولاً إلى «سعر» الجندي الجريح.
ولم تكن جردة الحساب «تقديرية»، بل أن الصحافي ناقشها مع أحد الجنرالات في الجيش الإسرائيلي الذي أجاب عن الأسئلة بالأرقام في النص التالي المترجم عن العبرية:
«إن سعر الجندي الإسرائيلي في الخدمة الإلزامية هو الأرخص لدينا، إذ أنه يكلف 16 ألف شيكل في العام. أما الجندي الذي يسقط جريحاً فإن تكلفته ترتفع بشكل حاد. وأما سعر الجندي القتيل فيعود تقديره إلى رئيس شعبة إعادة التأهيل في الجيش الإسرائيلي، وتبلغ الكلفة مليوني شيكل تُدفع لذوي القتيل عبر السنين. أما الجندي الذي يسقط جريحاً ويتحول مُقعداً فيمكن أنت ترتفع كلفته إلى ثلاثة ملايين شيكل؟؟!
وتبقى جولة وزير الخارجية الأميركي في المنطقة العربية بالغة الأهمية بالتصريحات التي أطلقها كأنه يبشر بـ «صحوة» أميركية بلغت حد كسر الجليد مع «حزب الله». لكن الصاروخ السوري الذي أسقط الـ «16F» يبقى الأهم، لأنه أيقظ واشنطن بإدارة دونالد ترامب، على تحوّلات في ما يُسمى اللعب على حافة الهاوية في الشرق الأوسط، وفي قلبه البلاد العربية التي تخوض مرحلة إعادة نظر في ركام أخطائها، على تعدد أنظمتها واختلافاتها.
كما يبقى الصاروخ السوري برمزيته هو الأهم، لأنه فتح باب الرجاء للجيل العربي الجديد، على الأقل، إذ أنه أتى بعد الصواريخ التي خطفت أرواح أولاد مدينة «درعا» وسائر أولاد المدن والأرياف في المحافظات والأقضية السورية الذين خربشوا أحلامهم بالحبر والطبشور على جدران مدارسهم، وما كانوا يدرون أنهم لامسوا عصب نظامهم، فكان جزاءهم القتل. لكن يكفي أهلهم ورفاقهم وشعبهم انهم أكدوا بقاء خميرة الحرية والعروبة والشهادة في عجين الشعب السوري.
بقاء النفوذ الإيراني في المنطقة العربية في لبنان وسوريا والعراق واليمن مستمر إلى أن يعي «الجناح العربي» المستفيد من هذا الوجود أنه مجرد خادم لأجندة سياسية قومية إيرانية، وهذا الوعي المتقدم احتمال ضعيف نتيجة لحجم التغييب المؤثر فيه، خاصة أن هذا الجناح تمدد بعد أن سقطت الدولة، والسيناريو الثاني الذي يمكن أن ينهي هذا الوجود هو الاقتتال الطائفي وهذا ما يتجنبه الجميع. أما الاحتمال الثالث لوقف التمدد وإعادة إيران لحدودها المحلية هو أن يعي الأوروبيون والأميركيون أن هذا الوجود هو تهديد لمصالحهم بشكل مباشر، وهذا ما نجحت إيران – إلى الآن - في منح ضمانتها بأنه لن تصاب أي من تلك المصالح بضرر.
«الصفاقة الإيرانية» واحدة من أهم نقاط ضعفها والتي قد تسرع بكشف أجندتها ونواياها وحقيقة خطرها على الأمن الإقليمي والدولي، فإيران تختال طاووسيا وخطابها يقوم على الاستعراض والتحدي، وذلك خطاب له استحقاقه عاجلا أم آجلا، فإيران تظن أنها تستطيع أن تبقى في المنطقة العربية كقوة استعمارية هانئة مطمئنة ما دام في المنطقة عملاء وخونة عرب يفتحون لها الباب، وما دامت قادرة على إرسال رسائل تطمين لحلفائها الروس والأوروبيين أن الأمور تحت السيطرة، وأن وجودها في العراق وسوريا تلبية لحكوماتها الشرعية، وأن ذلك لمحاربة داعش والتكفيريين فقط، وأنه لا تهديد على أي من المصالح الحيوية كممرات البترول والغاز والملاحة الجوية والبحرية.
إنما قادتها صفاقتها هذه المرة إلى التحرش بإسرائيل معتقدة أن ذلك سيرفع من رصيدها في المنطقة العربية على اعتبار أنها قائدة لمحور ما يسمى المقاومة، واستحقاقا لخطابات «المقاومة» ولا يجوز لمن يتصدى لهذا الدور أن يكون على بعد عدة أمتار من إسرائيل وقائد قوات القدس التابعة للحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني على بعد عدة أميال من الحدود الإسرائيلية، ويتمركز هناك في قاعدة جوية وتحت يده بطارية صواريخ زودتهم بها روسيا ولا يتحرش على الأقل بطائرة بدون طيار بالإسرائيليين!
للصفاقة استحقاق حتى وإن كان وهميا إنها (بطولة) وهمية مجانية لن تكلفهم إلا طائرة صغيرة تطير بالريموت كنترول، يستطيع بها سليماني تسويق أضحوكة محور المقاومة لأنصاره ومشجعيه في المنطقة، ويستطيع روحاني أو ظريف الاعتذار سرا وإنهاء القصة، وما توقع أبدا أن يكون هذا هو رد فعل الإسرائيليين!!
لم يتوقع أبدا أن تنطلق من إسرائيل طائرتا إف 16 ونفاثة دمرت مركز القيادة في القاعدة الجوية التي انطلقت منها الطائرة، ودمرت مدرعة مما اضطر السوريين إلى إطلاق صاروخ على الطائرة الإسرائيلية دفاعا عن النفس، وأسقطت في إسرائيل ونجا الطياران، فما كان من إسرائيل إلا أن دمرت 15 هدفا منها بطاريتان إس إيه 5 وإس إيه 17 روسيتان، وكانت تلك الرسالة الإسرائيلية للإيرانيين واضحة وجلية أن العبث له ثمن!
الصمت الإيراني الذي تلا هذه المغامرة يؤكد وجود الاتصال بين جميع اللاعبين روسيا وأميركا وإسرائيل وإيران للملمة القصة، لتمرير هذه المغامرة الحمقاء وسكوت إيران على الإهانة الإسرائيلية وعدم خروج تصريح يتبجح فيه سليماني بطائرته التي اخترقت المجال الجوي الإيراني يؤكد أن المغامرة كانت حمقاء بالنسبة للمصالح الإيرانية، وخارج سياق التطمينات الإيرانية المتسمة لإسرائيل وللأوروبيين، فإيران تريد أن تستقر في سوريا لا أن تتحرش بإسرائيل.
إيران أشطر من أن تصعد في خطابها في التصريح بأنها باقية و«إلى الأبد» في سوريا على حد تعبير جواد ظريف في مؤتمر روما في ديسمبر (كانون الأول)، بل تتبجح في مؤتمر المانحين لإعمار العراق بأنها لن تدفع تومانا إيرانيا بل ستحتل العراق بأموال العراقيين وأموال المانحين! وعلى الجميع التأقلم مع هذا الواقع، هذا هو خطابها المسكوت عنه والذي لم يحاول أحد أن يدفعها أو يستفزها لاستحقاقاته، الحماقة الإيرانية التي جرت في سوريا كشفت أنه بالإمكان دفع إيران للحائط ومطالبتها بإثبات قدراتها.
ولكن هل إيران على استعداد لدفع الكلفة المتصاعدة لهذا الوجود؟ في ظل التمرد الإيراني المستمر ودعوات وقف التمدد الخارجي والاهتمام بالداخل؟
هل الأوروبيون والأميركيون بدأوا يعون الآن أن وجود إيران في هذه المواقع الاستراتيجية يشكل خطرا على أمن وسلم المصالح الاستراتيجية والحيوية فيها؟ قد لا يشكل موت الآلاف من العرب أو احتلال أرضهم تهديدا للمصالح الأوروبية، ولكن هل يظنون أن الميليشيات التي تأتمر بأمر سليماني تستطيع أن تحافظ على أمن المنطقة وعلى عدم امتداد نيران هذا الصراع؟ هل بدأوا يعون أن وقف التمدد الإيراني هو خارج نطاق الاتفاق النووي، وأن لديهم من المساحة وحرية الحركة كي يتعاملوا مع هذا الوجود بمعزل عن قيود الاتفاق؟
إلى الآن إيران نجحت في إقناعهم بأنها مأمونة الجانب، إنما ما زلت أعتقد أن الصفاقة الإيرانية هي أهم نقاط ضعفها وأن استفزازها يمكن أن يسقط قناعها.
