كيف يمكن للحكومة اللبنانية أن تتعاطى مع تصاعد وتيرة التهديدات الإسرائيلية الموجهة ضد حزب الله ولبنان، والتي وردت على لسان أكثر من مسؤول سياسي وعسكري إسرائيلي؟ هل عليها أن تدرج هذا الأمر في خانة التهديدات الكلامية التي تهدف إلى التهويل والتخويف والردع؟ أم عليها ان تأخذ بجديةٍ بالغةٍ هذه التهديدات، وأن تعمل على تطويقها، ونزع فتيل التفجير قبل حصول ما لا تُحمد عقباه؟ تقضّ هذه الأسئلة مضاجع المسؤولين في لبنان، في الأيام الأخيرة، وهي التي دفعتهم، على الأرجح، إلى تخطي خلافاتهم والحزازات السياسية الناشبة بينهم، والانصراف إلى مواجهة أكبر خطر يحدق بلبنان في هذه الفترة، وهو إمكانية اندلاع حربٍ جديدةٍ بين حزب الله وإسرائيل.
الجديد في التهديدات الإسرائيلية الجديدة أنها تزامنت مع عدد من التطورات، مثل زيارة رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، موسكو، وما رشح عنها من تعزيز التعاون العسكري، وحصول نتنياهو على ضوء أخضر لوقف تعاظم النفوذ الإيراني في سورية ولبنان، والأهم اتخاذ كل الخطوات اللازمة للحؤول دون بناء إيران مصانع صواريخ دقيقة وبعيدة المدى في لبنان. كما برز تطور آخر ذو دلالة، هو بدء الجيش الإسرائيلي بناء جدار إسمنتي، ارتفاعه عشرة أمتار، يبدأ من رأس الناقورة، ويمتد على طول الحدود مع لبنان، وصولاً إلى جبل الشيخ، بهدف منع تسلل مقاتلي حزب الله إلى المستوطنات الإسرائيلية المتاخمة لهذه الحدود، في حال نشوب حرب جديدة. ويضاف إلى ذلك تهديد وزير الحرب، أفيغدور ليبرمان، بمنع لبنان من التنقيب عن النفط والغاز في البلوك رقم 9، بحجة أنه ضمن حدود المياه الاقتصادية الخالصة لإسرائيل. وقد ترافق هذا كله مع كم غير قليل من التحليلات والتعليقات في وسائل الإعلام الإسرائيلية التي تناولت إمكانية نشوب حرب "ثالثة" ضد لبنان. فهل ستبقى هذه التهديدات كلاميةً ذات هدف ردعي، وإعادة ترسيم الخطوط الحمراء لإسرائيل في لبنان؟ أم أنها بداية مرحلة جديدة في التعاطي الإسرائيلي، مع تعاظم قوة إيران العسكرية في سورية ولبنان، ومخططاتها تزويد حزب الله بأسلحة صاروخية دقيقة ومتطورة من نوع جديد. مرحلة أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها بداية المواجهة العلنية والمباشرة بين إسرائيل وإيران في سورية ولبنان.
في الرد على السؤال الأول، هناك أكثر من مؤشر، يدل على أن هدف التصعيد الكلامي بصورة أساسية الردع، وأن ليس هناك توجه فعلي لدى الحكومة الإسرائيلية نحو الدخول في مواجهة عسكرية جديدة ضد حزب الله، تعلم تماماً أن من سيدفع ثمنها، بالدرجة الأولى، هم المدنيون الإسرائيليون. لكن من جهة أخرى، يجب عدم الاعتماد بصورة كاملة على هذا التقدير، وأخذ التهديدات بجدية، وضرورة أن تبدأ الحكومة اللبنانية وضع خطة واضحة لاحتوائها. والمثير للقلق في التهديدات الأخيرة أنها تستند إلى تقديرات الجيش الإسرائيلي بأن الحرب المقبلة ستكون ضد الصواريخ الإيرانية بعيدة المدى والدقيقة. وهذا مهم في استراتيجيا الجيش الإسرائيلي، وستكون له انعكاساته على أمن إسرائيل. وفي تقديرات المسؤولين العسكريين الإسرائيليين، إذا نجحت إيران في تزويد حزب الله بصواريخها الدقيقة وبعيدة المدى، فإنه، من الآن وحتى عشر سنوات، سيكون لدى الحزب ألف صاروخ من هذا النوع، وعلى افتراض أن المنظومة الإسرائيلية لاعتراض الصواريخ "القبة الحديدة " استطاعت اعتراض 90% من هذه الصواريخ، فإنه يبقى لدى الحزب مائة صاروخ يمكن أن يلحق ضرراَ بالغاً بالبنى الحيوية التحتية الإسرائيلية، كما يمكن أن يربك الاداء العسكري للجيش في أثناء المواجهات. ويشكل هذا خطراً لا يمكن التقليل من أهميته.
حتى الآن، تتمركز الضربات الجوية الإسرائيلية ضد أهداف تابعة لحزب الله، أو إيران، موجودة داخل الأراضي السورية، من دون أن تستهدف الأراضي اللبنانية. تدرك إسرائيل أن نظام بشار الأسد لن يرد على هذه الهجمات، لكنها تعلم أن أي هجوم من هذا النوع داخل الأراضي اللبنانية لن يمر من دون رد من حزب الله. وما دامت إسرائيل تحافظ على خطة تحرّكها هذه، ولم تقدم حتى الآن على ترجمة تهديداتها لحزب الله بعمل عسكري ضده داخل لبنان، فهذا معناه أنها لا تريد وقوع مواجهة عسكرية واسعة النطاق معه. أما إذا خرجت إسرائيل عن هذا الخط، وأردفت استفزازاتها للبنان على الحدود من خلال بناء الجدار، أو من خلال منع لبنان من التنقيب في بلوك 9، بهجوم على مواقع تابعة لحزب الله في لبنان، فإن هذا مؤشر على نوايا عدوانية مبيتة، وستكون محاولة مكشوفة منها الى جرّ حزب الله وحكومة لبنان وجيشه وشعبه إلى حرب مدمرة.
ما يجري حتى الآن رسالة تحذير إلى الرأي العام اللبناني، وإلى حكومته وجيشه، وأيضاً رسالة إلى الرأي العام الإسرائيلي، لإعداده نفسياً لإمكانية نشوب حرب جديدة، وإلى الرأي العام الدولي، لحثه على التدخل لمنع تعاظم النفوذ الإيراني على الحدود مع "إسرائيل".
بالعودة إلى المشروع الإيراني الذي ربما يرى البعض أنه عودة ثانوية في خضم التحولات الكبرى التي تشهدها المنطقة، والمنذرة بمخاطر كبرى، يرى كثيرون، وكاتب هذه السطور منهم، أن المشروع الإيراني هو من أهم العوامل المؤدية للاضطراب في منطقتنا، وسوف يتعاظم دوره في الأشهر المقبلة، لأنها أشهر الحسم، كما أنه يفتح على اضطرابات أكبر وأعمق في المستقبل المتوسط. بداية لا أقصد هنا بـ«المشروع الإيراني» شعوب إيران، كما بالتأكيد لا أقصد المذهبية الشيعية، ما أقصده هو «مشروع النظام الإيراني» الذي يبدو كلما زاد التحرك الداخلي الإيراني في مقاومته نوعاً وكيفاً، اعتقدت أن التمدد الخارجي ينقذ ما وصل إليه من سكة تنموية مسدودة، نتيجة ضيق اقتصادي وسياسي وقمع للحريات، ضاقت بهما الشعوب الإيرانية، وكُلما بدت السكة التنموية مسدودة، ضغط هذا المشروع في اتجاه التوسع في الجوار، تنفيساً عن ضغوط الداخل، وتحويلاً للأنظار إلى مكان آخر.
ما إن تحررت المنطقة نسبياً من الدولة الداعشية، التي أفشت الفساد، وقتلت العباد، وهدّمت المدن، حتى أصبح المشروع الإيراني التوسعي أكثر وضوحاً وتوحشاً وشهية في الاستيلاء على مقدرات الدول المحيطة. العلامات البارزة للتوسع الإيراني هي الادعاء أنها (هزمت الدولة الداعشية)! ووجب أن تأخذ مقابل ذلك بقاء طويلاً في الجوار، وهو ادعاء تجافيه الحقيقة، فمن هزم الدولة الداعشية هو تحالف دولي واسع، إلا أن تغيب الوعي، يجعل من ذلك الادعاء حقيقة لدى البعض! «حزب الله» والحشد الشعبي والحوثيون، هم علامات بارزة أخرى كأدوات للتوسع الإيراني، ولكن ليس هؤلاء كل الأدوات المتاحة لإيران، بل هناك فيلق «فاطميون» المكون أساساً من الهزارة الأفغان، وفيلق «الزينبيون»، وهم من شيعة باكستان، بجانب «حركة النجباء» و«أهل الحق» من المذهبية العلوية، وعدد آخر من المرتزقة الآتين من بلدان أخرى. كل تلك الأدوات التي تستخدمها طهران تحت قيادة «فيلق القدس» وقائده قاسم سليماني! تستخدم لتمكين المشروع الإيراني في الإطاحة بالدولة، أو إفشال احتمال قيام دولة عربية في كل من سوريا والعراق واليمن، كل تلك الأدوات تنخرط في بناء هيكلي واحد، هو ميليشيات إيران العسكرية، كما أن إدماجها تحت قيادة سليماني وفيلق القدس، تتم بشكل مدروس. فسبب قتل علي صالح، وحتى قتل عماد مغنية ومصطفى بدر الدين، من أجل تنظيف الطريق أمام أي استقلالية نسبية لتلك الميليشيات عن الحرس الثوري! النموذج الأنجح الذي تعتمده طهران في توسيع نفوذها هو «حزب الله» اللبناني، وهو نموذج ربما يراد استنساخه في كل من العراق وسوريا واليمن، بجانب لبنان. أي وجود ذراع مسلحة مدعومة من طهران، وفريق سياسي يتخلل أجهزة الدولة، فيكون قادراً على معرفة مفاتيح الدولة العسكرية والأمنية، حيث لا تتحرك إلا بإمرته، خدمة للولي الفقيه! هذا ما يمكن أن يوصف بـ«الاستعمار الإيراني الجديد»..
