أسرعت روسيا إلى استثمار دور قواتها المسلحة في حماية النظام السوري، وقبضت الثمن بعقد اتفاقيتين مع الأخير، قبل بموجبهما بقاء القوات الروسية على الأرض السورية، في قاعدتين، جوية في حميميم وبحرية في طرطوس، مدة كل منهما 49 سنة قابلة للتمديد آليا، فترة إضافية مدتها 25 سنة. جاءت الاتفاقيتان تنفيذا لرؤية الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، الاستراتيجية بالوجود العسكري في نقاط قريبة من الخاصرة الرخوة لحلف شمال الأطلسي (الناتو) في حوض البحر الأبيض المتوسط، للرد على التهديدات الغربية، واحتواء مخاطر زحف الحلف المذكور باتجاه حدود روسيا الغربية، ونشر الدرع الصاروخية الأميركية في بولندا ورومانيا وتركيا. وقد بوشر بتحويل القاعدتين إلى مجمّعين كبيرين للقوات (البحرية غدت جاهزة لاستقبال وخدمة صنوف السفن والمدمرات والفرقاطات والغواصات والطرادات النووية. والجوية لصنوف الطائرات، قاذفات ومقاتلات ومروحيات. وعززا بالدفاعات الجوية الحديثة من طراز إس 300 وإس 400 والدبابات والمدرعات والأسلحة والذخائر، بالإضافة إلى طواقمها من الجنود وصف الضباط والضباط الذين تجاوز عددهم 4500 فردا لتشغيلها وحمايتهما)، وإلى نقطتي ارتكاز متقدمتين في مسرح عمليات فائق الأهمية.
لم تكتفِ روسيا بالقاعدتين على الأرض السورية، بل تحركت لاستعادة نفوذ الاتحاد السوفييتي في مصر والجزائر والسودان، وتواصلت مع الجنرال خليفة حفتر في ليبيا للغرض نفسه، من أجل تكثيف الضغط على التحالف الغربي، ودفعه إلى الإقرار بها قوة عظمى، والتسليم بدورها ومصالحها والاتفاق معها على مخارج للملفات العالقة بينهما (رفع العقوبات الاقتصادية عنها، القبول بضم جزيرة القرم، وقف نشر الدرع الصاروخية الأميركية قرب حدودها، وقف زحف حلف الناتو نحو حدودها)، وعلى مناطق النفوذ وحل المشكلات الإقليمية والدولية الساخنة.
جاء التدخل العسكري الروسي في سورية في سبتمبر/ أيلول 2015، بعد فشل محاولات وقف زحف "الناتو" ونشر الدرع الصاروخية الأميركية في الهجوم على جورجيا عام 2008، واقتطاع أراض منها وإقامة كيانين سياسيين تابعين (أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية) والهجوم على أوكرانيا عام 2014، وضم جزيرة القرم وتشكيل جمهوريتين "شعبيتين" مواليتين في شرقي البلاد (جمهوريتي دونيتسك ولوهانسك)، وما ترتب عليه من فرض عقوباتٍ اقتصاديةٍ عليها، انعكست سلبا على الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، التي تعاني من مصاعب أصلا بسبب انهيار أسعار النفط، وانهيار سعر صرف العملة الوطنية: الروبل.
لم تستجب الولايات المتحدة للرسائل والإشارات الروسية، بل تركتها تغوص في الصراع السوري، من أجل استنزافها وتدفيعها أثمانا باهظة، وتحميلها مسؤوليات سياسية وأخلاقية عن القتل والتدمير الممنهج للمدن والبلدات والقرى السورية الذي انخرطت فيه، إلى جانب قوات النظام وحلفائه الإيرانيين ومليشياتهم الطائفية، ووضعها في مواجهة العالم الإسلامي السنّي، على خلفية هذا الاصطفاف المذهبي، لابتزازها ودفعها للخروج من أوكرانيا وإعادة جزيرة القرم إليها.
ردّت الولايات المتحدة على رؤية بوتين الاستراتيجية، ونشره قوات روسية في سورية، بعقده الاتفاقيتين المذكورتين، بخطوة من النوع نفسه: إقامة قواعد عسكرية على الأرض السورية (5 قواعد عسكرية شمال شرق الفرات جُهز بعضها لاستقبال طائرات ثقيلة واستيعاب معدات وعتاد متطور، خصوصا قاعدة تل حجر في منطقة رميلان التي زودت بتقنيات دقيقة، وفق مصادر مطلعة أشارت إلى الحراسة المشددة حول القاعدة المكونة من طوقين، خارجي تقوم به "وحدات حماية الشعب" الكردية، وداخلي تقوم به قوات خاصة أميركية ويمنع اجتيازه لغير الأميركيين، بالإضافة إلى نقل المعدات من كردستان العراق عبر معبر سيمالكا بشاحنات مغلقة كي لا يتم التعرف إلى طبيعة المعدات ونوعيتها)، والإعلان عن بقائها (القوات الأميركية) فترة مفتوحة. وهذا مع قاعدة التنف، ذات الموقع الاستراتيجي الحساس (على مشارف الحدود مع العراق والأردن والجولان السوري المحتل)، والمزوّدة بأسلحةٍ حديثةٍ ومتطورة، راجمات صواريخ مداها 350 كم قادرة على شل القاعدتين الروسيتين في حميميم وطرطوس، والأسلحة التي خزّنتها ونشرتها في إسرائيل، يعكس التوازن العسكري بينهما شرق المتوسط. تتضح الصورة أكثر، إذا ربطنا هذه المعطيات بالاستراتيجية الأميركية الجديدة التي أعلن عنها الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في خطابه عن حالة الاتحاد، واعتباره روسيا تهديدا للأمن القومي الأميركي، وبرنامجه لتطوير القوة النووية الأميركية (التركيز على تصنيع قنابل نووية صغيرة لتكون قابلة للاستخدام).
يمكن اعتبار الخطوة الأميركية، إقامة هذه القواعد وتجهيزها بالتقنيات والمعدات المتطورة والعتاد الثقيل، تطويقا للقاعدتين الروسيتين، وامتصاص أثرهما واحتواء دورهما في معادلة الصراع الغربي الروسي. وهذا يفسر إلى حد كبير عصبية القيادة الروسية وتوترها والتصريحات الحادة ضد الوجود الأميركي على الأرض السورية (عدم شرعيته، زوال مبرّره، هدفه تقسيم سورية، المطالبة بانسحابه) التي أطلقها كل من وزير الخارجية، سيرغي لافروف، وزير الدفاع سيرغي شويغو، الناطق باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف، الممثل الخاص للرئيس الروسي في سورية، ألكسندر لافرنتييف، الناطقة باسم الخارجية، ماريا زخاروفا، السفير الروسي في لبنان، ألكسندر زاسيبكين، السفير الروسي في دمشق، ألكسندر كينشاك، رئيس لجنة الدفاع في مجلس الدوما، فلاديمير شامانوف، رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الدوما، قسطنطين كوساتشيف، بالإضافة إلى الحملات الإعلامية التي شنتها وسائل الإعلام الروسية المرئية والمسموعة والمقروءة على الدور الأميركي في سورية.
لم تتوقف الحملة الروسية على الوجود العسكري الأميركي في سورية، وخصوصا في شمال شرق نهر الفرات، عند الحملات الدبلوماسية والإعلامية، بل سعت إلى تحفيز ضغط ميداني مباشر من خلال مباركة الموقف الإيراني الذي أعلنه مستشار المرشد الأعلى، علي أكبر ولايتي، والذي لوح بطرد القوات الأميركية من شمال شرق الفرات، واختبار مدى جدية الموقف الأميركي في الدفاع عن المناطق التي تسيطر عليها "قوات سورية الديمقراطية" بمهاجمة مواقع تلك القوات في ناحيتي ذيبان والبصيرة (قرى خشام، جديد عقيدات، جديد بقارة) في محافظة دير الزور بقوات من الفيلق الخامس، الذي شكلته منذ نحو عام، تساندها قوات موالية لإيران (لواء الباقر). والدفع نحو صدام أميركي تركي، من خلال تشجيع تركيا على تحدي الموقف الأميركي من بقاء "قوات سورية الديمقراطية" في منبج، والتصعيد عسكريا ضد فصائل المعارضة لإحراج واشنطن التي شجعتها على مقاطعة مؤتمر سوتشي، وربط استكمال العملية السياسية باستعادة النظام السوري لكل الأراضي السورية. وهذا استدعى ردا أميركيا تمثل في هجمات بطائرات درون (طائرات من دون طيار) على قاعدتيها في حميميم وطرطوس (نجم عنها إعطاب سبع طائرات ومنصة صواريخ إس 400)، وإسقاط طائرة سوخوي 25 في محافظة إدلب، وقصف قوات النظام وحلفائه في ريف دير الزور (قتل 137 عنصرا منهم) في استهداف مباشر للوجود الروسي في سورية.
