بما أننا ما زلنا قريبين من سوتشي، وقبله بقليل جنيف، أبدأ بالسوري.
فشلت جنيف في إحراز تقدم، ولو طفيف، باتجاه تفاهم، ولا أقول حلاً. حزم المشاركون حقائبهم، وكلهم عاد إلى بلده أو منصته؛ والمنصة هنا هي الوطن المؤقت لكل فصيل سياسي.
أما سوتشي، فلقد لفت نظري اهتمام المراقبين بمن قاطعوا أكثر من اهتمامهم بمن حضروا، وهذا أمر بديهي، بل هو الفرق بين مؤتمر يعقد تحت عنوان إيجاد حل، ومؤتمر يعقد للتحشيد وتعظيم النفوذ على أرض الصراع.
في سوتشي، ظهر خلل يجعل الحل هناك مستحيلاً، وهو أن رعاة الحل هم ليسوا مجرد أطراف في الصراع، بل ومقاتلون وأصحاب أجندات قد تتفق على أمر لأيام معدودات، إلا أنها في الجوهر مختلفة على أمور ليس متاحاً إنهاؤها للتوصل إلى تسويات حاسمة. وحين يكون راعي الحل متورطاً بهذا القدر، خصوصاً على ساحة الصراع المسلح، فأي تسويات يمكن بلوغها في ظل هذا الوضع؟!
هنا، يظهر المشترك بين الحل السوري والحل الفلسطيني.. أحدده بكلمة واحدة: «الاستحالة».
على الجانب الفلسطيني، تتكرر ظاهرة الرعاية، كما هي على الجانب السوري؛ الراعي الأساس هو طرف منحاز، تحكمه في حركته وقراراته ومبادراته قوانين انحيازه قبل أي قانون آخر، فمن يتوقع من أميركا صيغة حل لا يتم التفاهم عليها مع الحليف الإسرائيلي؟ وحين يكون سقف الحل الأميركي هو الرضا الإسرائيلي، فيمكن دون عناء، وحتى دون معلومات، أن نتعرف على محتوى الحل وخلاصاته. ولا أصدق أن السيد غرينبلات، المسؤول الرئيسي الميداني عن تهيئة التربة لتمرير أو فرض الحل الأميركي، يقضي كل هذا الوقت في إسرائيل، ويواظب على زيارات ميدانية لغلاف غزة، يرعى من خلف الستار، وأحياناً من أمامه، كثيراً من الإجراءات الإسرائيلية التي ترطب العلاقات مع الفلسطينيين، وتشجعهم على الانخراط التدريجي في الحل الاقتصادي، الذي لا بد أن يفضي منطقياً إلى الحل السياسي، ولكن وفق التصميم الإسرائيلي الأميركي المشترك.
أين الاستحالة هنا؟ وأنا أتحدث بلغة الواقع وما عليه من حقائق، قد يفرض الأميركيون والإسرائيليون سيناريو معيناً على الفلسطينيين، كأن تطبق أجزاء منه من طرف واحد، وقد يحشر الفلسطينيون في زاوية حادة ضيقة بمساحة قدرتهم على تغيير الاستراتيجيات الأميركية والإسرائيلية، غير أن ذلك بالمقاييس الموضوعية هو الوصفة الأكيدة والمضمونة لاستمرار الصراع وانفجاره، ولو على فترات متباعدة. وعلى المسار الفلسطيني، أي انفجار - مهما كان محدوداً - يعيد الأمور إلى الصفر؛ هكذا قالت التجارب.
فماذا يفعل الحل المفروض بـ350 ألف فلسطيني يعيشون في قلب العاصمة المدعاة لإسرائيل؟
وهؤلاء الموجودون في القلب والأطراف فشلت كل محاولات عزلهم عن امتداداتهم الطبيعية، فهم إلى الغرب يمدون جسوراً مع مليوني فلسطيني في إسرائيل، يتعاطفون معهم ويلتزمون بقضيتهم، وهم شمالاً وجنوباً وشرقاً لا ينفصلون عن بحر بشري إن اتحد على أمر، فعلى القدس أولاً وقبل كل شيء.
ماذا تفعل إسرائيل بغزة، حيث مليونا فلسطيني يقضّون مضجع العالم بمأساتهم المتفردة، ومهما برعت الدبلوماسية الإسرائيلية، والدعاية الإسرائيلية، والتحالفات الإسرائيلية، فإنها لم تفلح في نفي مسؤوليتها المباشرة عن هذه الجريمة الإنسانية التي لا مثيل لها في كل العصور والأزمان.
وماذا تفعل بالضفة صاحبة الأكثر من ستين ممراً مفتوحاً بينها وبين إسرائيل، ويدرك العقلاء هناك أن الهدوء الذي يحدث أحياناً يثير من المخاوف أكثر مما يثير من الاطمئنان. مثلما الطرف المنحاز راعٍ لحل سوري، ونسخة طبق الأصل عنه على الحل الفلسطيني، فالمشترك هو الاستحالة حتى إشعار آخر، أو حتى ظهور شيء ما يغير المنهج والأدوات، وهذا قد يكون مستحيلاً آخر.
لم يخرج مؤتمر سوتشي بما كانت تطمح إليه روسيا. وانتهى إلى فشل ذريع، على الرغم مما سخرته موسكو له من إمكانات، كي يكون تتويجا سياسيا لتدخلها العسكري المباشر في سورية منذ سبتمبر/ أيلول 2015، وكان الهدف الأساسي منه إنقاذ بشار الأسد من السقوط، وقال ذلك، عدة مرات، وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف الذي يعتز بأنه صاحب الإنجاز السوري بشقيه، الدبلوماسي والعسكري، هو من أوقع رئيسه فلاديمير بوتين في ورطة سوتشي على أساس حساباتٍ لا تبتعد عن رهانات النظام السوري وحليفه الإيراني، فحواها أن الشعب السوري يبحث عن حل بأي ثمن، ولم يعد معنيا بالشعارات التي رفعتها الثورة السورية، ومنها في الصميم إسقاط النظام.
حين بدأت التحضيرات لمؤتمر سوتشي منذ عدة أشهر، أرسل السوريون إلى روسيا أكثر من رسالة، تؤكد على أن هذا المسار لن ينطلي على السوريين الذين يفاوضون من أجل حل سياسي على أساس القرارات الدولية التي نصت على رحيل النظام. ولم يكن لدى السوريين أي مشكلة للجلوس على الطاولة الروسية، كما حصل في أستانة، وعبر عدة جولات، لكن موسكو أرادت ان تدعو الثورة السورية إلى لعبة روليت روسية تطلق، في نهايتها، الثورة رصاصةً على رأسها وتنتهي.
شحنت روسيا إلى سوتشي بضاعة النظام السوري الكاسدة، وأرادت، من مؤتمر مفبرك، أن تعيد تدويرها لتستخرج منها حلا، لكن المسرحية تحولت إلى فضيحةٍ، بسبب الإخراج الروسي الرديء الذي لم يتمكّن من تسويق نظام مستهلك.
وتبين في رفض السوريين "سوتشي" أن العزيمة لا تزال مشدودة، على الرغم من كل ما حصل على مدى سبع سنوات. ولذلك جاء قرار رفض المشاركة في المؤتمر بمثابة عملية تصويت واستفتاء على مقاطعة كل ما يمت للروس وإيران ونظام بشار الأسد، لكن الروس لم يتعاملوا مع هذه الرسالة، على الرغم من أنها تصل إليهم كل يوم، وعلى أثر كل غارة يقوم بها طيرانهم الحربي على المدنيين.
تبين من خلال "سوتشي" أنه ليس مصادفة انخراط الروس في حماية نظام الأسد، فهم كنظامين يقفان على أرضيةٍ واحدة. وبالنسبة لبوتين، يعتبر الأسد ابنا نجيبا لعقيدة التدمير والقتل البوتينية التي تم استنباتها في الشيشان، وصارت مبدأ للنظام الروسي، يطبقه في كل مكان وزمان. وعلى هذا الأساس، لا يكترث بوتين بالقوانين الدولية في التعامل مع المدنيين. وحين دعا المعارضة السورية إلى سوتشي، فإنه في حسابه إنما جلب مهزومين إلى الطاولة، ليوقعوا صك الاستسلام، ومن هنا فهو يستغرب أن يقول السوريون لا.
أراد الروس أن يمرّروا "سوتشي" بشتى الوسائل. وحين تعذّر ذلك، استمروا في سلوك القتل والتدمير، وعلينا أن ننتظر مزيدا من القتل والتوحش في الفترة المقبلة، ما دام بوتين لم يحقق مراده، وسيخوض الانتخابات الرئاسية في مارس/ آذار المقبل، من دون تحقيق السلام للشعب السوري.
نجاح المعارضة في إفشال سوتشي سوف يعرّضها لدفع ثمن كبير. ولذا عليها أن تعد العدة لذلك، وتجعل من الوحشية الروسية مادة للتحرّك، دوليا ضد روسيا من أجل تسجيل المسؤولية المباشرة عن كل ما أصاب السوريين من مآس منذ سبتمبر/ أيلول 2015.
واحدة من القضايا التي يجب أن يتمسك بها السوريون هي مقاضاة الروس والإيرانيين على ما ارتكبوه من جرائم في هذا البلد، ومثلما أن استخدام الأسلحة الكيميائية بات جريمةً موثقة دوليا، فإن المسؤولية عنها يتحملها ليس النظام وحده فقط، وإنما إيران وروسيا.
مرة أخرى، يفشل الروس في دفع عربة الحل السوري إلى الأمام، والسبب أنهم تحولوا إلى عدو للشعب السوري، ولم يعد هناك من السوريين من لديه وهمٌ بأن بوتين سوف يتخلى عن الأسد، من أجل سورية ديمقراطية.
كان مؤتمر سوتشي قد تحوّل معركة صامتة ومموّهة بين الولايات المتحدة وروسيا، قبل أن تصبح علنية، لكنها بقيت ديبلوماسية، إذ لم يكن الأميركيون على مستويات متفاوتة يخفون أنهم يريدون «إفشال سوتشي»، ولماذا؟ لأنه يراد منه تكريس الاحتكار الروسي لحل الأزمة وفقاً للأفكار والأهداف التي حدّدتها موسكو وراعت فيها مصالح إيران. كانت ترغب في أن يعامل تركيا بالمثل، واستخدمت معركة عفرين في هذا السياق، إلا أن خلافات الدولتين على أسس الحل لم تتغيّر. لذلك بقيت أنقرة في هذا الملف أقرب الى التحالف مع واشنطن في العمل على «انتقال سياسي» في سورية، فيما بقيت أقرب الى موسكو في معالجتها لما تعتبره تهديدات لأمنها القومي.
