يمضي المعتصمون في مطار سوتشي، في صناعة التاريخ ولعب دور بطولي جديد، في إطار الدفاع عن السوريين في وجه القتلة، متمسكين اليوم بعلم الثورة ورافضين الدخول تحت رايته، ولكن لا مانع من دعم مؤتمر ترعاه روسيا التي طائراتها بذات الوقت تدك كل ما هو حي في سراقب، على سبيل المثال لا الحصر.
تصرفات التي يمكن وضعها تحت بند "الصبيانية"، باتت تراجيديا مقيتة وغير مقنعة لأصغر طفل فقد أحد والديه أو اخوته أو جزء من جسده، بأن زمن التغابي قد انتهى، وأن "ايران قاتل وليس ضامن"، و"روسيا مجرمة والإرهاب الروسي" وسمفونيات التخوين لفلان من الناس وعين من المنصات، فاليوم لعبت بعض شخصيات المعارضة دور للأسف هو الأسوء والأكثر تخفيضاً لمستوى قضية لا يمكن إحصاء ما ورثت السوريين من أحقاد وآلام، أو تم توثيق ما أفقدت الشعب بشراً وحجراً.
اعتادت بعض وجوه المعارضة على ممارسة واتقان دور اللعبة بيد هذا وذلك، فساق الذاهبون لسوتشي مبررات بالجملة منها دعم لتركيا ودعم غصن الزيتون، حماية لإدلب، وتأمين الغوطة و .... و ..... ، لكنها عبارة عن فقاعات دفع ثمنها المدنيون في كل مكان استشهد فيه، فلا تركيا بحاجة لظهور هذه الوجوه، ولا إدلب تم حمايتها وهي تذبح من الوريد للوريد، أما الغوطة فلا يوجد داع للحديث.
تسع محطات في جنيف ومثلها في أستانة وأقل في فيينا وباريس وواشنطن وقطر والرياض.. كلها بائت بفشل تلاه فشل، واليوم يبحث الذاهبون عن حل في روسيا، مع القاتل ذاته، ومع أنداد لا صفة رسمية لهم ولا حتى وجود، لكنهم في حقيقة الأمر يشابهون من ذهب مدعياً تمثيل المعارضة .. ويكفي أن يكون وضع الذاهبين هكذا... يكفي صور الذل التي نشرت لهم في اعتصامهم الأسطوري
تناقض المواقف الأمريكية من عملية عفرين التي يقودها الجيش السوري الحر بمساعدة تركية، ليست هي التناقضات الأولى في السياسة الأمريكية مع تركيا، بل هي صورة مصغرة عن أخطاء السياسة الأمريكية نحو تركيا، وعلى وجه الخصوص في سوريا، منذ انطلاق الثورة فيها عام 2011.
فآخر التصريحات الأمريكية في 25/1/2018 حول عملية عفرين بعد ستة أيام من انطلاقتها، هو تصريح (البنتاغون) الذي يقول فيه:» إن عمليات عفرين تعوق مهمة القضاء على تنظيم الدولة»، علما بأن حلفاء أمريكا من الأحزاب الكردية هم من أعلنوا القضاء على تنظيم «الدولة» في المناطق التي يسيطرون عليها، بما فيها عفرين ومنبج والرقة وغيرها، بل كانت امريكا نفسها ضامنة لانسحاب عناصر «داعش» من الرقة وغيرها إلى أماكن أخرى، فالبنتاغون نفسه متورط بمساعدة «داعش»، على لسان المخابرات الروسية وباتهامات مباشرة، فلماذا توقع أمريكا نفسها بهذا التناقض المفضوح أمام العالم.
وقد نقل عن رويترز تصريح آخر بعد الأول عن البنتاغون يقول:» إنه سيواصل الحوار مع تركيا بشأن إقامة منطقة آمنة على الحدود»، وهذا تأكيد لتصريح أمريكي سابق رداً على مكالمة الرئيس ترامب مع الرئيس التركي أردوغان في ديسمبر الماضي، وقد علق عليه وزير الخارجية التركي جاويش اغلو قائلاً: «إنّ بناء الثقة بين الولايات المتحدة وتركيا شرط أساسي للتباحث بشأن منطقة آمنة في الشمال السوري»، هذا التصريح لوزير الخارجية التركي، جاء في مؤتمر صحافي مشترك عقده في إسطنبول مع نظيرته النمساوية كارين كنايسل، والنمسا كانت من أكثر الدول الأوروبية، التي اختلفت واخطأت في حق تركيا، على خلفية الاستفتاء على التعديلات الدستورية في تركيا، فبعد العداء البالغ من النمسا نحو تركيا، إذ بها تأتي إلى انقرة للمصالحة والاعتذار.
هذا اللقاء التركي النمساوي قد يكون درساً مفيداً للسياسة الأمريكية، التي اكثرت من أخطائها نحو تركيا في السنوات القليلة الماضية، بداية من عدم اخذ الرؤية التركية بعين الاعتبار لحل ازمة الصراع في سوريا، وسعيها بإدارة من البنتاغون لإشعال سوريا أكثر واستمرار القتال فيها لأكثر من ست سنوات، ومن أجل ذلك سمحت لإيران بإدخال جنودها وميليشياتها لمساعدة الأسد ومنع انتصار الثورة بداية عام 2013، بعد ان أعاقت امريكا سقوط الأسد بحجة إسقاطه عبر مخرج دولي باسم مؤتمر جنيف يونيو 2012، بينما كانت الهدف الأمريكي استمرار القتال والصراع لحين تمكنها من ترتيب تقسيم سوريا حسب مخططاتها للشرق الأوسط الجديد، حتى لو اضطرت إلى توريط روسيا فيها، بعد فشل إيران وميليشياتها منذ منتصف عام 2015، وسعي أمريكا أيضا توريط تركيا في صراع مرير ومدمر مع روسيا، بعد اسقاط الطائرة الروسية سخوي في نوفمبر 2015، وهو الأمر الذي كشفته روسيا وأدركته استخباراتياً، فعكسته إلى تعاون اقتصادي وامني وعسكري مع تركيا في سوريا وخارجها، في ضربة مضادة لأمريكا.
أما فكرة المنطقة الآمنة، فهي فكرة أمريكية ساذجة جاءت بها بعد عملية عفرين كمخرج من أخطائها، لعلمها أن الدولة التركية من أوائل الدول التي طرحت فكرة المنطقة الآمنة، منذ أربع سنوات تقريبا، فعدد اللاجئين السوريين في تركيا بلغ أكثر من ثلاثة ملايين، وكلّف الخزينة التركية أكثر من خمسين مليار دولار، بين مساعدات رسمية وأهلية، ومن جمعيات خيرية متعددة، فالحديث الأمريكي عن المنطقة الآمنة الآن ليس صادقاً، وإنما بهدف حصر عملية «غصن الزيتون» على منطقة عفرين فقط، بينما تركيا أسمعت امريكا أن هدفها ليس عفرين فقط، وإنما منبج وغرب الفرات، وليس ما يمنع وصولها إلى الرقة، حيث ان معظم سكانها من السوريين العرب السنة، وليس فيها إلا قلة كردية حتى يطالبوا ببقائها تحت سيطرة حزب العمال الكردستاني، أو تحت المسمى الأمريكي لعناصره باسم قوات سوريا الديمقراطية (قسد) أو غيرها، فتركيا تريد حلولاً لتواجد الإرهابيين على حدودها أولاً، وتريد حلولاً لمعاناة ثلاثة ملايين لاجئ سوري على أراضيها ثانياً، وتريد حلا لحالة عدم الاستقرار والاستنزاف وسفك الدماء في سوريا والمنطقة ثالثاً.
لقد قدّمت أمريكا وعودها بسحب الميليشيات الإرهابية من عناصر قوات حماية الشعب الكردية من منبج، بعد إخراج «داعش» منها، عندما كانت تركيا ترفض دخولها غرب الفرات، ولكن أمريكا لم تلتزم بوعودها بالانسحاب وواصلت تقديم الدعم العسكري للمنظمات التي تصفها تركيا بالمنظمات (الإرهابية)، فكما حالفت تركيا امريكا بمحاربة «داعش» كان على أمريكا أن تحالف تركيا بمحاربة المنظمات الارهابية من وجهة نظر تركية، وليس دعمها عسكريا ضد تركيا، فكل الوعود الأمريكية لتركيا بوقف الدعم لحزب الاتحاد الديمقراطي وقواته حماية الشعب الكردية، لم تلتزم بها امريكا أيضاً، بل إن الوعد الأخير الذي قطعه الرئيس الأمريكي ترامب للرئيس التركي أردوغان عبر المكالمة الهاتفية بوقف الدعم عنها قبل ثلاثة أيام، ليس هناك من دليل على الوفاء به، لا الآن ولا في المستقبل، لأن للبنتاغون استراتيجية عسكرية أخرى غير سياسة البيت الأبيض السياسية، وهذا مرد بعض التناقضات في السياسة الأمريكية نحو تركيا والمنطقة.