تنطوي الخطة الأميركية على نتيجتين مباشرتين بالنسبة للملف السوري: بقاء الملف مفتوحا فترة غير محدّدة، وما سينجم عن ذلك من قتل ودمار وتهجير، واستمرار حاجة واشنطن لقوات "وحدات حماية الشعب" الكردية، الجناح العسكري لحزب الاتحاد الديمقراطي، في الحروب بالوكالة الدائرة على الأرض السورية، ما سيدفعها إلى الضغط من أجل إشراك الحزب المذكور في المفاوضات، مع احتمال تبني مشروعه الفيدرالي في سورية.
في أقل من أسبوعين، أسقط مقاتلون سوريون، مقاتلةً روسيةً، وأسقط أكرادٌ مروحيةً تركيةً فوق عفرين، وأسقط الإيرانيون طائرتين حربيتين إسرائيليتين. ماذا بعد هذه الاشتباكات؟
على التراب السوري ثلاث درجات من القوة. الأميركية ضد الروسية. والإسرائيلية ضد الإيرانية. والميليشيات من «حزب الله» ونحوه ضد «الجيش الحر السوري» وغيره.
ويبقى احتمال الاصطدام الإيراني الإسرائيلي هو الأهم، لأن تركيا لن تصعد ولن تتوغل، ويمكن رسم العلاقة معها في منطقة القتال. وربما غيرت سلسلة الأحداث الأخيرة قواعد الاشتباك. فإسرائيل قامت بقصف وقتل إيرانيين مباشرة، بعد أن كانت في السابق توقع العقوبات بميلشياتهم من «حزب الله» وغيره.
والولايات المتحدة، أيضاً، قتلت مائة من ميليشيات موالية لإيران، لأنها هاجمت مسلحين أكراداً موالين لها. يبدو أن روسيا وإيران بيتتا لضرب إسرائيل ضمن رسم «قواعد الاشتباك». فإسرائيل غضبت من دخول طائرة درون إيرانية صغيرة أجواءها، وردت بقصف مواقع للحرس الثوري الإيراني، الذي تجرأ على إسقاط طائرتين إسرائيليتين، ورد الإسرائيليون بقصف مواقع إيرانية مباشرة. ومثلما أنكرت واشنطن معرفتها بما فعله حلفاؤها، أنكرت موسكو أي دور لها في إسقاط الطائرتين الإسرائيليتين! أمر مستبعد تماماً.
النتيجة حركة دبلوماسية خلف الأبواب المغلقة بين واشنطن وموسكو وإسرائيل وإيران، إما إنها تسعى لتنظيم الخلاف ورسم قواعد الاشتباك، وبالتالي تجنب توسيع المواجهة العسكرية، أو الذهاب إلى مواجهات مباشرة، إيرانية إسرائيلية!
معروف أن إيران أضعف عسكرياً من إسرائيل، ولا تستطيع الانتصار، لكنها تستطيع إلحاق الأذى بها. فهي تستخدم جيشاً من المجندين الأجانب مستعدة للزج به، يقدر بأكثر من خمسين ألفاً من لبنان والعراق وأفغانستان وغيرها.
إسرائيل مثل تركيا تأخرت في التدخل، وهي تدفع ثمن تبنيها «سياسة البلكونة» بالجلوس في الشرفة، والتفرج على الحرب الأهلية في جارتها سوريا اعتقاداً أنها تستنزف خصومها. مثل تركيا، تركت إيران تتمدد، وتبني قواعد، وتنشر ميليشياتها وتستغل الغطاء الروسي. الآن تشتكي تركيا وإسرائيل من أن الحرب صارت تهدد أمنهما واستقرارهما. ولا نرى احتمالية أن تهدأ الأوضاع طويلاً في سوريا، بل المواجهات بين القوى المختلفة هي الأرجح. فقد وصلت الأمور إلى وضع يصعب على أي فريق الانسحاب دون القبول بالخسائر. فميلشيات إيران منتشرة في كل مكان، وتزداد في تقويتها، تريد حكم سوريا مستغلة ضعف نظام الأسد الذي فقد معظم قدراته العسكرية والأمنية.
وليس الوضع طارئاً كما توحي التصريحات التي أعقبت إسقاط الطائرتين الإسرائيليتين. لنتذكر أن تل أبيب تدرس، وتفاوض، وتستعد للوضع السوري تحت الاحتلال الإيراني، وكان الموضوع الرئيسي في لقاءات المسؤولين الإسرائيليين مع الروس والأميركيين خلال الأشهر القليلة الماضية.
ومهما قيل، فما حدث ليس مفاجئاً، ويفترض أن يوضع في إطار تبادل إسقاط الطائرات ضمن صراع القوى الكبرى والمتوسطة على التراب وفي الأجواء السورية.
الجميع ينفي، لكن الحقيقة تبدو غير ذلك. فالمعارضة السورية المسلحة عندما أسقطت طائرة روسية فوق إدلب نفى مسؤول في «البنتاغون»، قبل تسعة أيام، أن تكون الولايات المتحدة خلفها، وأنكر أنهم زودوا حلفاءهم في سوريا بصواريخ أرض جو. والروس نفوا علاقتهم بإسقاط مقاتلتي إسرائيل. وإيران تنفي أنها طيرت الدرون داخل إسرائيل، مدعية أن قوات النظام السوري من أرسل الدرون، ومن أطلق الصواريخ التي تصدت للمقاتلات الإسرائيلية. الحقيقة أن الجميع شركاء في الحرب، وهذا فصل مهم دفن مشروع «سوتشي»! الحل في سوريا إخراج قوات النظام الإيراني وميلشياته، ووضع حل سياسي مقبول للجانبين المتحاربين.
إذا جاز لنا التعبير، غيرت تركيا منحى السياسة العالمية من خلال عمليات درع الفرات وجرابلس والباب وغصن الزيتون ضد تنظيم داعش ووحدات حماية الشعب.
مع القضاء على داعش انكشف النفاق العالمي المسمى بـ "التحالف الدولي" على حقيقته، ولهذا ظهر إلى الواجهة الصراع الجيوسياسي الذي خاضته القوى العالمية في الخفاء.
الحرب الدولية على الإرهاب بدأت بالتخلي عن مكانها لصالح حرب أخرى لا هوادة فيها بين القوى العظمى في العالم. وفي هذا السياق فإن وطيس الصراع بدأ يستعر بين روسيا والولايات المتحدة وإيران وتركيا في سوريا على الأخص.
في هذه المرحلة الجديدة، تقف الولايات المتحدة وإسرائيل في جانب، وروسيا وتركيا، فضلًا عن إيران والنظام السوري في جانب آخر.
في 6 يناير/ كانون الثاني تعرضت قاعدتان عسكريتان روسيتان في طرطوس وحميميم لهجوم من جانب 13 طائرة مسيرة، وكان هذا طلقة البداية للمرحلة الجديدة.
اعتبر المسؤولون الروس أن هذا الهجوم هو استفزاز أمريكي، وفي أعقابه شهر البلدان أسلحتهما في مواجهة بعضهما البعض.
في 20 يناير، أطلقت تركيا عملية عفرين، التي زعزعت الموازين في المنطقة. وفي 3 فبراير/ شباط، أُسقطت مقاتلة روسية من طراز سوخوي 25، في المنطقة الخاضعة لسيطرة تركيا في إدلب.
في اليوم نفسه، تعرضت دبابة للجيش التركي إلى هجوم في محيط عفرين أسفر عن سقوط 8 من عناصره.
مساعد رئيس لجنة الدفاع والأمن في مجلس الشيوخ الروسي فرانز كلينتسيفيتش قال بشأن المقاتلة المستهدفة بصاروخ محمول على الكتف: "أعطت الولايات المتحدة هذا الصاروخ إلى الإرهابيين عن طريق بلدان أخرى. يرمي إسقاط الطائرة إلى إفساد علاقات موسكو مع أنقرة. دور الاستخبارات الأمريكية واضح جدًّا في هذا الهجوم الذي يبدو شديد التعقيد"، مؤكدًا استمرار الهجمات الأمريكية على التحالف الروسي التركي.
بعد ثلاثة أيام من استهداف الدبابة التركية، في 7 فبراير التقط جنرالات أمريكيون صورًا مع إرهابيي وحدات حماية الشعب ليبدوا تضامنهم معهم، فيما اعتُبر تحديًا لتركيا.