في مايو (أيار) المقبل هذا العام، سوف تجرى انتخابات عامة في كل من العراق ولبنان، وهي انتخابات سوف تخوضها قوى موالية لإيران، بكل ما تستطيع من مال وإعلام وآيديولوجيا وضغوط سياسية، من أجل الاستفادة مما يسميه الأستاذ عبد الله بشارة (البونص الديمقراطي)! أي استخدام صناديق الانتخاب للوصول إلى مفاصل الدولة العراقية واللبنانية، وربما في المستقبل السورية واليمنية، هذا (البونص الديمقراطي) لا يعني أن هناك ديمقراطية أو قريباً منها، هو يعني شكلاً خارجياً يمكن التشدق به، وإقناع الآخرين (السذج فقط) أنه موجود، فمن المرجح أن يحصد تحالف «حزب الله» وحركة أمل سبعين في المائة من أصوات الناخبين في الانتخابات اللبنانية، القادمة، ويتجول «حزب الله» من (دولة داخل الدولة اللبنانية) إلى (لبنان دولة داخل دولة حزب الله)! كما يحدث ذلك في العراق، حيث تمهد السبل لأغلبية مناصرة للمشروع الإيراني في انتخابات العراق، ولا يعود هناك سبب لاستخدام أدوات أخرى للانقلاب على تلك الحكومات، فهي سوف تكون ضامنة للمشروع الإيراني ومتحدثة باسمه. اليوم هناك نحو سبعة آلاف مقاتل من «حزب الله» في سوريا، وهناك الآلاف من «الزينبيون» و«الفاطميون»، بل هناك أحياء بكاملها في دمشق لا تتحدث إلا الفارسية، فضلاً عن شراء الأراضي بشكل واسع، كما أن هناك دعماً لوجيستياً لمجموعات عراقية ويمنية وحتى خليجية، تعد العدة من أجل الانقضاض على الدولة العربية من الداخل، تمهيداً للسيطرة عليها، وهناك أكثر من خمسين محطة تلفزيونية وإذاعية، تنطق بأهداف المشروع الإيراني في لبنان وحده. تلك حقيقة يعرفها اللبنانيون والسوريون واليمنيون والعراقيون، وهناك جيوب في كل تلك البلدان تقاوم هذا المد، إلا أنها جيوب تنقصها أدوات الدفاع الفعالة، في ضوء غياب المشروع البديل، كما تُسكت بالقوة أصواتها الرافضة للتحكم الإيراني، بعضها تحت شعارات مزايدة مثل (حقوق المستضعفين) وحرب (دول الاستكبار)! وهي شعارات تداعب بعض العقول التي تم الاستيلاء على قدرتها على الفهم المنطقي للأمور! وبعضها تحت التهديد المباشر. ماكينة الهوية الشيعية المقاتلة تنضب، ويلجأ النظام الإيراني إلى المال لتجنيد الفقراء في القرى، فلم يعد «حزب الله» في تجنيده انتقائياً، كما كان، بل أصبح يوظف الأقل ارتباطاً آيديولوجياً وأقل انضباطاً، فقط من أجل التغلب على الخسائر البشرية، وعليه فإن ماكينة إيران تتحول في استخدام الأذرعة، إلى ما يشبه (البلطجة)! وذلك ما يفعله الحوثي في اليمن. الهدف المباشر شرق البحر الأبيض، هو إقامة طريق «آي الله» الممتد من الأرض الإيرانية إلى البحر الأبيض، وهي طريق برية استراتيجية تقام تحسباً أن تقطع إسرائيل (في حرب قادمة) نقل السلاح عن طريق الجو! هذه الطريق يمهد لها في الأرض السورية من خلال إخلاء بعض المناطق، وإحلال الميليشيات (البلطجية) وعائلاتهم على عرض عدة كيلومترات في وسط سوريا.
البعض - واهماً - يعتقد أنه بالإمكان إقامة حوار مع النظام الإيراني، ذلك قريب إلى المستحيل، لأن القاعدة الآيديولوجية هي المتحكمة في شخوص ومؤسسات النظام، وقد تمّت أكثر من محاولة لفتح باب حوار بين مهتمين أكاديميين عرب وإيرانيين، ولو شبه مستقلين، من أجل إيجاد أرض مشتركة للفهم والتفاهم بشكل عقلاني حول القضايا المطروحة والشائكة، وما إن يستجيب الإيرانيون لفظاً في البداية، حتى يتراجعوا عن فكرة الحوار المستقل، خوفاً من «الدولة الإيرانية العميقة» التي ورثت كل أدوات شاه إيران القمعية، وأضافت عليها (كريمة آيديولوجية) تسحق الخارج عنها، فالحديث عن حريات حتى نسبية في إيران، هو الحديث المخادع الأكبر.
وعلى مقلب آخر، فإن حديث الإدارة الحالية في الولايات المتحدة لوضع حد لتوسع إيران في الجوار، ما زال حديث استهلاك لا غير، فلم تظهر حتى الآن استراتيجية متكاملة للجم الطموح الإيراني وتغلغله في دول الجوار العربي، صحيح أن الإدارة الحالية توقفت عن مد طهران بحبل سرة، كما فعلت الإدارة الأميركية السابقة، ولكنها لم تفعل الكثير. هنا تبرز أهمية التنسيق العربي بين الدول المهددة من إيران، والتي لم يصلها العطب بعد، وذلك من خلال عدد من الخطوات الجادة، منها سد الطريق على استيلاء (أزلام إيران) من الوصول إلى شرايين المؤسسات التشريعية العراقية واللبنانية من خلال (صناديق الانتخاب)، وهو احتمال ممكن، وأيضا تقديم البديل الحضاري لحكم (الفقيه)، والعمل على المستوى الدولي لفضح المشروع الإيراني، وتقديم عون معنوي وسياسي للقوى المناهضة لذلك المشروع من الإيرانيين الرافضين ذلك المشروع، الذين يتزايد عددهم في الداخل والخارج، البديل عن ذلك هو نخر الدولة العربية، وتنصيب إمعات سياسية موالية لطهران، تستعبد الشعوب وتضطهدهم لصالح أسيادهم وإقامة دولة «خلافة الفقيه» المتخيلة، وذلك يعني سنوات وسنوات من الصراع!
آخر الكلام:
على الرغم من الأصوات القادمة من طهران، أن ما يحدث من ضيق بالسياسات المتبعة داخلياً، تشبه ما صدر من أصوات قبل سقوط الشاه، فإن الهيكلية المثبتة في طهران لن تستمع إلى تلك الأصوات.
أتمت عملية عفرين أسبوعها الثالث، وبدأت تظهر بعض الحقائق على الأرض. المهم هنا هو أن وزارة الخارجية، التي أقدمت على حملات دبلوماسية بتخطيط صحيح منذ بداية العملية، تدرك هذه الحقائق.
الأهم من ذلك، أن الوزارة تتعامل مع المسألة بانفتاح على الآخرين، وتستمع لهم. وخير مثال على ذلك ما نشره وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو في حسابه على تويتر، حيث قال: "تبادلنا الآراء مع ممثلي "Thiktank" الخبراء في شؤون الشرق الأوسط حول التطورات في منطقتنا".
من هو حليفنا؟
لكن ما أسلفناه لا يلغي المصاعب الميدانية. والأهم من ذلك أن تركيا تواصل كفاحها على الأرض بمفردها دون أي حليف. لأن موقف الولايات المتحدة في منبج ودعمها حزب الاتحاد الديمقراطي يعرقلان التحالف معها.
أما روسيا فهي تقيم التعاون مع تركيا على مبدأ "خذ وهات"، بعيدًا عن مفهوم التحالف. فقد أنجزت تركيا عملية الباب مقابل إجلاء المعارضة من حلب، وتوقف الاقتتال مقابل تقدم النظام السوري المدعوم روسيًّا، نحو دير الزور، وإذا كانت أنقرة حصلت على ما تريد في إدلب فإن التطورات اللاحقة ستسير على نفس المنوال.
فاعل آخر على الساحة، وهو إيران، خرج عن صمته، واتخذ موقفًا مشابهًا لفرنسا، حيث بدأت طهران تبدي اعتراضًا على عملية عفرين، لأنها تريد تعزيز نفوذها في منطقة إدلب، وفتح ممرات جديدة في المنطقة.
وهذا هو السبب وراء توجه جاويش أوغلو، على عجل، أول أمس إلى العاصمة الإيرانية.