اتخذت «معركة سوتشي» وجوهاً عدّة، أهمها إفصاح الولايات المتحدة عن ملامح استراتيجيتها الجديدة بالنسبة الى سورية. وفيها شقّان رئيسيّان: الأول، الحفاظ على وجود مديد في مناطق الشمال الشرقي التي تشمل معظم محافظة الرقة وبعض نواحي دير الزور وريف حلب الشمالي، والإعلان عن إنشاء جيش من ثلاثين ألف جندي لـ «حراسة حدودها». والثاني، العمل من خلال مسار جنيف التفاوضي على انتقال سياسي حقيقي، ورفض أي مساهمة مع الحلفاء في عملية إعادة الإعمار ما لم يكن هناك حل سياسي قيد التطبيق... وما لبثت هذه الاستراتيجية أن لاقت عناصر ترفدها في السعي الفرنسي الى إيجاد «مجموعة اتصال» في شأن سورية، وجاء مؤتمر باريس لإطلاق «المبادرة الدولية لملاحقة المسؤولين عن الهجمات بالسلاح الكيماوي» برسالة تذكّر روسيا بأنها شريكة في اتفاق 2013 لتدمير الترسانة الكيماوية السورية، ما يجعلها مسؤولة عن استمرار النظام في استخدام مخزونه منها، بالتالي فإنه سيكون ملاحقاً على جرائمه أيّاً تكن سيناريوات إنهاء الأزمة.
على هامش هذا المؤتمر، تبلورت مجموعة الدول الخمس (الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا والسعودية والأردن) كصيغة مصغّرة ومستحدثة لمجموعة «أصدقاء الشعب السوري». وعلى رغم أن «اللاورقة» التي تبنّتها وسلّمتها الى المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا، كأفكار لتسهيل مفاوضات جنيف وتحسين أدائها، شكّلت إطاراً لتجاوز عقبة «مصير الأسد»، إلا أنها لا تسلّم ببقائه بل تعتبره مشروطاً وموقّتاً. بل تطرح تقليص صلاحيات الرئيس في الدستور المقبل وتوسيعها بالنسبة الى رئيس الوزراء والبرلمان. وهو ما بدا أشبه بدعوة الى موسكو لتلاقي الدول الـ5 في منتصف الطريق، فلا مطالبة بـ «رحيل الأسد» مقابل توافق على حلّ سياسي يؤمّن خروجه ورموز نظامه من السلطة.
أما الرسالة الأوضح التي وُجّهت الى موسكو فمفادها أن مفاوضات جنيف وفقاً للقرار الدولي 2254 تبقى المسار الوحيد للبحث في الحل السياسي، أي أنه لن يُعتدّ بما يخرج عن مؤتمر سوتشي. فالدول الـ5 لم تشأ في النهاية أن تعرقل هذا المؤتمر على نحوٍ مباشر، إلا أن ضغوطها عليه أدّت الى خفض التوقّعات الروسية منه، حتى غدا الهمّ الرئيسي لموسكو أن تمرّر انعقاده وتحاول فرض وقائع تمكّنها من التأثير لاحقاً في مسار جنيف. ولا شكّ في أن موقف الدول الـ5 رفع أي ضغط تركي عن المعارضة السورية بل شجّعها على القرار الذي رجّحته مداولاتها منذ فترة طويلة فحسمت موقفها بمقاطعة سوتشي. وبطبيعة الحال، فإن عدم حضور المعارضة أغاظ الروس، الذين سهّلوا العملية التركية في عفرين واضطرّوا أيضاً للقبول بتغييب الأكراد إرضاءً لتركيا، التي اقتصرت مساهمتها في «إنجاح» سوتشي على تأمين حضور المجلس التركماني.
ظهر الغضب الروسي في التناقض بين القول إن عدم مشاركة المعارضة «لا يغيّر شيئاً» وبين تهديد من القاعدة العسكرية في حميميم بأن المقاطعة ستكون لها تداعيات على الأرض، وبالعودة الى الخيار العسكري. واقعياً تحوّلت التحضيرات لمؤتمر سوتشي الى كابوس كريه لموسكو، وصارت مقتنعة بأن هدفها الحقيقي من انعقاده قد اهتزّ. قبل ذلك، كانت هناك خلافات مع طهران والنظام اللذين أرادا أن يكون «الحل» بآلية مباشرة ومتفق عليها «بين الحلفاء»، لا في سوتشي ولا في جنيف. وعندما نوقش تشكيل لجنة لإعداد الدستور تُعلَن في نهاية مؤتمر سوتشي طلب النظام أن تكون حصّته 15 من 24 عضواً في اللجنة، كما طالب بأن يصدر تشكيل اللجنة بمرسوم رئاسي من الأسد. وأثار عدم الاستجابة امتعاضاً لدى النظام، الذي وسّط الإيرانيين، لكن الروس يريدون لجنة دستورية يديرونها هم وليس النظام. في غضون ذلك، كان هناك ما ينكّد على الروس، إذ إن القناة المركزية لقاعدة حميميم أجرت استفتاءً حول السؤال: ماذا تعني لك روسيا؟ صديقاً أم عدواً؟ ولم تتردد في نشر النتيجة التي أظهرت أن 78 في المئة يعتبرونها عدواً، إلا أنها علّقت مؤكّدة أن هذا لا يؤثّر في «الواقع الحقيقي» للعلاقات بل يعبّر عن «انخراط جزء كبير من الأوساط الشعبية في فكر التنظيمات المتطرفة». وكان واضحاً أن المشاركين في الاستفتاء لم يكونوا جميعاً من المعارضة بل كانت غالبيتهم من الوسط الموالي للنظام.
كان إصرار فلاديمير بوتين شخصياً على مؤتمر لـ «شعوب سورية» هو ما حفّز إدارة دونالد ترامب على حسم استراتيجيتها بتوجّهات أكثر وضوحاً من تلك التي اتّبعتها إدارة باراك اوباما. ويكمن الوضوح في خمسة أهداف حدّدها ريكس تيلرسون في خطابه في جامعة ستانفورد: 1) هزيمة تنظيمي «داعش» و «القاعدة» فلا يشكّلان لاحقاً أي تهديد. 2) حلّ الصراع بين الشعب السوري ونظام الأسد من خلال عملية سياسية تقودها الأمم المتحدة وفقاً للقرار 2254 و «أن تعمل سورية كدولة مستقرّة ومستقلّة وموحدة تحت قيادة ما بعد الأسد». 3) تقليص النفوذ الإيراني في سورية وحرمانها من حلم إقامة قوس (هلال) شمالي وجعل جيران سورية بمأمن من كل التهديدات (الإيرانية). 4) إيجاد الظروف التي تمكّن اللاجئين والمشرّدين داخلياً من العودة في شكل آمن وطوعي الى بلادهم. 5) خلو سورية من أسلحة الدمار الشامل (في إشارة الى أن واشنطن لم تتخلَّ عن وجوب «المساءلة والعدالة» إنصافاً لضحايا الهجمات الكيماوية).
وبالنسبة الى إدارة ترامب، فإن تقليص النفوذ الإيراني متلازم مع ضرورة «إنهاء سلطة الأسد وعائلته ونظامه» وفقاً لموجبات «ما بعد داعش»، ذاك أن الأسد ظنّ خطأً، وفق تيلرسون، بأنه «سيحافظ على السلطة (بعد سقوط حلب) من دون أن يعالج المظالم التي ارتكبها في حق الشعب السوري». ولعل ما تعتبره واشنطن أكثر خطراً لمرحلة «ما بعد داعش» أن لدى نظام الأسد «استراتيجية أبعد من البقاء في السلطة» وهي «اجتذاب العناصر الراديكالية في المنطقة واستخدامها لزعزعة استقرار جيرانه». وتستخدم واشنطن هذا الخطر لتبرير وجودها العسكري المديد في سورية، إذ إن أي فراغ سيكرر السيناريوات التي شهدها العراق بعد انسحاب اوباما غير المنظّم و «السابق لأوانه».
كرة جنيف ستبقى في الملعب الروسي بمعزل عما يسفر عنه مؤتمر سوتشي وعما تنوي موسكو استغلاله من مخرجاته للتأثير في مسار جنيف، الذي لا ترى الدول الـ5 منصة أخرى سواه للبحث عن حل سياسي. ما لا تقوله هذه الدول، لكنّ روسيا وحليفيها إيران والنظام يعرفونه، أن أي حل يعكس القرار 2254 «سيهيّئ لرحيل الأسد» واستطراداً سيشكّل خطراً على المصالح التي رتّبتها روسيا مع الأسد، وبتأكيد مصالح إيران، فالاستراتيجية الأميركية تعتقد أن «تقليص النفوذ الإيراني وطرده من سورية يعتمدان على أن تكون سورية ديموقراطية». والأمر الآخر الذي ستأخذه روسيا في الاعتبار هو أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لن يقدما أي مساعدات لإعادة إعمار أي منطقة خاضعة لسيطرة نظام الأسد، ولن يشجّعا العلاقات الاقتصادية بينه وبين أي دولة لكن «بمجرّد أن يتنحّى الأسد عن السلطة ستشجّع أميركا بكل سرور تطبيع العلاقات بين سورية والدول الأخرى».
والآن، لا بد من السؤال عن الخطوة التالية، بعدما أفشلت الصحوة الوطنية السورية المفاجئة مؤتمر سوتشي، وتكامل موقفها مع جهود الأمم المتحدة للإبقاء على جنيف مكاناً للحل السياسي الدولي، وللتمسك بوثيقته الأم، الصادرة يوم 30 يونيو/ حزيران من عام 2012 بإجماع دول مجلس الأمن، بما فيها روسيا التي تنكرت لها فيما بعد، وأوكلت إلى جيشها وديبلوماسيتها فرض حل تنفرد به، يبقي الأسد في السلطة مكافأةً له على وضع سورية في جيبهم.
ماذا يجب أن تكون الخطوة التالية لهذه الصحوة الوطنية التي وقعت في لحظةٍ مفصلية، واستهدفت طرفين: داخلي، يعتقد أن مصير سورية بيد روسيا، وأن الركوع أمامها يضمن وحده حقوق الشعب السوري الذي يجب أن يقبل استعمارها باسم الواقعية السياسية، ويفيد منه لتهميش أميركا والتحكم بتركيا، فإن تكرَّم رئيس روسيا، بوتين، علينا ببعض حقوقنا، كان ذلك أكثر مما نستحق، نحن المعارضة المشتتة، والمقاومة في طور انهيار. طرف خارجي، روسيا التي توهمت أنها قادرة على فرض الحل الذي تريده، بعدما همشت واشنطن وحجّمت تركيا والشعب السوري، وأعادت النظام إلى قرابة نصف مساحة سورية، ومثله أميركا التي اعتقدت أن دور السوريين تلاشى تماماً. ومن الأفضل لها التفاهم مع روسيا على توافقٍ يضمن مصالحها، بعيداً عنهم، فإذا بصحوةٍ عامة تؤكد لواشنطن وموسكو راهنية التلازم بين وطنيتهم وحريتهم، ورفضهم التنازل عن كرامتهم ووحدتهم، وإهانة بوتين لهم حين اعتبرهم "شعوب" سورية، وليسوا شعباً واحداً. وتطاول الوزير لافروف الذي قرّر أن الأسد رئيسهم رغم أنوفهم، وتنكّر لما كان قد كرّره عنهم، جهة وحيدة لها الحق في تقرير مصيره. فاجأتهم، وفاجأت الجميع صحوة الوطنية وقرارها المستقل برفض "سوتشي"، على الرغم من الضغوط والتهديدات.