وفي اليوم التالي، هاجمت الولايات المتحدة ميليشيات موالية للنظام السوري نفذت هجومًا على إرهابيي وحدات حماية الشعب في دير الزور. وادعى الجيش الأمريكي أنه قتل مئة من عناصر الميليشيات المذكورة.
وأمس الأول، شهدت الحرب السورية المستمرة منذ 7 أعوام تطورًا جديدًا، أشبه ما يكون "بحرب داخل حرب". فقد أسقطت إسرائيل أولًا طائرة إيرانية مسيرة، كانت تحلق فوق مرتفعات الجولان المحتلة.
وفي أعقاب ذلك، هاجم نظام دمشق مقاتلة إسرائيلية من طراز إف-16، لترد عليه تل أبيب بالهجوم على 12 هدفًا في سوريا، 4 منها إيرانية و8 تابعة للنظام.
هذا المشهد الدامي خلال الأيام السبع الأخيرة هو في الحقيقة خير مؤشر على أن الحرب العالمية الثالثة اندلعت منذ مدة في سوريا.
تمثل الفترة الأخيرة من الحرب في سوريا مرحلة هي الأكثر دموية والأشد إيلاماً في السنوات السبع الماضية. فمن النادر أن مرّ أحد أيامها السوداء دون سقوط مئات من القتلى والجرحى، جلّهم من المدنيين العزل ومن النساء والأطفال الذين تلاحقهم هجمات حلف نظام الأسد مع الروس والإيرانيين وميليشياتهم، وتهاجم مخيماتهم ومنازلهم ومدارسهم والأسواق، وصولاً إلى المشافي القليلة والحقول والبراري، التي ينتشرون فيها هرباً من هجمات البراميل المتفجرة والصواريخ، وأسلحة الدمار الشامل المحرّمة دولياً من أسلحة كيماوية إلى قنابل النابالم.
ويزيد بشاعة الحرب الجارية في سوريا تفاصيل أخرى بينها، أن الحرب تتواصل على مناطق محاصرة وشبه مغلقة، مثالها الأكثر وضوحاً غوطة دمشق الشرقية المحاصرة بصورة شبه محكمة منذ أكثر من أربع سنوات، منع فيها الدخول والخروج، بما فيه دخول الغذاء والدواء وحليب الأطفال واللوازم والتجهيزات الطبية، وانعدمت فيها خدمات التعليم والصحة، وهي حالة تقارب ما صارت إليه محافظة إدلب وجوارها في أرياف حلب وأرياف حماة، التي إضافة إلى سكانها، تضم مئات آلاف النازحين والمهجرين من مناطق أخرى كثير منهم، تم إيصالهم إلى هناك نتيجة اتفاقيات هدن من محيط دمشق وريفها ومن حمص ومناطق أخرى، كانت حتى الأمس القريب خارج سيطرة نظام الأسد.
وثمة نقطة تضاف في مجريات الحرب. إذ تتواصل لا في سياق استعادة سيطرة النظام وحلفائه على تلك المناطق فقط، وإنما بالتوازي مع هدف آخر ربما هو الأهم، وهو الانتقام من سكان تلك المناطق وتقتيلهم، ورغم هذا يواجهون الهجمات ويصدّون محاولات قوات الأسد وحلفائها لاقتحام الغوطة من جهة، ورداً على عملية إسقاط طائرة روسية، تمت مؤخراً في إدلب – وهو ما أكدته تصريحات صدرت رسمياً عن مسؤولين روس - استتبعت جلب طائرات حديثة للمشاركة في الحرب الجارية.
بشاعة هذه الحرب، لا تتصل فقط بمجرياتها وبنتائجها من قتل وجرح وتدمير وتهجير، إنما أيضاً بطبيعتها من حيث استهداف شبه حصري للمدنيين ومن استخدامها أشد الأسلحة فتكاً، وتحويل المناطق المستهدفة إلى ساحة لاستعراض واختبار أحدث الأسلحة والذخائر الروسية، وسط تشارك القوات الروسية والإيرانية مع قوات النظام والميليشيات الخاضعة لغرف عمليات مشتركة.
ومما لا شك فيه، أن البيئة المحيطة بحرب الفناء، تعطي لها خصوصية، تضاف إلى ما سبق. إذ تتواصل بعد جلب وإخضاع أغلب جماعات المعارضة المسلحة، ودفعهم للانخراط في مسار آستانة المتوافق عليه بين روسيا وإيران وتركيا، والضغط المتواصل على المعارضة السياسية وتهميشها سواء في تحالفها التفاوضي ممثلاً بالهيئة العليا للمفاوضات، التي أنتجها مؤتمر الرياض2، أو القوى المنخرطة فيها، ولا سيما الائتلاف الوطني السوري بعد أن رفضت جميعاً حضور مؤتمر سوتشي، وخطته في تدويل المساعي الروسية لحل يتوافق مع مصلحة تحالف نظام الأسد وإيران وروسيا، وتثبيته في مسار جنيف ليغدو الإطار الدولي للحل في سوريا.
وسط تلك المعطيات، يطرح سؤال عما يمكن أن تتركه حرب الفناء في سوريا على السوريين من نتائج راهنة ومستقبلية؟
إن الأبرز في النتائج، هو إشاعة اليأس والإحباط لدى غالبية السوريين، إن لم نقل كلهم؛ لأن الموجودين في مناطق سيطرة النظام، ليسوا بأفضل حالاً من أقرانهم في المناطق الخارجة عن سيطرته، واليأس ليس فقط بسبب القتل والإعاقات والتهجير والتدمير، إنما بسبب انعدام شروط الحد الأدنى للحياة الإنسانية والحرمان من خدمات التعليم والصحة، وإشاعة الاقتتال بين مكونات الجماعة الوطنية القومية والدينية والطائفية والمناطقية، واستخدامها أدوات في صراعات الدول المتدخلة في القضية السورية، والإهمال الشائع من المجتمع الدولي والقوى الفاعلة فيه لمعاناة السوريين الكارثية، وبخاصة لجهة قتلهم الرخيص والواسع بالأسلحة المحرمة دولياً، والإبقاء على قضيتهم دون حل، ودون أفق لحل منتظر.
ومن البديهي، أن يسبب ما سبق نمواً وتوسعاً في اتجاهات التشدد والتطرف في أوساط لا تعاني فقط، وإنما هي محرومة من فرص التعليم والعمل، التي ستخلق جيلاً من الهامشيين ومحدودي الفهم والقدرة على معالجة المشكلات القائمة بطرق عقلانية وموضوعية وعملية؛ مما يجعل أكثرية السوريين بيئة قابلة لسيطرة المتطرفين والإرهابيين الذين سيمدون نشاطهم نحو بلدان الجوار والأبعد منها، ولدينا اليوم أمثلة ملموسة سواء في نموذج «داعش» الذي جاء من العراق و«النصرة» الموصوفة بفرع القاعدة، وحزب الاتحاد الديمقراطي السوري الموصوف بفرع حزب العمال الكردستاني في تركيا (بي كي كي).
وسيكون الأمر أسوأ مع التهميش والتدمير القائم للمعارضة السياسية والمسلحة الحالية (رغم مساوئ الاثنتين ومشاكلهما الراهنة)، وهو سلوك مقترن على نحو عام مع تهميش النخبة السورية في سوريا وخارجها؛ الأمر الذي يعني ترك السوريين في أيدي الغوغائيين والجهلة وعديمي الإمكانات والقدرات، ولعل أكثرية الوفد الذي أرسله النظام وحلفاؤه الروس والإيرانيون لحضور مؤتمر سوتشي مؤشر على النموذج الممكن من القيادات السورية المقبلة، التي تخلقها حرب الفناء والقائمون بها. إنها باختصار حرب تتجاوز في نتائجها وآثارها كل ما يظهر للعين من حيثيات وتفاصيل.
بعد أكثر من 115 غارة على الأراضي السورية منذ بدء الثورة عام 2011، وقرابة 36 عاماً من آخر مرّة أسقطت فيها طائرة إسرائيلية خلال اجتياح قواتها لبنان عام 1982، تمكّن النظام السوري أخيراً من إيجاد «الوقت المناسب للرد» على الغارات الإسرائيلية وامتلك الإرادة والإمكانيات لإسقاط طائرة «إف 16» عبر كمين معقّد ساهمت فيه طائرة مسيّرة إيرانية محمّلة بصاروخ توغّلت في الأراضي الفلسطينية، تبع إسقاطها السيناريو المعلوم والمتوقع من خروج ثماني طائرات إسرائيلية لقصف الموقع الذي خرجت منه الطائرة الإيرانية لتقابل بعشرات الرشقات من صواريخ إس 200 (المعروف بـ«سام 5») الروسية الصنع ما أدّى لإعطاب وسقوط طائرة إسرائيلية (أصيب أحد طياريها بجراح خطيرة) وإصابة طائرة أخرى.