لا تريد طهران شريكًا ثالثُا لها في النفوذ الذي حققته في المنطقة. وفي المقابل، لا ترغب روسيا في ترك المناطق، التي تريد الخروج منها، لإيران وحدها، وتسعى إلى إقامة توازن في القوى.
أهمية عفرين
أنقرة بدورها عازمة، في ظل هذه التطورات، على إتمام العملية العسكرية ضد أهم معقل لحزب الاتحاد الديمقراطي، فرع حزب العمال الكردستاني في سوريا.
والسبب في ذلك هو التأثير النفسي لعفرين، التي تحمل في ثناياها مصاعب ديموغرافية وجغرافية، على حزب الاتحاد الديمقراطي. لكن هناك بعض العوائق إتمام العملية.
يأتي في طليعتها مواقف المجتمع الدولي والإعلام العالمي التي بدأت تنحو منحى سلبيًّا، وساهم فيها ما ينشره بعض عناصر الجيش الحر في مواقع التواصل الاجتماعي عن سلوكياتهم في الساحة.
على الصعيد الداخلي هناك تطلعات كبيرة ناجمة عن تصور أن "النصر سيأتي سريعًا"، بينما لم تقم الدبلوماسية العامة بدورها على نحو فعال.
اتباع سياسة تركز على عدد القتلى الإرهابيين، عوضًا عن إبراز المساعدات التي تقدمها إدارة الكوارث والطوارئ والهلال الأحمر التركيين لتسهيل معيشة أهالي المنطقة.
عدم الاستفادة، في المحافل الدولية، من قوة خطاب منظمات المجتمع المدني، التي تؤكد على ضرورة عملية غصن الزيتون.
حقيقة أن العقبات الصعبة يمكن تجاوزها بسهولة أكبر عبر القوة الناعمة يبدو أنها غائبة عن الأنظار..
لست ممّن يعرّفون البشر بأديانهم، بل من الذين يعرّفونهم بأوطانهم. لذلك، يحزنني استشهاد أي سوري بقذيفة تدمر بيته، تطلقها طائرة نظامٍ مجرمٍ تستهدف الآمنين في أي مكان من سواحل سورية وجبالها، سهولها وبيدها، أو بقذيفة هاون يطلقها مقاوم دفاعا عنهم. وعلى الرغم من اختلاف الموتين، بين الأول المتعمد والثاني الذي ليس غالبا كذلك، فإن الموت يبقى موتا، والقتلى يظلون سوريين، ثاروا لاستعادة حريتهم وحقوقهم، وصيانة حياتهم، والخروج من جحيم الاستبداد. لذلك يعتبر رحيلهم عنا خسارة وطنية فادحة، في نظر ثورةٍ هم وأمنهم رهانها الأكبر.
يتكامل موت الآمنين في الغوطة ودمشق: موت من تقتله الطائرات مع موت من تقتله قذائف تضل سبيلها، أو تستهدف أحياء المدينة لاعتقاد مطلقيها أنهم ينتقمون بذلك من نظامٍ مجرم، يقتل من يدّعي رئيسه مسؤوليته عنهم، وولاءهم له، ويزعم كذبا أنه يحميهم من الإرهاب، لكنه يحصدهم بالمئات يوميا بجميع أنواع الفتك والتدمير، لأهدافٍ أهمها التخلص منهم، ودفع المقاومين إلى الرد عليه بقصف سكان المناطق الخاضعين لسيطرته، لأن ذلك يبعدهم عن الثورة، ويساعده على تسويغ جرائمه دوليا، بالزعم أنه لا يهاجم غير "إرهابيي" الغوطة الذين يقصفون منازل الآمنين في دمشق.
وسع النظام، في الأسابيع الأخيرة، دائرة إجرامه، حتى طاولت أهالي قرى الغوطة وبلداتها ومدنها بلا استثناء. حدث هذا بسبب عجزه عن فك الحصار عن "إدارة المركبات"، على الرغم مما استجلبه إلى حرستا وعربين ودوما من وحدات عسكرية ومرتزقة، دفعه فشلها المتكرّر إلى استهداف المدنيين، ثأرا من صمودهم ولحفظ ماء وجهه، والتغطية على تهافت جيشه إلى الحد الذي انكشف معه الحضيض الذي بلغه كعصابات تعفيش وتشبيح، عجزت عن صد هجوم شنّه، قبل نيف وشهرين، بضع مئات من بواسل الجيش الحر، اقتحموا في ساعات قليلة حصنا حصينا أقامه الأسد في الغوطة، بيد أنه تهاوى مثل بيت من ورق، وانهارت مقاومته بعد ساعات قليلة من الهجوم عليه، وفشلت حشود كثيفة الإعداد والعدد عن إخراج المحاصرين فيه، بعد أسابيع من قتال تلاحميٍّ، لم يبق لديها سلاح إلا ورمت به إلى المعركة، وطائرة روسية إلا وشاركتها القتال. وحين فشلت جميع محاولاتها، شرعت تهاجم مواطني الغوطة، وتدك بيوتهم على رؤوسهم، في جريمةٍ لا يرتكب ما يماثلها أي جيش غير جيشها الذي دأب سبعة أعوام على قتل الشعب السوري، من دون أن يرفّ لضباطه جفن.
يقصف الأسد الآمنين، انتقاما لهزيمته، فلماذا يقصف المقاومون أحياء دمشق، علما أن انتصارهم هو لشعب سورية بأكمله؟ هل يخدم قصف دمشق هذا الانتصار، أو يرضي مواطني الغوطة الذين يدركون أنهم يقتلون بيد عدو، وأن غير المقبول أن يقتل إخوتهم في عاصمتهم، بيد أخ خرج بالثورة، ليحميهم من الموت المجاني أربعين عاما بيد الأسدية وأجهزة دولتها العميقة الطائفية!
لا لقتل أي سوري آمن بيد المقاومة الوطنية، أو لقصف مدرسته وبيته وحانوته. ولا لمحو الفارق بين ثورة الحرية ونظام الإجرام والقتل، وللتخلي عن قيمها الذي فيه هزيمتها وهلاكها! ولا لعبثيةٍ مقاومةٍ تجعلها دوافع ثأرية تقصف أبرياء هم جزء من شعبٍ، لطالما ضحّى رجالها بحياتهم من أجل حياة أبنائه إناثا وذكورا. ولا لهدر حياة بريء وأمنه، مهما كان موقفه من الثورة.
معركة حرستا انتصار يدعو إلى الزهو، وقصف دمشق هزيمة مخجلة. ... أيها الثوار، أوقفوا قصف دمشق، فهي معكم وأنتم لها.
رسالة تثير الضحك من قبل الاحتلال الفارسي للاحتلال الإسرائيلي، من خلال إرسال طهران طائرة دون طيار إلى الأجواء الإسرائيلية، في محاولة منها لتلقين الولايات المتحدة درساً بعد ضربة الأمريكان لميليشياتها في دير الزور، يوم الخميس، والتي قتل فيها 100 من عناصرها.
تحاول طهران أن تظهر بمظهر لائق بعد تدخل ضمني في سوريا منذ بدايات الثورة، وإعلان رسمي عن دعمها لنظام الأسد منذ 4 سنوات، إذ حاولت أن تؤكد لإسرائيل والولايات المتحدة وروسيا أيضاً، أنها قادرة على الرد في وجه من يحاول قضم احتلالها لسوريا، في مسعى منها لحفظ ماء وجهها بعد مقتل 100 عنصر من ميليشياتها في ضربة أمريكية كانت موجعة لها.
ماحصل اليوم من هجمات إسرائيلية على مواقع إيرانية ومواقع عسكرية تابعة لنظام الأسد، يأتي بالتزامن مع حرب باتت بين دول داخل "سوريا" المقسمة، فروسيا تحاول تحجيم ايران، وايران تحاول أن تثبت وجودها أمام روسيا والعالم أجمع، وروسيا تتأرجح بعد ضربة مطار حميميم بطائرات مسيرة وإسقاط سو-25، وأمريكا في حيرة بين إرضاء تركيا وبين مآربها في السيطرة على آبار النفط بأداتها الكردية، والغائب الوحيد في هذه المعادلة هو الشعب السوري، فلا مكان له في هذه الحرب سوى الموت تحت القصف والحصار.
ما يثير السخرية، أن إسرائيل استعرضت قدراتها العسكرية لتؤكد أنها قادرة على إنهاء الوجود الإيراني ونظام الأسد في سوريا، وتعود لتؤكد أنها لا تريد التصعيد، بالرغم من تأكيدها أن النظام وايران يلعبان بالنار، وماهذا إلا دليل أن إسرائيل لا تريد أن تنهي الحرب في سوريا في هذه المرحلة الزمنية لأنه لا مصلحة لها ولخاصرتها أمريكا بأي تصعيد، والقصف الذي أعلنت عنه اليوم هو مجرد درس قاس لإيران لتعرف قدر نفسها وسط الكبار، ومن ثم ستترك كافة الأطراف تنزف في سوريا وتعود لقواعدها من جديد.
ووسط هذا السيناريو الذي اعتدنا عليه في سوريا منذ اندلاع الثورة، ولكن بإنتاج أقل تكلفة وأقل تمثيل، تعد قناة الميادين التابعة لحزب الله تقريراً، تؤكد فيه أن إسقاط الدفاعات الجوية التابعة لنظام الأسد، لطائرة حربية إسرائيلية، هو قرار سياسي وعسكري واستراتيجي حاسم من قبل نظام الأسد ومن أسمتهم "محور المقاومة"، وأضافت بلكنة إعلامية ساذجة أن هذه الرسالة "رسالة ردع" وليست "رسالة رد" لإسرائيل.