ماذا بعد سوتشي وتهديدات "صديقة" الشعب السوري موسكو بالرد عسكرياً على نكستها السياسية؟ مبدئياً، من غير المقبول وطنياً السماح بتحول صحوة السوريين الوطنية، بما حققته من حضور هائل الأهمية إلى "هبّة أو فورة عاطفية" تنطفئ بعد حين. ولا بد من مأسستها بحيث تغدو قوة دائمة الحضور في الثورة، لن تكون ولاءاتنا وانتماءاتنا غير لبناتٍ فيها، بوصفها أداتنا التي نصد بواسطتها الأخطار المحدقة بها.
من غير الجائز أن يترك السوريون صحوتهم تتحول إلى هبة يخمدها الكسل وسوء التقدير، ولا بد من إدامتها من خلال مأسستها عبر عملٍ مكثف ومنظم وعام، يغطي جميع مشكلاتنا وقضايانا، ويشارك فيه مواطنونا حيثما كانوا، ليواكبوا بأدواتها التطورات بحيويتهم التي ظهرت إبان مواجهة ألاعيب موسكو التي لم تنته بعد.
بمأسسة الحراك الوطني الذي عشناه الشهر الماضي، سيتوفر لنا، أخيراً، الحامل المجتمعي الفاعل لنضالنا، المؤهل لتوحيد إرادتنا في الداخل والخارج، ولوضع العالم من جديد أمام قوتنا وقرارنا المستقل، وحقنا في الحرية: مشروعنا الذي لا بديل عنه، وسنواصل تضحياتنا من أجله في حاضنة الحقيقة الوحيدة: الوطنية السورية الجامعة التي سنتجاوز معها الصعاب، وسنهزم التبعثر والتشرذم، وسيخرج من صفوفها من تناقض أهدافه الحرية والعدالة والمساواة، أو يريد، كالنظام وأعوانه، إخراج قيمها من النفوس لإسقاطها في الواقع.
من غير المقبول أن نعتبر صحوة شعبنا الوطنية لحظة عابرة في نضاله. ولئن رد السوريون من خلالها بنجاح علی "سوتشي"، فإن نجاحهم في مأسستها سيكون نقلةً نوعيةً، تقيهم الفشل بما ستوفره لهم من طاقاتٍ معطلة، يخرجهم تفعيلها من تخبط سياسي/ عسكري أنهكهم، ويقنع أعداءهم بحتمية انتصارهم، بعد أن يتوفر لهم ما كانوا يفتقرون إليه: سلاح الوطنية الصاحية، الذي يقتلون به عجزهم وخلافاتهم.
لا يمكن وصف المشهد الذي انتابنا كنشطاء عند مشاهدتنا لخبر نشر عبر المعرفات الرسمية والرديفة لبعض الفصائل العاملة في الشمال السوري، فحوى الخبر أن الميليشيات الإيرانية وقوات النظام غيرت مسار عملياتها العسكرية بعد إعلان هذه الفصائل بالأمس لغرفة عمليات "دحر الغزاة".
مشهد يرسم في طياته الدرجة المنحطة في الإعلام التابع للفصائل بعد ماوصلنا إليه من انحطاط ودونية في العمل العسكري والتصدي للتقدم الذي أحرزته قوات النظام في أكثر من 400 قرية وبلدة بأرياف حلب وحماة وإدلب والفصائل جميعها تراقب النزوح والموت والقتل وسقوط المناطق دون أي إعلام أو تبيان لحقيقة مايجري من تسليم.
درجة الانحطاط في الخبر تشير بشكل جلي لاستحمارنا إن صح التعبير أو اعتبارنا قطيع من الأغنام علينا فقط أن نتلقى ماتنشر وتصرح ونهز في رأسنا فقط، وعلينا بالتأكيد أن نصدق أن الفصائل قاتلت وقاومت وقدمت وسطرت ولكن القصف واتباع النظام الأرض المحروقة هو من أسقط مناطق تقدر بأكثر من ربع محافظة إدلب خلال شهر وبضع أيام.
كان الأولى بالفصائل التي شكلت غرفة عمليات "دحر الغزاة" أو غيرها من غرف العمليات التي سبقتها أن تحترم عقول الشعب المعذب ومشاعر نصف مليون إنسان هجروا من منازلهم وأكثر من 500 شهيد قضوا بقصف الطيران الروسي قبل أن تنشر هذه الأخيار الهابطة والتي لاترقى لدرجة واحدة من المصداقية.
طيلة أشهر ونحن كنشطاء نحذر ونطالب ونناشد وندعو للتحرك والفصائل نائمة صامتة لا مصرح ولا قائد يخرج للشعب ويوضح ما يجري، بضع معارك لم تزج فيها الفصائل بربع قوتها وبضع أرتال هزيلة تحركت للجبهات كانت كفيلة بامتصاص قليلاً من غضبة الشعب المعذب المشرد الباحث عن بضع قطع خيش يصنع منها بيتاً له بعد أن هجر من أرضه.
على الفصائل اليوم ولاسيما قياداتها العليا دون استثناء أن تخرج للشعب المعذب المشرد في المخيمات وتعترف علانية فيما حصل من تسلم لكامل منطقة شرقي سكة الحديد تتمحل المسؤولية الأكبر في ذلك هيئة تحرير الشام التي كانت تسيطر وحيدة على المنطقة، وكذلك جميع الفصائل من أحرار وفيلق وجيش حر وزنكي وتركستان والتي تعد عناصرها بالألاف ولم تتحرك لصد الهجمة إلا بعد أن فات الأوان ولم تحقق أي انجاز حقيقي في وقف التمدد وسكتت طيلة أكثر من شهر حتى أتمت قوات الأسد والميليشيات هدفها من العملية ثم خرجت لتستحمرنا في خبر أقل مايقال عنه أنه مخالف للواقع.
أمضت معظم كيانات المعارضة السورية جلّ وقتها، خلال سبع سنوات منذ اندلاع الثورة في سورية، وهي تطالب الولايات المتحدة الأميركية بالتدخل، بطريقة أو بأخرى، بوسائل الضغط السياسي او الضغط العسكري، لإسقاط نظام الأسد، أو لوضع حد لأعمال القصف الوحشية، التي واجه النظام بها ثورة السوريين، وحتى أنها لم تتوان عن الاحتفاء بأي تصريح، ولو كان تلميحاً، يخدم فكرة التدخّل المرجو. إلا أن نداءات تلك المعارضة، التي تستهدف انتزاع السلطة من الأسد ونظامه بالوسائل العسكرية، لم تكن يوماً على جدول أعمال أي من الأطراف الدولية، ما أسهم عن قصد أو غير قصد، باستمرار الصراع السوري، وذلك عبر دعمها التسليحي للطرفين (النظام والمعارضة)، وفق صيغة «لا غالب ولا مغلوب»، من خلال مشهدية تقسيم الأدوار وتناغمها، بين فريق داعم للنظام (روسيا وإيران)، وفريق صديق للمعارضة (الولايات المتحدة ومجموعة الدول الأوربية)، إضافة إلى تركيا الدولة الإقليمية، التي تلقت النتائج المباشرة للصراع بحكم موقعها الجغرافي المحاذي للحدود السورية، عبر موجات النزوح التي فاق تعدادها الثلاثة ملايين سوري.
إلا أننا يمكن أن ننظر إلى الاجتماع المغلق الذي عقد في باريس (24/1)، وحضره وزراء خارجية الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وألمانيا والسعودية والأردن، وما نتج عنه من توافقات بخصوص الصراع السوري، على أنه خطوة جادة باتجاه التدخل الإيجابي لتنفيذ القرارات الأممية بطريقة القفز فوق المصطلحات الخلافية، بين المعارضة والنظام، ومنها على سبيل المثال (هيئة الحكم الانتقالي، الغاء النظام الرئاسي، والفيدرالية)، والتعاطي مع مضمون القرارات بما يحقق تنفيذها عبر دستور جديد، بعيداً من التراشق بالمصطلحات، التي أدت، خلال السنوات الماضية، إلى مزيد من الخلافات بين طرفي الصراع من جهة، وبين أطراف المعارضة مع بعضها بعضاً من جهة أخرى، ولأسباب في معظمها مبنية على مرجعيات المعارضات غير السورية.
على ذلك، فقد بدا، مؤخراً، أننا في مواجهة مفارقة غريبة، مع ظهور أصوات في المعارضة تنتقد أولى البوادر الجادة للتدخّل في الصراع السوري، بعيداً عن دعم فصيل عسكري هنا، أو فصيل مسلح هناك، وذلك بمسارعتها إلى كيل الاتهامات، أو طرح الشكوك، حول «اللاورقة»، التي نجمت عن الاجتماع المذكور، والتي يمكن البناء عليها، وبمثابة «خريطة طريق» لوضع حد للصراع السوري، بعد مشاورات تمت في واشنطن وباريس (بمبادرة أميركية -فرنسية)، باعتبار من رفضها يراها تجاوزاً للقرار 2254، وبيان جنيف1 (2012)، وأنها تحمل في طياتها مشروع تقسيم لسورية،على رغم أن التقديم لها من قبل الدول المعنيّة كان يستهدفإنهاء حال المماطلة في العملية التفاوضية، للتقدم بشكل أفضل وأكثر جدية نحو حلّ سياسي للنزاع، ووضع ثقلها وراء جهود ممثل الأمم المتحدة في سوريا. وفي الحقيقة فإن هذا الإضطراب في مواقف بعضالمعارضة يضعها من جديد أمام مواجهة ديبلوماسية مع أصدقائها، ويودي بها إلى التقارب مع موقف النظام من تلك «اللاورقة»،ومن الأطراف الدولية التي تقف خلفها، باعتبارها لا تصبّ في مصلحته، ولاتخدم سياسته التفاوضية، التي اعتمدت المراوغة في الجولات وتجنب الدخول في الملفات الأساسية.
أما بخصوص النقاط الخلافية مع تلك «اللاورقة»، والتي تقارب بين النظام وبعض أطراف المعارضة، فيمكن تلخيصها في الآتي:
- أولاً، تطرح «اللاورقة» في مضامينها إدخال تغييرات على مسارات العملية التفاوضية، وموضوعاتها، بالخروج من مسار الجولات العبثية، التي كانت وصلت إلى ثماني جولات، من غير ذي عائد تفاوضي حقيقي بين الطرفين، ليحل مكانها اجتماع مفتوح التوقيت ودائم، لكل الأطراف المعنية، مع تحديد الموضوع المفترض مناقشته، في كل مرة، وتحديد الفترة الزمنية لانجازه.