إن أكبر الأخطاء الأمريكية نحو تركيا هي مراهنتها على التحالف مع الأحزاب الكردية، وهي تعلم ان هذه الأحزاب هي امتداد حقيقي لحزب العمال الكردستاني الارهابي بحسب القوائم الدولية، وهذه قناعة توصل لها سياسي امريكي، بانه لا يمكن إقناع تركي واحد بوجود فرق بين حزب العمال الكردستاني (ب ك ك) في تركيا وحزب الاتحاد الديمقراطي في سوريا (ب ي د) أو ميليشيات قوات حماية الشعب (ب ي ج)، أو قسد أو غيرها، ولكن أمريكا وتحديداً البنتاغون يراهن على الأحزاب الكردية وليس على الشعب الكردي، كأداة لتقسيم سوريا، وهذا التقسيم ليس محبة بالأكراد، وإنما اتخاذهم جنوداً مرتزقة لتقسيم سوريا، وإقامة كيان كردي يستخدم كمستعمرة امريكية في سوريا، وتحديداً لإقامة قواعد عسكرية مرخص لها دوليا وقانونيا من هذا الكيان الكردي المنشود، وهذا خطأ كبير يرتكبه البنتاغون أيضاً، فلا يمكن ان ينجح بصناعة كيان سياسي جديد شمال سوريا بلا أرض ولا شعب، عن طريق التطهير العرقي للسوريين العرب شمال سوريا، فالترابط الجغرافي للتواجد الشعبي الكردي شمال سوريا غير موجود، وهذا لا يمكّن امريكا من تشكيل كيان سياسي لهم، فضلا عن انه لا يوجد دليل واحد على ان الأكراد السوريين يسعون إلى إقامة كيان سياسي لهم في سوريا، والأحزاب الكردية في سوريا لا تمثل الشعب الكردي أولاً، وهم مواطنون سوريون لا مصلحة لهم بالقتال والموت من أجل مشاريع امريكية لمستقبل سوريا، عن طريق تقسيمها وإقامة قواعد عسكرية موازاة بالقواعد العسكرية الروسية هناك.
منبج تمثل نموذجا للاحتلال الكردي لها، إذ يشكل العرب 90% من سكانها، فكيف يمكن إبقاؤها تحت هيمنة حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (ب ي د) وميليشياته المسلحة، وطرد اهلها إلى تركيا لتحميل الاقتصاد التركي مسؤوليتهم. تركيا تخبر أمريكا بأخطائها وتطالبها بسحب قواتها الأمريكية من منبج أولاً، وسحب القوات التابعة للأحزاب الكردية من منبج وغيرها ثانياً، والعمل والتعاون مع تركيا لإعادة سكان عفرين ومنبج والرقة وغيرها إليها، فتركيا أعادت سكان جرابلس والباب إليهما، بينما لم تسمح قوات حزب (ب ي د) إعادة سكان عين العرب إليها، رغم تحريرها من «داعش» قبل جرابلس بسنوات، فالسياسة التركية تقدم مشروعا يعالج معاناة الشعب السوري أولاً، ويخفف عن شعبها التركي الأعباء الداخلية ثانياً، ويحمي الشعب الكردي من الموت بلا فائدة ثالثاً، وهذا ينبغي أن يشمل شرق الفرات وغربها وليس في عفرين فقط، فإنهاء معاناة الشعب السوري المشرد في الأرض أولوية ينبغي ان تتسابق إليها الدول الإنسانية، وهي تراه يموت قتلاً من إيران وروسيا ومن الغرق ومن البرد والثلج، وهو يهرب من ظلم الأسد وأسلحته الكيميائية وبراميله المتفجرة.
على السياسة الأمريكية أن تصحح أخطاءها مع تركيا أولاً، وفي سوريا ثانياً، فتركيا تنظر إلى تحسين علاقاتها مع امريكا كدولة حليفة استراتيجياً، وتريد حماية الشعب الكردي في سوريا من الأخطاء او الأوهام او الأحلام أو المغامرات لبعض جنرالات البنتاغون الأمريكي، فلا يمكن لأمريكا ان تتجاهل وجود شعوب ودول في المنطقة، وأن لهم خيارات أمنية وسياسية قد لا توافق الخيارات الأمنية والسياسية الأمريكية، فالأخوة الكرد لن ينجحوا في تحقيق الأحلام الأمريكية لتقسيم سوريا، لأن تركيا لن تسمح باقامة دولة كردية شمال سوريا إطلاقاً، وامريكا أمام خيار الاصطدام مع تركيا أو التعاون معها، ومواصلتها لأخطائها السابقة لا يعني إلا الاصطدام مع تركيا، وهو ما تتمناه روسيا والصين وإيران وغيرها من الدول، بينما مصالح تركيا وأمريكا ان تبحثا عن التعاون المشترك بما يضمن مصالحهما ومصالح الشعب السوري بكل قومياته العربية والكردية والتركمانية وغيرها، وإذا كانت امريكا جادة في منافسة روسيا فليس بالضرورة ان يكون ذلك في سوريا، ولا على حساب الأخوة الأكراد، لأن مصالح الشعب الكردي هي في التعاون مع أخوته العرب والأتراك والإيرانيين وشعوب المنطقة جميعها، وليس القتال ضدهم ولمصالح دولية استعمارية، فالأمريكيون ليسوا شركاء للأكراد وإنما يستغلونهم لتحقيق أهدافهم الأمريكية في سوريا والمنطقة فقط.
كان هناك أمل بأن يزيل الاتصال الهاتفي بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ونظيره الأمريكي دونالد ترامب، الخلاف في سياسات البلدين تجاه سوريا عقب عملية "غضن الزيتون" على وجه الخصوص، وأن يساهم في تقريب المواقف بينهما..
لكن لم يحدث ذلك، بل العكس، زادت حدة الخلاف في وجهات النظر، وتباعدت المسافة أكثر بين الطرفين، إلى درجة أن الانسجام غاب حتى عن البيانات الصادرة من أنقرة وواشنطن بشأن الاتصال.. بل إن المجمع الرئاسي التركي نفى بعض العبارات الواردة في بيان البيت الأبيض!
وهذا ما أظهر بوضوح أن المستجدات الأخيرة في سوريا زادت من عمق الهوة بين أنقرة وواشنطن.
مواقف متعارضة
بحسب التصريحات والبيانات الصادرة حول الاتصال الهاتفي يمكن تلخيص مواقف الطرفين بشأن القضايا الرئيسية على النحو التالي:
- تحدث أردوغان عن سريان ومشروعية عملية "غصن الزيتون"، وأوضح لترامب أن العملية ستستمر حتى القضاء التام على معاقل وحدات حماية الشعب، مطالبًا بوقف الولايات المتحدة تسليحها هذا التنظيم فورًا.
- أما ترامب فأعرب عن قلقه من النتائج السلبية المحتملة لعملية عفرين، وطلب جعل العملية محدودة والحيلولة دون وقوع ما يؤدي إلى مواجهة بين قوات البلدين. ودعا إلى وقف الحملة المناهضة للولايات المتحدة في تركيا..
نواقيس الخطر
المواقف المتناقضة في القضايا الرئيسية تعني عمليًّا ما يلي:
تركيا عازمة على تنفيذ عملية عفرين حتى النهاية، ثم توجيه العملية نحو منبج، والتوسع فيها حتى منطقة شرق الفرات حيث تتمركز وحدات حماية الشعب.
لكن في حال تنفيذ الجيش التركي عملية ضد منبج ماذا ستفعل الولايات المتحدة، حامية تلك المنطقة؟ هل تحدث مواجهة بين الجيشين التركي والأمريكي؟
دعا ترامب تركيا إلى اتخاذ الحيطة الشديدة في هذا الخصوص.. والشيء نفسه ينطبق على الولايات المتحدة..
باختصار، هناك خطر مواجهة جدية بين عضوين في حلف الناتو. وللأسف لم يقضِ الاتصال الهاتفي بين أردوغان وترامب على هذا الخطر.
أزمة ثقة
موقف أنقرة من بيان البيت الأبيض يظهر عدم ثقتها المتزايد بواشنطن. وعدم وفاء ترامب بالعهود المقدمة سابقًا له دور في أزمة الثقة هذه.
ولا شك أن من أسباب نكث ترامب بوعوده الفوضى الناجمة عن وجود أكثر من مرجع في الإدارة الأمريكية. فالخلاف بين ما يجري الحديث عنه في الهاتف وما يصدر من تصريحات وبيانات ناتج عن هذه الفوضى.
وفي جو عدم الثقة هذا، يدور النقاش حول غاية ونجاعة فكرة "المنطقة الآمنة" بعمق 30 كم، التي طرحها وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون.
من سيسيطر على هذه "المنطقة"؟ أي المناطق ستشمل؟ ماذا سيكون مصير قوات حزب الاتحاد الديمقراطي داخل وخارج المنطقة؟ كل تلك قضايا يجب بحثها بالتفصيل..
في الواقع، يمكن أن يكون مقترح تيلرسون مجالًا لتعاون جديد بين تركيا والولايات المتحدة. طبعًا في حال تأسيس الثقة المتبادلة بينهما..
في مؤتمر بوتسدام، الذي عُقِد للبحث في مصير ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية (17 تموز- يوليو 1945)، سأل الرئيس الأميركي هاري ترومان الزعيم السوفياتي جوزيف ستالين عن أفضل الوسائل العملية لمنع تكرار تلك الحرب المدمرة.
وأجابه ستالين وهو ينفث دخان غليونه في القاعة الفارهة، بالقول: إذا كان المنتصر هو الذي يفرض شروطه وإرادته، فإن قواتنا ستثبت احتلالها للجزء الشرقي من ألمانيا، بينما تستمر قواتكم في هيمنتها على الجزء الجنوبي.
وهكذا بقيت تلك القاعدة التي رسمها ستالين سارية المفعول حتى بعد مشاركة بريطانيا وفرنسا في أخذ نصيبهما من الأراضي الألمانية المحتلة.
وخلال زيارتي للألمانيتَيْن بعد التقسيم، التقيت السفير خليل مكاوي في برلين الشرقية أواخر عام 1977. ومن هناك انطلقت إلى بوتسدام حيث سمحت لي السلطات بالإطلاع على وقائع محاضر جلسات الزعماء الأربعة، أي ستالين وتشرشل وديغول وترومان (لأن روزفلت كان قد مات). والانطباع الذي كوّنته عن مواقف الأربعة من خلال جلسات استمرت نصف شهر تقريباً، هو أن تقسيم ألمانيا كان الحل العملي الذي اتفق عليه المنتصرون، كونه يؤدي إلى تطويق اندفاع هذا الشعب المقاتل، ويصدّه عن تكرار محاولات التوسع في أوروبا.