باستثناء أحداث الطبيعة، ما من فعل أساسي وذي شأن يتم في عالمنا، إلا ويكون للولايات المتحدة الأميركية يدٌ فيه، ترتيباً، تأثيراً، توجيهاً أو جني ثمار.
خلال السبع سنوات من الكارثة السورية، كان الغياب الأميركي أشد وقعاً من الحضور. في السنة الأخيرة من ولاية الرئيس باراك أوباما والسنة الأولى من ولاية الرئيس دونالد ترامب، كان السوريون، وكل منخرط في الشأن السوري، بانتظار تبلور السياسة الأميركية تجاه القضية السورية، رفع السوريون توقعاتهم على إيقاع خط أوباما الأحمر؛ وتصوروا أنه سيضع حداً لمأساتهم، وإذ بذلك الخط يتحول مقدمة مأساة أكبر، تمهد إلى فتح عداد الفيتو الروسي، وتفلّت نظام الأسد من أي عقاب دولي. عاد أمل كسر استعصاء القضية بانتظار ولاية أوبامية جديدة. تأتي الولاية وتتفاقم المأساة، عندما تحدد إدارة أوباما لنفسها ثلاثة توجهات بخصوص سورية، تمثلت في النأي بالنفس عن القضية الأساس، وفي محاربة "داعش"، ووضع الملف في عهدة الروس.
شكلت أميركا تحالفاً لمحاربة "داعش" في العراق. ومضى أكثر من عام، قبل أن تبدأ إدارة أوباما تضيف سورية ميدانا لمحاربة "داعش". وكان الاستبشار كبيراً عندما بدأ أوباما يقول: "محاربة داعش في العراق وسورية"، لكنه كان يرفق ذلك بالنأي بالنفس عن القضية السورية الأساسية، وهنا أتى تعهيد تلك القضية للروس. وكم كان ذلك مواتياً للرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، المثقل بأعباء القرم وأوكرانيا والضغط الاقتصادي؛ فاعتبر أن وضع اليد على سورية سيحولها ورقةً يساوم عليها ملفاته التالية. واستلزم ذلك تدخلاً عسكرياً روسياً، جعل بوتين الحاكم بأمره في سورية؛ ولكن فقط في سورية "التابعة نظرياً للأسد وإيران"، أما في الثلث الشمالي الشرقي من سورية حيث الوجود الداعشي الأكبر، والذي قال بوتين إنه يحاربه، فتبيَن أن 3% فقط من أهداف طائراته كان لداعش (قصة استلام تدمر وتسليمها معروفة).
يسارع بوتين إلى إعلان "نصره" من حميميم وبحضور الأسد، ويدعو إلى مؤتمر حوار ومصالحة للسوريين، بعد أن فشل في تحويل "أستانة" محطةً سياسية، ليتبيّن أن من عهد له بالملف السوري كان قد بلفه. فبعد أن ذكّره بأن النظام الذي يحميه لا يزال يستخدم الأسلحة الكيميائية، ولا بد أن يعاقبه على ذلك بقصف مصدر الكيميائي في مطار الشعيرات، وبعد أن ورّطه في استخدام "الفيتو" مرات في مجلس الأمن، تأتي التصريحات الأميركية بأن سياسة الولايات المتحدة تجاه المسألة السورية قد تبلورت، وأن أميركا تضع يدها على الثلث المفيد، مياهاً وثروة باطنية وزراعة في سورية، وتعمل على إنشاء جيش من 30 ألف مقاتل، وأنها باقيةٌ، حتى يكون هناك حل سياسي في سورية، وحتى يتم الانتقال السياسي المنصوص عليه في القرارات الدولية. ولتأتي أميركا، ومعها أربع دول معنية بالقضية السورية بما سمته "لا ورقة" عشية مؤتمر سوتشي؛ لتقول لبوتين إن خطوته البائسة في إيجاد "حل سياسي" في سورية خلبية.
والآن، ما معنى أن تفعل أميركا ذلك كله، وماذا تريد واشنطن من موسكو في سورية؛ ولماذا عهدت لها بالملف السوري، وهل تختلف السياسة الأميركية تجاه قضايا حساسة عالمية، بتبدل رؤسائها، أم أن المنظومة الأميركية الأعلى المتحكمة، بما يدور في عالمنا، صغيراً كان أم كبيراً، هي المحرّك لتلك القوة الأميركية تفرداً بمصير عالمنا، وغير مسموح بتعدّد القطبية التي تفلسف بها بوتين؟ أمام هذا السؤال والواقع الاستراتيجي الكبير، يخلص المرء إلى أن وضع اليد الأميركية على القطعة الأهم من الجغرافيا السورية، ليس لمائها وغازها ونفطها وزراعتها، بل لأغراضٍ تتقدمها رسالة لموسكو بأن هناك مقرراً أساسياً لمصير عالمنا، صغر أم كبر.
إنه تلقين درس لروسيا بوتين أن القطب الواحد لا يزال هناك، والحلم الروسي في عودة الإمبراطورية ليس إلا وهماً؛ إنه تثبيت لمقولة أوباما إن روسيا ليست إلا دولة إقليمية كبيرة.
من هنا، يمكن القول إن ذلك التأليب السياسي على ترامب، والتحريض الإعلامي عليه، وفزاعة التدخل الروسي في انتخابه، ليست إلا أدوات لاستنفاره وتحريضه، لوضع حد للروس، وإعادة بوتين إلى حجمه الحقيقي.
إضافة إلى هذا الهدف الكبير الذي أنجزته على الحالة السورية، باستخدام بوتين قفازاً أميركياً غير مرئي، فإن الولايات المتحدة أنجزت أيضا أهدافاً ثانوية، لا تقل وزناً عن هدفها الأكبر، فهي أراحت إسرائيل سنوات تساوي السنوات التي أراحها خلال حكم المنظومة الأسدية بهدوء جبهتها الشمالية الشرقية؛ وذلك بجعل سورية حالةً لا تقوم لها قائمة عقودا. من جانب آخر، كشفت القوة العسكرية الروسية الغاشمة إيران؛ وعرّت مخططاتها الطامحة، لكن العاجزة عن التمدّد، إلا في ظل يد باطشة، كاليد الروسية. وهنا فضحت أميركا الجهتين معاً.
ويبقى آخر اهتمامات لعب الكبار مصير الشعوب وعذاباتها، وتبقى التفاتة بسيطة، وتوافق شفوي كفيل بحقن الدماء ولملمة الجراح؛ فمتى تتم تلك الالتفاتة التي تعيد أهل سورية إلى سكة الحياة؟
تتعالى الصحيات والمناشدات وتكثر البيانات المنددة والمناصرة والمطالبة لمجتمع دولي نائم مع كل انتكاسة أو حملة هوجاء تشنها قوى الإجرام ممثلة بالنظام وحلفائه على بقعة ما من المناطق الخارجة عن سيطرتهم، دون أن تقدم هذه المناشدات والصحيات أي نفع إلا نفخ في جوف خاو لا يعطي أي أثر
مشهد الموت في الغوطة الشرقية اليوم وتكالب كل القوى العسكرية البرية منها والجوية في مواجهة 350 ألف مدني، ماهي إلا صورة حية قديمة جديدة لما حصل للأحياء الشرقية في مدينة حلب وداريا والغوطة الغربية والقصير وكثير من المناطق، بعد طول حصار وقتل وتدمير، وما رافقها من مناشدات ودعوات للتحرك لمجتمع دولي أصمت أذانه وأغمض عينه عن سماح ورؤية مايجري من موت ودمار.