- ثانياً، توضّح «اللاورقة» مواضع الخلاف بين الطرفين المعنيين، (النظام والمعارضة) دون مواربة، وتضع أولياتها اليوم بما يتعلق بالإصلاح الدستوري الذي تراه أساساً عملياً في الانتقال السياسي وليس العكس، وضمن ذلك النص علىتقليص صلاحيات الرئيس وتوزيعها على الحكومة والبرلمان، وإعطاء صلاحيات موسعة لرئيس الحكومة الذي يتم تعيينه بعيداً من رأي رئيس الدولة، وإبطال حق الرئيس باقالته.
- ثالثاً، تعتمد «اللاورقة» رؤية الاتحاد الأوروبي، التي طرحتها وزيرة الخارجية «موغريني»عام (2016)، لتصحيح مسار رؤية المعارضة في ما يتعلق بالنظام البرلماني، المشكل من غرفتين، إحداهما تختص بتمثيل كافة الأقاليم (المحافظات)، مع التأكيد أن الرئيس لا سلطة رئاسية له لحل البرلمان، ما يعني أننا إزاء نظام برلماني ولامركزي (فيدرالية من نوع ما، دون تسميتها صراحة).
- رابعاً، تتحدث «اللاورقة» عن اصلاح أجهزة الأمن وضمان الرقابة المدنية على الأجهزة العسكرية والأمنية، ووضع حد لإفلاتها من العقاب، والتزامها الدستور وحقوق الإنسان.
هكذا، فإذا كان النظام معنياً جداً برفض البند الأول المذكور، وذلك لكسب الوقت وتفويت الفرصة على المعارضة بدخول مفاوضات جدية، ضمن مسار التفاوض الأممي، الذي يعني إحالة نتائجه إلى مجلس الأمن، واتخاذ قرارات تنفيذية حيال ذلك، فإن المعارضة على عكس ذلك، أي يفترض أن يكون لها كامل المصلحة في استثمار الوقت لمصلحة تفاوض يدخل في صلب القضايا الخلافية التي يتمنع النظام في الدخول في تفاصيلها، وإلتزام الحضور الكامل خلال الجولات.
وبينما يتعاظم خوف النظام من قلب شكل ونظام الحكم في سورية، لأن ذلك يعني إنهاء الواقع الرئاسي الحالي، والذهاب إلى مرحلة انتقالية دستورية، (وليست فوق دستورية)، حيث تجد «اللاورقة» مخرجاً لهذه المشكلة بالشروع باصلاح دستوري يتوافق مع رؤية سورية الجديدة، ولا يدخل في متاهات شرعية قرارات المرحلة الانتقالية ومراسيم قراراتها التنفيذية، ما يستوجب من المعارضة أن تناصر خطة اللاورقة في تفاصيلها هذه، بدل أن تتشاطر مع النظام مخاوفه وتتشارك معه في رفضها، أو حتى في التشكيك بأهدافها.
ولعل من المفيد التذكير أن «اللاورقة» تشير إلى انتهاء مفاعيل حكم النظام المركزي، وتشدد على رؤيا جديدة تسهل عملية الممارسة الديموقراطية والتنمية المناطقية للأقاليم وتمثيلها السياسي في البرلمان، ما يتيح الولادة الثالثة للجمهورية السورية، مراعية بذلك الحقوق المواطنية الكاملة للسوريين، وطرق بناء البيئة المحايدة والآمنة، وذلك عبر مشاركة الأطراف السورية الحقيقية في عملية مفاوضات جنيف، ووقف الأعمال القتالية، ورفع الحصار والافراج عن المعتقلين، وانسحاب الميليشيات الأجنبية ونزع السلاح.
لكن، على مايبدو، فإن مخاوف المعارضة المحسوبة على تركيا، نمت من خلال تبني «اللاورقة» فكرة الحكم اللامركزي، لأنها تخشى أن يصبّ هذا المفهوم ويتلاقى مع مصلحة حقوق القومية الكردية، وهو مايجعل هذا الرفض مرتبطاً بأجندة غير ديموقراطية من جهة، وهو يقع ضمن أخطاء المعارضة التي لا تريد التمييز بين القضية الكردية في سورية، وما يتعلق بأكراد تركيا ومنظمتهم المصنفة «إرهابية»، ويتلاقى مع رغبة النظام في استمرار قبضة الحكم المركزي على مقدرات ومساحة سورية، وهو ما أنتج أساساً هذا الظلم والاستبداد القائم وهذه الفروقات التنموية بين مناطق سوريا القريبة من العاصمة والبعيدة عن الخطط التنموية الرسمية.
نعم من قبيل الاستغراب أن تلك القوى، التي انتقدت وهاجمت «اللاورقة «بهذه السرعة رغم كل مافيها من ايجابيات، هي ذات الأصوات التي قبلت بحضور مؤتمر «سوتشي» الذي حمل فشله قبل انعقاده، مدّعية أن الخطة لم تذكر مصير رئيس النظام، ومستقبله في الانتخابات، متناسية أن أهم نقطة يمكن الارتكاز عليها هو ربط الدول المنتجة «للاورقة» النظام السوري بملف استخدام الأسلحة الكيماوية، وبدوره في انتشار الإرهاب والتطرف، ما يعني وضع روسيا في حالة الدفاع عن النفس- قبل أن تدافع عن بقاء النظام السوري- لئلا تكون شريكة في أكبر قضيتين خلال الألفية الثالثة.
فشل مؤتمر سوتشي في جمع مختلف الأطراف السورية لتحقيق غايته المعلنة، إجراء "حوار وطني سوري"، على الرغم من التحضيرات المسبقة والدعاية الإعلامية التي رافقته، إذ قاطعته قوى المعارضة السورية في الداخل، من مجالس محلية وهيئات مجتمع مدني، ومختلف التنظيمات السياسية والفصائل المسلحة المعارضة، خصوصا بعد الحملات الشعبية التي دعت إلى مقاطعته، وحققت في ذلك ما يشبه إجماعاً وطنياً في صفوف المعارضة على مقاطعته، الأمر الذي دعا هيئة التفاوض المنبثقة عن اجتماع "الرياض 2" إلى اتخاذ قرار بمقاطعته في اجتماعها في فيينا، وحتى الذين ذهبوا باسم وفد الفصائل المعارضة إلى سوتشي لم يدخلوا سوى مطارها، بعدما فوجئوا برفع علم النظام على شعار المؤتمر، وحين طالبوا برفع علم الثورة السورية تعرّضوا للإهانة، ثم عادوا أدراجهم إلى أنقرة "بخفي حنين".
ولعل أبرز علامات الفشل أن الغالبية العظمى ممن جلبتهم موسكو من داخل سورية وخارجها إلى منتجع سوتشي لا يمثلون قوى أو تشكيلات حقيقية معارضة للنظام، بل هم من أزلام النظام وأنصاره، ونتاج تفريخ أجهزته الأمنية المتعدّدة، ولا يمكنهم الانخراط في أي حلّ سياسي ديمقراطي، ينقل سورية من عهود الاستبداد إلى عهد الحرية والتعدّدية. لذلك بدا الأمر وكأن الروس جمعوا النظام ورصفاءه في جمعٍ هو أقرب إلى الكرنفال، قاطعه السوريون المطالبون بالحرية والخلاص من نظام الأسد الاستبدادي، وكل من يدافع عن أهداف الثورة التي ضحّى من أجلها السوريون، وسقط خلالها أكثر من نصف مليون سوري، إلى جانب مئات آلاف الجرحى والمصابين والمفقودين والمعتقلين، وملايين المهجّرين، فضلاً عن الدمار الهائل الذي ألحقه نظام الأسد وحلفاؤه بقراهم وبلداتهم ومدنهم؟
وطاول الفشل أيضاً طريقة تنظيم المؤتمر وسيره، بدءا من التأخر في افتتاحه، وصولاً إلى مقاطعة كلمة وزير الخارجية، الروسي سيرغي لافروف، باسم الرئيس فلاديمير بوتين، الذي سمع بلا شك ما قاله أحد الحاضرين عن القتل الذي تمارسه مقاتلاته العسكرية بحق المدنيين السوريين. إضافة إلى خلافاتٍ ظهرت مع تركيا وإيران، على الرغم من أنهما طرفان راعيان للمؤتمر، وتوترات بين المشاركين، وفوضى وضجيج وانسحابات رافقت جلساته، الأمر الذي اضطر المنظمين إلى اختصارها إلى بضع ساعات، بدلاً من يومين، حسبما كان مقرّراً.
وأقصى ما انتهى إليه "سوتشي" كان معدا له مسبقاً، وهو اختيار 150 عضواً من المشاركين، ترك أمر انتقاء "لجنة دستورية" من بينهم إلى المبعوث الأممي إلى سورية، ستيفان دي ميستورا، في حين أن البيان الختامي للمؤتمر تضمّن ما عرفت باسم المبادئ السياسية الـ 12 التي سبق وأن وضعها دي ميستورا، وقدّمها لوفدي المعارضة والنظام في جولات جنيف التفاوضية الفاشلة. ولم تخرج صياغة البيان الختامي عن اللغة الخشبية التي اعتاد عليها الساسة الروس، وتتعامى عن مسؤولية نظام الأسد الاستبدادي في كل ما جرى للسوريين، وعما قام به جيشه المذهبي، وأجهزته الأمنية الفاشية، من جرائم بحق غالبية السوريين، وصوّرهم البيان وكأنهم يمكن أن يكونوا شركاء في "دولة ديمقراطية وغير طائفية، مؤسسة على قاعدة التعددية السياسية والمساواة بين المواطنين".
ولم يخرج المؤتمر عن كونه محاولة جديدة من الساسة الروس لضرب الثورة السورية، تضاف إلى محاولاتهم المتكرّرة ضدها، منذ لحظة اندلاعها في منتصف مارس/آذار 2011، حيث وقف الساسة الروس، طوال السنوات السبع الماضية، إلى جانب نظام الأسد المستبد، وقدموا له مختلف أنواع الدعم السياسي والدبلوماسي والعسكري، بل وخاضوا، إلى جانب مليشيات نظام الملالي الإيراني، حروباً ضد غالبية السوريين من أجل منع سقوطه.
وأراد الساسة الروس من مؤتمرهم في سوتشي تصوير ما جرى في سورية، طوال السنوات السبع الماضية، وكأنه نزاع أهلي، أو صراع بين أطراف سورية، بما يعني نكرانهم ثورة الشعب السوري ضد نظامٍ مستبد. ولذلك سموه في البداية "مؤتمر الشعوب السورية"، إذ حاولوا تسويق أن الخلاف هو بين شعوب سورية، أي أنه نزاع أهلي، والنظام جزء من هذا النزاع. ولذلك اقتضى الأمر جمع كل الأطراف والطوائف والشعوب، في مؤتمر تدعو إليه كل "مكونات الشعب السوري، وقواه السياسية والمدنية، والعرقية والمذهبية والفئات الاجتماعية"، حسبما زعم البيان الختامي، من أجل تقديم مسوغات حلّ روسي، تظهر فيه روسيا كأنها تريد حل هذا النزاع الأهلي عبر إصلاحات أو تعديلات دستورية، تحت نير حكم الأسد. وبالتالي فإنه مؤتمر كان غرضه الأساسي تشويه القضية السورية، بل وتصفيتها بوصفها قضية عادلة لشعب يريد الخلاص من الاستبداد، من خلال القفز فوق القرارات والبيانات الدولية والأممية التي تدعو إلى انتقال سياسي، يفكّك النظام القائم، وينقل البلاد إلى ضفة التعددية السياسية، خاصة بيان جنيف1 والقرارين الأمميين 2118 و2245.