ولكن مهما حصل من سقوط طائرات حربية روسية أو إسرائيلية في سوريا، فإن الشعب السوري بات متيقناً وأكثر إدراكاً سياسياً بعد حرب خاضها خلال السبع سنوات، وهو يعلم تماماً أن هذه السيناريوهات الإسرائيلية والفارسية والموزنبيقية، هي فقط قرصات أذن بين جيوش متلاحمة ومتفقة على تقسيم سوريا بالشكل الذي يلائم الجميع، إلا صاحب الأرض السورية وشعبها.
ماذا لو كنت شاباً سورياً وتعرّضت أختك أو زوجتك لاغتصاب ممنهج في سجون الأسد؟ من المحتمل طبعاً أن هذا الشاب سينجو بحياته، وسيحاول فتح صفحة جديدة في بلد آخر، بل سيحاول نسيان بلده الأصلي بالمطلق عسى أن ينسى تلك الشوكة في قلبه. ومن المحتمل بالطبع أن يكون الشاب نفسه "لا أخته" هو من تعرّض للاغتصاب والتعذيب المنهجيين، مثلما من المحتمل في الحالتين ألا يرى العالم إلا من خلال الانتهاك الفظيع الذي خضع له، وأن ينظر بعين المساواة إلى جسد قريبته وأجساد العالم جميعاً، أي أن ينظر إليها كأشياء وكوسائل للانتقام فحسب.
ماذا لو كنت سورياً ورأيت جثة أحد من عائلتك، ضامرة هزيلة مثقوبة بالتعذيب، ضمن الصور التي كُشف عنها في ما يُعرف بقضية سيزار عن القتل تحت التعذيب في سجون الأسد؟ ثمة احتمال بالطبع لأن يرى هذا الشاب خلاصه في البحث عن العدالة والسعي إلى محاكمة المجرمين، لكن، ثمة احتمال لا يقل وجاهة لأن يتحول إلى منتقم يريد تحويل كل ما يمت بصلة لأولئك القتلة إلى جثث على النمط نفسه الذي شاهده في صور سيزار.
ماذا أيضاً لو رأيت جثة أخيك المقاتل ضمن جثث مصفوفة في شاحنة كأنها قطع من السردين تجول في شوارع مدينة عفرين، ويقوم عناصر من الميليشيات الكردية أو أناس عاديون بالتقاط الصور التذكارية مع جثة أخيك؟ طبعاً من المرجح في هذه الحالة أنك تضع احتمال مقتل أخيك في الحسبان، بصرف النظر عن عدالة حربه أو عدمها، أما التقاط صور الـ"سيلفي" معها فشأن آخر قد لا تتسامح معه مثل التسامح مع الموت.
وإذا صادف وكنت قريباً للمقاتلة الكردية بارين كوباني، أو تجمعك بها عصبية من أي نوع، فلا شك أن منظر جثتها العارية والدوس فوقها مع التعليقات المخزية غير الإنسانية من قاتليها، كل هذا قد يجعل العدالة آخر ما تفكر فيه، ولا يُستبعد أن يكون الثأر أول خاطر يجول في ذهنك، أو حتى أن تتمنى لو تلوك جثث أولئك القتلة بأسنانك.
هذه الأسئلة والافتراضات لا تنصرف إلى الضحايا الذين قُتلوا وتم التنكيل بهم، بل تنصرف أساساً إلى الذين يُعرفون قانونياً بالضحايا من الدرجة الثانية أو الثالثة، مع التنويه بأن عدداً هائلاً من الضحايا لا يقع ضمن هذا التصنيف، وهم ضحايا الجو العام للعنف والوحشية من دون التعرض لهما مباشرة أو عبر أحد الأقارب، يستوي في ذلك أكانوا رمزياً من جهة المقتولين أو من جهة القتلة. ويلزم التنويه بأن هذه الممارسات باتت توصف بالداعشية بما يحرف الأنظار عن نقاش موضوعي فيها، فأول من ذبح الناشطين والأطفال بالسكاكين في مجازر عديدة كانوا شبيحة الأسد، وأول من التقط الصور مع الجثث بتباهٍ كان مذيعو ومذيعات الأسد، وهذا كله مسجّل وموثّق قبل الطارئ الذي مثّله وجود دولة داعش واستمر أثناء وجود التنظيم وبعد القضاء عليه. ممارسة العديد من الأطراف لهذه الفظائع تنزع عنها الصفة الدينية، وهي للحق ممارسات وجدت من قبل ولم تلتصق بمذهب أو دين أو قوم.
ولأن هذه الممارسات لم تختص بها جماعة بشرية عبر التاريخ، وفي الوقت نفسه شهدت ازدهاراً في العديد من الصراعات، سيكون من الأفضل تحري ذلك الغرام بالجثث، أو الغرام بسحق الجسد البشري واغتصابه بمختلف الطرق حياً. فالقتل هنا هو تفصيل ثانوي، بل يكاد يكون الأشد هامشية بالمقارنة مع التنكيل، وفي كثير من الحالات يكون القتل رحمة قياساً إلى التنكيل ذاته. وما يزيد الأمر سوءاً وجود مختلف الأسلحة الحديثة التي تجعل القتل أكثر رأفة بالقاتل نفسه، من منطلق أن القتل يصبح أسهل كلما كانت الضحية بعيدة عنه، إلا أن قتلتنا لا يريدون ترك مسافة بينهم وبين الضحايا، بل يريدون التأكيد على تماسهم الفيزيولوجي مع الضحية من منطلق استهتارهم التام بها، أو على نحو أدقّ من منطلق استهتارهم التام بالمجموعة البشرية التي تنتمي إليها الضحية.
هذه الوحشية القصوى كانت تاريخياً سمة حروب الإبادة والاستيطان، وكانت دائماً سمة الحروب الأهلية التي يكون هدفها عادةً محو الآخر من الوجود، أو تقليل وجوده البيولوجي إلى الحد الأقصى. في هذه الحروب يكون سحق الآخر نفسياً وجسدياً من طبيعة الحرب، بمعنى عدم إمكانية ردّ هذه الممارسات إلى اختلالات شخصية للمحاربين، وكل ما أضافته العصور الحديثة من قوانين حرب ومن إعلانات عن التقيد بها لم تعدّل من منسوب الوحشية في هذا النوع من الصراعات. غاية الوحشية بهذا المعنى أيضاً هي قطع الطريق نهائياً على احتمالات السياسة أو التعايش، وبهذا تلتقي مع أحد تمظهرات النيكروفيليا وفق علم النفس وهو الوجه الذي يرى في القوة والدمار حلاً لأية مشكلة، فضلاً عن تلازم اعتماد القوة مع الإحساس الشديد بالتملك وعدم قبول منطق المشاركة مع الآخر.
سحق الضحايا والتنكيل بأجسادهم، أو التنكيل عبرها بجماعاتهم، لا يحدث عادة في المعتقلات أو في ميدان المعركة فحسب. إنه يحدث أولاً بتهيئة القتلة، وبتهيئة المناخ العام الذي سيتقبل أفعالهم بترحاب، أو على الأرجح سينظر إليها كنوع من البطولة سراً إن لم يكن علناً. في حالتنا السورية كان هذا يحدث طوال الوقت وبسخاء قلّ نظيره، ومن المؤكد أن وسائل التواصل الاجتماعي "بخلاف تسميتها الأصلية" كانت الميدان الأنسب لاستباحة الآخر معنوياً والتهيئة لاستباحته فعلياً. فعلى صفحات التواصل الاجتماعي حدثت تغطية أشنع الأفعال ومباركتها وإيجاد مبررات لها، وحتى حينما كان يجري إنكارها في بعض الأحيان كان هدف الإنكار هو سحق الضحية مرة أخرى بالقول ألا وجود لها كضحية أيضاً، أو أنها لا تستحق شرف أن تكون ضحية. ذلك يشبه تماماً أن تقوم قوات الأسد باستخدام السلاح الكيماوي ثم تنكر استخدامه، رغم معرفة العالم كله بكذبها ورغم تقديم أدلة حاسمة على استخدامه، فالغاية هنا ليست التهرب من المسؤولية عن الإبادة وإنما سحق الضحية مرة أخرى بإنكار وجودها.
الحق أنه، إذا أخذنا في الحسبان حملات الإبادة والتنكيل على وسائل التواصل الاجتماعي، ستبدو الحصيلة الواقعية من التنكيل أدنى من المتوقع، باستثناء التنكيل المنهجي الذي يقوم به تنظيم الأسد ويتغاضى عنه العالم. ذلك يعني أن كل ما شهدناه حتى الآن، أو ربما ما لم نشهده لأنه بقي بعيداً عن التصوير، لا يعبّر بما يكفي عن غرام أعمّ بالجثث، ويعني على الأرجح أننا قطعنا مسافة بعيدة عن بوابة الجحيم.