وفي الوقائع، ترددت داخل الاجتماعات، أكثر من مرة، عبارة «كعكة الملوك». وهو المصطلح الذي أطلقه الأوروبيون على بولندا، البلاد التي تعرضت للقضم والنهش من قبل روسيا وألمانيا والنمسا خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وصولاً إلى الحربين العالميتين، الأولى والثانية.
الأسبوع الماضي استخدم خبير العلاقات الدولية في روسيا أنطوان مارداسوف مصطلح «الكعكة السورية»، متوقعاً أن يتمحور الاتفاق بين أنقرة وموسكو حولها. وقد سبق للرئيس فلاديمير بوتين أن أشار في إحدى خطبه إلى «الشعوب السورية» المتحدة، على شاكلة شعوب روسيا الاتحادية. ثم تراجع عن هذا الوصف عندما انتقده مسؤولون في نظام بشار الأسد لأنه أوحى للمعارضة باقتطاع حصتها من «سورية المفيدة»، أي من سورية التي تضم المدن الكبرى مثل دمشق وحلب وحمص وحماة وإدلب، إضافة إلى الساحل الممتد حول اللاذقية وطرطوس.
بعد طرد «داعش» من العراق وسورية، قررت إدارة الرئيس دونالد ترامب مراجعة موقفها من الدور السوري في الشرق الأوسط، والذي تعتبره شبيهاً بدور ألمانيا داخل أوروبا، أي دور دولة مشغولة دائماً بتحدي جاراتها وإقلاق أمنها في: تركيا والعراق ولبنان والأردن وإسرائيل. واستناداً إلى الأحداث السابقة، فإن الولايات المتحدة تعتبر دمشق عاصمة للتنافس الإقليمي الذي استدعى التدخل الخارجي بهدف ضبط التوتر الذي تنشره في المنطقة. وعليه قررت تأييد مقترحات الجارات المطالبة بسلامة حدودها.
عقب نجاح إيران في تثبيت مواقعها داخل العراق وسورية ولبنان، باشرت طهران في إرسال قوات حرس الثورة إلى الحدود مع إسرائيل. وفي كانون الأول (ديسمبر) الماضي، شوهد قيس الخزعلي، قائد «عصبة أهل الحق» في العراق، يزور الحدود برفقة أحد رجال «حزب الله».
وعلى الصعيد الاستراتيجي، فإن تهديد إسرائيل المتواصل من جانب إيران دفع بنيامين نتانياهو إلى الاتفاق مع الرئيس بوتين على مدّ حدوده الآمنة مسافة أربعين كيلومتراً داخل سورية.
ولم تكن الغارات التي يشنها الطيران الإسرائيلي ضد مستودعات أسلحة تخص «حزب الله» سوى دليل على رفض كل مراعاة لروسيا في منطقة تعتبرها إسرائيل حيوية بالنسبة لأمنها. وأشار المراقبون في حينه إلى أن القصف الإسرائيلي يكشف عمق العلاقة والتنسيق القائم بين روسيا وإسرائيل في شأن الوضع في سورية. وهذا يعني وجود تفاهم بينهما يسمح بحرية التحرك في الأجواء السورية عندما يتعلق الأمر بأسلحة وصواريخ يمتلكها «حزب الله.» أما بالنسبة إلى أمن تركيا، فإن قرار الرئيس رجب طيب أردوغان شنّ حملة عسكرية ضد المقاتلين الأكراد في عفرين لم يكن أكثر من مدخل لتثبيت وجود قواته وتأمين منطقة آمنة طولها أربعون كيلومتراً.
تشير المعلومات إلى أن أردوغان اتخذ قراره عقب إعلان واشنطن إنشاء قوة أمن حليفة على طول الحدود مع تركيا قوامها 30 ألف مقاتل، تحت قيادة «قوات سورية الديموقراطية» (قسد). وتعليقاً على إعلان التحالف، أكدت أنقرة أن قرار واشنطن تدريب عناصر قوة حدودية في سورية خطوة مقلقة وغير مقبولة. لذلك صرح أردوغان بأن بلاده ستواصل التدخل في عفرين عبر عملية «غصن الزيتون»، والتي هي في حقيقتها حركة استكمال لعملية «درع الفرات».
وكانت أوساط ديبلوماسية قد نقلت عن وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف قوله إن موسكو نجحت في ضبط تركيا لعدة شهور قبل الاستفزاز الأميركي الأخير. ولمح في حديثه إلى مخاوف بوتين من احتمال نسف «مؤتمر الحوار الوطني» في سوتشي. ويرى المحلل العسكري الروسي ألكسندر غولتس أن ما يحدث في شمال سورية يتوافق مع وجهات نظر موسكو وأنقرة حول كيفية تنظيم السياسة الدولية. لذلك زار موسكو رئيس الأركان العامة في تركيا ورئيس جهاز الاستخبارات بهدف الحصول على موافقة بوتين قبل الغزو. وهذا ما حمل الأكراد على اتهام روسيا بالخيانة. ولكن لموسكو حسابات مختلفة مفادها أن هزيمة الأكراد تجعلهم مستعدين للارتماء في أحضان نظام بشار الأسد. وهذه ليست المرة الأولى التي تستخدم فيها روسيا البعبع التركي لجني مكاسب من الأراضي المستباحة. وتدّعي واشنطن أن روسيا وعدت الأكراد بالحصول على حكم ذاتي شرط التعاون مع الأسد في التحكم بملفي الحدود والأمن.
بقي السؤال المتعلق بالدوافع الحقيقية التي تقف وراء قرار عملية «غصن الزيتون» في عفرين: هل هو قرار مرتجل فرضته سياسة الأمن الداخلي في تركيا؟... أم هو تعبير عن استراتيجية قديمة كانت تظهر وتخبو بحسب العلاقات الاقتصادية؟ يقول المطلعون على مركز القرار في أنقرة إن الاحتمالين مطروحان منذ جنّد الرئيس الراحل حافظ الأسد عبدالله أوجلان، ووضعه في خدمة علاقاته مع تركيا. وقد ارتضى رئيس «حزب العمال الكردستاني» (ب ك ك) بهذا الدور لإيمانه بأن الأسد سيتساهل معه نتيجة نزاعه مع جماعة الإخوان المسلمين.
باشر أوجلان حملاته ضد تركيا عام 1984، متخذاً من منطقة البقاع اللبنانية مركزاً لتدريب وحدات الجهاد، وملاذاً آمناً له ولأنصاره. ولما طلبت أنقرة من واشنطن مساعدتها في البحث عن أوجلان، فوجئت بتزويدها بصور تمثله وهو يخرج من مكتبه في دمشق. وأرسلت تركيا عدداً من الصور إلى حافظ الأسد مع تهديد سافر بغزو العاصمة السورية في حال تمنّع عن تسليم زعيم «حزب العمال الكردستاني». جهاز الاستخبارات السوري وضع خطة لتهريب أوجلان إلى نيروبي في كينيا أي إلى حيث سهّل للاستخبارات التركية خطفه ومحاكمته.
وربما تكون تلك العملية أحد أهم الأسباب التي تقف حائلاً دون عودة المياه إلى مجاريها بين دمشق وأنقرة. ثم جاءت الحرب الأهلية في سورية لتلقي في أحضان تركيا نحواً من ثلاثة ملايين ونصف المليون لاجئ. وهي في صدد إعادتهم بصورة تدريجية، خصوصاً بعدما اكتشفت أن بعض عناصرهم ينتمي إلى الاستخبارات، وإلى زارعي المتفجرات في إسطنبول.
مرة أخرى، يكشف راعيا النظام السوري- أي روسيا وإيران- أن دون التوصل إلى سلام دائم فوق أراضي سورية المفيدة مسافة زمنية طويلة... أطول من السنوات السبع التي قضاها هذا الشعب المعذب وهو يهرب من دمار إلى خراب... ومن ملجأ إلى معسكر!
لم يعد الصراع السوري، منذ سنوات طويلة، صراعا داخليا، يجري من حول رهانات سياسية تتجسد في تغيير النظام الاستبدادي، والانتقال إلى نظام سياسي تعددي وديمقراطي، يخرج البلاد والشعب من المحنة التي عاشها خلال العقود السابقة، وأدت إلى الانفجار. فقد تحول بسرعة إلى صراع متعدّد الأبعاد، داخلي وإقليمي ودولي، واتخذ ويتخذ، بشكل متزايد، طابعا شموليا، تلتقي فيه عدة رهانات ثقافية واجتماعية وجيوستراتيجية. ولذلك، بدل أن ينحو إلى الهمود والتراجع، يزداد، مع مرور الوقت، تهيكلا وتعقيدا. ويصبح التوصل إلى حل يرضي جميع الأطراف، وأولها الطرف السوري، المعني الأول بهذا الحل، صعب المنال في المدى المنظور، على الرغم من الاستعراضات الكثيرة، وعقد المؤتمرات، وتكرار جلسات الحوار والتصريحات الحماسية لهؤلاء وأولئك.
في خفايا الأزمة المديدة
وفي اعتقادي أن الحرب، المستمرة في سورية منذ سبع سنوات، تعكس تفجر أزمات ثلاث كبرى، ما زالت تعمل منذ عقود طويلة في المنطقة والعالم، وجاءت ثورات الربيع العربي لتفجرها، نظرا لما تمثله المنطقة من موقع في توازنات علاقة القوة والنفوذ الإقليمية والدولية. وهي مستمرة من خلال الحرب السورية التي تحولت إلى حاضنة لها جميعا، ومسرح نشر واستعراض القوى المتنازعة فيها، نظرا لما تمثله سورية أيضاً من موقع متميز على تقاطع هذه الأزمات الثلاث، وباتصال مباشر بقواها الرئيسية الإقليمية والدولية.