غير أن الساسة الروس لن ينجحوا في تحقيق أغراضهم من "سوتشي"، كونهم طرفاً يقف إلى جانب النظام بقوة، من خلال تدخلهم العسكري المباشر إلى جانب مليشيات نظام الملالي الإيراني، للدفاع عن نظام الأسد ضد إرادة غالبية السوريين. وبالتالي، فإنهم في موقع العدو والخصم بالنسبة للسوريين، ولا يمكن أن يتحول الخصم والعدو إلى وسيط أو حكم، لا في سوتشي، ولا في سواها.
لم يكن ثمة بد من مشهد سوتشي لكي يكتمل سيناريو المسرحية الهزلية التي يضع الروس المسألة السورية في إطاره، تحت سمع وبصر النظامين الإقليمي والدولي، وبقبولهما.
هنالك تقزيمٌ لكل ما هو إنساني وأخلاقي في ما يحصل، إلى درجة تكاد تصبح الكتابة الجدّية فيها عن الموضوع، بغرض التحليل، عبثاً لا طائل من ورائه.
سمع المعنيون بالموضوع، من السوريين وغيرهم، الكم الهائل من الكوميديا السوداء التي سبقت ورافقت انعقاد المؤتمر، ورأوا بأم أعينهم تفاصيل الأحداث والتصريحات والمواقف السوريالية التي شكّلت وقائعه وأحداثه. أكثر من هذا، سيسيل حبرٌ كثير خلال الأيام المقبلة في معرض «تحليل» كل ما جرى وتفسير كل ما قيل.
من هنا، لن نكرر ما سبق أن رآه الناس وسمعوه، ولن ندخل في منافسة التحليلات لما حصل وسيحصل.
يكفينا تلخيص دلالات ما جرى من ممارسات، يُفترض أن تدخل في مفهوم «السياسة»، بعبارة لخص بها الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان، المعروف بصراحته، رأيه في السياسة قائلاً: «من المفترض في السياسة أن تكون ثاني أقدم مهنة في العالم، لكنني أدركت مع الوقت أن هناك شبهاً كبيراً بينها وبين أقدم مهنة». ربما يرفض كثيرون هذا الرأي، وربما يجرح الكلام البعض، وصحيح أن بالإمكان الإشارة إلى الدلالات التي أرادها ريغان من عبارته بشكل آخر، أقل صراحة وأكثر تهذيباً. لكن الواقعية تفرض نفسها بقوةٍ هنا. والواقعية تلك تقول إن دلالات العبارة كانت ولا تزال وستبقى موجودة، بدرجة أو أخرى، ليس في الولايات المتحدة فقط، وإنما في كل مكان يضم ساسةً وسياسة في هذا العالم. وها هي سوتشي، بكل من وراءها، علناً أو سراً، تؤكد تلك الحقيقة بشكلٍ فاقع.
في ما عدا ذلك، لا يبدو عملياً سوى الحديث عما يمكن أن يفعله السوريون بقضيتهم بعد هذا المفصل الفارق. وهذا حديثٌ لا يجب أن يقتصر على قرارات ومخططاتٍ ورؤى تستوعب ما سيجري بعد اليوم وتتعامل معه، فهذا مهمٌ ومطلوب. لكن الأهم والأكثر إلحاحاً يدخل في جوهر ما يمكن أن نسميه «مراجعات» شاملة لم تعد الحركة في أي اتجاهٍ صحيح ممكنةً بغيابها.
ليس هذا مقام الدخول في مهاترات مع أي جهة، لكن المرحلة تتطلب درجة عالية من الشفافية والصراحة. والاستحقاقات المقبلة تتطلب الارتقاء إلى مستوى شعارات تمثيل الثورة التي ترفعها المعارضة بأطيافها السياسية والعسكرية العديدة اليوم.
لا مشاحة في الاعتراف بأن المعارضة السياسية السورية بجميع أطيافها ومكوناتها لم تكن مستعدةً لأداء مهمةٍ بحجم المهمة التي باتت، فجأةً، مسؤولةً عن أدائها. فكلنا يعلم طبيعة الظروف التي كانت تعمل فيها على مدى العقود الماضية. وثمة فارقٌ كبير بين القيام بدور «المعارض» على الطريقة التي كانت سائدةً في سورية ما قبل الثورة، ودور «الناشط» بعد انطلاقها، وبين دور القيادة السياسية لثورةٍ فرضت نفسها بتعقيدات قلما عرفها التاريخ.
ولا نبالغ إذا قلنا إن الدور الذي نتحدث عنه من أصعب الأدوار التي يجب أداؤها على مستوى العمل العام، ما يتطلب إدراك حقائق محددة.
فثمة تراكمٌ نظري وعلمي يتعلق بالثورات يمكن الاستفادة من معطياته، لكن الثورة ليست عملية هندسية محسوبة المقاييس، ولا مشروعاً تجارياً أو اقتصادياً يمكن تصميمه وتنفيذه وفق خطة موضوعة بإحكام.
والثورة لا تشبه أي ظاهرةٍ أخرى في حياة الناس. إذ لا تسري عليها العادات والأعراف والقوانين التي يتآلفون عليها في أيامهم العادية. وحين نتحدث عن الثورة السورية تحديداً فإننا نحاول ملامسة ظاهرةٍ جديدة كلياً، خاصة إذا أخذنا بالاعتبار كل ما فيها من خصوصيات سياسية وثقافية واجتماعية وجغرافية.
من هنا، لا يكون معيباً إذا تواضعت المعارضة السورية واعترفت بصعوبة المهمة الملقاة على عاتقها. فهذا الاعتراف علامةٌ صحيةٌ يمكن أن تكون أول خطوةٍ فعلية في تشكيل قدرتها على أداء دورها المطلوب. لا حاجة للمكابرة والادّعاء في مقامٍ لا يحتاج لمثل هذه الممارسات. وسيكون الشعب السوري أول من يتفهّم هذه الحقيقة، ويحترم القائلين بها، ويعود لإعطائهم المشروعية المطلوبة.
ثمة حاجةٌ ملحةٌ اليوم لأن يغادر جميع الساسة المعارضين السوريين إقطاعياتهم و «كانتوناتهم» و «مساراتهم». فالسياسة بالتعريف السائد هي فنّ الممكن. والممكنُ في الواقع السياسي السوري المعاصر يفرض عليهم جميعاً الخروج من نفق المماحكات القاتلة المتعلقة بتمثيل السوريين وثورتهم، والتي تكاد تغرقهم وتُغرق الثورة إلى الأبد. يكفي مثالاً أن نستحضر الأزمة المقبلة التي يمكن أن تنتج عن قيام بعض من حضرَ سوتشي وانسحب منها بـ «تفويض» الوفد التركي لكي يكون «حاملاً مطالبنا ساعياً لتحقيقها»، بناءً على «تمثيل قوى الثورة والمعارضة».
لا توجد اليوم جهة يمكن أن تدّعي احتكار التمثيل المذكور بأي درجةٍ من الدرجات.
ليس من طبيعة الدنيا الكمال، ولم يقل أحدٌ إن مشروع التمثيل السياسي للثورة السورية سيكون مشروعاً كامل الأوصاف. لكن الموقف الطبيعي من مثل هذا الوضع يتمثل بالمساهمة الفعالة والعملية في استكمال المشروع، لكي يصبح قادراً على تحقيق حد أدنى لهدف توحيد المعارضة وخدمة الثورة داخلياً وخارجياً.
لا توجد ملائكةٌ تمشي على الأرض في هذه الدنيا، فلا تخطئ في حساب أو تحتاج الى مراجعة موقف أو إعادة النظر في رؤيةٍ محددة أو سياسةٍ بعينها. لا يوجد هذا في العالم من حولنا، ولا في منطقتنا العربية، ولا في سورية، ولا في أجسام المعارضة بالتأكيد، يسري هذا على الأفراد والجماعات والشعوب كما يسري على الدول والحكومات. فنحن بشكلٍ عام نعيش في عالمٍ معقّد يتميز بمتغيّراته المتسارعة التي لا يكاد يستطيع أحدٌ ملاحقتَها وأخذها بالاعتبار في حساباته بشكلٍ كامل. ونحن، كسوريين تحديداً، نعيش ظاهرةً ربما كان تكرارها في التاريخ ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، بالصورة التي نراها، من الأمور النادرة في حياة البشر.
من الطبيعي إذاً لأي جماعة أو فرد أو هيئةٍ أن تخطئ أو يخطئ في الحسابات أو في السياسات أو في المواقف، أو في ذلك كله. وهذا يصدقُ على أجسام المعارضة في زمننا الراهن كما لا يصدق على جهةٍ أخرى مسؤولةٍ أمام شعبها وبلادها.
هذه حقائقُ تعرفها جميع الأطراف، ومن مصلحة السوريين جميعاً أن يبني عليها أصحابُ العلاقة داخل أجسام المعارضة وخارجها، أساساً لنقلةٍ جديدة في عملهم خلال المرحلة المقبلة.
هذا ليس واجباً سياسياً وأخلاقياً فقط، وإنما هو أيضاً دليل نضجٍ سياسيٍ وثقافيٍ للسوريين، خاصةً لمن تصدى لمواقع المسؤولية منهم.
بكلام آخر، ليست المشكلة أن نخطئ في الحسابات أو السياسات أو المواقف. وإنما تكمن المشكلة في الإصرار على تجنب أي مراجعة، والوقوع في عقلية المكابرة والعناد التي توحي بلسان الحال بأننا قومٌ لا نخطئ، بغض النظر عن أي شعارات نطلقها بلسان المقال. ذلك أن الوقوع في هذا الفخ هو الخطوة الأولى في سلسةٍ من الأخطاء ليس لها نهاية. هذا قانون من قوانين الاجتماع البشري يسري على السوريين كما يسري على العالم أجمع.
اجتهدَ البعضُ من أطياف المعارضة «الحقيقية»، وقرر حضور سوتشي. واجتهد البعض الآخر وقرر مقاطعته. بنى الطرفان اجتهادهما، علناً في الأقل، على القاعدة نفسها: إن القرار المُتخذ كان خطوة على طريقٍ طويل لمحاولة تحقيق أهداف الثورة.
لا مجال هنا للخوض في النيات، فهذا ترفٌ لا تحتمله المرحلة الراهنة، ولا يحتمله بالتأكيد المستقبل المقبل. خاصةً في ظل المشهد الذي رآه الجميع خلال جولات جنيف وأستانة، وأخيراً سوتشي. وفي ظل الواقع الذي نتج عنها.
ثمة حاجةٌ لدرجةٍ عاليةٍ جداً من الواقعية المسؤولة في هذا المقام. وهي تنبعُ من قراءةٍ دقيقةٍ لما حصلَ كما حصل، وليس كما توقع البعض حصوله أو تمنى البعضُ الآخر حصوله.