يدرك السوريون أن ثورتهم من أجل الحرية والكرامة أصبحت حدثاً هامشياً، فقد تطور الصراع من تظاهرات عفوية ضد سطوة أجهزة أمن النظام إلى تصفيات دولية بين القوى الكبرى في العالم. وتحول السوريون في المشهد الدولي الراهن إلى ضحايا، دورهم في المسرحية التراجيدية أن يموتوا، بينما يتنافس الكبار على لعب دور البطولة في قيادة العالم. ولا أحد يصدق أن روسيا دخلت إلى سوريا بكامل قواها العسكرية من أجل الدفاع عن الأسد أو نظامه، فهي في الحقيقة تصارع الغرب كله، وتتقن شروط اللعبة، بأن يكون الضحايا من الكومبارس السوري الذي يشكل الأغلبية السكانية على الضفتين. وأما إيران فهي تنفرد وحدها بمشروع توسعي بين الدول المتصارعة وتقضم الأمة العربية ضمن خطة منهجية محكمة، فبعد أن استولت على العراق ولبنان، وجدت في انهيار الأمة فرصة سانحة لقضم سوريا واليمن معاً، وهي تتابع مشروعها غير عابئة بالتهديدات الأميركية التي لم تتوقف.
أما الولايات المتحدة التي تبدو مترددة في رسم توجهاتها، فهي الغائبة الحاضرة في القضية السورية، وقد بدا غيابها نوعاً من التخلي عن مبادئ كبرى مثل حقوق الإنسان التي بات الإنسان السوري يطلب أقل من أدناها، فقد علق بعض السوريين إثر تركيزها الإعلامي على التهديد بخطورة تكرار استخدام الأسلحة الكيماوية، بقول ساخر «ليس بالكيماوي وحده يموت السوريون» وكانت الاتفاقية التي وقعت في فيتنام بين الرئيسين ترامب وبوتين اهتمت بالتنسيق بين طائرات البلدين في سماء سوريا، واختصرت حل القضية السورية في الدستور والانتخابات، وهذا ما فعله الروس في سوتشي، وما ركزت عليه ورقة اللاورقة التي قدمتها الدول الخمس في باريس، وكلا الحلين المقترحين (شوتشي واللاورقة) يتجاهلان العقدة الرئيسة للحل النهائي في سوريا وهي موضوع بقاء الأسد أو رحيله.
ويدرك أكثرية السوريين أن قادة العالم يعرفون جيداً أن بقاء الأسد يعني بقاء الصراع واستمراره لعقود طويلة، فليس بوسع الأسد أن يستعيد سلطته إن لم يستخدم مزيداً من العنف والقمع، وهذا لا يوفر أمناً واستقراراً مهما بلغ حد العنف. كما أن الشعب الذي أسقط جدار الخوف وضحى بمليون شهيد، وتعرض لهجرة غير مسبوقة في تاريخه، لن يرضخ لحكم طائفي لا يستطع الأسد التخلي عنه، فهو العضد الذي يشد أزر النظام منذ خمسين سنة، وليس بوسع النظام أن يغير شيئاً من سلوكه، وبنيته عصية على التغيير. وهذا سر تمسك الأسد بمنظومة حكمه، فهو يخشى أي تغيير في قوائم طاولة الحكم خشية أن يزحزح ثباتها الوهمي. كما يخشى أيضاً من أي تنازل يمكن أن يؤدي إلى رفع سقف المطالب الشعبية أو إلى مزيد من التنازلات، وهذا سر كونه لم يقدم أية مبادرة للحل منذ سبع سنوات، وهو مصر على الحسم العسكري بيد الإيراني والروسي، حتى لو فقد سيادته وبقي تحت سطوة الأجنبي، فهو يخشى أن تخرج بنية نظامه (العصبية) من التاريخ فلا تعود إليه قروناً. ولن يغامر السوريون مرة أخرى بمنح الولاء والتفويض لأية طائفة تتفرد بالحكم في سوريا، وهذا سر إصرارنا على الوصول إلى حكم غير طائفي، يتشارك فيه السوريون جميعاً في إطار ديموقراطي، وينتهي فيه التمايز الإثني، فقد أثبتت السنوات الخمسون الماضية أن تحكُّمَ طائفة واحدة في السلطة المطلقة وتفردها بها، مفسدة مطلقة، وقد أوصلت البلاد إلى الدمار الشامل، ولم يسعفها وجود ممثلين عن السُّنة، أو الأقليات الأخرى، في واجهات الحكم، لأن طبيعة النظام كانت عضداً يقوم على (العصبية ) كما وصفها ابن خلدون.
ومع انهيار مؤتمر سوتشي الذي استغل النظام فيه جهل روسيا بالأبعاد والرموز الاجتماعية السورية، فأرسل إليه وفداً كرنفالياً تعبيراً عن عدم اهتمامه بالمؤتمر، جعل الروس يخسرون فرصة تبييض الوجه الدامي بعد أن أعلن بوتين انتصاره في حميميم! لقد قادهم النظام بعد سوتشي إلى مزيد من التدمير في الغوطة وإدلب، وأسقط عنهم قناع رعاية السلام، فلم يعد بوسع روسيا أن تلعب دور راعي المفاوضات في آستانة أو في جنيف بعد أن غرقت سوريا في الدماء تحت شعار السلام والمصالحة في سوتشي.
ويبدو أن الجولة العاشرة القادمة من المفاوضات ستواجه ذات الطريق المسدود، إن هي لم تقتحم عُقد الحل، فأي حديث عن دستور وانتخابات برعاية الأسد مضيعة للوقت وهدر لمزيد من الدماء.
أسس الجيش حتى اليوم 5 نقاط مراقبة في إطار اتفاق مناطق خفض التصعيد الذي توصلت إليه ترويكا أستانة (تركيا، روسيا، إيران).
وكانت وحدات من الجيش التركي دخلت إدلب عبر ريف حلب قبل ثلاثة أيام، بهدف تأسيس نقطة المراقبة السادسة.
توجد أبراج مراقبة للجيش التركي في كل من قرية سلوى، ومنطقة سمعان، وتل الشيخ عقل وبلدة العيس. وثلاث من نقاط المراقبة التركية تقع بالقرب من حدود عفرين.
وتقول بعض المصادر إن مباحثات أستانة واتفاقية مناطق خفض التصعيد تمنح تركيا حق إنشاء قاعدة عسكرية في إدلب.
وبحسب ما تقوله المصادر السورية المحلية فإن موكبًا مكونًا من 4 سيارات يقل مسؤولين أتراك، أجرى جولة تفقدية في قاعدة تفتناز الجوية بإدلب.
وتضيف المصادر المحلية إن تركيا ستنشئ قاعدة عسكرية جديدة في تفتناز بموجب الاتفاقية. وتشير إلى أن قوات تركية ستنتشر في قاعدة تفتناز الجوية، التي تضم ساحة مناسبة لإقلاع وهبوط المروحيات، عند انتقال السيطرة عليها إلى أنقرة.
وتلفت إلى أن القوات التركية المزمع نشرها في تفتناز ستراقب مناطق خفض التصعيد في كل من حلب وحماة، علاوة على إدلب.
دخل الجيش التركي إدلب قبل انطلاق عملية غصن الزيتون في عفرين. أكثر ما يلفت في مهمة الجيش بإدلب هو أن إحدى نقاط المراقبة الثلاث تقع على حدود عفرين.
وهذا ما كان قد قطع الطريق أمام إرهابيي حزب العمال الكردستاني في عفرين، فضلًا عن محاصرتهم تأهبًا لعملية محتملة بعفرين.
تنفذ تركيا عملية في عفرين منذ 20 يناير/ كانون الثاني الماضي، ويملك جيشنا قوات في إدلب. نقطة المراقبة السادسة على وشك الانجاز، في حين يجري الحديث عن إنشاء قاعدة جوية أيضًا.
كانت قاعدة تفتناز الجوية تحت سيطرة المعارضة السورية عام 2013. وبعد ذلك تبادلت عدة جهات السيطرة عليها بعد ظهور تنظيم داعش.
تقع تفتناز على الطريق ما بين حلب وإدلب، ولهذا فهي تتمتع بأهمية من الناحية الاستراتيجية. امتلاك تركيا قاعدة عسكرية فيها سيكون ذا فائدة كبيرة في عمليات مافحة الإرهاب مستقبلًا.
أكد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في خطاب له قبل يومين، على إدلب إضافة إلى عفرين ومنبج، وقال إن العمليات ستتواصل مع إدلب.
ولن يكون من المدهش إقدام أنقرة على خطوة إنشاء مثل هذه القاعدة العسكرية قبل عملية محتملة في منبج على وجه الخصوص. لأن تركيا تقدم على كل خطوة بما يتناسب مع قوتها على الساحة، ودائمًا تكون خطواتها واثقة.
روسيا التي أرادت من محادثات آستانة أن تنخرط في ترتيب مناطق خفض التصعيد على الجبهات كتوطئة للشروع في محادثات سياسية بين الأطراف السوريين شرعت، بعد سوتشي، بالانخراط مباشرةً في التصعيد بما يفتح الباب أمامها للبت بملف محافظة إدلب، وذلك باعتبارها تشكل الخلفية التي تنطلق منها المعارضة لتهديد الوجود الروسي على الساحل السوري.