الأولى هي أزمة نظام الاستبداد الذي عم المنطقة، وحكم شعوبها بأساليب القرون الوسطى ووسائلها، من وراء شعارات التقدم والاشتراكية والقومية والحداثة لدى بعضهم، والحفاظ على الهوية الدينية والإرث الثقافي لدى البعض الآخر، والصحوة الإسلامية والعداء لإسرائيل والصهيونية والغرب لدى البعض الثالث. وقاد، في جميع البلاد، بدرجات متفاوتة ولكنها متماثلة، إلى حكم القلة واحتكار السلطة. وأدّى، مع مرور الوقت، إلى قطيعة كاملة بين الطبقة الحاكمة والمجتمع بأغلبيته، لا يضمن تجاوزها سوى الاستخدام الموسع والشامل والمتعدّد الأشكال للعنف المادي والمعنوي، وقهر المختلفين في الرأي وسحق المعارضين والمحتجين وقتلهم إذا احتاج الأمر، أحياناً بالسر وبأعداد محدودة، أما الآن فعلنا وفي عمليات إبادة جماعية.
وفي سياق هذه القطيعة والطلاق بين الطبقات الحاكمة والشعب، تعطلت شروط التنمية والاستجابة حتى المحدودة لمطالب المجتمعات وتطلعاتها، وغزا البؤس والفاقة والجهل قطاعاتٍ متزايدة من السكان، وزاد التوتر واللجوء إلى العنف. وأصبح الفساد المستشري في دوائر السلطة والإدراة والمؤسسات المرتبطة بها الركن الثاني للنظم القائمة بعد استخدام العنف. وتحول من فساد شخصي وعرضي، يعكس أنانية الأفراد وغياب شعورهم بالواجب والمسؤولية وانعدام النزاهة، إلى منهج في القيادة، بمقدار ما أصبح شراء الضمائر وإرضاء فئات معينة من السكان الوسيلة الوحيدة لبناء قاعدةٍ اجتماعيةٍ، لنظام يعتمد أكثر فأكثر على الطبقة الزبائنية، بعد أن فقد مقدرته على التواصل مع المجتمع، والرد على مطالب طبقاته وفئاته المختلفة، وقطع الأمل بإمكانية توفير وسائل كسب تأييدها وثقتها.
والأزمة الثانية هي أزمة النظام الإقليمي الذي بقي كسيحاً، بسبب فشل الدول العربية في تفعيل جامعة الدول العربية، وإيجاد حل للصراعات القومية والدينية، والذي انهار أيضا على إثر الصراعات التي أطلقها انفجار الثورات، ضد النظم الاستبدادية والفاسدة والعاجزة معا، والتي فتحت معركة الصراع على الهيمنة الإقليمية والسيطرة على المشرق بين القوى الكبرى المتنافسة في الإقليم، فقد دفع القلق الذي استبد ببعض النظم جرّاء انتشار هذه الثورات إلى الخروج من حدودها، من أجل خوض معاركها على أراضي البلاد الأخرى، بدل أن تضطر إلى خوضها على أراضيها، وقطع الطريق على تفجر ثوراتها الشعبية، كما أطلق انهيار بعض الدول أمام ثوراتها العنان، لدى بعض النظم التي لا تزال تتمتع بحد من التماسك، لأحلامها الإمبراطورية واستغلال الأوضاع القلقة لتحقيق أهدافها التوسعية، أو بسط سيطرتها على مواقع مختارة، أو اقتطاع مناطق نفوذ لها في محيطها والمنطقة. وفتحت هذه الصراعات المتقاطعة الحرب من أجل إعادة ترتيب المواقع والمراكز الاستراتيجية. وكانت أيضا امتحانا لقوة التحالفات القائمة بين دول الإقليم، في ما بينها، وبينها وبين القوى الدولية. وهي حرب طاحنة للسيطرة على الشرق الأوسط، تكسرت فيها جميع المواثيق والالتزامات الدولية، وتجاوز عنفها كل حدود الانتهاكات التي عرفتها الدول المتحضرة في العصر الحديث.
والأزمة الثالثة هي أزمة نظام العلاقات الدولية التي لا تزال تتفاقم منذ انهيار الاتحاد السوفييتي السابق، وفشل الولايات المتحدة الأميركية في فرض قيادتها العالمية، بعد خسارتها الحروب العديدة، وإخفاقها الذريع في إدارة النزاعات الدولية في أفغانستان والعراق وليبيا وكوريا الشمالية وإيران وغيرها، وإضاعة حلف شمال الأطلسي (الناتو) الذي يمثل القوة العسكرية الدولية الأكثر تأثيرا في العالم هويته، وعجز أعضائه عن التفاهم على أهداف وأجندة واحدة، بالإضافة إلى تعطيل مؤسسات الأمم المتحدة وشللها. ولا شك أن حدة النزاعات الدولية التي جرت ولا تزال في المشرق، والتي استدعت وضع موسكو 11 فيتو ضد قرارات دولية إجماعية، في ما يتعلق بالمسألة السورية وحدها، أجهزت على آخر ما تبقى من دور للامم المتحدة ومجلس الأمن. وهذا ما أكده فشله في تطبيق قراراته والنجاح في أي مبادرة أو جهد لتقديم حماية للمدنيين المعرّضين لحرب إبادة جماعية، وتنفيذ قرار كسر الحظر والحصار المفروض على المدن والقرى والأحياء المحرومة من الغذاء والدواء سنوات عديدة متواصلة. وكان ذلك كله من الأسباب العديدة التي أفقدت المنظمة الدولية الراعية للسلام والأمن الدوليين صدقيتها، وحرمتها من المكانة والرمزية التي كانت تحظى بها، حتى أصبح نشطاء حقوق الإنسان يتردّدون في الكتابة إلى الأمين العام للأمم المتحدة، لحثه على القيام بأي جهد أو مساعدة.
والواقع أن انهيار القيادة الأميركية للسياسة الدولية بدل أن تفتح الطريق أمام ظهور قيادة جديدة دولية أكثر اتزانا وحيادية وتعددية، وقبولا من المجتمع الدولي، أي أكثر صدقية وفعالية، أثارت شهية دول عديدة، صغيرة وكبيرة، لملء الفراغ الذي تركه الانسحاب الأميركي النسبي، والسعي إلى فرض أجندتها الخاصة، وإبراز تحرّرها من الالتزامات القانونية وتحديها ما كان يسمى الشرعية الدولية. وأدى فشل محاولات إصلاح نظام الأمم المتحدة ومجلس الأمن وتوسيع دائرة عضويته، وإدخال دول جديدة إليه، إلى ما يشبه العودة بحقل العلاقات الدولية إلى ما قبل اتفاقية ويستفاليا في القرن السابع عشر التي كرست، مبدئيا، قاعدة احترام سيادة الدول، وحقها في الحفاظ على حدودها الجغرافية، وأعادت إلى الحياة في القرن الواحد والعشرين الحق القديم في الفتح والغزو، وضم أراضي الغير، ومكافأة القوة، والاعتراف بما تحققه من مكاسب، بصرف النظر عن الخاسرين والخسائر الجانبية.
سورية مسرح لكل الحروب
تلتقي هذه الصراعات والحروب الطويلة الثلاث الجارية اليوم، وتتقاطع على الأرض السورية، ومن حول القضية السورية. تدافع نظم الاستبداد المنقطعة عن شعوبها والخائفة من انتفاضاتها، والمستعصية، في الوقت نفسه، على أي إصلاح، عن نفسها بشراسةٍ لا حدود لها، وتجعل من الصراع الداخلي السوري ملتقى حروبٍ أهلية وإقليمية، متقاطعة، تشارك فيها قوى كبرى، وتصرف عليها موارد غير معهودة في أي صراعات سياسية، أو ثورات شعبية ضد نظم استبدادية. في سورية، لا يقتصر الأمر على دفاع نظام الأسد الهزيل عن نفسه بقواه الكبيرة التي راكمها خلال نصف قرن، وأعدها لهذا الحدث الجلل، وإنما يشارك في هذه الحرب، لكسر ظهر الثورة السورية، وتلقين السوريين، ومن خلالهم شعوب المنطقة بأكملها، درسا لا يمكن نسيانه، في ثمن الحرية وتكاليفها المادية والبشرية، النظام التيوقراطي الإيراني والنظام الروسي الذي يختزل بنفسه تاريخ القيصرية والإرث السوفييتي الشمولي في الوقت نفسه، ومعهما نظم المنطقة المختلفة الأخرى، بعضها لسحق إرادة الثورة الشعبية، وبعض آخر لاحتوائها واحتواء مضاعفاتها الإقليمية، كدول الخليج أو أغلبها.
ومن وراء هذه الحرب الهادفة إلى تقويض إرادة الثورة الشعبية التي أصبحت هاجس نظم المنطقة، تدور رحى حرب السيطرة الإقليمية التي تهدف هي نفسها أيضا إلى تعزيز مواقع الدول الكبيرة، واحدتها تجاه الأخرى، وضمان سيطرتها على مصادر الخطر، أو تعزيز قوتها بتحالفات موسعة، أو بالسيطرة على دول وعواصم أخرى، ومقايضتها مقابل تنازلات أو مواقع نفوذ أو أدوار أفضل على رقعة السياسة الدولية. ومن هنا، تبدو الحرب الإقليمية كأنها امتداد للحرب السورية الداخلية، بمقدار ما يرتبط الصراع على السيطرة الإقليمية بالسيطرة على سورية، ويتفق سحق الثورة الشعبية فيها، مع تعزيز قوة النظم الاستبدادية المهدّدة من التطورات المقبلة، وتعزيز نفوذها واستقرارها.
لكن الحرب الأعمق والأقل ظهورا (أو شفافية بالأحرى) هي الحرب الدولية لإعادة توزيع دوائر القوة والنفوذ بين الدول الكبرى المتنافسة على السيطرة العالمية. وتتحول الحرب السورية إلى امتحانٍ لمقدرات الدول الكبرى على القيادة والمبادرة والسيطرة. لا يعني هذا أن من يسيطر على سورية يضمن الوصول إلى القيادة العالمية، أو تثبيت ادعائه لها، لكنه يعني تأكيد دوره وحقه في المشاركة في صناعة السياسة الدولية، والشرق الأوسط هو إحدى الساحات النادرة المتبقية لإثبات الجدارة في الصراعات الخارجية، نظرا لما يمثله من ساحة مفتوحة لا تضبط العلاقات والنزاعات فيها أي اتفاقيات، ولا تتمتع بأي شكل من التنظيم الإقليمي، وكذلك لما تتميز به من موقع جيوسياسي وجيوستراتيجي وموارد استراتيجية حساسة، وما ينطوي التحكم بمساره ومصيره من رهاناتٍ تتجاوز الشؤون الاقتصادية والطاقة، وتمتد إلى مشكلات الأمن العالمي والخيارات (أو التوجهات) الفكرية والثقافية الدولية.