لا مجال هنا لإصرار المعارضين السوريين على الحياة في الأوهام أو التفكير الرغائبي أو التفسيرات الخاصة للحدث. فهذا أيضاً نوعٌ آخر من الترف السياسي لا يحتمله المقام.
من هنا، قد يكون مطلوباً زيادة جرعة الرقابة الشعبية الخارجية على أجسام المعارضة بأشكال مختلفة. ليس فقط من قبل الإعلاميين والمثقفين والنشطاء والساسة خارجها، وإنما أيضاً من السوريين جميعاً، لأنهم أصحاب الحق قبل غيرهم في طرح الأسئلة والحصول على الإجابات.
فالإنسان العادي هو أول من يتأثر بالسلبيات والآلام والكوارث التي تنجم عن الخطأ في الحسابات وفي السياسات. من هنا، يبقى هو صاحب الحق الأول في أن يكون له رأي في الموضوع، وفي أن تُفتح له مداخل وأبواب طرح ذلك الرأي عبر القنوات والمنابر الإعلامية والسياسية والثقافية. فالإنسان الذي لا يُمنح ذلك الحق لن يشعر يوماً بالانتماء والولاء الحقيقيين مهما صرّح وتغنّى بعكسِ ذلك. لأنه سيدرك ببساطة في أوقات الشدّة بأنه مدعوٌ ليدفع ثمن خطأ لم يكن سبباً فيه. وبأن وجوده في الساحة إنما يُعتبر «تكملة عدد» وليس وجودَ مواطنةٍ حقيقية بكل ما تقتضيه من حقوق وواجبات.
«السياسة أهم بكثير من أن تُترك للساسة وحدهم». هكذا تؤكد المقولة الشهيرة.
ولن تعدمَ ثورةٌ أظهرت إبداعَ أهلها في كثيرٍ من المجالات القدرةَ على ابتكار إطارٍ لرقابةٍ شعبيةٍ عامة على أجسام المعارضة تُصحح مسارها، لتؤدي دورها المطلوب، ولا تُصبح لعنةً على البلاد وأهلها وثورتهم نهاية المطاف.
التمويل ثم التمويل ثم التمويل، متى ما تم ضبطه ومنعه من الوصول للجماعات المتطرفة، فالنتيجة ستكون خانقة عليهم من أحزاب وجماعات وأفراد، فعلى مدار عقود لم تتوقف عمليات إمداد تلك الجماعات، مستغلة التلاعب بالأنظمة المصرفية، وهو ما ساهم في انتشارها وتمويل عملياتها الإرهابية، لكن ذلك العهد ولّى، وغدا تحويل الأموال للمتطرفين عملية معقدة وبالغة الصعوبة، ما دامت تمر عبر النظام المصرفي العالمي، وفي نفس الوقت فإن الخبر السيئ يكمن في أن هناك جماعات متطرفة ليس شرطاً أن يأتيها الدعم المنتظر، من دول أو أفراد، عبر المصارف أو التحويلات، فـ«الكاش» حاضر، وهو سيد الموقف. النظام المصرفي يستطيع منع الأفراد والجماعات من تحويل الأموال للمتطرفين، إلا أنه لا يستطيع ذلك إذا قررت دول فعلها، ولعل أشهر قصص التمويل الحكومية للمتطرفين ما كشفت عنه صحيفة «الفايننشال تايمز» من دفع حكومة الدوحة فدية بمليار دولار، لجماعة مرتبطة بتنظيم القاعدة تقاتل في سوريا ورجال أمن إيرانيين وجماعات عراقية متطرفة، مقابل الإفراج عن أفراد من الأسرة الحاكمة القطرية كانوا قد اختُطفوا هناك، وبعيداً عن دقة الرقم إن كان فعلاً مليار دولار أو أقل أو أكثر، فإن هذا يعني أن أموال الفدية ما هي إلّا مبالغ دُفعت من صندوق الخزينة القطرية إلى تنظيمات متطرفة، بعيداً عن النظام المصرفي الدولي وقوانينه. المغزى هنا أن التعاون الدولي لخنق تمويل الجماعات المتطرفة لن يصل إلى غايته ومبتغاه، ما دامت حكومات بعينها تضرب بتلك النظم عين الحائط وتمول المتطرفين.
في لبنان مثلاً، ليس سراً أن جزءاً من تمويل «حزب الله» يأتي عبر غسل أموال المخدرات، كما كشفت «دير شبيغل» الألمانية عندما ذكرت أن 75 مليون دولار تم غسلها في أوروبا لحساب الحزب، قبل أن ترسل إلى مقره في الضاحية الجنوبية بعيداً عن رقابة البنوك. المعضلة أن هذا التمويل الآتي من خارج لبنان لا يشكل سوى 30 من تمويل الحزب، بينما بقية التمويل تأتي كاملة من إيران، ولا يحتاج «حزب الله» لتلقي تمويله السنوي من إيران عبر المصارف اللبنانية، إذ تكفي طائرة واحدة في رحلة مباشرة من طهران إلى بيروت لتحمل كل المبلغ مهما علا رقمه، ليصل إلى الحزب بسهولة ويسر ودون مخالفة مصرفية واحدة، وإذا كانت السلطات العراقية، كما أعلن رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي في أبريل (نيسان) الماضي، ضبطت حقائب في داخلها مئات الملايين من الدولارات على متن طائرة خاصة قطرية هبطت في بغداد، فإنه لا أحد يستطيع ذلك في مطار بيروت الذي تهيمن عليه دولة «حزب الله» رغم أنف الحكومة اللبنانية، ولذلك فرغم المساعي الدولية التي تقودها الولايات المتحدة لإيقاف تمويل «حزب الله»، ستظل عملية تمويل الحزب قائمة ومستمرة ولن تتأثر عمليات الحزب، حتى مع تصريحات مساعد وزير الخزانة الأميركي لشؤون مكافحة تمويل الإرهاب عن استراتيجية واشنطن لمحاربة «حزب الله» بأن بلاده تتعاون «مع السلطات هنا (في لبنان) ومع السلطات الإقليمية للتأكد من أنّ (حزب الله) وقاسم سليماني لا يمكنهما الوصول إلى الدولار الأميركي»، مضيفا: «سأكون واضحاً في أنّ تركيزي هو على التمويل، وللتأكد من أنّ الحزب لن يتمكن من استخدام الأموال لسلوكٍ خبيث».
تستطيع الولايات المتحدة أن تمنع دولارها من الوصول إلى «حزب الله»، وبقية الجماعات المتطرفة، إذا تم إرساله عبر النظام المصرفي الدولي، لكنها ستتفرج فقط والأموال ينقلها الحرس الثوري وبتخطيط من قاسم سليماني، عبر رحلات جوية مدنية مأمونة ولا يمكن لواشنطن المساس بتلك الرحلات، فمنع «حزب الله» من الدولار سيكون ضرباً من الخيال ما دام المنبع يواصل ضخ سيولته. التحدي الحقيقي يكمن في القدرة على إيقاف استغلال النظام الإيراني للرحلات المدنية وطائرات الوفود الرسمية لنقل الأموال نقداً لتمويل المتطرفين، وذلك لن يتم في ظل سيطرة «حزب الله» على المطار، أما الركون على مراقبة التحويلات المصرفية، فهي خنقت بالفعل جماعات متطرفة كثيرة في منطقتنا، لكنها لم تؤثر على «حزب الله» مثلاً، فأخطر الإرهاب ذلك المدعوم من دول، كما إيران وقطر، فهو يجري بعيداً عن أنظمة العالم وقوانينه، لذلك سيصل الدولار إلى «حزب الله» وغيره من الجماعات المتطرفة، فنصف القصة في القوانين الخانقة لتمويل المتطرفين، أما النصف الآخر والأهم فهو في خنق الدول التي تمول الإرهاب سراً وعلناً ولا ترى أي عواقب على أفعالها.
ابتكر المبعوث الأممي ستيفان ديمستورا تعبير «اللا ـ ورقة» لوصف ورقة تقدم بها، في إحدى جولات مفاوضات جنيف، كانت عبارة عن مقترحات للنقاش الداخلي بين الطرفين السوريين المفترضين في المفاوضات، ولطالما كانت هذه، في حقيقتها، «لا ـ مفاوضات» على منهج الترمينولوجي الخاص بديمستورا. فالوفدان لا يلتقيان وجهاً لوجه، ويقوم الوسيط الأممي العجوز بدور المكوك النشط بين غرفتي الوفدين، ناقلاً الأفكار والمقترحات والردود المتقابلة بينهما. وتظهر «اللا ـ نتائج» التي انتهت إليها الجولات المتتابعة لمسار جنيف كم كان كل ذلك عبثياً وبلا طائل. ذلك لأن الوفد الممثل للنظام لم يكن يحضر عن قناعة بالبحث عن حل سياسي، بقدر ما كان يكرر «ثوابته» التي يمكن اختصارها في الشعار الشهير «الأسد أو لا أحد»، في الوقت الذي تواصل قواته المعززة بالميليشيات الإيرانية والطيران الروسي «حرق البلد» على ما ذهب إليه الشعار الثاني الملازم للأول.
برغم عبثية مسار جنيف، كان ما يميزه عن المسارات البديلة التي أخذ الروس يطرحونها منذ سقوط حلب، هو الدور المحوري للأمم المتحدة، والمظلة السياسية التي توفرها الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن، وقرارات هذا المجلس التي تبقى، برغم كل ما يمكن أن يقال بحقها، مرجعية متعددة الضامنين، وتعكس موازين القوى الدولية القائمة. في حين أن مسارات آستانة وسوتشي تعبر، في أحسن الافتراضات، عن تحالف ثلاثي روسي ـ إيراني ـ تركي، وقائمة أساساً على الإرادة الروسية المنخرطة في الحرب لمصلحة النظام الكيماوي.
أطلق بوتين فكرة مؤتمر سوتشي، بدايةً، بعد إعلان انتصار قواته من قاعدة حميميم على شاطئ المتوسط، بحضور تابعه السوري بشار الأسد. «مؤتمر الشعوب السورية»، كما أطلق عليه في البداية، كان فكرة طموحة أراد منها بوتين تظهير انتصاره العسكري سياسياً، في وقت كانت فيه الإدارة الأمريكية غارقة في مشكلاتها الداخلية المتعلقة بشرعية سيد البيت الأبيض المتهم بالاستفادة من خدمات روسية في حملته الانتخابية ضد المرشحة الديموقراطية هيلاري كلينتون. ثم غير الروس اسم المؤتمر بسبب اعتراضات كل من النظام والمعارضة اللذين لا يستسيغان تعبير الشعوب السورية المتعارض مع العقيدة الراسخة بصدد «الوحدة الوطنية». فأصبح «مؤتمر الحوار الوطني السوري» في استعادة لاسم اجتماع مماثل جرى، في صيف 2011 في دمشق، برئاسة فاروق الشرع.