ومنذ بداية الحراك الثوري ومع تعدد السنوات وما أصاب المناطق المحررة من انتكاسات كانت تطلق الدعوات لضرب النظام في مواقع حساسة وقاتلة، تجبره على الرضوخ وتغيير المعادلة وتخفيف القتل والتدمير، وجل المطالبات كانت تتوجه لتحريك جبهات الساحل السوري لما لهذه الجبهة من أثر كبير للنظام وحاضنته الشعبية وأخيراً لروسيا وقاعدتها العسكرية، ولكن كانت تكتفي الفصائل برمي الاتهامات فيما بينهما فيمن يمنع فتح الجبهات دون حراك.
جميع الحجج التي ساقتها الفصائل لعدم فتح معركة الساحل التي تعتبر قاتلة له كانت غير مقنعة ومحاولة التفاف على مطالب الجماهير والدعوات والمستمرة والمتجددة مع كل ضيق، واليوم باتت فصائل الشمال السوري أمام تحدي كبير في فتح معركة الساحل وتخفيف الضغط عن الغوطة الشرقية، ولا تعفي فصائل الجنوب السوري من شن عمليات عسكرية على مواقع حساسة للنظام وتخفيف الضغط العسكري على الغوطة المحاصرة فهل تفعلها الفصائل أم تكتفي ببيانات الوعيد والتضامن دون فعل ...!؟
300 ألف إنسان محاصرون منذ خمس سنوات ومحرومون من الطعام والغذاء والدواء ويتم قصفهم يومياً بكل أنواع الطيران والسلاح.
هذا محتجز كبير لمجتمع كامل يتم إبادته في مذبحة مستمرة تُجرب فيها كل أشكال القتل من الأسد وحلفائه، ليست نزاعاً ولا قضية سياسية لكنه عار تتحمله البشرية.
الأطراف العربية والغربية التي تتكلم عن مواجهة النفوذ الإيراني لم يكفها التخلي عن ثوار سوريا وهم المشروع الوحيد الذي يقاتل هذا النفوذ عملياً وسبق أن تمكن من هزيمته، ولكنها سمحت بإبادة وتفكيك وتهجير حواضن شعبية كاملة للسوريين -العرب السنة- لصالح إيران وميليشياتها، ثم تريد محاربتهم بتصريحات وألعاب فيديو.
إنها حرب تطهير واعية واستراتيجية وإبادة ممنهجة للحواضن الشعبية للثورة، وتغيير شكل البلد وشعبه للمستقبل.
الأسد عبر عن ذلك بعقيدة التجانس والإيرانيون يستبطنونه طائفياً ويبنون بلدهم على الأرض، والطيران الروسي وفر الوسيلة الأسرع للقتل والتغيير المجتمعي الواسع، يوافق ذلك صعود الفاشية عالمياً ونظرة يمين متطرف و"أقليات بيضاء" ونظم ثورات مضادة أن هذه حواضن "متطرفة" ومزعجة لمناداتها بالحرية وامتلاك المصير.
ما يجري ليس قمعاً أو صراعاً، هو إبادة وتشكيل بلد وشعب جديد.
مذبحة الغوطة الشرقية وإبادة شعبها مستمرة بسلاح إيراني روسي وتواطؤ دولي، دول "عربية" دون تصريح واحد، شعوب تنظر إلى شعب جار يتم إبادته أمامها على يد سفاح وجيوش محتلة، أمم توثق المجزرة ببرود وتتكلم عن نزاع أطراف، حضارة "إنسانية" جديدة يعاد إنتاجها على عقيدة المذبحة في الغوطة.
السوري هو المذبوح ولكن كلّ إنسان مهدد في عالم يشبه الأسد.
من شأن وجود نوع من الاتفاق بين القوى العالمية والإقليمية أن يكون حاسماً بصورة كبيرة، للتوصل لأي حل سلمي في سوريا. وكان ينبغي لذلك أن يكون واضحاً منذ بداية الصراع.
وسواء كان العالم مروعاً، أو متعاطفاً، أو غير عابئ، شهدنا جميعاً انتفاضة الشعب المسالم ضد الديكتاتورية الشرسة. وكان عصيان السخط والغضب فوق كل اعتبار. وأيضاً، كان يجب على المجتمع الدولي ولا يزال يتوجب عليه، التعامل مع التهديدات الإرهابية الفظيعة. لكن، من الصحيح كذلك أن الصراع في سوريا كان يدور دوماً حول مخاوف القوى السنية الإقليمية في المنطقة، وصعود النفوذ الإيراني فيها، والمصالح التركية الخاصة، ومخاوف دولة إسرائيل، واستعداد روسيا لتسجيل النقاط على حساب العالم الغربي، وتردد الولايات المتحدة المزري.
ومن الغريب بدرجة كبيرة تقويض هذا البعد الإقليمي والدولي على أيدي الأمم المتحدة. إذ ركزت الوساطة الأممية بالأساس على السعي اليائس نحو الحوار، وربما بعض أشكال التفاهم بين نظام دمشق وممثلي قوى المعارضة. وفي الأثناء ذاتها، لعب الروس دوراً كبيراً ورائداً في صياغة خريطة الطريق للأمم المتحدة، وكان ذلك في مقامه الأول لأجل استخدامهم المتكرر لحق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن. وفي المقام الثاني، بسبب الاستثمارات العسكرية الخاصة بهم على الأرض. وساد وهم كبير بشأن أن الروس كانوا في موقف يسمح لهم بقيادة الحوار السوري - السوري على مسار الحل النهائي الذي يتفق مع «السلام الروسي» المنشود. وتأييد هذا الوهم بعدد من النتائج الإيجابية النسبية لعملية آستانة، مع مساعدة من تركيا وإيران، والتي بلغت ذروتها في الطريق إلى مؤتمر سوتشي.
تبخر هذا الوهم بصورة أو بأخرى مع مرور الوقت. ويظن أحدنا أن الوقت قد حان لصياغة نهج بديل، يستند إلى ضرورة العمل على النظر في إمكانات الاتساق مع مصالح القوى الإقليمية والدولية. وما من شك أن هذا المقترح يبدو أكثر صعوبة من حيث التنفيذ – وقد يقول البعض إنه أقرب إلى المحال – من أي وقت مضى. وهو لا يزال غير صالح للتنفيذ من النهج الحالي بين الأمم المتحدة وروسيا.
دَعُونا في هذا المقام، نؤكد سببين أو ثلاثة تستحق الاعتبار من الزاوية «الإقليمية - الدولية». أولاً، لن يصدق أحد بعد الآن أنه بعد 7 سنوات من الكراهية والفظائع والموت والدمار، أن إجراء حوار بين النظام والمعارضة في سوريا، من دون إطار دولي مناسب، سيسفر عن شيء مثمر. ثانياً، كانت النتيجة الصافية لكل ما حدث حتى الآن هو التقسيم الحقيقي للبلاد إلى مناطق نفوذ متعددة. ولن يمكن لأحد الادعاء بأن هذه الوصفة موثوقة ومؤكدة لإعادة الاستقرار إلى ربوع البلاد. بل على العكس من ذلك، وهذه هي النقطة الثالثة، أننا الآن على مشارف مرحلة خطرة للغاية تكون فيها القوى الإقليمية والعالمية على حافة المواجهات العسكرية المباشرة، كما شهدنا في عفرين، ودير الزور، ويوم السبت الماضي بعد اختراق طائرة إيرانية مسيَّرة (من دون طيار) الأجواء الإسرائيلية.
وإيجازاً للقول، صار الأمر أكثر وضوحاً يوماً عن يوم أن التواصل والتنسيق، ونمط من أنماط التفاهم، هي من الأمور الحاسمة للغاية إن كان الهدف هو تفادي اندلاع حرب إقليمية في المنطقة. إذ إن نزع الصراع أو خفض التصعيد أو المساعي الروسية الحميدة لم تعد كافية بعد الآن.
ولقد أشار أحدهم بالفعل إلى أن الحوار الوثيق بين القوى العالمية والإقليمية قد يكون من المناسب إجراؤه الآن. كما صنع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تماماً. إذ طرح اقتراح «مجموعة الاتصال» حول هذه «الصيغة» الجديدة. ولم يلق هذا المقترح الترحيب المنتظر، وربما ذلك بسبب أن موعده قد تأخر كثيراً؛ فلقد ترسخت بالفعل جملة من الأمور في أرض الواقع، وأصبح من المحال على فرنسا أن تتمكن من تغيير مسار العمليات الدولية الجارية (عملية جنيف، وعملية آستانة، وما سواهما). أو ربما بسبب أن المقترح لم يبلغ حد النضج السياسي بعد.