باختصار، أصبحت المعركة الدائرة في سورية منذ سنوات سبع معركة جامعة لثلاثة أنواع من الصراع:
الصراع على مستقبل النظام السياسي السائد في المنطقة، وهو نظام متهافت، ومنخور، ومهدد بالسقوط. ومن وراء ذلك، ولهذا السبب أيضا، معركة السيطرة الإقليمية، أي تحديد من هي القوى الإقليمية التي سوف ترث نظام ما بعد الاستبداد في المنطقة، وفي أي اتجاه، ولمصلحة أي قوة إقليمية سوف تصب، إيران أو تركيا أو إسرائيل أو التكتل العربي الذي يكاد يعلن عن نهايته من دون أن ينبس ببنت شفة. لكن مصير الشرق الأوسط، ونوعية القوى التي ستسيطر عليه، والأيديولوجيات التي ستهيمن على شعوبه ليست مسألة شرق أوسطية فحسب، لكنها تدخل أيضا في حسابات تحولات القوى الدولية. فمن خلال حسمهم المعركة السورية والإقليمية، يسعى الروس إلى موضعة أنفسهم في موقع أقوى مما كانوا يملكونه حتى الآن في سلم تراتب القوى العالمية، ويطمحون من خلال انتصارهم فيها إلى أن يفرضوا أنفسهم شريكا في السياسة الدولية، ويعترف لهم بدور أصيل في توجيه التوجهات والخيارات الكبرى، والمساهمة في رسم أجندة السياسة العالمية.
المِحنة السورية المستمرة منذ نصف قرن، لكن التي وصلت إلى مستويات غير مسبوقة من العنف، ليست من إنتاج الأسد ونظامه الدموي فحسب، لكنها الثمن الضروري لبقاء نظام الولي الفقيه في إيران وجميع النظم الاستبدادية الفاسدة والعاجزة عن الإصلاح. وجميعها تدافع في الحرب السورية عن نفسها، وتتفاهم على قطع الطريق على أي تغيير. الشعب السوري لا يدفع ثمن حريته فحسب، ولكن حرية جميع شعوب الشرق، وهذا هو أحد أكبر أسباب اشتداد معاناته، وتمديد أجل الحرب.
وبالمثل، ليس صعود القوة الإيرانية على حساب الكتلة العربية، وفي مركزها اليوم دول الخليج الغنية، هو السبب الرئيسي في الانهيار الإقليمي الراهن، وإنما تراجع قوة دول جامعة الدول العربية، أو بالأحرى فشلها، وإخفاق العرب في بناء نظام للأمن والتعاون بين الدول الإقليمية، يساهم في تكوين منظومة للتعاون الإقليمي، ويمنع حصول فراغ القوة الذي أثار شهية إيران، والدول الأخرى الإقليمية وغير الإقليمية. والشعب السوري يدفع أيضا من دم أبنائه ثمن هذا الفشل العربي والفراغ الاستراتيجي الذي تركه في المنطقة، وما أدى إليه من خلل في توازنات القوة الإقليمية، ودعوة إلى الطامحين والطامعين لاستغلاله لصالحهم.
ويسري المنطق نفسه على ما نشهده من تغوّل روسي في الفضاء المشرقي على صعيد العلاقات الدولية، فلا يرتبط هذا التغول بسياسة النأي بالنفس التي راعت بها واشنطن المصالح الإيرانية، وشجعت طهران على انتهاك الأعراف والمواثيق الدولية، والتوسع في الإقليم بوسائل لاشرعية، وإنما هو ثمرة انفجار أزمة العلاقات الدولية، وانقسام العالم من جديد بين محورين يتنازعان السيطرة والتوجهات العالمية السياسية والأيديولوجية، محور روسيا إيران الصين ودول البركس ومحور الدول الغربية واليابان وبعض الدول الشرق أوسطية. ويعود جزء من المحنة السورية أيضا إلى هذا الاختلال المتزايد في النظام الدولي، والفوضى المتنامية في فضائه على حساب القوانين والمواثيق والأعراف المتهاوية.
ليس ما يجري في سورية حربا عالمية تشارك فيها مجموعة كبيرة من الدول لاقتسام النفوذ والسيطرة والموارد، لكنها حرب عولمية، تتداخل فيها معارك السيطرة السياسية والإقليمية والعالمية. وهي أول مثال نموذجي لهذه الحرب التي تتفاعل فيها الصراعات على جميع المستويات، ويشعر فيها الجميع بالانخراط حتى من دون المشاركة في جهدها العسكري.
لم تكن سورية السبب في تفجر هذه الأزمات، لكنها ضحية التقائها على أرضها، بمقدار ما وجدت، من حيث الجغرافية السياسية والتوقيت الزمني، على مفترق طرق تقاطعت فيه جميع مستوياتها، في نقطة حساسة من التوازنات التي تقوم عليها النظم الثلاث المأزومة والمتفجرة: السياسية والإقليمية والدولية، أعني نظام الاستبداد المشرقي المهدد بالثورات الشعبية، والنظام الإقليمي المجتاح من قوى طهران الظلامية، والنظام الدولي الذي فقد توازنه القديم مع تنامي عجز الولايات المتحدة عن القيادة بل فشلها، وانحسار قوة الغرب وهيمنته العالمية، وبروز شهية القوى الجديدة، الصاعدة أو الناقمة، وإرادتها للتقدم ومحاولة السيطرة عليه، أو تعديل توازنات القوى لصالحها فيه.
نحو انتداب دولي متعدّد ولا حلول
ليس هناك حل سريع ولا منفرد لهذه الأزمات الثلاث الكبرى. ومما يزيد من تعقيد المشكلة، وتضييق فرص الحل الرهانات الإقليمية والدولية المتنامية التي تدخل الآن في الصراع، والتناقض الكبير في تصور كل منها لمصالحها الاستراتيجية والأمنية، وادّعاء بعضها الحق في المشاركة في تقرير مصير سورية ومستقبل أبنائها، إما لما قامت به من استثمارات قبل الحرب وبعدها، أو لما يرتبط به مشروعها من حاجةٍ إلى الفضاء السوري، أو لقربها منها، أو ولاء نظامها المتهاوي السابق لها. هكذا لا يوجد حل سوري يمكن أن يرضي طهران التي تعتبر سورية منطقة نفوذ شرعي ودائم وكامل لها، بسبب ما استثمرت فيها منذ عقود، وما تعتقد أنه حقها في الدفاع عن نظامٍ موال لها وحليفها، وصيدها الأثمن في السنوات العشر الماضية، وأن تقبل به، في الوقت نفسه، دول الخليج العربي والسعودية التي تعتبر سورية، عن حق، خط الدفاع الأول عن أمنها الوطني، وكذلك تركيا التي كانت سورية المدخل الرئيسي لها إلى المشرق العربي، بعد قطيعة تاريخية طويلة، وسوقا مفتوحا لبضائعها، وشريكا اقتصاديا واعدا منذ توقيع اتفاقية التجارة الحرّة في منتصف العقد الأول من هذا القرن، وما بالك بقبول إسرائيل التي ترى في طهران النازعة إلى امتلاك السلاح النووي الخطر الأكبر عليها في المنطقة، وتعتبر أي وجود لإيران وحرسها الثوري ومليشياتها في سورية خطا أحمر، ولا تتردّد في التدخل في أي وقت لضرب مواقع لمليشياتها ولحزب الله في الأراضي السورية.
ولا يختلف الامر بالنسبة للمحورين الدوليين اللذين يضمّان، من جهة، تحالفا روسيا إيرانيا، وتقف وراءه الصين وكبريات دول أميركا اللاتينية، والمحورالغربي الذي تقوده الولايات المتحدة. فقد تحولت سورية، في نظر موسكو، إلى المدخل الرئيسي لاعادة التوازن في العلاقات الروسية الغربية، وربما، في ذهنها، لقلب الطاولة على الغرب، في منطقةٍ حساسة من الناحية الجيوستراتيجية، واستعادة مكانتها الدولية، وتحسين موقفها التفاوضي على صعيد السياسات الدولية، بعد تهميشها الطويل منذ سقوط جدار برلين، في الوقت الذي لا ترى الدول الغربية، والأوروبية بشكل خاص، في سورية شريكا تقليديا تاريخيا، كانت في أساس انشائه كدولة في العصر الحديث، وإنما، أكثر من ذلك، مفتاحا أساسيا للحفاظ على سيطرتها التاريخية على أهم عقدة مواصلات جيوسياسية ومسرح لاستعراض القوة والنفوذ في الوقت الراهن، من دون الحديث عن موارد المشرق الاقتصادية وأسواقه وموقعه في الميراث الثقافي العالمي وإرثه الديني.
لهذه الأسباب، لن يكون من السهل التوصل إلى حل نهائي قريب للحرب السورية التي لم تعد سورية فحسب، لا بالوسائل السياسية عبر المفاوضات، سواء أكانت في سوتشي أو أستانة أو جنيف، ولا بالوسائل العسكرية. ما نحن مهدّدون بالحصول عليه في الوضع الراهن هو تكريس الوضع القائم مع صراعاتٍ أخيرةٍ على رسم حدود مناطق النفوذ، وتحويل سورية إلى جزر معزولة، أو مناطق شبه آمنة، تضمن الحد الأدنى من عودة الحياة الاقتصادية للبلاد، تحت سلطات انتداب متعدّدة، تحتكر وظائف السيادة واستخدام القوة، تنسق فيما بينها وتتنازع، في الوقت نفسه، على إدارة الأزمة المستديمة، بانتظار أن تتبلور معالم النظام الدولي والنظام الإقليمي الجديدين في امتحان القوة المتصاعد الذي أطلقه انهيار التوازنات القديمة.