على ازدحام الحلبة السورية المفتوحة منذ سبع سنوات على كافة أشكال الصراع الدولية والإقليمية بالمفاجآت فإن إسقاط الطائرة الإسرائيلية يعتبر حدثاً فريداً كونه يوجّه صفعة كبيرة للغطرسة الجوّية الإسرائيلية، ويجعلها، مثل باقي القوى المتصارعة في الأجواء والأراضي السورية، غير محصّنة من نيران العواقب التي تنال المتدخلين هناك، مما يفرض عليها حسابات جديدة لقواعد الاشتباك، ويجعل فكرة تقييد حركة ذراعها الجوّية الطويلة ممكنة.
ولا تغيّر ردود الفعل الإسرائيلية التالية على إسقاط الطائرة (قصف 12 موقعاً إيرانياً في سوريا)، ولا تصريحات رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو إن قواته ستواصل العمليات هناك أن واقعة عسكرية (وسياسية بالتالي) جديدة قد ارتسمت في مفادها أن على طائرات إسرائيل أن تتحسّب من ردّ قاس حين تدخل الأجواء السورية.
ورغم أن الفاعلين الرئيسيين في المعادلة المستجدة هما إيران وإسرائيل، فإن هكذا واقعة ما كانت ستمرّ من دون ضوء روسيّ أخضر، وهو ما يمكن ربطه، بسقوط طائرة سوخوي روسية في إدلب قبل أسبوع ومقتل طيارها بصاروخ حراريّ أطلقته المعارضة السورية، تبعه اتهام لواشنطن بالمسؤولية عن تزويد «هيئة فتح الشام» بالسلاح الفعال المضاد للطائرات، وكذلك بالضربة الأمريكية لميليشيات إيرانية وسورية وجنود روس خلال تحرّك لاحتلال حقل غاز في منطقة دير الزور، وقبلها هجوم طائرات مسيّرة متطورة على قاعدة حميميم ما أدّى لإعطاب عدد من الطائرات الروسية هناك.
استخدام منظومة الدفاع الجوي الروسية في سوريا للتصدي لطائرات إسرائيل قد يعني أيضاً أن موسكو تعلّق تفاهمات سابقة مع تل أبيب وتنسّق بشكل كبير مع إيران وهو ما سيدفع إسرائيل لإعادة حساباتها الروسيّة ويجعلها تتمهّل كثيراً قبل أن تفكر بتصعيد كبير ضد طهران.
غير أن أسوأ ما في الأمر، أن هذه الصراعات كلّها تجري في سوريا، وأنها تخضع لحسابات دول تشارك (مع النظام السوري) في دوّامة القتل المبرمج لمئات آلاف المدنيين المحاصرين والجوعى في مشافي وأسواق وأفران ومساجد وبيوت أهل الغوطة وإدلب ودرعا ودير الزور وغيرها.
في «اليوم التالي» للحرب التي لم تقع بين إسرائيل وسورية – إيران، أخذت إسرائيل، على لسان إعلامها ومعلقيها العسكريين، تراجِع حساباتها ليقينها أن بعض المعادلات التي عملت بموجبها حتى الأمس القريب كان مغلوطاً أو نابعاً أساساً عن ثقة زائدة بالنفس، ما دفع بكثيرين من المعلقين إلى اعتبار ما حصل «علامة فارقة» يضع الدولة العبرية أمام معضلة: هل تواصل قصفها مواقع في سورية وحربها ضد النفوذ الإيراني في سورية وهذه المرة بثمن احتمال دخول حرب إقليمية هي الأوسع منذ حرب العام 1973؟ أم تلجأ إلى «ضبط النفس»، فتتجرع ما حصل وتدفع ثمناً ينعكس على سلاحها الأقوى الذي تتباهى به: الردع.
لم يكن يوم السبت الماضي يوماً كبقية الأيام في إسرائيل. منذ عقود لم تجد إسرائيل نفسها مبغوتة ومرتبكة وكتومة. استذكرَت أن المرة الأخيرة التي أسقِطت طائرة حربية لها كانت قبل 35 عاماً، لكن في سماء لبنان، وليس في أعماق أراضيها على مسافة عشرات الكيلومترات من الحدود، وأكثر من ذلك على يد صاروخ قديم استطاع إسقاط طائرة مجهزة بأحدث المنظومات الإلكترونية.
تبدلت لغة التهديد التي صعّدها نتانياهو وليبرمان في الأسابيع الأخيرة أن لا يحاول أحد اختبار إسرائيل، بهدوء مفاجئ فرضه نتانياهو على وزرائه والقادة العسكريين.
بذلت إسرائيل كل جهد لتطمئن العالم أن وجهتها ليست نحو التصعيد فبثّت، إثباتاً لذلك، صور عشرات آلاف المتنزهين في جبل الشيخ والمحميات الطبيعية في الشمال، في موازاة طمأنة مواطنيها بأنهم بأيادٍ أمينة. لكن هذه الرسالة العلنية قابَلتها تساؤلات مكثفة حول التصرف المستوجب. إذ ثمة شيء جديد حصل لم يكن في الحسبان. هل تتحرك لـ «رد الاعتبار» وتتحمل ثمن ذلك؟ هل تكون مستعدة لحرب واسعة مع أثمانها المختلفة، أم تكتفي بالتهديد في موازاة دعوة «أمسكوني»؟ أم تمر مر الكرام على إسقاط طائرتها وتكتفي ببيانها بأنها ألحقت دماراً هائلاً بالدفاعات الجوية السورية وبمنظومات إيرانية متطورة، وبدعوتها روسيا للتحرك من أجل منع اندلاع حرب شاملة؟
والأهم: هل الجبهة الداخلية والبلدات الشمالية التي تفتقر إلى الملاجئ المناسبة مستعدة لتحمل الثمن؟ وكيف المحافظة على معنويات عالية لدى الإسرائيليين طالما شكلت لبِنة أساسية في اعتبارات المستويين السياسي والأمني؟ ولم ينسَ البعض طرح التساؤل: هل يتهور نتانياهو في الخروج في حرب للتغطية على فساده؟
ولدى المعلقين عادت معادلة «الحرب على الوعي» أو «صورة الانتصار»: هل تكون شريط فيديو اعتراض الطائرة الإيرانية المسيّرة، أم شريط فيديو هبوط الطياريْن ثم صور النيران المشتعلة من الطائرة الحربية «أف 16»؟ وكان الجواب الحازم للإسرائيليين: هذه المرة كانت الغلبة لصورة إسقاط الطائرة. لم يكن سهلاً على إسرائيل تجرع مرارة هذه الصورة. مع ذلك، فإن الصورة لن تشكّل حائلاً دون إصرارها على منع وجود إيراني في الأراضي السورية أو اعتراض قافلات أسلحة متطورة من سورية إلى «حزب الله». ستبقى عيناها نحو «حزب الله» أساساً لقربه الجغرافي من البلدات الإسرائيلية. من هناك يأتيها التهديد الأكبر، وليس من أعماق الأراضي السورية.
لا يمكن التشكيك بقدرات إسرائيل العسكرية وأنها إن أقدمت على حرب على لبنان وسورية فقد لا تتردد في حرق الأخضر واليابس، لكنها تأخذ في الحسبان دماراً مماثلاً داخلها أيضاً، كما تأخذ على محمل الجد تهديدات حزب الله بأن صواريخه تطاول كل بقعة في إسرائيل، وقد يكون إغلاق سماء مطارها الدولي لساعة من الزمن نتيجة هذه التهديدات.
لن تتغير أهداف إسرائيل، ولن تتغير مطالبها في شأن ادعائها حول اتساع النفوذ الإيراني في سورية، وتعاظم قوة حزب الله العسكرية، وحقول الغاز المختلف عليها مع لبنان، ومطالبتها روسيا والولايات المتحدة بأن تأخذا مصالح إسرائيل في الحسبان عند أية تسوية في سورية، وأن تكون حاضرة في رسم حدود مصالح الأطراف المختلفة. لن يثنيها إسقاط طائرتها عن القيام بأي عمل عسكري يحقق لها هذه المطالب، لكن الجديد في الأمر أنها ستعدّلها بعد أن أدركت أن قواعد اللعبة تغيرت، ولن تستكين أكثر إلى أن سورية لن ترد على أي اعتداء تقوم به.