ومؤتمر سوتشي، الذي ظهرت نتائجه حتى قبل أن يبدأ، عرّض الديبلوماسية الروسية إلى شماتة أميركية وردت على لسان وزير الدفاع جيمس ماتيس الذي قال إن «الأسلوب الأكثر لباقة لوصف نتيجة المؤتمر هو القول إنه لم يحقق شيئاً». طبعاً لم يأتِ التقليل من قيمة هذا المؤتمر من فراغ، وربما مَن شاهد وزير الخارجية الروسي وهو يُقاطَع بزجليّات أهل النظام، لا شك وافق على ما خلص إليه ماتيس.
هذه المشاهد من سوتشي أتت لترسم نهاية لا تليق بمسار الديبلوماسية الذي اشتغلت عليه روسيا في ظل الإدارة الأميركية السابقة وذلك قبل أن يعيد ترامب انخراط إدارته بفعالية في الضغط بالملف السوري. أما المشهد الأكثر نفوراً فقد كشفه سقوط الطائرة الروسية التي كانت تقوم بمهمات قتالية فوق إدلب بما أوحى وكأن هناك مساراً عسكرياً لروسيا منفصلاً تماماً عن المسار السياسي، بخاصة أنه أعقب إعلان القيادة الروسية مرات نهاية الحرب في سورية وانتصارها على الإرهاب وعودة الطائرات والقوات العسكرية إلى قواعدها في روسيا، وهي كانت ترعى قبل أيام حواراً مفترضاً بين السوريين لم يجف حبر بيانه الختامي بعد!
التطورات التي أدت إلى تعقُّد المشهد الميداني في شمال سورية إلى هذا الحد تضع الروس أمام حقائق واستنتاجات تختلف عن السابق. إذ من البديهي أن تتراجع أولوية التمسك بالأسد إلى مرتبة ثانوية ويصبح الأهم هو البحث عن تأمين الوجود العسكري الإستراتيجي في ظل ارتفاع الكلفة عليهم وتلمّسهم ملامح استنزاف تُخطَّط لهم.
وهذا التأمين لا يتحقق بالعناد والتمسك بأشخاص، إنما بعملية سياسية عادلة تفرض عليهم التضحية، وبإستراتيجية خروج مُحصّنة دولياً وتتعلق أولوياتها بالمصلحة الروسية التي تتقاطع مع حسابات دولية قائمة في أماكن أخرى من العالم. يصعب على الروس إلى الآن تصديق مقولة إنهم ملزمون التفتيش عن أفق سياسي جديد لوجودهم الذي دخل عامه الثالث من دون تحقيق نتائج سياسية مستدامة.
المعارضة لا تزال تمتلك حق النقض والاعتراض وترفض التسليم لأن التحدي بات يتعلق بصراع الإرادات وليس لديها ما تخسره. أما المشروعية الدولية فلا تلقي بظلها على الأسد من دون حصول تحوّل جوهري في الأزمة السورية يتيح التقدم بالمسار السياسي، هذا عدا عن الإشارة إلى التوغل الإيراني الذي يتفاقم وكأنه يريد تهشيل الروس!
لذلك تبدو العودة إلى جنيف هذه المرة مطلباً روسياً أكثر منها حاجة أميركية أو غربية، بخاصة بعد فشل سوتشي وتبدُّد مفاعيل آستانة ودخول تركيا المباشر إلى الأراضي السورية. روسيا تحصد إخفاقات متعددة في متابعاتها السورية، بدءاً من عدم الوفاء بالتزامها معالجة ملف الأسلحة الكيماوية والذي يُعاد بحثه دولياً، وعجزها عن معالجة التمدّد الإيراني بخاصة في الجنوب السوري، وصولاً إلى فشلها في ترتيب وضعية إدلب المحاذية لوجودها العسكري وفق مناطق خفض التصعيد في آستانة. هذا إضافة إلى أنها لا تمتلك مفاتيح الضغط في شكل مجدٍ على الأسد الذي يلعب على التوازن بينها وبين إيران، وهنا بيت القصيد.
وعلى عكس روسيا يملك الأميركيون قواعد عسكرية على الأراضي السورية لكن ليست لديهم عقدة تأمينها بعد، ولا زالت حربهم هناك تُخاض بالوكالة وعامل الوقت لا يطاردهم كما الروس. إضافة إلى أن الأميركيين يربطون وجودهم بـ «المحاربة الدائمة» للإرهاب والتطرف في الشرق الأوسط، وذلك يتعلق بسقف زمني مفتوح في ظل حالة عدم الاستقرار العام الموجودة لدى السلطات القائمة وحال التمدد الإيراني الذي أكمل طوقه حول إسرائيل.
ترامب لا يبحث عن شرعية لوجود قواته في ظل استيعاب المؤسسات الأميركية أولوية محاربة الإرهاب والتصدي لإيران ونجاحه في تجنب الأكلاف البشرية.
وفي حين لا يُعتبر قرار أردوغان بالدخول التركي إلى منطقة عفرين وليد لحظته أو أنه أتى كرد فعل على تشكيل الولايات المتحدة قوة من 30 ألف مقاتل من الأكراد لحماية الحدود، فإن تركيا تدخل لغاية تترصّد فرَصَها منذ سنوات، وتتعلّق بفرض نفسها طرفاً رئيسياً في إدارة الحل في سورية وتُخرجها من عقدة أن تستظل بالموقفين الأميركي والروسي، بخاصة أن حماية وحدة أراضيها وصيانة أمنها القومي مسألتان باتتا تتعارضان جوهرياً مع ما يدور على حدودها السورية. الخطير في المؤشر التركي أنه يفتح الباب أمام إسرائيل لكي تستنسخ المبررات ذاتها في ما خص الجنوب السوري.
وبالتالي فقد دخلت الحرب السورية حقبة جديدة تراكمت فيها المتغيرات لتنقلها من حرب داخلية بمساعدة أطراف خارجيين إلى حرب خارجية وصدام إستراتيجيات كبيرة تفرض على «بعض» اللاعبين أن يتحسّسوا رؤوسهم.
ظهر مؤتمر سوتشي السوري مهزلة، سواء من حيث الحضور أو من حيث ما تقرَّر فيه، حيث كانت القرارات معدة مسبقاً، وفي إطار توافق دولي بشكل ما، ولم تكن نتيجة نقاش في "المؤتمر" الذي لم يكن سوى حشد استعراضي. كانت روسيا مضطرّة إلى قبول ما طرحه مبعوث الأمم المتحدة، ستيفان دي ميستورا، قبل أشهر في جنيف، وربط ما يمكن أن "يتقرّر" في سوتشي بمسار جنيف. كانت عاجزة عن تقرير ما تريد في مؤتمر لمَّ حشداً لا معنى له، ولا قيمة، فقط ظهر أنها ترعى مؤتمراً لـ "شعوب سورية"، أو كما أُسمي: مؤتمر الحوار الوطني. ولكي تقول إنها عقدت مؤتمراً سورياً، قبلت بمخرجاتٍ لا علاقة لها بالمؤتمر، ولا بحوار المؤتمرين، حيث أرادت القول إنها المتحكّم في الحل السوري.
مسرحية هزلية جرى تمثيلها، لكن لم ينته الأمر، فقد ظهرت روسيا لاعبا هزيلا يستجدي موافقة دي ميستورا ودولا أخرى، لكي تظهر أنها قادرة على عقد مؤتمر سوري، على الرغم من كل وجودها العسكري. وضع كاريكاتوري أظهر هزال مقدرة روسيا على فرض حلها السياسي. لهذا لجأت إلى العنف الشديد، حيث بدأت في سلسلة غاراتٍ وحشيةٍ على إدلب وسراقب وبلداتٍ عديدة في ريف إدلب، زادت من وحشيته، بعد أن ظهر أنه يمكن إسقاط طائراتها. وبالتالي، يمكن أن تُكبَّد خسائر كبيرة، وهي تعتقد أن وحشيتها سوف تجعلها قادرةً على فرض الحل الذي تريده، على الرغم من تنبيهها بأن طائراتها يمكن أن تتهاوى بسهولة.
هل سيؤدي ذلك إلى أن تنجح في فرض حلها الذي تريد؟ لا بالتأكيد، فحلها مستحيلٌ مهما فعلت، وهي وحدها لا تستطيع تحقيق حل سياسي، وحتى إنْ توافقت مع أميركا وتركيا وكل الدول الأخرى على حلها فسيسقط. قلتها منذ البدء، لا حلّ بوجود بشار الأسد وحاشيته، ولا حل من دون تحقيق مطالب طرحتها الثورة منذ البدء. الثورة لم تستطع الانتصار، وربما لا تستطيع الانتصار، لكن ليس من الممكن هزيمتها، مهما جرى تشويهها، ومهما جرى اختراع قوى لتجهضها من داخلها، وأيضاً بغضّ النظر عن التوافق مع دولٍ كانت تدعي دعمها. ولا شك في أن ما جرى من قصفٍ لقاعدة حميميم، وإسقاط طائرة لها، يُظهر أنه يمكن أن تغرق في أفغانستان جديدة. ولهذا، عليها التخلي عن عنجهيتها، وعن اعتقادها أنها قادرة على أن تقرّر ما تريد.