السؤال الأهم هو: ماذا ينبغي علينا، نحن السوريين، أن نفعل في هذه الحالة، والعرب ليسوا بعيدين عنا، لمواجهة هذا المصير، والانتقال من وضعنا الراهن كضحية للصراعات الإقليمية والدولية إلى فاعل فيها؟
أول ما يلفت النظر في "لا ورقة" وزير الخارجية الأميركي، ريكس تيلرسون، المعلنة أخيرا، إعلانها طيّ صفحة ما سمي "الانكفاء الأميركي"، والإبقاء على وجود عسكري أميركي مؤثر في أفغانستان والعراق وسورية. هذه الخطوة هي "مبدأ ترامب" الذي أقره جنرالاتٌ تزايد نفوذهم في السياسة الخارجية الأميركية بعد فوز دونالد ترامب بالرئاسة، وتم التوصل إليه عبر مراجعاتٍ أنجزتها العسكرية الأميركية، أنهت الميل إلى "الانكفاء" من سياسات أميركا الخارجية، واستعادت الميل إلى التدخل المفتوح في الخارج، الذي طُبق جزئيا قبل مغادرة باراك أوباما البيت الأبيض، وتُرجم إلى تموضع عسكري وازن في سورية، ما كان عسكر واشنطن ليفوّتوا فرصة احتلاله بديلا استراتيجيا للعراق، بما له من أهمية استثنائية بالنسبة لسيطرة واشنطن على المجال الأوراسي بمجمله.
تشير "لا ورقة" تيلرسون إلى أنه ستكون هناك انعطافة مفصلية في السياسة الأميركية، وأن تحولا بعيد المدى يمكن أن يترتب عليها بالنسبة للمنطقة العربية/ الإسلامية عموما، ولسورية خصوصا، التي تعاني الأمرّين من عدوان عسكري روسي على شعبها، يحتل مناطق عديدة منها، مهمته فرض حل عسكري/ سياسي مخالف للقرارات الدولية، تعمل موسكو للانفراد بتحقيقه وجني مغانمه، بسحق سورية عسكريا وسياسيا، وفرض بشار الأسد رئيسا على شعبها الرافض له ولنظامه، مكافأة له على بيعها وطنه نصف قرن، فترة قابلة للتجديد كل خمس وعشرين سنة.
تضمر سياسة واشنطن الجديدة منطوياتٍ متعدّدة، يجب أخذها بالحسبان في أي جهد وطني يسعى إلى تحقيق أهداف السوريين في الحرية والكرامة، أهمها:
أولا، حجم الوجود العسكري الأميركي الحالي غير الشرعي في شمال سورية وجنوب شرقها وجنوب غربها، والموزع على عدد كبير نسبيا من القواعد العسكرية، ليس نهائيا، بل هو حجمٌ أولى يرجّح أن يبني عليه حضور مستقبلي موسع ومديد، تقول "لا ورقة" تيلرسون إن دوره سيتخطّى التصدي للمشكلات المحلية إلى مواجهة المشكلات الإقليمية الكبرى، مثل مشكلة انتشار إيران خارج حدودها، الذي قرر ترامب إخراجه من العراق ولبنان واليمن، ناهيك عن سورية ومنطقة شرق المتوسط والخليج العربي. يحمل الوجود العسكري الأميركي في سورية طابعا دائما، وليس صحيحا أن غرضه هو النفط والغاز، كما تقول تحليلات سورية عديدة. وهو مسألة وطنية بامتياز، ومن واجب السوريين المبادرة إلى تقويضه من خلال عقد اجتماعي/ سياسي وطني/ ديمقراطي، ينتجه حوار وطني شامل، تشارك فيه مكونات جماعتهم الوطنية جميعها، خصوصا منها عرب سورية وكردها، يخرجهم معا من احتجاز استبدادي، سلبهم حقوقهم بوصفهم مواطنين أفرادا، ويعترف بحقوق الكرد القومية، باعتبارهم مكونا وطنيا رئيسا، لتنتفي بتفهمهم قدرة أميركا على التلاعب بهم من جهة، وبوحدة سورية وسيادتها من جهة أخرى، وكي يظهر وجودها العسكري في بلادنا على حقيقته احتلالا يرفضه السوريون.
ثانيا، لن تنفرد موسكو من "لا ورقة" تيلرسون بحل المسألة السورية. ولن تنجح في بلوغ أهدافها الخاصة في سورية وجوارها، لأن واشنطن لن تدير ظهرها لسورية وتعقيداتها بعد الآن، ولن تسمح بتحقيق موسكو مراميها من دون تفاهم معها يعطل جهودها الانفرادية، ويقنعها بقبول حصة من يحتل الموقع الثاني في سورية، وضمن التراتب الدولي. مع هذه الـ "لا ورقة" ستبدأ متاعب موسكو السورية. ومن المرجح جدا أن يكون الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، قد قرأ بقلق رسالة الطائرات بلا طيار التي "غزت" قاعدتيه في حميميم وطرطوس، وأفهمته كم هو هش وضعه السوري، وكم يمكن أن يكون الخطر عليه كبيرا، إن هو تمسك بوهم انفراده بالحل، وقدرته على إبقاء بشار الأسد في السلطة، بعد أن جعل الروس وجوده فيها مسألة محسومة، ليس باستطاعة أحد تحدّيها. ولعله لافتا أن رسالة الطائرات سبقت بأيام قليلة الإعلان عن "لا ورقة" تيلرسون التي حملت المضمون نفسه، وجوهره تحدّي روسيا في سورية، ورفض التعامل معها باعتبارها صاحبة قرارات تلزم الجميع، بما في ذلك أميركا التي ينتشر وجودها العسكري في مساحة تبلغ قرابة 30% من المساحة الإجمالية لسورية، فصلتها واشنطن عن وطنها بخط أحمر هو وادي الفرات، وحذّرت موسكو والنظام وإيران من الاقتراب من الوادي، ناهيك عن تخطيه، لتخرج بذلك المنطقة من الحل الروسي الذي أعلنت طائراتها بلا طيار أنه لن يكون انفراديا، بما أنه قد يتحول، في أي وقت، إلى عبء ثقيل على موسكو وطهران، لأسباب منها أن البيت الأبيض لن يسمح بإعادة إعمار سورية أو بسحب قواته منها، في حال كان الحل لا يخدم المصالح الأميركية، أو يضمن الاتفاق على انتقال سياسي بعيدا عن الأسد. بهذه الرسالة المتعدّدة المضامين، وبانتشارها العسكري الواسع، تبلغ أميركا الطرف الروسي أن الاعتراف بحقوقه، ومساعدته على بلوغها، يشترط اعتماده حلا دوليا يخدم مصالحها، وإلا دار في حلقةٍ مفرغة، وفشل في نيل ما يرضيه.
ثالثا، على الرغم من أن العرض الذي تقدمت به الـ "لا ورقة" يبدو قريبا من مسار الحل الروسي ومفرداته، في ما يتصل بالدستور والانتخابات ودورهما في إلغاء "الهيئة الحاكمة الانتقالية" التي تعطيها وثيقة جنيف، والقرارات الدولية، حق تكليف لجان مختصة بصياغة الدستور والإشراف على انتخابات حرة، فإن هناك تباينا مهما في فهم الطرفين الدوليين للدستور والانتخابات، يرجع إلى حقيقة جوهرية، هي أن أميركا أخرجت، في استراتيجيتها الجديدة، بشار الأسد من السياق السوري الداخلي، وربطته بحربها على الإرهاب بصفته طرفا في نسيج إرهابي متكامل، يضمه إلى إيران وداعش، سيكون مستبعدا وضع دستور يحميه، بما أن القضاء عليه سيكون مضمون (وهدف) المرحلة المقبلة من الحرب ضد الإرهاب، والتي سينتقل مركز ثقلها من "داعش" إليه شخصيا، وإلى وجود طهران العسكري في سورية، بعد ما حققته الحرب ضد "داعش" من إنجازات أدت إلى تقليص وجودها، وتحرير مدن العراق وسورية الكبيرة، التي احتلتها، وصار ضروريا استكمالها بالتخلص من الأسد، وبإخراج طهران ومرتزقتها من سورية، وفي مقدمتهم حزب الله. هذه النقلة، إن تمت، أوضحت معنى الانتقال السياسي المطلوب للحل، وحوّلت وظيفة الدستور الجديد من إبقاء الأسد، كما ترغب روسيا، إلى إطاحته كما تقول "لا ورقة" واشنطن، باعتباره ركيزة للإرهاب وهدفا أميركيا في الطور المقبل من حرب أميركا لصيانة أمنها القومي.
هل يستهدف الفهم الأميركي للدستور إنقاذ الأسد، كما يريد الروس، أم التخلص منه، لاستحالة وجوده رئيس دولةٍ هو في الوقت نفسه إرهابي يهدّد العالم؟ هذه المسألة يجب على الهيئة العليا للمفاوضات، وأطراف العمل الوطني، مناقشتها مع الأطراف الدولية والأمم المتحدة، من منظور صلتها بالانتقال السياسي: مرجعية للقرارات الدولية التي تعترف بحقوق الشعب السوري، بما أن من غير المعقول أن تخرج واشنطن الأسد من سياقه السوري، وتسقط شرعيته باعتباره إرهابيا محليا وإقليميا ودوليا، ثم توافق على بقائه رئيسا لسورية. بهذا الربط بين الأسد والإرهاب المحلي والعابر لسورية، يمكن فتح باب إخراجه من السلطة، وإيجاد حل يرضي السوريين، ويلبي مطالبهم.