وصلت حدة التوتر على الجبهة العربية الإسرائيلية، وخصوصاً على الحدود بين فلسطين المحتلة وكل من لبنان وسورية، إلى مستوىً غير مسبوق نتيجة مجموعة من التراكمات، واقتربت أمس من لحظة الانفجار مع إسقاط طائرة "أف 16" إسرائيلية، بصاروخ أطلق من الأراضي السورية. لكن هل تعني هذه التطورات أن الحرب باتت واقعة لا محالة، وأنها أصبحت قريبة الاندلاع؟
هذا السؤال يشغل متابعين ومواطنين كثيرين، خصوصاً في لبنان وسورية، مع كثير من القلق حول التداعيات المحتملة لاندلاع مثل هذه الحرب، غير أن المعطيات المستجدة، بعد حادثة يوم أمس، قد تعطي إجابة مريحة نسبياً لهذا السؤال، لتعيد الأوضاع إلى مربع التهدئة الأساسي الذي كان قبل أشهر، لفترة لا بأس بها من الزمن، ولا سيما من إسرائيل، إلى حين استيعاب عملية إسقاط الطائرة وتداعياتها وأبعادها.
من الممكن القول إن إسقاط الطائرة الإسرائيلية سيؤسس لقواعد اشتباك جديدة على الحدود بين فلسطين المحتلة وكل من لبنان وسورية، بعد دخول منظومة الأسلحة المضادة للطيران على خط الاشتباك المستمر منذ ما قبل اندلاع الثورة السورية، حين كانت دولة الاحتلال تنفذ غارات جوية على مواقع داخل الأراضي السورية، بذريعة منع وصول أسلحة متطورة إلى حزب الله في لبنان، مدركةً أن نظام الدفاع الجوي في سورية غير قادر على إلحاق الأذى بالطائرات الإسرائيلية الأميركية. غير أنه مع دخول أطرافٍ عديدة على خط الأزمة السورية، ولا سيما مع الوجود الإيراني والروسي على الأرض، تبدلت الأمور على ما يبدو، خصوصاً مع التأكد من وجود أسلحة "كاسرة للتوازن" على الأراضي السورية، وربما اللبنانية.
التحولات الحاصلة على الأراضي السورية ليست مقتصرةً على المعطيات العسكرية، بل على السياسية أيضاً، إذ لم يعد قرار الحرب والسلم بيد النظام السوري، ولا حليفه الإيراني، واللذين يحتاجان إلى التنسيق باستمرار مع الراعي الروسي للأحداث في سورية، كبيرها وصغيرها، وحتى إسقاط الطائرة أمس، لم يكن ليحدث، لو لم تكن هناك موافقة روسية، أو غض طرف، على ذلك. ولم تكن هذه الموافقة لو لم يعلم الروس يقيناً أن أي تصعيد على الجبهة السورية - الإسرائيلية سيكون مضبوطاً إلى أبعد الحدود، وليس أكثر من تبادل رسائل ثلاثية بين إيران وروسيا والولايات المتحدة.
برز هذا الضبط منذ اللحظات الأولى اللاحقة لإسقاط الطائرة الإسرائيلية، مع مسارعة سلطات الاحتلال إلى مناشدة الروس والأميركيين التدخل لتهدئة الجبهة، وهو ما لاقته موسكو مباشرة بالدعوة إلى وقف التصعيد. وهي رغبة يتشارك فيها الجميع، على الأرجح، إذ إن لا أحد معنياً اليوم بفتح باب جديد للحرب في المنطقة، وحتى الأطراف نفسها التي قد تكون مشاركة في هذه الحرب، غير راغبة فيها، بالنظر إلى الجبهات الأخرى المفتوحة، والتي لم تغلق بعد. وبغض النظر عن أن النظام السوري نفسه فاقد قرار الحرب والسلم، فإن الإيرانيين ليسوا في وارد فتح معركةٍ تستنزف مزيدا من مواردهم، والأمر ينسحب تلقائياً على حزب الله، إضافة إلى أن الفيتو الروسي مؤكد على مثل هذه الحرب، خصوصاً في ظل وجود القوات الروسية في المنطقة. ويمكن إضافة إسرائيل الآن إلى قائمة عدم الراغبين في الحرب، وتحديداً بعد إدراكها حالياً أن خللاً واضحاً أصاب موازين القوى وضرب السلاح الجوي الذي كان يعطي دولة الاحتلال التفوق في الحروب التي كانت تدخلها.
ما بين الرغبات السياسية والتطورات الميدانية، يمكن اعتبار حادثة يوم أمس مفصليةً في إعادة ضبط قواعد الاشتباك في المنطقة، من دون أن تؤدي، بالضرورة، إلى الانجرار نحو حربٍ لا يريدها أحد.
نظرة سطحية تلك التي تعتبر الأحداث الدائرة في الأعوام السبع الأخيرة على حدودنا الجنوبية، مساعٍ لتأسيس دولة إرهابية. لأن هذه النظرة تجعل المسألة حدثًا عاديًّا في شمال سوريا، وينجم عن ذلك موقف يقول "وما شأننا، فليفعلوا ما يشاؤون".
الولايات المتحدة تضع أسس "إسرائيل ثانية" في شمال سوريا. لكن الأهم من ذلك أن واشنطن تعد حزب الاتحاد الديمقراطي، فرع حزب العمال الكردستاني في سوريا من أجل "حرب كبرى" ضد تركيا.
منذ اندلاع الحرب السورية يستعد حزب الاتحاد الديمقراطي للقتال ضد تركيا. وتحت إشراف أمريكي طور الحزب نفسه وزاد عدد عناصره وتسلح بحيث أصبح قوة عسكرية معتبرة.
قدمت الولايات المتحدة السلاح والعتاد والذخيرة لوحدات حماية الشعب، الجناح المسلح لحزب الاتحاد الديمقراطي، وهذه الأخيرة انتشرت على طول الحدود التركية، بدأت بالتحول إلى جيش نظامي.
الخطوة التالية بعد ذلك كانت شن "حرب كبرى" على تركيا بإشراف أمريكي. فمن غير الممكن تأسيس "إسرائيل ثانية" دون الضغط على تركيا وتقسيمها وإجبارها على اتخاذ موقف دفاعي.
لكن عملية غصن الزيتون أفسدت حسابات البنتاغون، فأجبرتها على بدء تلك "الحرب الكبرى" في وقت سابق لما خططت له.
كان خطأ فظيعًا انتظار تأسيس الولايات المتحدة جيش إرهابي على مرأى العالم، ومهاجمتها تركيا، التي أطلقت عملية عفرين ليلًا على حين غرة فهاجمت الإرهابيين وأحبطت استعدادات ومخططات الولايات المتحدة، التي تهدد وجودها.
أقدمت تركيا على تدخل يتصف بأهمية تاريخية من ناحية توقيته. ولن تألو الولايات المتحدة جهدًا حتى تنهي أنقرة العملية بسرعة.
من الآن فصاعدًا، لم يعد ما تقوله الولايات المتحدة مهمًا بالنسبة لتركيا، وإنما ما تفعله. عند النظر بتمعن إلى السياسة الخارجية الأمريكية نجد أن وعود أوباما ومن بعده ترامب لم يكن لها قيمة.
أوباما وعد تركيا بانسحاب حزب الاتحاد الديمقراطي من منبج، لكن البنتاغون وطدت وجود الحزب في المدينة أكثر من السابق. كما تعهد ترامب بوقف تسليح الحزب، إلا أن البنتاغون عادت واستمرت في تسليحه ومده بالذخيرة والعتاد. القوة الحاكمة في الولايات المتحدة لم تغير أبدًا من تحركاتها سواء في الميدان أم على حدودنا.
لو لم تتثبت أنقرة من هذه الحقيقة لما عملت على حك جلدها بظفرها. هدف الولايات المتحدة واضح كما هو الحال بالنسبة للموقف الذي ينبغي أن تتخذه أنقرة والخطوات الواجب عليها الإقدام عليها.
لن تتوقف عملية غصن الزيتون، وستتجه نحو منبج، وتهديدات الولايات المتحدة لا يمكنها تغيير هذا التوجه.
يستقبل النظام الإيراني أربعينيته التي تأتي ومعها ارتجاجات واهتزازات كثيرة يصعب عليه اجتيازها مثلما اجتاز ما قبلها.
في الحادي عشر من فبراير 2018 يبلغ عمر هذا النظام 39 عاما، صمدت خلالها فلسفة الإمام الخميني في وجه العواصف التي ثارت في وجهها. وظن ورثته المعممون المسلحون أنهم قد انتصروا فيها، وحققوا أهدافها، وتمكنوا من تصديرها إلى عواصم عربية مهمة، بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء، وأنهم أصبحوا أقرب، أكثر من أي وقت مضى، من استكمال احتلال عواصم عربية أخرى. صدقوا أنفسهم وآمنوا بأن نظام إمامهم ووريث إمامهم سيُصبح، إن لم يكن قد أصبح فعلا، وليَّ أمر شعوب المنطقة كلها، والقادر على مناطحة القوى الدولية العظمى والانتصار عليها وإجبارها على الاعتراف به قوة إقليمية عظمى لا تقاوم.