في غضون ذلك أطلقت الإدارة الأمريكية رؤيتها الخاصة بشأن الصراع في سوريا، وعادت بزخم إلى الحضور في الميدان وفي أروقة الدبلوماسية. فأعلنت أن قواتها وقواعدها العسكرية القائمة شرقي نهر الفرات وشماله، باقية إلى أجل غير مسمى. وحددت أهدافها بمواصلة مكافحة الإرهاب حتى ضمان عدم عودة «الدولة الإسلامية»، ومواجهة النفوذ الإيراني في سوريا، وضمان الوصول إلى حل سياسي مستدام، وفقاً للقرارات الأممية ذات الشأن، يتضمن، في نهاية المطاف، طي صفحة حكم عائلة الأسد. وخطت واشنطن بعض خطوات في اتجاه تطبيق رؤيتها هذه، منها الإعلان عن تشكيل جيش من 30 ألف مقاتل في منطقة نفوذها، وعقد اجتماع خماسي في واشنطن لمجموعة اتصال دولية جديدة بشأن سوريا، بموازاة الثالوث الروسي ـ الإيراني ـ التركي وفي مواجهته، وإعادة فتح ملف جرائم السلاح الكيماوي التي ارتكبها النظام منذ 2013 إلى اليوم.
هذه التطورات شجعت المعارضة السورية على اتخاذ قرارها، في اللحظات الأخيرة، بمقاطعة اجتماع سوتشي، مع مساندة فرنسية ـ أمريكية، إذ اقتصر حضور هاتين الدولتين على إيفاد مراقبين. وهكذا بدا أن اجتماع سوتشي تم إفشاله قبل انطلاقه، وبخاصة بعدما سبقه، بأيام، مؤتمر فيينا في إطار مسار جنيف، برعاية أممية ودولية. كان بوسع روسيا التغطية على هذا الفشل المبكر بتأجيل «سوتشي» مرة أخرى، بدعوى وجوب «الإعداد جيداً». لكنها لم تفعل، ربما بسبب اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية التي يريد بوتين دخولها بزخم تحقيق إنجاز سياسي يتوج «نصره» العسكري على سوريا، فلم يبق ما يكفي من الوقت لإنقاذ المؤتمر من الفشل، خاصةً بعد اتضاح نوايا واشنطن الجديدة. حتى اللحظات الأخيرة راهن الروس على كسر إرادة الهيئة العليا للمفاوضات، بالتهديد والوعيد، أو بإغراء وقف إطلاق النار في الغوطة الشرقية. وإذ أعلنت «الهيئة» المعارضة رفضها حضور اجتماع سوتشي، عادت حمم نيران النظام تصب على الغوطة المحاصرة. ومن جهة أخرى تمكن الروسي من إحضار بعض أعضاء الهيئة (منصة موسكو) المحسوبين عليها أصلاً.
لكن العقبات أمام لا ـ مؤتمر سوتشي لم تقتصر على الهيئة العليا والأميركيين والفرنسيين، فقد برزت مشكلات كبيرة من داخل جماعة سوتشي نفسها: تركيا التي اعترضت على وجود الإرهابي معراج أورال المتهم بتفجيرات مدينة الريحانية، في ربيع 2013، التي راح ضحيتها 52 قتيلاً من المدنيين، فضلاً عن مجازر بانياس الطائفية. ووفد الفصائل السورية التابعة لأنقرة الذي رفض مغادرة المطار وقاطع اللا ـ مؤتمر في آخر لحظة، في حين فوّض أحمد طعمة الوفد التركي أن يتكلم باسمه، على ما نقل عنه. (كان الرد الروسي على تلكؤ أنقرة فورياً وقاسياً: اعترضت نيران الطيران الروسي ومدفعية ميليشيات النظام الكيماوي، قافلة عسكرية تركية كبيرة متجهة من شمال محافظة إدلب إلى جنوب مدينة حلب. الحصيلة: قتيل وجريحان من القافلة التركية. وصلت الرسالة، فشارك الوفد التركي في اللا ـ مؤتمر).
كل هذه التفاصيل كانت كافية وتزيد ليعلن عن فشل موسكو المدوي فيما أرادته من هذا الاجتماع المصمم، أصلاً، للحصول على موافقة المجتمعين الـ1600 على مخرجات أعدت مسبقاً لتعويم «الحل» الروسي القائم على توثيق «النصر» العسكري. ولعل في تصريحات الناطق الروسي بشأن «تسليم السلطة لديمستورا» لإيجاد حل سياسي للصراع السوري في جنيف، ما يطابق إعلان الفشل بصورة مواربة. «لجنة تعديل الدستور» المنبثقة عن اللا – مؤتمر تتألف من 150 شخصاً «ستضم أيضاً معارضين قاطعوا سوتشي» على ما قال لافروف، سيرأسها ديمستورا في جنيف!
إن لم يكن هذا محاولة لإنقاذ ماء وجه موسكو، فماذا يكون؟
التقارير الإعلامية التي تصدر عن مسؤولين في المؤسسة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية والتي تتناول سلاح حزب الله، وظيفتها الأساسية تضخيم ما يشكله حزب الله من تهديد لإسرائيل، وتساهم التصريحات التي تصدر بين الحين والآخر عن مسؤولين في الحكومة أو في الكنيست، عن التسليح النوعي والدقيق الذي توفره إيران لذراعها العسكرية في لبنان، في إظهار صورة غير واقعية، مفادها أن إسرائيل تبدو تحت رحمة صواريخ إيران من خلال الأراضي اللبنانية.
هذه الصورة التي يجري ترسيخها في الأذهان منذ ما بعد حرب تموز 2006، تخدم وظيفتين، واحدة في اتجاه المجتمع الدولي تريد من خلالها إظهار أن إسرائيل هي الكيان الذي يعاني من التهديد والخطر على حدوده، والثانية في اتجاه إيران وحزب الله ومفادها أن الاستمرار في المحافظة على الاستقرار القائم على الحدود اللبنانية الإسرائيلية، هو معيار عدم قيام إسرائيل بأي عمل عسكري نوعي ضد حزب الله وإيران سواء في لبنان أو في سوريا.
قالت صحيفة هآرتس الإسرائيلية الأحد الماضي، إن المؤسسة الأمنية الإسرائيلية تتحدث عن تقديرات تشير إلى أن إيران تتجه لإقامة مصنع لإنتاج السلاح الدقيق في لبنان.
واستندت الصحيفة لمقال نشره المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي العميد رونين منيلس في موقع (لم يذكر اسمه وعنوانه)، أن لبنان تحول عمليا “بسبب فشل السلطات اللبنانية وتجاهل الكثير من أعضاء المجتمع الدولي، إلى مصنع صواريخ كبير لإيران”. وبحسب هآرتس فإن مقالة منيلس موجهة إلى سكان لبنان، لكن جزءا مهما من المقالة موجه أيضا إلى حكومة لبنان ودول أخرى.
هذه المواقف الإسرائيلية ليست جديدة، وهي تتكرر بين الحين والآخر خلال السنوات الماضية، لكن ذلك لا يعني أن إسرائيل لا توجه رسائل تحاول من خلالها التذكير بما تعتبره تجاوزا للخطوط الحمراء في ما يتصل بحساباتها الإستراتيجية والأمنية. فإسرائيل نفذت خلال السنوات الماضية أكثر من مئة غارة جوية على قوافل سلاح منتقلة من سوريا إلى لبنان لحساب حزب الله، وفي الوقت نفسه لم توجه أيّ ضربة للآلاف من المقاتلين المنتمين لهذا الحزب الذين قاتلوا في سوريا دعما لنظام بشار الأسد، سواء في مواجهة فصائل الثورة السورية المعارضة أو غيرهم من التنظيمات التي تصنف إرهابية. المعلومات التي أوردتها هآرتس لفتت إلى أن إيران تقوم بنقل مصانع صواريخ دقيقة إلى لبنان بسبب استهداف إسرائيل لقوافل السلاح الذي ترسله عبر الأراضي السورية إلى لبنان.
مما لا شك فيه أن حزب الله نجح من خلال الدعم الإيراني في إحكام السيطرة على العديد من مفاصل الدولة اللبنانية سياسيا وعسكريا وأمنيا، وهذا الإحكام وفرته له الصفقة السياسية التي أوصلت الجنرال ميشال عون إلى سدة الرئاسة واستكمالها بالاتفاق مع الرئيس سعد الحريري. إذ لم يعد وجود حزب الله العسكري والأمني خارج سلطة الدولة يشكل عنوانا من عناوين السجال السياسي داخل مؤسسات السلطة، وربما هذا ما جعل حزب الله مطمئنا في استكمال عملية السيطرة على ما تبقى من مراكز قرار داخل الدولة المنفلتة من سلطته ولو كانت غير معادية أو مناكفة له.
لذا كان موقف عضو مجلس الخبراء الإيراني محمد علي رئيسي قبل أيام من على باب مقر الرئاسة الثانية أي بعد زيارته الرئيس نبيه بري ذا دلالة، بقوله إنّ لبنان هو ضمن محور المقاومة مع دول عربية أخرى بالإضافة إلى إيران، هو لم يسمِّ دولة عربية أخرى خوفا من أي رد رسمي من هذه الدول على كلامه، لكنه كان حاسما في تسمية لبنان، ربما لاعتقاده أن لبنان أصبح بيد إيران بخلاف سوريا أو العراق واليمن، ولأنه مطمئن إلى أن السلطة اللبنانية الرسمية لن تجرؤ على الرد على هذا الإعلان.
من هذا المنطلق وفي ظل الإرباك الذي يعاني منه النفوذ الإيراني في سوريا وحتى في العراق، يتحول لبنان إلى هدف لتعزيز قاعدة نفوذ حزب الله لا سيما على مستوى إنهاء أي حالة اعتراض جدية على سلاحه وعلى دوره الأمني والعسكري سواء في الداخل اللبناني أو خارجه.
وفي هذا السياق يؤكد متابعون لمجريات الفصول المتقدمة من السيطرة الإيرانية على لبنان، أنّ الأجهزة الرسمية اللبنانية ولا سيما الأمنية باتت في موقع لا يحسد عليه، فحزب الله نجح إلى حد بعيد ليس في ترهيبها بل نجح في السيطرة من الداخل على بعض دوائرها وبات معظمها بحسب المصادر الموثوقة يعمل من ضمن نشاطه الأمني الرسمي في خدمة حزب الله سواء تحت عنوان التنسيق بين الأجهزة الأمنية والمقاومة، أو نتيجة شعور مسؤولي هذه الأجهزة والعاملين فيها بأن المسؤولين الرسميين في الحكومة غير جادين برفض الاختراق الذي ينفذه حزب الله في مؤسسات الدولة. علما أن المعلومات لدى الأجهزة الرسمية تصل بشكل شبه رسمي لحزب الله، فيما الأخير يقدم ما يراه مناسبا من معلومات للأجهزة الأمنية وغالبا ما تكون غايتها تشغيل هذه الأجهزة في مهام يريدها هو.