لكن، والآن، وبعد سقوط المقاتلات الروسية والإسرائيلية، والمروحيات التركية أيضاً، ومع مقتل المرتزقة أو الجنود الروس على ضفاف الفرات وفي غير ذلك من الأماكن، ومع تحطم الطائرة الإيرانية المسيّرة بالنيابة عن الدفاعات الجوية السورية، ينبغي على صناع القرار إدراك أن الوقت قد حان لالتقاط النفس العميق، ومحاولة التفكير في الأمر مرة أخرى.
قد تكون هناك خطوة على المسار الصحيح من خلال إنشاء «مجموعة مصغرة» تحت قيادة الولايات المتحدة وتتألف من فرنسا، والمملكة المتحدة، ودول إقليمية أخرى.
فلقد اجتمعت هذه الدول في باريس على المستوى الوزاري يوم 23 يناير (كانون الثاني) الماضي. ولم تكن الغاية من هذه المجموعة المصغرة تشكيل مصدر بديل عن القيادة، ولكن مجرد المساهمة في أي عملية دولية مرتقبة. وإن تُمكّن من العثور على جسر التواصل، تحت ضغط الظروف الراهنة، بين هذه المجموعة وبين روسيا، يمكن التوصل إلى نقطة المنعطف المنشودة في الأحداث الجارية.
وإنْ تم التوصل إلى نقطة المنعطف تلك، فهناك أمران على قدر كبير من الأهمية. أولاً، غير مسموح بارتكاب أي نوع من الأخطاء على جدول الأعمال. والسؤال الأساسي المطروح حالياً يتعلق بمعرفة كيفية تجنب تحول حالة التقسيم الواقعية في سوريا إلى نزاع إقليمي أو على أقل تقدير تحولها إلى خطر إقليمي متصاعد ومستمر. ولا يعني ذلك أنه ينبغي لنظام دمشق أن يظل ثابتاً إلى الأبد من أجل الاستقرار، وأن يتم تجاهل الوصول إلى وقف ثابت للنار، بل يعني أنه يتعين معالجة الجوانب الإقليمية والجوانب المحلية للمأساة السورية معاً.
ثانياً، ينبغي للتقارب بين روسيا والولايات المتحدة والمجموعة المصغرة المذكورة، عند مرحلة من المراحل، أن يسفر عن عقد مؤتمر على غرار «دايتون» بشأن سوريا. وكان اتفاق دايتون قد وضع حد النهاية في عام 1995، للحروب المندلعة في الاتحاد اليوغوسلافي السابق، لكن هذا المؤتمر المقترح، ولجملة من الأسباب، ليس النموذج المثالي لإنهاء حالة الحرب اللانهائية في سوريا. ولكن ما يمكن الاحتفاظ به من عملية دايتون، في الوقت المناسب بالطبع، أي بعد التحضير الدقيق للأمر، هو الأسلوب: أي الاجتماع الذي يجمع كل أصحاب المصالح على مائدة واحدة والمكوث في نفس الغرفة لأطول فترة ممكنة، ما دامت الحاجة دعت إلى إبرام اتفاق. أي اتفاق سلام لسوريا ولمنطقة الشرق الأوسط بأسرها.
بعد سبع سنوات من عمر الثورة السورية ما تزال الحرب التي أعلنها نظام الأسد على الشعب مفتوحةً، ويبدو أن النظام لا يستطيع أن يحسم أي معركة وحده، فلا بدَّ من دعمٍ روسي متعدد الأشكال، ووجودٍ للميلشيات الطائفية الإيرانية وحزب الله إلى جانبه، وبذلك تنتهي أسطورة الدولة الأمنية التي رسمها آل الأسد في ذهن السوريين وتتحول إلى مهزلة.
أصبح التململ الروسي واضحاً في التعامل مع نظام الأسد، خاصة في المعارك الأخيرة، وأصبحت العمليات الروسية منفردةً إلى حدٍّ كبير، متجاوزين بها النظام وقواته، ولعل روسيا أصبحت تعتبر ما تبقى من الجيش السوري عبئاً عليها، حتى في أصغر المعارك وأكبرها، وحتى على الصعيد السياسي، فهم يتعاملون معه باستخفاف وتصغير تارةً، وتصعيد إعلامي ضدَّ المعارضة تارةً أخرى، كورقة ضغط مستمرة، ولا يفوِّتون فرصة خلف الجدران المغلقة، حتى يقولوا للسوريين والمجتمع الدولي: إنهم يسعون إلى أن يكونوا الطرف المحايد الحريص على صداقة الشعب السوري، وهم غير متمسكين بشخص الأسد، بمقدار حرصهم على الدولة السورية، وللأسف، ومع استمرار القتل، يجدون باستمرار من يصدقونهم حتى ممَّن يُحسبون على المعارضة، وقد نجدهم ممثلين أيضاً في هيئة التفاوض، لكن هل الجرائم التي ارتكبها نظام الأسد كماً ونوعاً، وحجم التدمير الذي ألحقه بالبلاد، مع الدعم الروسي له، الذي يعتبر إجراما غير مسبوق في تاريخ الشرق الأوسط سيساعد الروس في تغيير الاستراتيجيات العسكرية والسياسية للخروج من المستنقع الذي وضَعوا أنفسهم فيه، ويثبوا حقيقة أنهم يسعون للحل، لا لمزيد من الدمار؟
الثورة السورية دخلت بعدد كبير من المنعطفات والتواريخ على مدار سنواتها السبع، لدرجة أننا قد نعتقد أنه مضى دهر كامل من الزمن لكثرة الأحداث، لكننا، وبسهولة، نستطيع أن نستخلص أن الشعب السوري لن يتنازل أبداً عن ثوابت الثورة، ولن يرضخ ولن يعود إلى ما قبل عام 2011، على عكس ما يتوقعه الروس والإيرانيون. السوريون لديهم كرامة وحرية وأخلاق، يموتون كلَّ يوم ليحافظوا عليها، وقد برهنوا ذلك بشجاعة أخجلت الكثير من دول العالم التي ادَّعت صداقتنا وفق مصالحها فقط.
بالعودة إلى الجهود السياسية الأخيرة، فشلت روسيا بالضغط على نظام الأسد في جنيف، وفشلت في إقناع المعارضة السورية بطرح الحلول الجزئية لإعادة إنتاج نظام الأسد في سوتشي، وبدأت من موسكو إلى أستانة، ومنها إلى سوتشي تؤكد على أهمية الحل السياسي، حسب رؤيتها المتمثلة بإصلاحات دستورية تقود إلى انتخابات، يستطيع بشار الأسد الترشح فيها مرة ثانية تحت رقابة ووصاية الأمم المتحدة، وقالها لنا الروس صراحة: «لا يوجد رئيس يذهب بثورة»، وتشعر من كلامهم كأنهم يقولون: «إن شرَّعنا هذا لكم فهذا يعني أن قائد الكرملين في خطر». ليعودوا وليطرحوا استراتيجيات مختلفة عبر الأمم المتحدة، بعد فشلهم الكبير في إقناع حليفهم نظام الأسد والمعارضة السورية على حدٍّ سواء، ليسجل التاريخ أن نتاج المفاوضات التركية مع روسيا أبدت ثمارها، ولولا الجهود التركية لضمان مصالح المعارضة السورية لكنَّا نعيش الكارثة الأكثر مرارةً من مخرجات سوتشي، وبرعاية الأمم المتحدة، ومن يعتقد أن تركيا حول طاولة المفاوضات ضعيفة أو تلعب دور التابع الاستراتيجي فهو مخطئ.