ووقع في مثل هذا الوهم قبلهم كثيرون، ثم اكتشفوا في النهاية أنهم كانوا يحلمون، وأن ما بنوه لم يكن أكثر من برج رملي على شاطئ بحر هائج مسحته الموجة العاتية المفاجئة، وهم غافلون. ولا نريد هنا أن نفصّل واقع الحال الذي جعل ورثة الإمام الخميني يتسللون إلى بغداد ودمشق، ويتمكنون من وضع أقدامهم في بيروت وصنعاء.
لكن المتابع لأحداث المنطقة، في النصف الثاني من القرن الماضي، يعرف جيدا أنهم فشلوا في احتلال أي مدينة عراقية والبقاء فيها، رغم كل ما قدموه من قتلى ومصابين ومفقودين، وما أحرقوه من أموال طائلة لو أنفقوها على شعبهم لتمكنوا من احتلال قلوب المعوزين منهم، ولأغلقوا الباب على أي انتفاضات أو ثورات متوقعة ربما ستُسقطهم في يوم من الأيام.
لولا الغزو الأميركي للعراق، ولولا قرار الإدارتين الجمهورية والديمقراطية الأميركية أن تغضا نظرَهما عن تدفق ميليشيات النظام الإيراني ومخابراته، واستكمال هيمنته على الدولة العراقية بغطاء وكلائه العراقيين، لما تمكن من القفز من بغداد إلى دمشق، ومنهما إلى صنعاء.
وينافق رئيس الوزراء حيدر العبادي، ويزوّر حين يدعي بأن “نسبة تدخل إيران في صناعة القرارات العراقية يساوي صفرا”. فرفاقه (المجاهدون) في بدر والعصائب وحزب الله العراقي والنجباء وباقي ميليشيات الحشد الشعبي لا يعترفون، فقط، بالتدخل الإيراني في كل صغيرة وكبيرة من شؤون العراق، بل يفاخرون بأن القرار النهائي في أي أمر عراقي كبير هو لولاية الفقيه.
إيران، ذاتُها، وعلى ألسنة أغلب قادتها العسكريين والمعممين، تباهت مرارا وتكرارا بذلك التدخل. ومؤخرا أعلن العميد حسين سلامي، نائب قائد حرس الثورة، صراحة، أن إيران تخطط لاستخدام الجيش العراقي في الدفاع عن أراضيها في صد أي هجوم أميركي عليها. مؤكدا أننا “نعتبر الجيش السوري والعراقي العمق الاستراتيجي لنا”.
ونكاية باعتراف العبادي الصريح بأهمية الدعم العسكري الجوي والبري الذي قدمته القوات الأميركية والغربية الأخرى للجيش العراقي في حربه مع داعش، فإن قيادات ميليشيات الحشد الشعبي تطالبه، بطرد تلك القوات، وتهدد صراحة بقتالها إن لم تغادر قواعدها في العراق.
وسواء بقيت القوات الأميركية أو غادرت فإن شيئا لن يحدث لتبديل الواقع المعيشي في العراق. فإيران هي قوة الاحتلال الحقيقية الوحيدة المهيمنة على مفاصل الحياة المدنية والعسكرية والأمنية والاقتصادية والتعليمية والثقافية فيه، ولا خلاص للشعب العراقي من أسرها، في المدى المنظور، بقواه الذاتية وحدها.
إيران، بهيمنتها الكاملة على وزارة الداخلية والقوى الأمنية، لا بد أن تكون وحدها القادرة على تقرير نتائج الانتخابات المقبلة، مهما بذلت القوى الوطنية التحررية من جهود. ومعنى هذا أن وكلاءها العراقيين، والكثير منهم يحملون الجنسية الإيرانية أيضا، باقون على رأس الوليمة، بل سيتسلمون مقاعد الأغلبية في البرلمان القادم، وسيكون الاحتلالُ الأجنبي الإيراني وجودا شرعيا بمباركة الممثلين المفترضين لإرادة الشعب العراقي.
ويتفق العراقيون والعرب والأجانب على أن سبيل الخلاص الأوحد الباقي لتحرير العراق وسوريا من هذا الواقع المزري لن يتحقق إلا بواحد من احتمالين، إما أن يستبدل النظام الإيراني طبيعته العدوانية الاحتلالية بأخرى عقلانية واقعية مسالمة مع شعبه ومع دول الجوار، وهذا من رابع المستحيلات، وإما أن يتحقق حلم الجماهير الإيرانية الديمقراطية وتهبَّ الانتفاضة الشعبية القادمة لتطيح بالنظام. وهذا أمر لا يتوقعه المتضررون من السلوك العدواني الإيراني وحسب، بل يحذر من حدوثه المحتوم قادةُ النظام الإيراني أنفسُهم، أكثر من غيرهم بكثير.
وأعرب رئيس مجلس خبراء القيادة الإيرانية، أحمد جنتي، عن قلقه بشأن مستقبل النظام في بلاده بعد الاحتجاجات التي طالب فيها المتظاهرون بتنحي المرشد الأعلى خامنئي، وأدت إلى مقتل وجرح العشرات، قائلا “أنا قلق بشأن ما سيحدث في الأعوام القادمة. علينا من اليوم أن نصل للشعب ونسمع آلامه، ولا نعزل أنفسنا عن المواطنين. الأوضاع المعيشية سيئة للغاية”.
وذكرت وزارة الداخلية الإيرانية في تقريرها الذي رفعته إلى حسن روحاني أن “30 بالمئة من الشعارات في الاحتجاجات كانت اقتصادية، و70 بالمئة سياسية، وأن 75 بالمئة من الناس كانوا متعاطفين مع المتظاهرين في 80 مدينة إيرانية”.
هذا مع تزايد تأثيرات العقوبات الدولية على اقتصاد إيران المتعثر المُتعَب، وتراجع عملتها، وتوقف صادراتها النفطية والزراعية والصناعية إلى دول المنطقة، وازدياد المخاوف من اندلاع انتفاضة إيرانية في موسم الانتخابات المقبلة.
كل هذه العوامل، مجتمعة، تبرر لجوءَ القادة الإيرانيين إلى تأكيد تبعية العراق وسوريا لنظامهم، وتذكير أعدائهم، وهم كثيرون، بأنهم “قادرون على إطلاق عدد ضخم من الصواريخ، ومن كل الأنواع، في اتجاه أهدافها”. و”ليس منطقيا أن يحصر أي بلد نطاق أمنه داخل حدوده، ونحن نعتبر الجيشين السوري والعراقي عمقنا الاستراتيجي”.
والسؤال المهم، هل العراق وشعبه على موعد مع الحرية والانعتاق وانقشاع الكوابيس في أربعينية نظام الولي الفقيه؟ اللّهم آمين.
صدر في نهاية عام 2010 قرارٌ بمنع السفر بحقي من جهة أمنية عليا، على غرار ما حدث مع كتاب عديدين في تلك الفترة. وعلى الرغم من أنني قبل الثورة لم أكن أكتب في السياسة، ولم يكن لي أي نشاط سياسي، ولم أصنف نفسي معارضة ذلك الزمن. ومع ذلك، مُنعتُ من السفر، واستدعيت إلى التحقيق الأمني مرات عديدة، بين دمشق، حيث المركز الأمني الأول المصدر لهذه القرارات، وطرطوس، باعتبار أن قيد نفوسي تابع لها. أتذكر أن تحقيقاً معي في فرع الأمن السياسي في طرطوس، استمر ساعات طويلة، (كان هناك ملف ضخم خاص بي، ممتلئ بأوراق هي تقارير أمنية عني أرسلها "مواطنون شرفاء"، أو موظفون متعاقدون خفاءً مع الأمن، بعضهم، للأسف، كان من دائرة الأصدقاء). تلى عليّ الضابط المحقق محاضرة طويلة حول كيف يكون الإنسان السوري وطنياً، ومواطناً صالحاً، خصوصاً في ظل المؤامرة الدولية التي تستهدف سورية الأسد (لم تكن المؤامرة قد أصبحت كونيةً يومها). فسورية الأسد، حسب المحقق، "هي الدولة العربية الوحيدة التي تعمل جاهدة من أجل رفعة العروبة ومجدها، ولا يشغل بال (السيد الرئيس بشار حافظ الأسد) سوى هذا الحمل الثقيل، بعد أن انشغل الزعماء العرب في تثبيت دعائم سلطتهم، وباعوا القضية القومية بما فيها، خصوصاً مصر التي لا هم لرئيسها حسني مبارك غير محاولة توريث نجله الأكبر جمال"!.