رابعا، ستطرح هذه السياسة "الجديدة" علينا مخاطر وتحديات عديدة، إذا لم نواجهها بنجاح، بقينا ضحايا الآخرين ومصالحهم، وجذبنا إلى مواقع تمكّن واشنطن من التلاعب بنا وبثورتنا ووطننا، كما فعلت إلى اليوم. كي نتفادى هذا المصير، من المحتم تخلينا عن نهج المعارضة إبّان السنوات السبع الماضية الذي فشل أيما فشل، في كل صغيرة وكبيرة عالجها، وكلف شعبنا أنهارا من الدماء، لو كانت سياساته وأساليب عمله صحيحة، لأسقطنا النظام.
تغيّر واشنطن سياساتها، مع ما يحتمه ذلك من تغيير في سياسات أطراف الصراع جميعها، ويفرضه من تطوير في سياسات المعارضة، تحتوي بواسطته مستجدات الموقف الأميركي، وانعكاساته العربية والإقليمية والدولية، فإن فشلت في ذلك، فوتت على شعبنا فرصةً قد تكون الأخيرة للخروج من مأزقٍ حشرته فيه عوامل عديدة، منها أخطاؤها، فإن لم نتخلص منها لن يبلغ شعبنا حريته، وسيبقي خاضعا لطغاته ومستبديه، في السلطة كما في المعارضة.
خرج السوريون في مظاهرات تطالب بالحرية والكرامة، فإذا بهم بعد سنوات المحنة السورية الكبرى يواجهون ضياع الوطن كله، وتشردهم في أصقاع الأرض، وتحول سوريا إلى ساحات صراع دولية، وخسر النظام أولاً سيادته الشرعية حين أدخل الدب إلى كرمه، وباتت روسيا وإيران تتحكمان في مفاصل السيادة السورية، وحين وقعت الشاة الذبيحة أشهرت السكاكين حولها، وكثر الطامعون بلحمها! وعم الدمار ،وصارت الدماء شلالاً يتدفق من شرايين الأطفال والنساء، وفقدت سوريا مئات الآلاف من شبابها في ساحات حروب مجنونة، أجبرهم عليها غياب الحكمة والتمسك الأحمق بالسلطة المطلقة والاستبداد المقيت.
وكذلك فعل نيرون عندما أحرق روما وجلس في برجه يغني أشعار هوميروس مستمتعاً بمنظر بلاده وهي تحترق، ولكنه في النهاية قتل نفسه!
ويبدو الاحتلال الإيراني هو أخطر ما تعرضت له سوريا من احتلالات راهنة، ذاك أن الحلم الفارسي بالتوسع وجد الفرصة المناسبة لأن يتحقق بعد أن نال فرصة كبرى في احتلال العراق، وفي السيطرة على لبنان، وهو يتابع فرصة رابعة في اليمن، جادت عليه بها ثورات «الربيع العربي» التي أصبحت شتاء مدلهماً تقتلع العواصفُ فيه بيوتَ الناس وتلقيهم أشلاء في العراء.
وأما روسيا، فهي لا تملك مشروعاً أبعد من مصالح اقتصادية واستعادة لحضور في الساحة الدولية بعد أن ضعفت مكانتها إثر انهيار الاتحاد السوفييتي، وقد جاء دخولها في سوريا إيذاناً بعودة الحرب الباردة التي تقع اليوم على صفيح ساخن يوشك أن يجعلها حرباً عالمية، إذا بقي الحمقى يتحكمون في مصير الشعوب.
وشعر الأميركان بخطر تنامي النفوذ الروسي والإيراني، وقد وعد ترامب شعبه في حملته الانتخابية باستعادة مكانة الولايات المتحدة التي هبطت إلى القاع في ولاية أوباما الذي قدم وعوداً وردية للعرب، وألقى خطابين مهمين في القاهرة وفي إسطنبول، ولكنه بذل كل جهده لتقوية إيران وتمكنيها في مشروعها النووي عبر الاتفاق النووي الذي وصفه أوباما بأنه اتفاق تاريخي وقال عنه الرئيس الإيراني «إنه اعتراف صريح بحق إيران في تخصيب اليورانيوم»! وأطلق الأميركان تصريحات متصاعدة ضد إيران، بينما هي تتابع مشروعها العدواني غير عابئة بتهديدات «الشيطان الأكبر» كما سماه الخميني.
لقد حرص العرب منذ أن قامت الثورة الإيرانية على إقامة علاقات حسن جوار مع إيران، وقدموا خطوات عملية لتمتين العلاقات معها، مدركين أن الجوار قدر التاريخ والجغرافيا، ولكن المشروع الفارسي استمر في التوسع، وفي تصدير الثورة الإيرانية وفرض عقائد مذهبية، ما جعل الود العربي يحترق في لهيب النزعات الاستبدادية الفارسية.
وقد زاد التدخل الإيراني في العراق ولبنان وسوريا واليمن والاعتداء المتكرر على السعودية من خطر الانفجار، ولو كانت إيران تضمر خيراً لجيرانها العرب أو تقبل حسن الجوار لأعادت الجزر الإماراتية الثلاث التي احتلها نظام الشاه إلى أصحابها لتبني معهم عهداً جديداً من السلام والطمأنينة لشعوب المنطقة كلها.
واليوم اتسع الخرق على الراقع، مع الفشل المتلاحق للمفاوضات التي ترعاها الأمم المتحدة في كل من سوريا واليمن وليبيا، وهذه المفاوضات هي البوابة الوحيدة التي يمكن لها أن توقف شلالات الدم العربي النازف.
وفي سوريا وصلت المفاوضات في جولتها الثامنة إلى طريق مسدود، ولا أتوقع أن يحدث أي اختراق ما دامت روسيا متمسكة بنظام الأسد وتريد إعادة إنتاجه، وقد أطلق الأميركان والأوروبيون خطتهم الأخيرة في باريس قبل أيام، ونرجو أن تأخذ مساراً جاداً ومنصفاً قبل أن ينعقد مؤتمر سوتشي، فبقاء النظام حاكماً بالقوة والعنف أمر محال، بعد أن دمر سوريا وجعلها أرضاً يباباً.
والمفجع أن تدويل القضية السورية جاء برغبة النظام حين لجأ إلى «حزب الله» وإلى إيران ثم إلى روسيا، واستقدم الميليشيات الطائفية من أصقاع الأرض، وشجع على ظهور التنظيمات المتطرفة ليعمّي على ثورة الشعب ويظهر الصراع على أنه مجرد تمرد إرهابي! وهذا جعل غالب العرب غائبين عن القيام بدور فاعل في الحل السياسي، مع أنهم يتحملون الكثير من تداعيات الانهيار في سوريا.
وعلى رغم كل القسوة التي يعاني منها السوريون، فإنهم يتمسكون ببيان جنيف 1، وبالقرار الدولي 2254 وبأسس مفاوضات جنيف التي تقضي بإنشاء هيئة حكم انتقالي تشارُكي مع من لم تتلطخ أيديهم بدماء الشعب من أنصار النظام نفسه، وكذلك من التكنوقراط، وهذا وحده يكفي دليلاً على فهم المعارضة لمتقضيات الواقع، وتعبيراً عن حرصها على مؤسسات الدولة، وعلى سلامة واستقلال الوطن.
تأتي المفاوضات السياسية اليوم على وقع دوي أصوات مدافع الحرب في سورية على أكثر من جبهة، وبين متصارعين سابقاً، ومتوافقين حديثاً، ضمن تفاهمات ومتغيرات في الأجندات والمواقع والضفاف، في لعبة خلط الأوراق في أعلى درجاتها، لانتزاع الحصص من الوليمة المطهوة من دولة سورية المريضة بنظامها الحاكم من جهة، وبمعارضاتها المتعددة والمتناحرة من جهتين ثانية وثالثة.
وبينما تتوغل قدماً القوات التركية في القرى المحيطة بعفرين يتسلم النظام مواقعه الإستراتيجية في حماه وريفها وإدلب ومحيطها، حيث استطاع انتزاع مطار أبو ظهور من جبهة تحرير الشام (النصرة سابقاً)، ويستمر في حربه حتى يتمكن من عزل مناطق في ريف حلب وإدلب عن حماه وريفها، لتتحول المناطق التي تهيمن عليها «المعارضة» إلى مجرد كانتونات محاصرة ومعزولة عن بعضها بعضاً.
وعلى الجهة المقابلة تغير تركيا شروط اللعبة مع واشنطن بتفاهماتها مع موسكو وإيران، من خلال إعلانها المنفرد الحرب على عفرين ومحيطها، بعد أن فشلت في الحصول على المساندة الأميركية لمطالبها ومصالحها الحيوية في شمال شرقي سورية، ما جعلها تختار ما تعتقده الوقت السياسي الملائم لها للحصول على تنازلات روسية لمصلحة حربها، مقابل تموضعات جديدة لها على خارطة الصراع في سورية، لتصبح ضمن ثلاثية دولية (روسيا وإيران وتركيا)، مقابل الحلف الغربي الأميركي، وتفاهماته حول الصراع على سورية، إلا أن مراهنات تركيا على حاجة روسيا لشراكتها، في مسارها التفاوضي الجديد في سوتشي، قد لا يكون صائباً، فيما لو تجاوزت تركيا المهلة الزمنية « القصيرة» التي راهنت عليها بداية لكسب الصمت الروسي ماقبل مؤتمره في سوتشي.
من شأن هذه الحرب التي يراوغ النظام السوري إعلامياً برفضها أن تصب في مصلحته كاملة، حيث يمكن أن تدفع الكرد المسيطرين على المنطقة إلى خيارات عديدة، منها تسليم عفرين للنظام لتصبح تحت سيطرته وهو مايسعى إليه، أو أن يختار الكرد خوض حرب استنزاف مع تركيا ليست بالقصيرة، في حال اختارت الولايات المتحدة المراهنة على توريط تركيا داخل سورية، بدعم عسكري غير معلن للقوات الكردية، ما يعني تحويل المعركة، أياً كانت نتائجها، في غير المصلحة التركية «داخلياً على الأقل»، وإرباكها أمام الرافضين من الأتراك لمغامرتها في سورية. ففي خيار الكرد الأول تكون تركيا حققت من دون قصد المشروع الروسي الرامي إلى إعادة كل مناطق سورية إلى النظام، وفي الخيار الثاني لهم، أي استمرار «الحرب»، يحقق النظام مطلبه بإلهاء تركيا بحرب مديدة تهدد نظام الرئيس التركي «أردوغان» شعبياً.