على أن جانبا مهما برز في الأشهر الأخيرة يتمثل في أن إيران دخلت مباشرة على خط إدارة الجانب الأمني والعسكري لحزب الله في لبنان، وإن كان العنوان لهذا الدخول، حسب مصادر من داخل بنية حزب الله، هو ضبط الفساد الذي استشرى في بعض قطاعات حزب الله لا سيما مع انخراطه في الحرب السورية، إلا أن مصادر متابعة تشير إلى مسألة جوهرية تتمثل في أن حزب الله خسر القيادات العسكرية التي كانت تمتلك السيطرة على العناصر من خلال كونها شاركت في تأسيس الحزب كالقياديين عماد مغنية ومصطفى بدرالدين، وغياب الشخصية الأمنية والعسكرية ذات الشرعية الكاملة والقادرة على التحكم والقيادة في الميدان، ترافق مع سقوط معظم الكوادر العسكرية ذوي التاريخ النضالي مع إسرائيل.
فالحرب السورية أنهت إلى حد بعيد هذا الكادر القيادي حيث سقط لحزب الله العشرات من هؤلاء ولم يعوض الجيل الجديد الفجوة التي أحدثها سقوطهم، لا سيما أن الحرب في سوريا التي خاضها حزب الله لم تستطع أن ترقى في وعي مقاتليه إلى مصاف الحرب مع إسرائيل، لذا فالحرب السورية أحدثت صدعا في بنيان حزب الله الداخلي، فرض الدخول الإيراني مباشرة على إدارة الملف العسكري والأمني بشكل مباشر لضبط تداعيات الحرب السورية، ومنع أي تداعيات عليها كانت برزت في ما يعرفه الجميع على صعيد تكوين المقاتل النفسي والعقدي الذي كان للحرب السورية تأثيرها الكبير على هويته القتالية وبنيته العقدية والسياسية.
وفي هذا السياق فإن غياب أو تغييب القيادي أو الكادر العسكري الذي يمتلك الكاريزما والشرعية النضالية، كان فرصة للمزيد من الدخول الإيراني المباشر إلى كل مفاصل القرار داخل البنية الأمنية والعسكرية لحزب الله، حيث حرصت القيادة الإيرانية لا سيما عبر الجنرال قاسم سليماني قائد فيلق القدس، على زيادة عدد الكوادر من الحرس الثوري على رأس مفاصل القرار في حزب الله في لبنان، إلى درجة أن مراكز الإشراف على القواعد العسكرية باتت إيرانية بشكل شبه كامل سواء في الجنوب اللبناني أو حتى في البقاع، ومما تسرب من معلومات من داخل بنية حزب الله أن إيران تحاول من خلال هذا الأسلوب الحد من الاختراقات الأمنية الإسرائيلية التي يُعتقد بأنها تحصل وسببت أضرارا أمنية وعسكرية ولا تزال، فيما التهمة كانت جاهزة بأن قابلية الكادر اللبناني للاختراق الأمني الإسرائيلي هي أكبر بكثير من إمكانية اختراق الحرس الثوري الإيراني. علما أن أعدادا من العراقيين التابعين للحرس الثوري يساعدون الكادر الإيراني خاصة في بعض المواقع الأمنية والعسكرية وبعيدا عن الأعين وفي أماكن لا تتطلب تواصلا مباشرا مع لبنانيين إلا في حدود ضرورية وضيقة. وتأتي ذريعة قدوم العراقيين في سياق التعويض عن النقص في العديد من المقاتلين اللبنانيين الذين تفرض عليهم أولوية القتال في سوريا.
يبقى أن التهديدات الإسرائيلية والتهويل بتدمير لبنان يستمران في ظل المزيد من انخراط حزب الله في القتال في سوريا، وكلما ارتفع صوت التهديد الإسرائيلي ضد حزب الله أو لبنان، كلما كان ذلك فرصة إضافية للحزب ومن ورائه إيران، لإحكام القبضة على ما تبقى من بعض دوائر القرار المنفلتة من قبضته في وطن الأرز.
إذا صح اعتبار ما ورد في خطاب وزير الخارجية الأميركية، ريكس تيلرسون، استراتيجية جديدة لمساعدة السوريين على إنهاء مأساتهم، فما على هؤلاء سوى تجهيز أنفسهم لنكبة مديدة تطوي، في ثناياها، ما بقي سالما منهم، قبل أن تنضج ثمار تلك الإستراتيجية.
صحيح أن خطاب تيلرسون جاء على ذكر رحيل الأسد، وهو الهدف العتيد للثورة السورية، كما صرح بوضوح عن محاربة النفوذ الإيراني، وكذلك دفع روسيا إلى التفاوض بشروط جديدة، لكن ما تم فهمه بين السطور أن أميركا ستفعل ذلك كله، وهي تلف ساقاً على ساق شرق سورية، ولن تغير شيئاَ من قواعد اللعبة وشروطها، كما لن تطوّر أدواتها في هذا السياق، وجل ما يمكن أن تجود به هو إعادة تفعيل بعض أساليبها السابقة، والقائمة على تزويد بعض الفصائل، وليس كلها، بما يمكّنها من مناوشة الروس والإيرانيين، بقدرٍ لا يسمح لهم بإنجاز تحرير بلدهم بشكل حاسم، ولا يسمح للخصوم بالقضاء على الفصائل دفعة واحدة.
هي عملية استنزاف لجميع اللاعبين بإدارة أميركية، وهو هدف جرى تطويره خلال إدارتي الرئيسين، باراك أوباما ودونالد ترامب، ويتناسب مع ظروف أميركا نفسها وإمكانياتها، مع الأخذ بالاعتبار التطورات الحاصلة في البيئة الدولية، وصعود قوى دولية وإقليمية، لها تأثيرات واضحة في بعض الأقاليم، لكنه لا يهتم، من بعيد أو قريب، بمشكلة الشعب السوري، بقدر ما يعتبرها فرصةً لتحقيق مقتضيات الاستنزاف.
تمثل سورية، في التقدير الأميركي، جغرافيا مثالية لاستنزاف روسيا، بنسختها الجديدة، بعد أن طوّرت أدواتها في إزعاج الغرب، وتقترب من التحوّل إلى ورشة تخريب متنقّلة، تضع يدها على نقاط ضعفه، وتلسعها بطريقةٍ لا تترك دليلاً مباشراً على فعلتها، لكن المؤكد أنها تثير هيجانا واسعا في المجتمعات الغربية، إلى درجة تهديد أعمدة استقرارها، كما فعلت بأميركا بعد تدخلها في انتخاباتها الرئاسية، وتصويت "البريكست" الذي أخرج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي.
وإذا كان من غير المنطقي، ولا من الممكن، رد الصفعات الروسية بالطريقة نفسها لاختلاف المعطيات، وطبيعة النظام السياسي، واختلاف أدوات تواصله مع جمهوره، وإختلاف الثقافة الروسية عن مثيلتها الغربية، وبما أن العقوبات الاقتصادية لم تُجد نفعا، ولا هي أضعفت التأثيرات الروسية في محيطها، وما هو أبعد، فإن الاستنزاف هو الوصفة الأكثر تلاؤما وأكثر فعالية.
أما إيران، وبعد أن أكلت الحصاد الأميركي في العراق، ونشرت نفوذها إلى تخوم إسرائيل، فمن المفهوم أن تسعى واشنطن، بكل قوتها، إلى تدفيعها ثمناً يجعلها غير قادرة على السيطرة على زمام الأمور، ليس في المناطق المذكورة، بل في الداخل الإيراني نفسه، وليس أفضل من إستنزاف قدراتها ومواردها في صراعات طويلة الأمد، ولا أفق لها، خصوصا وأن أحداث إيران أخيرا، وحالة التذمر التي شهدتها مدن إيرانية نتيجة سوء الأوضاع الإقتصادية، ستدفع الإستراتيجيين الأميركيين إلى التركيز على هذه الجوانب، في صراعهم مع النظام الإيراني.
وتنطوي الإستراتيجية الأميركية على بعد صيني غير معلن، حيث تتقدّم بكين بخطىً حثيثة صوب إنجاز مشاريع طريق الحرير والحزام، وتقترب من قضم الشرق الأوسط من الرصيد الأميركي، وطيّه تحت نفوذها، بل وبدأت الوصول إلى موانئ أوروبا وأسواقها. وفي الوقت نفسه، تطرح نفسها بديلاً للقوّة الأميركية، وترفض التعاون معها في آسيا، وأمام عجز واشنطن عن إخضاعها لشروطها، فأضعف الإيمان هو إبقاء الشرق الأوسط، بوصفه نقطة الوصل بينها وبين أوروبا، ملتهباً إلى حين، وبيئة غير صالحة، لا لمد طريق الحرير، ولا لربط موانئه بشبكة الموانئ الآسيوية الأوروبية.
لكن كيف تستطيع أميركا تأديب الروس، وضمان انكفاء إيران، وعرقلة التمدد الصيني، بالرهان فقط على لحم السوريين، وفي مواجهة خريطة صراعاتٍ عالميةٍ، وقوى مصمّمة على التحدي، وجعل سورية بداية لانطلاقتها قوّة وازنة ومؤثرة؟
صحيح أن السوريين في مواجهة حرب مصيرية تتعدى حتى مجرد إخضاعهم إلى إلغاء وجودهم، لكن إذا كانت أميركا جادة، وقد تتقاطع مصالح السوريين معها، يجب أن تكون أكثر جرأة ومبادرة، لا أن تمنح تلك الأطراف المحفزات للاستمرار بسياساتها وتمنحها الغطاء للقيام بذلك، من دون أن تقدم ما يتناسب مع هذا الهدف؟
قد يحقق تراكم الاستنزاف النتائج المرغوبة أميركياً، لكن المؤكد أن لدى روسيا وإيران القدرة على التكيف، على المدى الطويل، مع الأضرار الحاصلة ومعالجة آثارها مع الزمن، طالما أنه لا وجود لرأي عام من الممكن أن يثور عليهما، وطالما لديهما القدرة على الالتفاف على خسائرهما عبر استغلال فقراء الجمهوريات الإسلامية والأفغانيين والباكستانيين.
بالإضافة إلى ذلك، ثبت أن لدى روسيا وإيران القدرة على تغيير الوقائع بطريقة عنيفة وسريعة، إذا لم يتم ردعهما بشكل مباشر. وبالتالي، فإن إعادة الأساليب نفسها، وبالاعتماد على الأدوات القديمة، أمر غير مجدٍ، إذا لم يقترن باستراتيجية تصدٍّ واضحة، لها موارد وخطط وأصناف جديدة من الأسلحة.
هل يملك السوريون رفض اليد الأميركية؟ وهل من المصلحة تضييع فرصة تحقيق الحد الأدنى من التوازن مع الطرف الآخر الذي يستشرس عليهم؟ ما هو متاح وممكن الآن إعادة هيكلة قوى الثورة، وإيجاد الإطار المناسب، وتحديد الأساليب والأدوات اللازمة لتحقيق أهدافهم، فلا روسيا وإيران سيتركانهم، بعد أن تأكدوا من أن الصراع مع أميركا واقع، ولا أميركا ستقدّم لهم ما يضمن الخلاص.