استطاعت الفصائل العسكرية في أستانة بناءَ شراكة حقيقة مع تركيا عسكرياً وسياسياً؛ لتحقيق مصالح مشتركة وفق آلية واضحة، وبناء مستقبل نتمناه جميعاً لسوريا، على عكس باقي القوى الإقليمية الأخرى، التي أخذت دور المتفرج بانتظار التحرك الأمريكي، الذي فتح الباب على مصراعيه لتمدد روسيا في سوريا عسكرياً وسياسياً، فهؤلاء باعونا الوهم على مدار أعوام، ووقفوا في وجه انتصار الثورة بكل الإمكانيات. روسيا التي هددت وتوعدت المعارضة السورية «بحرب إبادة لم تبدأ بعد» في جلسة غير رسمية داخل الأمم المتحدة في اجتماع فيينا الأخير، واعتبرت أن تهديدها أحد أدوات الضغط على وفد هيئة التفاوض بهدف حضوره سوتشي، فشلت بذلك مجدداً رغم وجود التيار المؤيد لسوتشي من قبل بعض منصات المعارضة، وهنا يطرح السؤال: إلى أي حدٍّ وصلت روسيا حتى تطلق مثل هذه التهديدات؟ هل هي غارقة في مستنقع لدرجة أنها مستعدة لفتح حرب إبادة جماعية هي أساساً لم تنته؟
فشل مؤتمر سوتشي شكلاً، وأثبتت روسيا أنها منفصلة عن الواقع تماماً، وأصبحت استراتيجيها تحسين صورتها أمام شعوب العالم قبيل الانتخابات الرئاسية الروسية، واستحقاق كأس العالم الذي يعتبر مرحلة مفصلية في السياسة الروسية من ناحية تحسين صورتها، لكن خيبة الأمل الروسية حوّلت المؤتمر إلى فضيحة دولية، فأنقذها التدخل الأخير للمبعوث الأممي ستيفان ديمستورا، الذي أعلن أن اللجنة الدستورية المنبثقة عن المؤتمر ستكون برعاية الأمم المتحدة، وستشكل في جنيف وسط تحفظ صوري من الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا، التي ماتزال تعتبر نفسها الوصي التاريخي في سوريا، رغم أنها عضو في مجلس الأمن الدولي، لكن حتى الدول الخمس الدائمة العضوية ليست جميعها بالقوة والسوية نفسها رغم امتلاكها حق الفيتو.
والآن مع اقتراب جولة جديدة من مباحثات أستانة، لابدَّ من رسم الاستراتيجيات القوية لدينا كمفاوضين (فصائل عسكرية وسياسيين) والتوقف عن مهاجمة وتخوين بعضنا، على الأقل عندما نجلس مع الروس وفق مبادئنا في بيئة محايدة ونعلم جيداً أننا عندما نذهب إلى أستانة فنحن نذهب لنفاوض عدوا، ونريد تحقيق مطالبنا ولم ولن نتنازل عن أي مطلب سوري، كل ما أردناه هو وقف قتل المدنيين وإنقاذ ما تبقى من سوريا وتحقيق مطالب الثورة، ولا نريد لاستراتيجية الدب الروسي المتمثلة بـ(أضغط المدنيين واقتلهم) حتى تنقلب عليهم الحاضنة الشعبية، وتقبل بالشروط الروسية كما هي، نحن في أستانة حافظنا على ما تبقى من المناطق المحررة، وقاتلنا «داعش» حتى انتصرنا في «درع الفرات»، وما نزال مستمرين في معركتنا ضد جميع أشكال الإرهاب الانفصالي والداعشي وإرهاب الدولة، وكل ما نريده هو تحقيق طموح السوريين وحمايتهم.
بالمقابل على الروس أن يعلموا أن السوريين لن ينهزموا أبداً، فإذا كانت حربهم لم تبدأ كما قالوا لنا، فنحن أيضاً حربنا لم تبدأ بعد، لأننا لا نملك ما نخسره سوى أرواحنا، فإذا أرادوا أرواحنا فنحن مستعدين لذلك، لكن حذارِ الاقتراب من كرامتنا، فلن نتخلى عنها أبداً، وسنقاتل ونموت لأجلها، وإذا اعتبرت روسيا أن الحرب عبارة عن قتل ودمار فقط، عليها أن تعلم أن في الحرب قوانين ومبادئ أيضاً.
وأخيراً مطلوب، وبإلحاح، استعادة الثورة من الأماكن الرمادية التي أخذت إليها، وذلك بالتوجه إلى جميع السوريين على اختلاف انتماءاتهم وتوجهاتهم، لمساندتنا والوقوف معنا، ونبذ التخوين والفرقة ، والوقوف في وجه من يعمل على تدمير البلاد والعباد وزرع أوهام تأهيل النظام وإعادة إنتاجه، وعلينا جميعاً مواجهة منظمات التطرف والإرهاب والانفصاليين الذين يحاولون الاستيلاء على الثورة ومصادرة مستقبل سوريا.
ما تزال روسيا وإيران وسوريا يعتمدون مبدأ الحرب امتداد للسياسة وإن بوسائل أخرى، ولم يدركوا بحكم آليات الفهم السائدة لديهم من جهة وخبراتهم التاريخية الفاقدة للديمقراطية من جهة ثانية، أهمية التسويات الكبرى التي تقوم على مبدأ المصلحة المشتركة.
هكذا أقدمت روسيا بعيد فشل سوتشي إلى شن حملة عسكرية مجنونة على إدلب، وهكذا يقدم النظام السوري على تدمير الغوطة الشرقية، وهكذا أقدمت إيران على خطوتين الأولى في ديرالزور والثانية عند الحدود مع الاحتلال الاسرائيلي.
إن مبدأ الحرب امتداد للسياسة قد يعبر عن فائض في القوة أحيانا، لكنه يعبر عن ضعف وارتباك أحيانا أخرى، وأفعال الأطراف الثلاثة آنفة الذكر لا يمكن إدراجها ضمن فعالية القوة بقدر ما هي انعكاس لحالة التوتر والارتباك.
الروس في عنق الزجاجة، قدراتهم العسكرية الكبيرة لم تمنحهم قوة سياسية، بل على العكس أوقعتهم في مأزق كبير، فلا هم قادرين على وقف المعارك ولا هم قادرين على فتح باب السياسة، ومع كل سد يقابلهم يلجؤون إلى النظام وإيران، وتركيا، فتكون روسيا الكبيرة أسيرة أطراف محلية وإقليمية.
إيران المحكومة بسقف لا تستطيع تجاوزه في سوريا (روسيا)، وبعدو يتربص بها (الولايات المتحدة)، وبحليف لا يمنحها كل ما تريد (النظام السوري)، وجدت نفسها مضطرة إلى اجتراح أساليبها الخاصة وإن كانت ذات تكلفة باهظة على سوريا الضعيفة.
المكان كان خطأ لجهة ديرالزور أو لجهة الحدود مع الاحتلال الإسرائيلي، والزمان أيضا كذلك، في وقت تعاني إيران من اضطرابات داخلية أحد أهم عناوينها تكاليف التدخل في سوريا، وفي وقت تكافح أيضا للحفاظ على منجزات الاتفاق النووي مع الغرب.
لكن الحادثتين يصعب ربطهما مباشرة بإيران وإن بدت كذلك في الظاهر، فالجغرافيا السورية اليوم تعج بأجندات متضاربة ومتقاطعة بحيث يصعب تحديد دقة التداخلات/ التخارجات بينها، ويصعب الربط بين ساحات الصراع غير المتصلة.
من الواضح أن هجوم دير الزور وإرسال الطائرة المسيرة إلى الجنوب تم بالتوافق مع موسكو ودمشق على الأغلب، فالأهداف المرجوة من هذين الهجومين تتجاوز المصالح الإيرانية.
بالنسبة لروسيا التي تعرضت لضربات موجعة مؤخرا (هجوم حميميم، فشل سوتشي، إسقاط سوخوي 25،)، ما كان لها أن تمرر ذلك من دون توجيه ضربات غير مباشرة للولايات المتحدة بسبب عدم قدرتها على الاشتباك المباشر.
إن قراءة سريعة للتصريحات الروسية بعيد الضربة الأمريكية في ديرالزور والرد العسكري الإسرائيلي تؤكد أن الروس على علم بكل شيء قبل حدوثه، لأن تجاوز الإيرانيين لخطوط الاشتباك في ديرالزور من دون علم الروس غير ممكن لما له من تأثير سلبي على موسكو لناحية ظهورها بمظهر العاجز غير القادر على ضبط التفاهمات مع واشنطن.