لم يخرج الشعب السوري بهدف التغيير، ولم يسقط كل هذا العدد الضخم من الشهداء، ويتشرّد ملايين السوريين، ويعتقل مئات الآلاف، لكي يبقى بشار الأسد وحاشيته. هذه هي المعادلة البسيطة التي كان من يمكن حلها قبل أن يجري ذلك كله، لكن عنجهية النظام، ثم إيران، والآن روسيا، هي التي أوصلت إلى ذلك من أجل بقاء النظام. لكن، ليس من الممكن أن يبقى، ومن المستحيل أن يبقى، مهما توحشت روسيا التي باتت تدافع عن مصداقيتها، وعن ادعائها أنها قوة عظمى مقرّرة. وتنطلق وحشيتها الآن من إقناع ذاتها أنها مقرّرة، على الرغم من كل الفشل الذي تعانيه. مرّت سنتان ونصف السنة مارست فيهما كل وحشيتها، واستخدمت كل أسلحتها الأكثر حداثة، وجرّبت كل ما تستطيع، لكنها تقف عاجزةً عن فرض الحل الذي تريده. فحين عقدت "سوتشي" ظهر مهزلة، وهي لم تتقدّم على الأرض إلا بصفقات، مع تركيا ومع "داعش" ومع جبهة النصرة، وفي منطق تحقيق المناطق "منخفضة التصعيد" التي رعتها تركيا، أو أميركا والأردن والدولة الصهيونية، أو مصر كما قيل. وكل ما فعلته هو قتل الشعب، وتدمير المستشفيات والمدارس والبنى التحتية، فهذا هو الفعل الحقيقي لطيرانها. وهذه هي وحشيتها.
ما يفعله الروس من قتل وتدمير يجب أن يفرض تحويل فلاديمير بوتين، ووزير دفاعه شويغو، إلى محكمة الجنايات الدولية، كونهما مجرمي حرب، بعد كل ما فعلوا. لكن أن يكون واضحاً لنا أننا نواجه احتلالاً روسياً، ومتعدّد الأطراف.
تكثفت الهجمات الروسية - الأسدية على الغوطة الشرقية وعلى إدلب. ويعمل الإيرانيون عن كثب مع الطرفين على الأرض في المنطقتين. ولا يزال الأتراك غارقين في حرب عفرين، كما لا يزالون مصرّين على التقدم نحو منبج بعد عفرين. بل ويتحدثون أيضاً عن الذهاب بعد منبج إلى الحدود السورية - العراقية؛ وخلال ذلك يستمرون في الحملة على الولايات المتحدة وسياساتها في الملف السوري، أو بالأحرى في دعم أكراد سوريا. ويُلمّح الأتراك إلى أن الأميركيين لا يملكون قواتٍ في منبج، ولذلك فلا مانع من دخولها. ويبدو أن ذلك صحيح، ولذلك فإن الأميركيين ومع بدء الانسحاب من العراق، سيرسلون معظم القوات المنسحبة إلى أفغانستان، لكنهم لن ينسوا إرسال بضع مئات إلى منبج لحرمان الأتراك من التقدم باتجاهها أو يشتبكون معهم إن أصرّوا.
في الأصل؛ وبحسب «آستانة» ومقرراتها؛ فإن مناطق خفض التصعيد الأربع تشمل إدلب كما تشمل الغوطة الشرقية. إنما منذ أكثر من شهرين؛ فإنّ النظام والروس، ومن ورائهما إيران، مصرّون على الاستيلاء على الغوطة الشرقية، كما أنهم مصرّون على الدخول إلى إدلب. وفي منطقة الغوطة، التي قالت الأمم المتحدة؛ إنه، وبخلاف الاتفاقيات؛ منذ ثلاثة أشهر ما أمكن إدخال المساعدات الإنسانية، ولا توقّف القصف العنيف عليها. ويتحجّج النظام بأنّ حملته على الغوطة سببها القصف الذي يصل منها إلى دمشق وجوارها القريب، بينما يقول الثوار إنهم لا يقصفون دمشق إلا بعد الغارات النظامية والروسية على الغوطة ومدنها وقراها. وهم يتابعون أن النظام عاد لاستخدام غاز الكلور في الغوطة للإضرار بالمدنيين بالذات. أمّا في إدلب وجوارها (قرى من حماة ومن غرب حلب) فإنّ الروس والنظام والإيرانيين يذهبون إلى أنهم إنما يقاتلون الإرهاب (جبهة النصرة)، ويضاف إلى ذلك الآن إسقاطهم طائرة السوخوي الروسية. ويتابعون أنه كان من ضمن اتفاقية آستانة بخصوص إدلب، أن تتولى تركيا عمليات الانتشار بالمنطقة، واستيعاب «جبهة النصرة» وحلفائها، وهي لم تقم بذلك. والأتراك يقولون إنهم انتشروا عبر ثلاثة مراكز، وسيتابعون الانتشار؛ دونما تحديد زمن لذلك!
هناك تحالُفٌ عملي الآن بين روسيا وإيران وتركيا في سوريا. ويبدو أنه في مقابل هذا التحالف، ومن ضمنه التقدم في الغوطة وإدلب؛ فإن تركيا مسموحٌ لها بالتقدم إلى عفرين، خصوصاً أن ذلك يزعج الولايات المتحدة. وهو انزعاجٌ قد يصل إلى حدود الاشتباك إذا تقدمت تركيا إلى منبج.
لماذا بدت السياسة الأميركية في سوريا مختلفة، في الشهور الأخيرة؟
العامل الأول في التغيير النسبي يعود إلى زيادة التنافُر مع موسكو. فقد اعتبر الروس أنّ سوريا صارت لهم في مقابل التنسيق مع أميركا وإسرائيل في جنوب سوريا، من الحدود الأردنية وإلى الجولان، خصوصاً أنه في مقابل ذلك الانسحاب الأميركي من سوريا، ومنذ أيام أوباما، كان ينبغي أن يتقدم الحلُّ السياسي في جنيف، وهو ما لم يحصُل. ولذلك، فإن أميركا وقفت مع المعارضة السورية في موقفها من مؤتمر سوتشي. فالولايات المتحدة أياً تكن انسحابيتها من الملف السوري، لا تستطيع الاستمرار في ذلك، ما دامت لا تستطيع تحمل الإخلال بالتوازن الاستراتيجي، ولو في ساحة جانبية مثل سوريا.
العامل الثاني: الموقف من الأكراد؛ فقد حصل إخلال بهيبة الولايات المتحدة عندما تخلّت عن بارزاني في العراق، وقد أفاد من ذلك الإيرانيون والأتراك، خصوصاً أن واشنطن بذلت جهوداً في العراق، أكبر بكثيرٍ من جهودها في سوريا. ولذلك، فقد أرادت واشنطن إظهار صلابة وصمود مع أكراد سوريا، لكي لا تزداد سمعتُها سوءاً. ثم إن أكراد سوريا حققوا تحت لواء الولايات المتحدة إنجازاتٍ كبرى، وذروتها استعادة الرقة من «داعش». وفي وسع واشنطن، وقد صارت منطقة شمال وشرق سوريا بنفطها ومياهها رهينة لديها، أن تستخدم ذلك في مساوماتها مع موسكو.
والعامل الثالث: إقبال الولايات المتحدة في عهد ترمب على محاصرة النفوذ الإيراني في سوريا ولبنان... في لبنان لجهات التمويل والإدارة. وفي سوريا لجهة الإبقاء على المعارضة في وجه بشار الأسد والإيرانيين، بحيث تكون الانسحابات متبادلة إذا تقدمت ورقة الحلّ السياسي.
العامل الرابع: استحداث توازُن من نوعٍ ما على الساحة السورية من طريق دعم المعارضة السياسية والأُخرى المسلحة، وطمأنة الأكراد، وطمأنة إسرائيل. وهذا الأمر يطمئن «الحلفاء» المفترضين، بدلاً من أن يضيع هؤلاء مثلما أضاعت أميركا تركيا، ومثلما ستضطر إسرائيل إلى الاعتماد على بوتين، ويضطر الأكراد السوريون للتعاون مع الروس والنظام قبل أن يؤونَ الأوان.
ولذلك كلّه، وكما سبق القول، تبدو الولايات المتحدة مصممة على أن يكون لها دورٌ في الحل السوري أو تستمر الحرب، بدلاً من حدوث خسارة كاملة في العوامل والنقاط التي ذكرناها. ثم إن قواتها في سوريا (أكثر من ألفين) ستزيد ولن تنقص. وهناك نوعٌ من التحدي لروسيا ولتركيا في تسليح الأكراد وتسليح المعارضة (إسقاط الطائرة الروسية، وتدمير الدبابات التركية)، والإصرار على «جنيف» والتقليل من شأن «سوتشي». وزيادة الحملة على الروس وعلى النظام في القصف العنيف على إدلب وعلى الغوطة، وفي الاتهام بالكيماوي، وفي التشهير بتركيا، وفي تهديد إيران بسوء العواقب.
لماذا قلنا في العنوان إن هناك انفراداً أميركياً؟ لأن روسيا لديها تحالف مع إيران وتركيا في سوريا؛ بينما تُطل أميركا برأسها وحدها، لأن الأوروبيين لا يدينون الحملة التركية على عفرين بقوة، ولا يشهّرون بالقصف العنيف على إدلب والغوطة باستثناء فرنسا. وإنما يكتفون بالتركيز على الملف الإنساني والملف الكيماوي. إنما من جهة أخرى؛ فإن روسيا تبدو في موقع الدفاع في مجلس الأمن منذ أكثر من عامين. فحلفاء الولايات المتحدة هم الذين يتقدمون بمشروعات القرارات، وروسيا هي التي تستعمل «الفيتو». وما انخذلت الولايات المتحدة في مجلس الأمن أخيراً إلا في ملف القدس. وسيزداد انخذالُها بعد أن تتبين معالم «صفقة القرن» التي يُعِدُّ لها ترمب، وقد لا يملك الفلسطينيون إلا رفْضها رغم نصيحة الأوروبيين لهم بالتريث!
