الغوطة.. عناقيد عتب
ذات سلام، عندما كانت للإنسانية أجنحة ملائكية بيضاء، والأنظمة تمارس دور الأمهات الرحيمات وبتنطّع واضح في الخوف على سلامة أطفالنا ونسلنا من الخطأ والنسيان، كانوا يكتبون على الطرف الأسفل من عبوات الأدوية تحذيرا رقيقا: "يحفظ بعيدا عن متناول الأطفال".. وعندما دارت رحى الحروب، ونبت للسوخوي قرون الشيطان.. صارت براميل الموت العائلية "ليست بعيدة عن متناول الأطفال" وتأخذ جرعة واحدة..
ما أبشع الموت عندما يداهم الطفولة الغافية، عندما يغتال الرسومات على "بيجاماتهم" فتموت الدببة والزرافات والعصافير فوق قلوبهم الطرية، ما أبشع الموت عندما يطوّق الدم القاني أعناقهم، ويسيل النزيف كآخر رضعات الحليب من زوايا أفواههم، ما أبشع الموت عندما يغتال الغزالة الماشية بين عشب أهدابهم، ويبعثر ريش أعمارهم، فيموتون دفعة واحدة كما كانوا ينامون دفعة واحدة أيام الشتاء الطويلة.
لمن يزهر شجر الغوطة هذا الربيع؟ لمن يرعى "براعمه"؟ لمن تزدهي كروم العنب، لمن تبوح بحصرم الألم وفي قلبها عناقيد "عتب"؟؟.. لمن وعيون الأطفال الموتى نصف مفتوحة على الحياة ونصف مفتوحة على الغضب!
ما أبشع الموت عندما يغمر الشعر الذهبي الخفيف غبار الإسمنت وطحين الجدار، والسقف الذي رسموا عليه بأصابعهم قبيل النعاس غيمة وكوخا وزهرة وقطعة حلوى، صار لحاف الموت الثقيل الذي جثى على صدورهم لحظة التفجير، ما أبشع الموت عندما يداهم من لم يحسنوا تهجئة الحياة بعد، من لم يشتمّوا رائحة زهر الليمون أول الربيع، ولم يقطفوا "نوّارة" اللوز البيضاء، ولم يفاوضوا "زهرة" الكرز بغرّة طفلة.. ما أبشع أن تعدَ الأم الصغار: "من ينام باكرا سأعطيه في الصباح التالي لوحا من الحلوى"، فيتسابقون إلى النوم لكنهم لا يستيقظون أبدا.. ما أبشع الموت لأنه موت وحسب!
هذا الربيع ستفتقد الغوطة الزائرين، ستفتقد حلقات المتنزّهين، بعدما اصطفت الجثث سطورا بيضاء في دفتر الموت الأسود، وسيفتقد الشجر أصوات العائلات وضحكات الأطفال، وثرثرات "الأرجيلة"، وغفوة العصرية، و"بلايز" المصطافين المربوطة على خصرها.. ستلوّح للريح مودّعة كل الذين اتكؤوا على سيقانها، وكل الذين افترشوا تحتها وعلقوا أحلامهم وكلامهم على أغصانها الصامتة، وستنعى أسرّة الأطفال التي اهتزت تحتها وداعبت بظل أوراقها الجفون النائمة.
هذا الربيع موجع، موحش، وغريب.. للخوخ شكل الرصاص، وللمشمش الحموي طعم الدمع المالح، وللوز رائحة "اليود".. لا حلاوة في عروق الغوطة كلها، لقد أنهكها الحزن على "نوارها" الذي قطفته ريح السياسة وأصابع السلطة، وصرصر الصراعات الدولية..
لمن يزهر شجر الغوطة هذا الربيع؟ لمن يرعى "براعمه"؟ لمن تزدهي كروم العنب، لمن تبوح بحصرم الألم وفي قلبها عناقيد "عتب"؟؟.. لمن وعيون الأطفال الموتى نصف مفتوحة على الحياة ونصف مفتوحة على الغضب!.. لا شيء يستدعي الحياة.. فالسيقان بترت.. والأغصان كسرت.. والدراق الموسمي سقط أرضاَ.. عندما سمع أنين الأطفال.. كل الأشجار جعفر، كل الأطفال جعفر، فمن يحمل الراية من بعد "جعفر"، فزيد تحت ردم البيت، وعبد الله في ذمة الله، وخالد في "المهجر"!!! من يحمل الراية من بعد جعفر؟!
في الغوطة، التقط أحد الناجين صورة لقدم طفل قد قضى في الركام، قدمه هي الطالعة من الأرض المسوّاة، وكأنها بذرة كمثرى تطل من جديد، الجسد تحت الردم، والقدم إلى أعلى، ما أجملها من رسالة كتبت بالمقلوب، وكأن الطفل بموته يقول قدمي أعلى من رؤوسكم جميعا، ستمطر الدنيا وستكبر قدمي، وستطول وتطول لتطأكم جميعا، هي معراجي نحو الوطن وهي معراجي نحو الحرية.. أنا الغارق في الموت الصاعد برجلي إلى الحياة، هذه أولى رسائلي إليكم، فانتبه يا سامعي:
إذا ما هبت الريح وماج الجذع طويلا، تأكّد هذا تململي، فشجر الحور كعبي والأغصان أصابعي..