وبالنسبة للجنوب، إما أن إيران تفاهمت مع الروس حيال محاولة تغيير قواعد الاشتباك مع إسرائيل، أو أنها تصرفت بمفردها لمحاولة إرباك الساحة الإقليمية والدولية، وفي كلتا الحالتين تعبر الخطوة عن تراجع في القدرة الروسية لمستها إيران بوضوح.
من مصلحة موسكو إظهار قوة حلفائها على الأرض خصوصا في وجه إسرائيل الحليف الاستراتيجي للولايات المتحدة.
المقاربة الروسية تقوم على التالي: روسيا تتفهم المخاوف الإسرائيلية، فلا تمنعها من شن ضربات عسكرية، ولكن بالمقابل لا تلبي طلباتها في الجنوب السوري.
ولما كان التفوق العسكري الإسرائيلي كاسحا، عمدت روسيا إلى تعزيز القدرات العسكرية السورية، وهذا ما أعلنته صراحة "قناة حميميم المركزية" حين أكدت "أن إسقاط الطائرة الإسرائيلية ليس أمرا مفاجئا.. في الآونة الأخيرة عملت القوات الروسية على تطوير قدرة الدفاعات الجوية للقوات السورية لتصبح قادرة على استهداف الطائرات التي تخترق أجواءها".
وفي وقت سابق أعلن نائب قائد القوات الجوية والفضائية الروسية سيرجي يشيرياكوف عن توحيد نظم الدفاع الجوي من خلال دمج نظم الاستخبارات الجوية والإنذار المبكر الروسية مع نظيرتها السورية في نظام واحد.
إن محاولة تغيير قواعد الاشتباك بين إسرائيل من جهة والنظام السوري وإيران من جهة ثانية من شأنه أن يفجر الأوضاع بإدخال عنصر جديد مباشرة في الساحة السورية، وهذا أمر سيربك المخططات الأمريكية.
غير أن العقدة التي لم يحسب لها المحور الروسي حسابا كافيا، هو حجم الرد الأمريكي والإسرائيلي معا، فالهجوم الذي شنه الأمريكيون في ديرالزور تجاوز في قوته حدود الفعل الذي قامت به القوى التابعة لإيران، وكذلك الأمر في الجنوب، فالرد العسكري الإسرائيلي الهائل تجاوز حدود طائرة الدونر.
لقد استطاعت إسرائيل تدمير جزء كبير من الترسانة العسكرية السورية، بما فيها بعض الأسلحة المتطورة، لتتحول سوريا بذلك - وهذه أحد مفارقات التاريخ - إلى حلبة للقتال بعدما كانت على مدار عقود صانعة حلبات القتال خارج حدودها.
ستكتفي إيران والنظام السوري بمشاهد إسقاط الطائرة الإسرائيلية في مشهد سوريالي كاف للتمويه على الهزيمة المدوية التي ألحقت بهم خلال أيام قليلة، وستكتفي روسيا بإطلاق تصريحات نارية من جهة واستخدام آلتها العسكرية ضد فصائل المعارضة، الطرف الأضعف في المعادلة السورية من جهة ثانية.
ومع كل ذلك، فإن وصول الصراع العسكري الإقليمي - الدولي في سوريا إلى مرحلة الانسداد، قد يؤدي إلى انفجارات مفاجئة من شأنها أن تجعل الصراع أكثر عنفا عما كان خلال السنوات السابقة.
في الوقت الذي كانت فيه مفاوضات النظام ووحدات حماية الشعب الكردية تسير نحو تأمين عفرين عبر إدخال النظام رسميا بالمعركة ضد القوات التركية والجيش الحر، كانت هناك جهود مقابلة تهدف لإيجاد بديل عن تركيا يواجه تدخل النظام، دون حدوث مواجهة مقابلة بين أنقرة والأسد.
التوافق التركي الروسي، حول عملية عفرين كان واضحاً ومفتوحاً، لكن لا يبدو أنه يشمل جميع من يتواجد على الأرض ولاسيما إيران، التي قررت اعتراض هذا الاتفاق لاستبعادها منه، كما سبق وأن حدث ابان إخلاء حلب.
"قوات شعبية" المصطلح الذي أطلقه نظام الأسد، على الوافدين الجدد إلى عفرين لمواجهة تركيا، يكشف حضور إيران رسميا في المعركة، بعد أن كان عبارة عن تصريحات سياسية، مع رسائل عسكرية تزامناً مع ظهور عناصر يتبعون لها ظهروا خلال المعارك مع سلاح إيراني مضاد للدروع وللآليات.
مصادر تحدثت بشكل مقتضب عن إنجاز اتفاق يسمح لفصائل مقربة في الشمال السوري، الدخول في المعركة بالنيابة عن تركيا، وتكون في مواجهة النظام وإيران الساعين لإنهاء عملية غصن الزيتون.
تضارب مصالح الدول، وعودة استخدام البدائل لمنع المواجهة المباشرة، دفعت تركيا لإبرام اتفاق يفتح المجال أمام هيئة تحرير الشام لتدخل على خط المواجهة، مع تأمين متطلباتها وبعض الاحتياجات إضافة لما يبدو متوقعاً تغيب روسيا وسلاحها عن المعركة، فالمنطقة متفق عليها مع روسيا، ولا تغير بالاتفاقات.
الحشود التي تستجمعها الهيئة طوال الأيام الماضية، فُسرت على أنها تحضير لاقتتال جديد قد يطيح بالزنكي، ولكن يبدو أنه تحضيرٌ لإطلاق معركة جديدة بالتعاون مع فصائل مقربة من تركيا، وهو بمثابة تنفيذ لاتفاق جرى التوقيع عليه أمس، وبدت ملامحه اليوم مع عملية الراشدين التي تم الإعلان عنها، عبر وكالة الهيئة "إباء"، أنها تمت بمشاركة فصيل، وهي بادرة الأولى من نوعها، وتمهد لما هو قادم.
لم يكن التحرّش الإيراني من طريق طائرة «درون» بلا طيار انطلقت من الأراضي السورية نحو شمال إسرائيل، إلا صرخة المكتوم في ضوضاء تعالي الأصوات الدولية، صاحبة النفاذ والرجاحة السياسية والعسكرية على الأرض السورية، وفي مقدمها روسيا. وقد جاء الرد الإسرائيلي سريعاً من خلال 12 غارة نفذها الطيران على مواقع عسكرية بالقرب من دمشق انتهت بسقوط طائرةً F16 المتطورة لتل أبيب.
حتى اليوم، لم تتضح الصورة في شكل كامل، وبالتفاصيل المطلوبة، لكيفية سقوط هذه الطائرة، ولو أن بعض التقارير تناقل نبأ إسقاطها بصاروخ سام 5 الذي خضع للتطوير الروسي منذ تسلّمته سورية قبل عقود. غير أن المغزى من هذا الاستعراض «الحربجي» على الطرفين الإسرائيلي والسوري، وفي هذا التوقيت بالذات، هو حمّال وجوه واعتبارات.
فإيران التي وجدت أنها دُفعت من الحدود السورية مع الجولان المحتل نحو محيط دمشق، إثر الاتفاق الذي تم بين عمان وموسكو وواشنطن في المنطقة المنخفضة التوتر هناك، وهي المنطقة الوحيدة من مجمل المناطق المنخفضة التوتر التي حافظت على وقف إطلاق النار فيها بضغط أميركي لافت، لم ترض بالمطلق عن خسارتها لتلك المواقع المتقدمة مع إسرائيل، والتي ستضمن لها مناورة أوسع على طاولة المفاوضات بين الدول الضامنة من جهة، وأميركا الرابضة للحظة قنص كل مراميها في سورية دفعة واحدة وبلا تردد. ولم ترَ طهران ضمن هذه الشروط الجديدة لتغيّر الأوزان والمعطيات للدول الأربع ذات المنفعة المباشرة في سورية، إلا أن ترسل طائرة الدرون تلك لتقول: أنا هنا!
ومن المضحك والمبكي في آن، أن السفير الإيراني في دمشق ظهر على شاشة التلفزيون الرسمي السوري إثر سقوط الطائرة الإسرائيلية ليبارك العملية ويهنئ الشعب السوري بهذا الانتصار الجوي على إسرائيل، بينما لم يظهر وزير الدفاع السوري أو رئيس أركانه على أقل تقدير للإعلان عن التصدي للاعتداء الإسرائيلي على الأجواء السورية.