إن هناك اليوم شعبين عربيين يعانيان أشد المعاناة: الشعب الفلسطيني، الذي تقف الولايات المتحدة في مواجهته مع الصهاينة، والشعب السوري، الذي يقف في مواجهته الإيرانيون وميليشياتهم بالقتل والتهجير والاستيلاء والدعم الروسي. هل يشكّل ذلك تعادُلاً؟ بالطبع لا.
وذلك لأن الطرفين الكبيرين في الصراعين الهائلين، إنما يخرجان على القرارات الدولية، وعلى الحسّ الإنساني السليم، وكلٌّ لمصلحة استراتيجية، لا علاقة للشعبين ولمصالحهما بها. وبذلك؛ فروسيا ليست مع الفلسطينيين، وأميركا ليست مع السوريين... «واللهُ غالبٌ على أمْرِه ولكنّ أكثرَ الناسِ لا يَعلَمون».
يبدّد القصف الروسي الهمجي على إدلب وريفها ومناطق سورية أخرى، أي مراهنات على دور روسيا، كشريك وكضامن في العملية التفاوضية السياسية، الذي بدا أن وفد «الهيئة العليا للتفاوض» يراهن عليه، إبان زيارته إلى موسكو قبيل انعقاد الاجتماع الخاص في فيينا برعاية الأمم المتحدة في 22 و23 من الشهر الماضي، ولاحقاً خلال تعامله الإيجابي مع مخرجات مؤتمر «سوتشي»، الذي رعته موسكو أخيراً، وقادت إليه مئات من السوريين تحت عنوان الحوار الوطني السوري- السوري، بمشاركة بعض قوى المعارضة، ومنها منصّة موسكو أحدى تكوينات تلك الهيئة، على رغم اتخاذ قرار رسمي داخل هذا الإطار بعدم المشاركة.
هذا الواقع يضعنا أمام ملاحظات مهمة وتساؤلات جادة، قبيل انعقاد اجتماع الهيئة في العاشر من هذا الشهر، لمراجعة الأداء ودراسة المعطيات الجديدة للواقع السياسي الدولي، في ظل التصعيد العسكري من جهة النظام وروسيا في إدلب وريف دمشق، والمعركة التي تقودها تركيا بمشاركة فصائل سورية محسوبة على المعارضة في عفرين. ومثلاً، فهل تم التعامل مع معطى توحيد وفد المعارضة بمنظور شكلي، أي لا يرقى إلى مستوى العمل المشترك بين أطياف هذا الوفد، مما يجعل الافتراق عند القضايا المفصلية أمراً محتملاً ومسموحاً به، وفق بيان الهيئة الذي أجاز التعامل مع الدعوات إلى حضور «سوتشي» يتم بطريقة فردية غير مؤسساتية؟ وهل كان من المجدي مقاطعة المؤتمر، بينما هناك تنسيق- تحت الطاولة- في عملية إعداده وتحضير منتجاته، كما تم التنويه عن ذلك من جانب أعضاء في الوفد التفاوضي؟
أيضاً، هل ينقذ «سوتشي» المحاولة الواهية للتعامل مع النقاط 12 التي طرحها المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا، وكان تجاهلها، أو اعترض على الرد عليها، وفد النظام، في حين أن المعارضة تعاملت معها بكل جدية، وأخذت عليها بعض الملاحظات التي لا ترقى إلى حيّز الاعتراض على أي من نقاطها؟ فإذا كان ورود هذه النقاط التي يسوّقها دي ميستورا كمشتركات، يمكن العمل عليها في صناعة مستقبل سورية، فإن ما تم التعاطي معه في «سوتشي» لا يرقى إلى ذلك، حيث تجاهل البيان الختامي الصادر عن ذلك المؤتمر فكرة تداول السلطة، والتعاطي مع الصراع الحاصل على أنه صراع بين من هم- دون النظام- من حيث البنية، مع جملة من النصوص الدستورية والقانونية، كأن الخلاف ليس بين الشعب السوري، الذي قدم مئات آلاف الضحايا، وبين النظام الحاكم، ما يعني أنه خلاف على أولوية الإصلاحات، وليس على شرعية بقاء النظام الحاكم، مما يمنح كامل رموز النظام صك براءة من المشاركين في المؤتمر، ومنهم شركاء في وفد المعارضة!
إن القبول بما نتج من «سوتشي»، ولو كاحتمال ضعيف، كأساس للحوار بين المعارضة والنظام، يتضمن القبول لاحقاً بخطف كل بند تفاوضي من طاولة المباحثات في جنيف إلى حيث يريد أحد الضامنين للصراع المسلح في سورية، ومنهم تركيا وإيران وروسيا، وهو ما تم سابقاً في «آستانة»، وأصبح مرجعية في التفاوض، على رغم انتهاك ما تم الاتفاق عليه في مناطق خفض التصعيد التي باركتها الأمم المتحدة، وتتعامل اليوم مع انتهاكاتها بصمت مريب، يرقى إلى درجة الشراكة بقبول المذابح التي يتعرض لها الشعب السوري، في أكثر من مكان، وعلى يد الضامنين لخفض التصعيد المأمول، من مسار آستانة الدخيل أصلاً على مسار المفاوضات الأممية في جنيف.
في الغضون، وفي ظل المقتلة التي تتعرض لها سورية، في مناطق إدلب وحماه وحلب، تتبادل الدول الضامنة لخفض التصعيد مباركاتها بعضها بالصمت على ما ترتكبه كل قوة منها في سورية، وسط حراك ديبلوماسي لفرنسا والولايات المتحدة، ومعهما بريطانيا والسعودية والأردن، حيث تبنّت من خلاله هذه الدول ما سمي «اللاورقة»، التي تعاطت مع الحل السوري وفق معطى جديد لا يستثني أي مكون، وهو أخذ في الاعتبار أن العودة إلى سورية الدولة الرئاسية شديدة المركزية التي كانت ما قبل 2011، أمر شبه مستحيل من حيث البنية الدولتية والبنية السلطوية، وعلى رغم ما يمكن اعتباره أنه تجاوز على التعاطي البنيوي لبيان جنيف1 والقرار 2254، من حيث ترتيب الأبجديات المنوطة بالعملية السياسية التفاوضية، وباعتبار أن تلك «اللاورقة» قابلة للتطوير، بما يسمح بضم مزيد من الشركاء لتبنيها، كألمانيا وتركيا وحتى روسيا، على رغم المحاولة الثلاثية من موسكو وأنقرة وطهران بتعطيلها، وتغييبها من خلال تضمين بيان مؤتمر سوتشي بعض ما اعتبرته روسيا تنازلات، تتوافق إلى حد ما، ومطالب الأمم المتحدة في صياغة الحل السوري، من دون أن تتعامل مع الهدف الأساسي لهذه النقاط الـ12 التي تعني إنهاء نظام الحكم القائم واستبداله بنظام ديموقراطي تعددي، يقوم على الفصل بين السلطات واحترام حقوق المواطنة وتداول السلطة.
على ما تقدم، فإن الهيئة خلال اجتماعها القريب عليها أن تناقش الأمور صراحة، بما يتضمن مناقشة مواقف الدول الضامنة لآستانة، وانشغالات قوات هذه الدول (روسيا وتركيا وإيران) في حروب متعددة داخل الأراضي السورية، حيث تنقسم الهيئة في تأييد هذه الحروب، تبعاً لمجاراتها تركيا أو روسيا أو حتى لاعتبار بعض المعارضة أن الوجود الإيراني في سورية لديه مقومات الشرعية في وجوده، نظراً الى موافقة النظام على ذلك، ما يعني أن المعارضة داخل الوفد وخارجه منقسمة في أهم القضايا السورية، التي تتعلق بأمان السوريين وحياتهم، والحروب التي تشنّ عليهم من أطراف داعمة إياهم من جهة، وفي توافق مع النظام في حربه على السوريين من جهة أخرى.
من المفيد التذكير بأن رفض ما نتج من سوتشي لا يعني عدم التعامل مع النقاط الـ12، بكل ما يبنى عليها، من وحدة سورية أرضاً وشعباً، واحترام سيادتها، وحق تقرير الشعب مستقبله، والمحافظة على مؤسسات الدولة وإقامة جيش وطني، واحترام حقوق الإنسان وتنوع المجتمع السوري ومكافحة الفقر ومحاربة الإرهاب، إذ إن كل ذلك لم تبتعد منه «اللاورقة» ولكن بصياغة بعيدة من الإنشاء، وعبر صوغ وسيلة تفاوضية مستمرة ومباشرة، تضع حداً للتلاعب بمسارات وجولات العملية التفاوضية، على ما حصل في تجربة الجولات الثماني السابقة. ولعل هذه هي الفرصة المناسبة لجمع الأطراف المعنية بالصراع السوري حول رؤية تؤسس لسورية جديدة، بعيدة من قبضة إيران وقادرة على التخفف سريعاً من وجود الاحتلالات العديدة على الأرض السورية، وإنهاء المأساة السورية، ووقف نزف الدم الذي يشارك في إراقته الأعداء والأصدقاء.