كنت أهزّ رأسي، وأنا أستمع إلى محاضرته مذهولة، من دون أن أتمكّن من نطق حرف واحد، إذ بدا المحقق مقتنعاً تماماً بأن ما حدث في سورية من تسليم وراثي للحكم، بمباركة دولية، فعل ديموقراطي بحت، وأن الشعب السوري مارس حقه الدستوري الطبيعي والمكتسب، وانتخب رئيسه انتخاباً شرعياً، مثلما يحدث في فرنسا أو أميركا أو أيٍّ من دول العالم الأول. كانت لدى المحقق قناعة تامة بأن سورية الأسد دولة عظمى، وتنافس في تطورها وحرياتها، الفردية والعامة، وديموقراطيتها دول العالم الأول. وللمفارقة، من التهم التي وُجهت لي في التحقيق "أنني أقيم علاقات من جماعة المجتمع المدني من غير المرضي عنهم"، وأنني "أقيم علاقات غرامية مع الرجال"! كنت أود لو سألته وقتها عن التهديد الذي تشكله علاقاتي الغرامية على أمن سورية الأسد، لولا أنني كنت خائفةً على أمني الشخصي حقاً.
ومن مفارقاتٍ مذهلةٍ أيضاً تلك الفترة، أنه ومع بداية عام 2011، قبل أن تكون الثورات العربية قد خطرت على بال أي مواطن عربي، أذكر أن صحيفة الأهرام المصرية، غالباً، أجرت استطلاعاً عن تمنيات المثقفين المصريين لعام 2011. كان مدهشاً لي أن بعض المثقفين تمنوا التالي: "زوال عائلة مبارك عن المشهد السياسي المصري"، وأن الأمنية نشرت كما هي في الصحيفة المصرية الكبرى، من دون أن يتعرّض صاحب الأمنية للاعتقال أو التحقيق أو المنع من السفر، أو أي إجراء يمس حريته بوصفه مواطناً مصرياً. تمنيت يومها لو أرسل الصحيفة المصرية والاستطلاع إلى المحقق السوري الوطني، لولا أنني أيضاً كنت خائفة على أمني الشخصي.
لم يكن الوضع في "سورية الأسد" يشبه أي شيء آخر. كانت حالة فريدة من الكذب والمزاودة والاستعلاء والإنكار والوقاحة والصفاقة والفساد الممنهج، يغلف ذلك كله غلاف من القمع وتكميم الأفواه وتجريف الحياة المدنية والسياسية، وبيع اقتصاد البلد وأراضيه وقراراته، واللعب بديموغرافيته بسبب التحالفات السياسية التي أوصلت سورية إلى حالها اليوم. لم يكن الوضع يشبه أي شيء آخر. لهذا كان سينفجر ذات يوم، وكان انفجاره سوف يؤدي إلى الكوارث الحاصلة نفسها، إذ كان الخراب قد تمكن من نهش كل شيء، لم يبق على أحد، لم يترك منفذاً لم يصل إليه. هل "كنا عايشين" فعلاً، كم يحلو لكثيرين القول اليوم؟
المذهل أن سبع سنوات متواصلة من المقتلة لم تغير شيئاً في "سورية الأسد". الصفات نفسها التي تميزها بشاعة عن غيرها بقيت كما هي. وزاد عليها الإجرام الفاجر العلني، والخراب نفسه الذي أكل كل شيء بقي كما هو. زاد عليه أنه أصبح متعدّد الوجوه والاصطفافات، ما يستدعي سؤالاً مؤلماً: هل هذا البلد الخرب بما فيه يمكنه أن ينهض ثانية؟.
أحد الأسئلة الرئيسة في الشرق الأوسط، بل في العالم اليوم، يتمثّل في مصير الداعشية بعد نهاية حكم تنظيم "داعش" في العراق وسورية، ما إذا كانت الأفكار التي بنيت، في جزء كبير منها، على مفهوم "الخلافة" والدولة الإسلامية ستتآكل وتتراجع مع نهاية حلم المؤمنين بها، أم أنّها ستبقى وتستمر، وربما تأخذ صيغة أخرى جديدة؟
الآراء التي تتحدث عن هزيمة الفكر والأيديولوجيا قليلة، وغالباً محصورة في بعض السياسيين والمسؤولين العرب، بينما غالبية الباحثين، وخصوصا في الغرب، يؤكدون أنّ الفكرة لم تمت، ومرشحة للاستمرار، وربما الصعود.
يرى بعضهم أنّ عودة إلى "القاعدة" ستحدث، بعد بروز فشل التجربة الداعشية من جهة، لكن مع استمرار الشروط التي أنتجتها، وكفيلة بإبقاء جذوة الراديكالية متقدة من جهةٍ أخرى، ما يرد الاعتبار لفكر "القاعدة" ونموذجها لدى الجماعات الشباب الراديكالي المتطرّف.
قد يكون هذا التحليل منطقياً، لو أنّ "القاعدة" هي الأخرى لا تعاني من أزمات بنيوية، أيديولوجياً وحركياً، كبيرة جدا، إلا أنّ "القاعدة" اليوم تمر بأزمة أكبر من أزمة "داعش" نفسها، تفقد بريقها، ومرتبكة في خياراتها الأيديولوجية، بين الأفكار التي ظهرت بعد مراجعات بن لادن، فانعكست من خلال "نموذج جبهة النصرة" وبين اختطاف فكر "داعش" جيل الشباب الراديكالي الجديد، والمثال البارز على ذلك يتبدى حالياً بالصراع الجوهري بين زعيم القاعدة العالمية، أيمن الظواهري، وزعيم جبهة النصرة، أبو محمد الجولاني، وفي حالة التفكك التنظيمي الذي تعاني منه على مستوى الجماعات الموالية لها في العالم.
زبدة القول، هنا، إنّه لا رجعة إلى الوراء، إلى فكر "القاعدة"، فالجيل الجديد تجاوزه تماماً، وهنالك تطورات واقعية تدفع إلى تعزيز خطاب "داعش" الذي يركز على سياسات الهوية الطائفية التي تجتاح المنطقة العربية، في ظل الفراغ الاستراتيجي العربي، وعلى الصراعات المحلية والإقليمية، بدلا من العالمية التي هيمنت على خطاب "القاعدة" وأولوياتها.
يمكن أن يحدث تطور هجين بين التيارين، "القاعدة" و"داعش"، مع بروز قيادات جديدة، يتمحور حول فكر جديد، قد يستفيد من أخطاء التنظيمين. لكن إلى حين ذلك، فإنّ مصير أنصار "داعش"، والمؤمنين بهذا الفكر مرتبطٌ، بدرجة كبيرة، بعملية إعادة الهيكلة التي تحدث حالياً لدى التنظيم وأنصاره في كل من العراق وسورية، وهي التي ستنعكس على البقية في الخارج، سواء كانوا جماعاتٍ محليةً أعلنت ولاءها لـ"الخلافة"، مثل بوكو حرام في نيجيريا، أو ولاية سيناء في مصر، أو ولاية خراسان، أم كانوا أفراداً ومجموعات منتشرة متأثرة بهذا الفكر.
من الطبيعي أن تنظيم داعش، على صعيد المركز، يمر بمرحلة تحول وهيكلة جديدة، بعد صدمة انهيار الدولة. لكن من الواضح أنّ هنالك استمرارية وصيرورة جديدة، تكشف عنها التفاعلات والتداعيات اللاحقة، ويمكن التقاط بعض مؤشراتها في الأفلام التي ظهرت في الفترة الأخيرة، من التنظيم المركزي، مثل: الصحراء عرين المجاهدين، وغزوة العفيفات، فهي تظهر بقاء المؤسسات الإعلامية، وبقاء مفهوم الخلافة، ولو افتراضياً، مع تغير الاستراتيجيات الميدانية والتكتيكات، والتحوّل نحو حرب العصابات والكر والفرّ.
مما يعزز هذه الفرضية، ويعطيها القوة الكافية، الشروط الموضوعية على الأرض التي لم تتغير، فالنفوذ الإيراني تعزّز، مصحوباً بموجة طائفية، والظروف السياسية في العراق لا تسير نحو الأفضل فيما يخص "الأزمة السنية " التي مثلت ديناميكيةً محرّكة لقدرة التنظيم على الحشد والتعبئة والدعاية، كما أن الأنظمة العربية لم تتعلم الدرس، على صعيد الداخل، فتعزّز من الدكتاتورية المنتجة لحالة الاحتقان التي تتغذّى عليها أيديولوجيا التنظيم، وعلى صعيد المنطقة، في ظل تداعيات قرار الرئيس الأميركي فيما يخص القدس والجمود الرسمي العربي وفشل التعاطي مع التحديات.