طبعاً، لم يفت على المسؤولين في النظام السوري ومعسكره الإعلامي توظيف سقوط الطائرة لمصلحة إعادة تداول الشعارات الممجوجة التي كرسها الأسد الأب، ومن بعده الابن، من أن هذه العائلة هي وحدها القادرة على حماية الأرض والسيادة الوطنية من أطماع تل أبيب، ولو أن هذا التسويق الإعلامي للأسد جاء مغلفاً بغموض العملية وتأرنُب (من أرنب) الجيش النظامي أمام العديد والعتاد الروسي والإيراني، اللذين استقرا على أرضه لا للدفاع عن النظام وحسب، بل عن خارطة نفوذ الدول المعنية التي ملعبها الأرض السورية. وحين يقترب الجميع من تقاسم مواقع النفوذ في سورية، سيرتفع معدل التوتر الميداني والتفاوضي بدرجة موازية لطموح اقتسام الكعكة السورية ولحجم المصالح الدولية الطويلة الأمد. فإيران ذات المطامع العقائدية تريد أن تسترد ما استثمرته في الإبقاء على بشار الأسد ونظامه، ليشكّل وتداً آخر يضاف إلى أوتاد غرستها في لبنان واليمن والعراق، لرفع خيمة مشروعها الطائفي التوسعي العابر للحدود. وإيران المستشرية في النسيج السوري بأذرع ميليشياتها الأخطبوطية، تريد أن تعزز من موقعها في ملف الاتفاق النووي الذي تعد الولايات المتحدة العدة لقلب طاولته على رؤوس متشددي طهران وملاليها، لتفوّت بذلك الفرصة على واشنطن من خلال ليّ ذراعها حيث الوجع العميق: أمن إسرائيل. إلا أن وزير الخارجية الأميركي، ريكس تيلرسن، الذي يقوم بجولة هذا الأسبوع لدول في المنطقة ستشمل مصر والأردن ولبنان والكويت وتركيا، لم يضف إلى برنامج زياراته محطة تل أبيب إثر هذا التصعيد الأخير، الأمر الذي دعا مدير عام المخابرات الإسرائيلية، تشاغي تزورييل، إلى حض الولايات المتحدة على ضرورة مقاربتها للرؤية الإسرائيلية لنوايا إيران في سورية، واصفاً إيران بأنها «سيدة لعبة الانزلاق نحو المنحدرات».
أما روسيا، التي وضعت يدها في يد إيران لدعم النظام السوري من أجل الاستمرار في السلطة، فما فتئت تتوجس من النفوذ الميليشياوي الإيراني على رغم أنها تسيطر على الأجواء السوريّة تماماً. وروسيا التي تواصلت في شكل وثيق ومتصل مع إسرائيل، هي من مهّد الأجواء (غضّت الطرف في أضعف الإيمان) لدخول الطيران الإسرائيلي وضربه مواقع عسكرية حساسة للنظام ولطهران قرب دمشق، إثر سقوط المقاتلة الإسرائيلية. وعلى رغم أنه لم تُحسم حتى اليوم كيفية سقوط الطائرة الإسرائيلية F16، هل بفعل عطل تقني في تشغيلها أم بالدفاعات الجوية السورية المختلطة الهوية، إلا أن فصل المقال يكمن في الاتجاه الذي ستأخذه موسكو بعد هذا الحدث المنعطف، إذ لن يمكنها بعد اليوم أن تستمر في سيرها البهلواني على حبليّ إسرائيل وإيران معاً، وعليها أن تحسم أمرها على أي جانبيها ستميل.
أخيرا، شرب ما يسمى "الجيش العربي السوري"، وهو ليس جيشا أو عربيا أو سوريا، حليب السباع، وتصدّى بعد قرابة نصف قرن لطائرات إسرائيل التي أغارت آلاف المرات على سورية، بما في ذلك بيت بشار الأسد، ورشق حزمة صواريخ عليها بأسلوب "يا ربي تجي في عينه"، فأصاب بالخطأ واحدة منها، كانت تضرب مواقع لقوات الاحتلال الإيراني. عندئذٍ، قرّر جنرالات إيران و"استراتيجيون" عرب، أطلوا علينا من تلفزيونات تحولت فجأة إلى ما يشبه تلفاز "المنار" الإيراني في بيروت، أن قواعد اللعبة بين النظام المقاوم وإسرائيل قد تغيرت، وتناسوا أن طائراتها هاجمت أربعة عشر موقعا لجيش العدوان الأسدي على السوريين، وأن إسقاط الطائرة حدث بالخطأ، ولو أن قواعد الاشتباك تبدلت، لكانت قواعد الصواريخ التي دمرتها الغارات قد أطلقت بعض قذائفها، ولما تم تدميرها بالكامل بين دمشق ودرعا، وإخراج مطارات التيفور والمزة وخلخلة من الخدمة، وإحراق معسكراتٍ لـ"حرس الطائفية الجمهوري". اعتبر هؤلاء إسقاط طائرة إسرائيلية خلال قرابة نصف قرن "انتصارا للمقاومة"، بدّل موازين القوى بين نظام سلمه حافظ الأسد عام 1967 محافظة سورية اسمها الجولان، ثم سامحه بها في مقابل تسليمه السلطة، شريطة أن يحكم سورية بلدا محتلا. وهكذا كان، فحكمها مثل مندوب سام صهيوني في رئاسة الجمهورية، وفعل الأفاعيل بالسوريين، قبل أن يقبض الله روحه ويتولى ابنه الحكم، ويكمل مهمة أبيه في القضاء على "شعب الإرهابيين السوري".
ما الذي تغير حقا بإسقاط الطائرة الإسرائيلية، إذا كانت طائرات إسرائيل دمرت ما أرادت تدميره لنظام "المقاومة"، بعيد سقوط الطائرة بساعات؟ وهل يعتقد "الاستراتيجيون" أن العدو الإسرائيلي لا يضع في حسبانه خسارة طائرة كل نصف قرن؟ لو كان يفعل ذلك، لما اعترف بسقوط طائرةٍ وقعت في فلسطين المحتلة، ولأسقط في يد المحللين الاستراتيجيين الذين قفزوا عن حقائق الصراع المذلة، ولما طبّلوا لجيش النظام الجبان الذي كان يقصف الغوطة بالطيران، بينما كانت طائرات إسرائيل تهاجمه، ولرفضوا التحدّث بلغة جنرالات طهران الذين أحرقوا إسرائيل عشرات المرات خلال الأعوام الماضية، من دون أن يرموها ولو بحصاة، ولغة مندوبهم السامي في لبنان، حسن نصر الله الذي حرّر فلسطين آلاف المرات (!).
تكمن قواعد اللعبة في قيام إسرائيل بالضرب حيثما أرادت، وكلما حلا لها أن تضرب، وبعدم الرد عليها، بحجة أن الزمان والمكان لم يكونا مناسبين للرد خلال نصف القرن المنصرم. أمس، أطلقت صواريخ أصابت طائرة، أعقبتها غارات بالعشرات لم يتم خلالها إطلاق صاروخ واحد، فأين هو تبدل "قواعد الاشتباك"؟ لم يكف الصهاينة عن الهجوم، ولم يجرؤ النظام على الدفاع، أليست هذه هي القواعد التي التزم بها بعد إسقاط طائرة إسرائيل بالخطأ، على الرغم من أن الغارات التي تلته استهدفت قواعد الصواريخ التي أصابتها ودمرتها؟
بقصر كلامهم على حدث جزئي هو إسقاط الطائرة، تبنّى الخبراء نظرة إيران، وتجاهلوا حقائق الصراع العسكري، والمضامين السياسية لما جرى، ولماذا صعّدت إيران موقفها العسكري، وهاجمت خلال أيام قوات يدعمها عسكر واشنطن قرب دير الزور، وأرسلت طائرةً مسلحةً بلا طيار إلى إسرائيل، وما هي علاقة محاولات جس النبض هذه، فيما يقال عن تبدل الأدوار الدولية، وليس "قواعد الاشتباك"، في سورية، بعد فشل مؤتمر سوتشي وإعلان واشنطن نهاية سياسة الانكفاء في العراق وسورية.
من المفهوم أن "يفوش" جنرالات طهران بعد إسقاط طائرة إسرائيلية، أما أن يغرق "خبراؤنا الاستراتيجيون" في شبر ماء فهذا ما ليس مفهوما أو مقبولا.
ظن البعض مؤخراً أن الحرب ين إيران وإسرائيل قد تندلع بين لحظة وأخرى بعد أن ادعت إسرائيل أنها أسقطت طائرة استطلاع إيرانية داخل الأجواء الإسرائيلية كانت قادمة من قاعدة إيرانية في سوريا. ومما زاد في تأزم الوضع بين طهران وتل أبيب أن النظام السوري أسقط طائرة إسرائيلية في اليوم نفسه لأول مرة منذ واحد وثلاثين عاماً. هذه الأجواء المحمومة جعلت الكثيرين يتوقعون أن تشتعل الحرب بين إيران من جهة وأمريكا وإسرائيل من جهة أخرى. لكن السياسة علمتنا أن لا نأخذ أبداً بظاهر الأمور مهما كانت مشتعلة إعلامياً، فالحقيقة لا تجدها في وسائل الإعلام ولا في التصريحات السياسية النارية، بل تجدها على أرض الواقع. وقد أخبرنا الفلاسفة الإغريق أن لا نركز على ما يقوله الساسة، بل على ما يفعلونه على الأرض. ولو نظرنا إلى ما فعلته إسرائيل وإيران على الأرض نجد أن الطرفين حلف واحد يتقاسم العالم العربي بالمسطرة والقلم.
قالها لي باحث سوري كبير يعيش في أمريكا منذ الأيام الأولى للثورة السورية. وهو مؤيد للنظام بطريقة ذكية قال: «لا تتفاجأوا بالتغلغل الإيراني المتزايد في المنطقة عموماً وسوريا خصوصاً: فهناك اتفاق بين إيران من جهة وأمريكا وإسرائيل من جهة أخرى يسمح لإيران بالتمدد واستعداء العرب للتخفيف من العداء العربي لاسرائيل. بعبارة أخرى هناك اتفاق بين اسرائيل وإيران على تقاسم العداء مع العرب، فبدلاً من أن تظل إسرائيل البعبع والعدو الوحيد للعرب في المنطقة تتقاسم العداء مع إيران بحيث يخف الضغط على إسرائيل. ولو نظرنا الآن لوجدنا ثمرات هذا الاتفاق على الارض.
ألم يصبح غالبية العرب ينظرون إلى إيران على أنها أخطر عليهم من اسرائيل؟ وبالتالي، فإن كل العداء هذا الظاهر بين الصفيوني والصهيوني مجرد ضحك على الذقون. أما الخوف الإسرائيلي من الوجود الإيراني في سوريا ولبنان فقد أصبح نكتة سمجة لم تعد تنطلي على تلاميذ المدارس.
تعالوا نشاهد كيف سهّلت أمريكا وإسرائيل لإيران الخمينية أن تتمدد حتى تصل إلى حدود إسرائيل. ألم يرفع الإمام الخميني عند وصوله إلى السلطة في إيران في نهاية سبعينيات القرن الماضي قادماً من بلاد الغرب «اللعين»، شعار محاربة الشيطان الأكبر، ألا وهي أمريكا وكل الجهات المتحالفة معها في الشرق الأوسط؟ ألم تكن إسرائيل على رأس قائمة الجهات التي استهدفتها القيادة الإيرانية الجديدة التي استلمت مقاليد الحكم بعد الثورة؟ ألم نسمع وقتها كيف بدأ الإيرانيون الجدد يرفعون شعار تحرير القدس وإغراق الصهاينة بالماء؟
ألم تنتبه إسرائيل وأمريكا لكل تلك التهديدات الإيرانية الصارخة؟ لماذا لم تتخذ واشنطن وتل أبيب كل الاحتياطات، وترصد كل التحركات الإيرانية الجديدة لحظة بلحظة خوفاً من حملة الثأر الإيرانية الرهيبة التي أطلقها الخميني ضد الشيطان الأكبر وربيبته إسرائيل؟ على العكس من ذلك نجد أن التغلغل الإيراني في المنطقة بعد سنوات قلائل على الثورة الإيرانية، فقد وصلت إيران فوراً إلى الحدود الإسرائيلية بلمح البصر بعد تهديداتها النارية للإمبريالية والصهيونية. وفي بداية الثمانينيات، وبعد ثلاث سنوات أو أقل، ظهر فجأة إلى الوجود «حزب الله اللبناني» كأول طليعة وذراع عسكري لإيران في المنطقة. ولو ظهر ذلك الحزب مثلاً في بلد عربي بعيد عن إسرائيل، لبلعنا القصة. لكن الذي حصل أن إيران أسست حزب الله على الحدود مباشرة مع ما تسميه وسائل الإعلام الإيرانية «الكيان الصهيوني» بعد أن قضت بالتعاون مع النظام السوري على كل الفصائل اللبنانية والفلسطينية والوطنية واليسارية والإسلامية وغيرها في لبنان التي كانت تخوض حرب العصابات ضد إسرائيل.
فجأة ظهر حزب الله ليرفع شعار تحرير القدس من على الحدود مع إسرائيل مباشرة، وليس من طهران.
والسؤال هنا بعد تولي الخميني مقاليد الحكم في إيران ورفعه شعارات تقطر عداء لإسرائيل وأمريكا: كيف سمحت إسرائيل وأمريكا لذراع عسكري إيراني ضارب أن ينشأ على حدود إسرائيل مباشرة مع لبنان بعد فترة قصيرة جداً من وصول الخميني إلى السلطة، وبالتالي أن يهدد «الصهاينة» من على مرمى حجر؟
بعض الساخرين يتهكم قائلاً: يبدو أن أمريكا وإسرائيل اللتين تراقب أقمارهما الاصطناعية دبيب النمل في المنطقة، كانتا نائمتين في تلك اللحظات التي ظهر فيها حزب الله على الحدود مع إسرائيل أو كانت الكهرباء مقطوعة في إسرائيل، فنشأ الحزب ونما، ودجج نفسه بالسلاح الإيراني والسوري بلمح البصر، وعندما استفاقت أمريكا وإسرائيل وجدتا أن هناك قوة عسكرية إيرانية ضاربة على الحدود الإسرائيلية، فأسقط في أيديهما، وندمتا على الساعة التي أخذتا فيها غفوة، فاستغلتها إيران في إنضاج حزب الله، وجعله سيفاً مسلطاً على رقبة إسرائيل بين ليلة وضحاها.
وبما أن النظام الإيراني الجديد رفع منذ بداية الثورة شعار القضاء على الصهيونية، فكيف سمحت له إسرائيل وأمريكا أن يتغلغل في سوريا جارة «الصهيونية» المباشرة بهذا الشكل الرهيب، بحيث أصبحت سوريا على مدى عقود بعد الثورة الإيرانية (عدوة الامبريالية والصهيونية)، أصبحت مربط خيل إيران في المنطقة؟ يبدو أيضاً أن الاستخبارات الأمريكية والإسرائيلية أثناء التغلغل الإيراني في سوريا والهيمنة عليها كانت نائمة، ربما بسبب التعب، أو بعد تناول وجبة ثقيلة من الأسماك، فاستغلت إيران الغفوة أيضاً، ووصلت إلى حدود «الكيان الصهيوني» لتهدده مباشرة. وها هو الحرس الثوري الإيراني الذي يريد أن يدمر الصهاينة يصول ويجول الآن في سوريا حتى وصل إلى تخوم الجولان، وإسرائيل «المسكينة» غافلة عنه. يا سلام! يا حرام!
لو كانت اسرائيل تخشى من إيران وميليشياتها الطائفية في سوريا، لما سمحت هي وأمريكا لتلك الميليشيات بدخول سوريا أصلاً، ومن سلم العراق لإيران على طبق من ذهب، لا يمكن أن يعرقل التغلغل الفارسي في سوريا، ومن يخشى من حزب الله في لبنان، لا يمكن أن يسمح لإيران بإنشاء ألف حزب الله في سوريا.