وإذا كانت محطة الانتخابات النيابية العراقية القريبة ستمثل محطة اختبارٍ مهمة للوضع الراهن، فإنّ المؤشرات الأولية تؤكد بقاء المعادلة الطائفية وتطورها، ما يعني أن "داعش" قادر على إعادة إنتاج نفسه بصورة جديدة، وصيغة مختلفة قد تكون أكثر ذكاءً مما سبق.
في نهاية، لا يبدو اليوم أن هنالك جديدا في الأفق، يسمح بالتفاؤل بأن بديلاً حقيقياً مطروح أمام المجتمعات العربية المنكوبة بالاستبداد والفساد والفشل الرسمي العربي.
لطالما حذّر الخبراء في السنوات الأخيرة من مخاطر التصنيفات الانتقائية للجماعات المسلّحة، وكذلك من تطبيق المعايير المزدوجة في التعامل معها. ومن الملاحظ في هذا السياق أنّ الغرب -بشكل عام- منحاز إلى جانب الميليشيات الكردية في سوريا كـ(PYD) وذراعها العسكري (YPG) بشكل غير مبرر حتى عندما كان الصراع ينشب بين هذه الميليشيات والأحزاب الكردية الأخرى مثلا، أو بينها وبين حاضنتها الكردية، وهو أمر جدير بالاهتمام والتحليل.
هناك أربعة أوجه على الأقل تظهر مأزق الازدواجيّة الغربية في التعاطي مع الجماعات الإرهابية بما في ذلك الجماعات التي يصنّفها الغرب وليس أي جهة أخرى، ومن بينها ميليشيات (PKK) وفرعها السوري (PYD) بطبيعة الحال، وهي:
1) يتزعّمهم قائد إرهابي: عبدالله أوجلان، زعيم حزب العمّال الكردستاني، من أكراد تركيا. وبالرغم من أنّه وحزبه مصّنف إرهابي لدى عدد كبير من دول العالم من بينها أمريكا ودول الناتو، إلا أن ميليشيات "PYD" الكردية السورية تعتبره زعيماً لها أيضاً وترفع صوره وشعاراته وتتمسك بأيديولوجيته علناً. لا يشكّل ذلك أي حرج للمسؤولين الأمريكيين الذين غالباً ما يتجاهلون مثل هذا الأمر كي لا يبحثوا له عن ذراع وتبريرات وتفسيرات واهية. لكنّ مثل هذا التجاهل يسلّط الضوء على الانتقائية التي نتحدّث عنها والتي تخلق “إرهابا جيدا" و"إرهابا سيئا" بحسب المصلحة السياسية، ويجرّد الولايات المتّحدة بالإضافة إلى "الحرب على الإرهاب" من أي مصداقيّة.
وحتى نقرّب الصورة أكثر، تصوّر مثلاً أن تقوم دولة ما بدعم تنظيم يرفع صور وشعارات البغدادي ثم تقول للعالم بأنّه ليس تابعاً لتنظيم داعش وأنّه لا مشكلة لدينا في مثل هذا الأمر! إنّ التهوين من مخاطر إرهاب الميليشيات الكردية من باب أنّها ميليشيات غير دينية يعود بنا إلى المربّع الأوّل للمشكلة.
2) المقاتلون الإرهابيون الأجانب: يعرف القرار 2178 الصادر عن مجلس الأمن الدولي تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة والذي يجيز استخدام القوة ضد الأطراف المعنيّة بالقرار وفق المادة 42، المقاتلين الأجانب بأنّهم "الأفراد الذين يسافرون إلى دولة غير التي يقيمون فيها أو يحملون جنسيتها بغرض ارتكاب أعمال إرهابية أو تدبيرها أو الإعداد لها أو المشاركة فيها، أو توفير تدريب على الأعمال الإرهابية، أو تلقي ذلك التدريب، بما في ذلك في سياق النزاعات المسلحة". كما يطالب القرار المقاتلين الإرهابيين الأجانب بنزع أسلحتهم والتوقف عن جميع الأعمال الإرهابية والمشاركة في القتال في أي نزاع مسلح.
هذا التعريف ينطبق على جهات كثيرة من بينها الميليشيات الشيعية الموالية لإيران والميليشيات الكرديّة الانفصالية، إلا أن تفسيره جاء مفصّلاً ليناسب فقط المهتمين بمحاربة القاعدة وداعش في سوريا. فعلى الرغم من توثيق التقارير بشكل دائم لظاهرة تجنيد الميليشيات الكردية في سوريا لمتطوعين أجانب للمقاتلة إلى جانبها من دول أوروبية ومن الولايات المتّحدة وأماكن أخرى، إلا أن أيّاً من الدول المعنية في الموضوع لم تتحرّك بالشكل الذي من المفترض أن تقوم به.
مقارنة صغيرة بين طريقة تصرّف معظم دول العالم مع المقاتلين الذين تدفقوا للقتال إلى جانب تنظيم داعش بطريقة تصرّف نفس الدول مع الذين يتم تجنيدهم للقتال إلى جانب الميليشيات الكرديّة تعطي القارئ فكرة عن الموضوع. التغطية الإعلامية الغربية لهذا الموضوع خجولة جدا وفرديّة وشبه معدومة لناحية التركيز على جوهر المشكلة، حتى مع قيام المكتب الإعلامي لميليشيات "واي بي جي" الكردية بنشر تسجيلات مؤخراً يتباهى فيها بتجنيد المقاتلين الأجانب الذين يعلنون في هذه التسجيلات استعداداهم لاستهداف دول أخرى من داخل سوريا من بينها تركيا.
3) تجنيد الأطفال: ظاهرة تجنيد الأطفال من المظاهر الأخرى المسكوت عليها لدى الميليشيات الكردية في سوريا. عادة ما يلقى مثل هذا الموضوع حساسية شديدة في الغرب، لكن من الواضح أنّ هذه الحساسية تظهر عندما يمكن ربط مثل هذه الظواهر بشيء يتعلق بالإسلام، وتكاد تختفي تماماً عندما لا تكون مرتبطة بمثل هذا العامل.
تقارير جمعيات حقوق الإنسان أشارت إلى أن الميليشيات الكردية تقوم بتجنيد الأطفال بشكل ممنهج منذ العام 2012، وأنّها قامت بتجنيد المئات منذ ذلك الوقت وحتى اليوم وقامت بتدريبهم وتسليحهم، وهو امر انتقدته كذلك هيومان رايتس ووتش في تقرير لها في بداية العام 2017 عندما أشارت إلى أن المنظمة لا تزال تنتهك الحظر المفروض على تجنيد الأطفال.
ويبدو أن الميليشيات الكردية انتقلت من العمل في الظل إلى العلن فيما يتعلق بتجنيد الأطفال، إذ انتشرت العديد من الصور ومقاطع الفيديو لأطفال في مدينة عفرين ينتمون إلى الميليشيات الكردية (خاصة فتيات) ويتباهون بتدريباتهم وحملهم للأسلحة الرشاشة.
4) الأسلحة الفتّاكة: الميليشيات الكرديّة تدّعي أنها مُحاربة من قبل الجميع، وهي تتاجر بهذه المظلومية منذ سنوات لإحكام سيطرتها على الأرض وإنشاء دولتها التي تطمح لها. وبالرغم من ذلك وكما كشفت معركة عفرين، فهذه الميلشيات مدجّجة بالسلاح، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، من أين تحصل هذه الميليشيات على السلاح ومن أين تحصل على التمويل؟
البعض قد يشير إلى أن الأزمة السورية المندلعة منذ سنوات سمحت لهذه الميليشيات كما لغيرها بأن تغتنم الأسلحة من المجموعات المتقاتلة، لكن الحقيقة أن الميليشيات الكردية تخوض معارك مع دول المنطقة منذ حوالي 30 سنة، ولم تتوقف الأسلحة والأموال عن التدفق إليها منذ ذلك الوقت. الجميع استخدمها كورقة، ايران استخدمت الميليشيات الكردية ضد العراق وضد تركيا، سوريا استخدمتهم ضد تركيا، كما دخل الأكراد في صراع مع بعضهم البعض لحسابات خارجية.
المفارقة هنا أنّ الميليشيات الكردية في سوريا لديها أسلحة روسية وألمانية وأمريكية، ولم نسمع يوماً أنّ أيّاً من هذه الدول اشتكى من وقوع أسلحته لدى هذه الميليشيات أو انّه تخوّف من استعمالها ضد دولة حليفه، وبالرغم من كل ما ذكرنا أعلاه، لا تجد ي من الأطراف الدولية حرجاً في الدفاع عنهم ودعمهم.