وبينما تغرق تركيا في حربها على عفرين، تتنافس روسيا مع الأمم المتحدة في قضية حل الصراع تفاوضياً في سورية على ملف الدستور السوري، فحيث تراه الأمم المتحدة أحد سللها، التي تعبر من خلالها إلى ملامح الانتقال السياسي، تراه موسكو أحد معابرها لإعادة إنتاج النظام بأكثرية من يحضر من المدعوّين إلى سوتشي، ولهذ استبق المبعوث الدولي المؤتمر الروسي للحوار بجولة في فيينا «للدوبلة» على التوهم الروسي، الذي لازال يعتقد بإمكانية خطف الحل، بتوزيع الغنائم على المشاركين معه من دول وافقت على خطته، أو من هيئات سياسية، ومئات من السوريين، بحيث يختصر بهم إرادة الشعب بإعداد دستوره وفق تطلعاته، التي دفع أثمانها دماً ودماراً في بنيته الجغرافية والاجتماعية.
وعلى أهمية أن يكون الدستور حاضراً على طاولة مفاوضات المسار الأممي، إلا أنه أيضاً مسألة لا يمكن الارتكان إليها، في ظل غياب تمثيل حقيقي للسوريين على طرفي هذه الطاولة. فالنظام ليس بالضرورة يمثل ما يمكن تسميتهم الموالاة، لأن هذه الموالاة ذاتها منقسمة على نفسها، بين من يدعي «المعارضة داخلياً» للنظام، وهؤلاء بعضهم حاضر في سوتشي، وبين شرائح مسحوقة من الشعب تارة بسبب الواقع الاقتصادي وأخرى بسبب الواقع الأمني، وأؤلئك من الغائبين عن أي طاولة حوار، وثالثة تدور في فلكه ووجودها مرهون بالميزات التي يمنحها لها النظام فقط، بعيداً عن أي حديث حول الحقوق الدستورية أو القانونية، لحجم الاستفادة ودائرة التنفيذ الفعلي، ما يعني ان تعبير الموالاة عن نفسها، علىا رغم وجودها ضمن أو تحت وصاية النظام في مناطق نفوذه، ليس أمراً ممكناً، في ظل الهيمنة الأمنية التي تروع السوريين، قبل وخلال ومابعد سبع سنوات من انطلاقة الثورة السورية في 2011.
على الجهة المقابلة لم تستطع كيانات المعارضة السورية في الخارج تشكيل مرجعية موثوقة، وممثلة للسوريين ومعبرة عن مشروعهم الوطني الجامع، إذ بقيت المعارضة السياسية منقسمة بين عواصم ممولة لمشاريع سياسية، تتقارب حيناً مع طروحات وطنية سورية، وتتباعد في أحاييين عن أي مصلحة سورية، مقابل تقدم مصالح فردية مكتسبة من تنازلات عن مصالح وطنية كبرى، ما يعني عدم التعويل على أنه يوجد جهة واحدة تمثل كل المعارضة، ويمكنها التفاوض عن مستقبل سورية وشكله وتفاصيله، وطموحات السوريين بعيداً عن الارتهان لإملاءات من هذه الدولة، أو تلك.
يفيد كل ما تقدم بأننا لازلنا ندور في حلقة مفرغة من إعادة تدوير الكيانات المشكلة وفق الرغبات المصلحية للدول الداعمة، وبعيداً عن إرادة سورية مستقلة ترتكن إلى مصالحها الوطنية، من دون انحيازات مؤلمة، كما هو واقع الحال في الحرب الدائرة اليوم، في أكثر من موقع، ضمن ما يسمى حرب الفصائل بين بعضها بعضاً، أو تلك المساندة لحرب تركية على حساب وحدة النسيج السوري وخياراتها الوطنية، أو حتى المعارضة لهذه الحرب ضمن مصالح رعاتها المتناقضة مع تركيا كدولة، وليس مع الحرب كمشروع عسكري يجري خارج الأراضي التركية، وبأدوات وضحايا وقرى ومدن سورية.
ومع انتهاء جولة جديدة اليوم من المفاوضات في فيينا، هي كحال ما قبلها، ولاحقاً سوتشي، نكون قد دخلنا كسوريين مرحلة العمل العبثي، وصناعة أسباب استمرارية الصراع في سورية من مدن وأجندات، في ظل تهرّب شخصيات أوكلت لهم الدول -وليس الشعب- مهمات قيادية للمعارضة السورية، من مسؤولية تحديد موقعهم، وفق المصالح السورية الجامعة لدولة سورية الواحدة، ومسارات الحلول المؤدية إلى هذه الدولة، من دون التفريط بحقوق جماعة، او مكون، لا الخضوع للانجرار وراء صناعة لسورية المستقبل، على مقاس الجوار، وضمن تطلعاتهم وتحت جناح مخاوفهم أو مصالحهم، أو التعاطي مع المشروع الوطني السوري من منظور مراعاة الأطراف المتصارعة في سورية، وحماية مكتسباتها، التي قامت أساساً على تهميش النظام والهيمنة على قراره مقابل حماية وجوده واستمراره (روسيا وإيران) من جهة، وبالتلاعب بالثورة ومآلاتها وأهدافها وتشكيلاتها (تركيا والولايات المتحدة) من جهة أخرى، حيث أوهمتا السوريين بتعاطفهما ومساندتهما، ثم تركتاهم لمصيرهم أمام قوى عسكرية عظمى مساندة للنظام، بل ومقاتلة عنه سياسياً وعسكرياً.
قد تنجز تركيا في حربها على عفرين ما تريده من قطع الطريق على الكرد لتشكيل كيان كردي، أو فيديرالية متصلة تبلغ حتى البحر المتوسط، لكنها في المقابل، قد تكون السبب المباشر في دفع روسيا وأميركا، عند الحل النهائي للصراع في سورية، لأخذ المصالح الكردية في سورية على رأس أولويات الدستور سواء أعد في جنيف أم في سوتشي أو في أي مكان أخر.
أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، مؤخرا، أن تركيا عملت على التنسيق مع روسيا فيما يخص عملية "غصن الزيتون". كما أكد أردوغان أن "أنقرة نسقت مع موسكو في هذا الشأن"، مضيفا أن "القوات التركية لن تتراجع عن تنفيذ هذه العملية العسكرية في عفرين"، فضلا عن "أن هذه العملية العسكرية ستحمي المصالح الوطنية التركية والشعب السوري".
وفقا لوسائل الإعلام التركية، أعلن الرئيس التركي يوم الاثنين الموافق لتاريخ 22 كانون الثاني/ يناير، "أن موقف بلاده حيال هذه المسألة حاسم، كما أن القوات التركية والسياسيين الأتراك لن يعدلوا عن إطلاق هذه العملية العسكرية في عفرين".
وحسب التصريحات التي أدلى بها الرئيس التركي، "ناقش المسؤولون الأتراك عملية "غصن الزيتون" مع الزملاء الروس، وتوصلوا إلى اتفاق بين حكومتي تركيا وروسيا". كما أكد رئيس الوزراء التركي، بن علي يلدريم، أنه تم التنسيق مع الكرملين للعملية العسكرية التي شنها الجيش التركي في شمال غرب سوريا. وفي الوقت الحالي، "تجري أنقرة اتصالات دبلوماسية مع موسكو حول هذا الشأن، وليس لدى السلطات الروسية أي اعتراض".
في نهاية سنة 2017، وعدت الحكومة التركية بالتنسيق مع روسيا في عملية عسكرية ضد التشكيلات المسلحة الكردية في سوريا، وفي عفرين تحديدا. ووفقا لوزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، يعتبر حزب العمال الكردستاني التهديد الرئيسي لأنقرة، مما يعني أن عملية "غصن الزيتون" لا تستهدف النظام السوري.
في هذا الإطار، أكد أردوغان أن أعضاء التحالف الدولي الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة، ومن بينهم فرنسا، يعارضون العملية العسكرية التركية "غصن الزيتون". ومن ناحيته، برر أردوغان العملية العسكرية التركية بمحاربة الإرهاب، خاصة وأن أنقرة تعتبر التشكيلات الكردية ووحدات حماية الشعب تنظيمات إرهابية.
وحيال هذا الشأن، أفاد أردوغان بأنه "لا توجد أي ضمانات تؤكد أن المدن الأوروبية أو الأمريكية لن تُضرب غداً بالصواريخ التي استهدفت ريحانلي التركية"، مؤكدا "أن هذه خصوصية الإرهاب"، الذي يتميز بطابعه العالمي. وحسب الرئيس التركي، "لا تهدف العملية العسكرية في عفرين لحماية المصالح الوطنية التركية فحسب، وإنما لضمان السلامة الإقليمية لسوريا وحماية أمن الشعب السوري أيضا".
في 22 كانون الثاني/ يناير، عقد مجلس الأمن الدولي بمبادرة من باريس اجتماعا لمناقشة الأعمال العسكرية لتركيا في الأراضي السورية. ولكن، امتنع مجلس الأمن عن الإدلاء بأي بيانات رسمية، فيما دعا الممثل الدائم لفرنسا لدى الأمم المتحدة، فرانسوا ديلاتر، السلطات التركية إلى "ضبط النفس".
في وقت سابق، أعرب وزير الخارجية الألماني، زيغمار غابرييل، ومفوضة الاتحاد الأوروبي لشؤون الأمن والسياسة الخارجية، فيديريكا موغريني، فضلا عن وزير الخارجية الأمريكي، ريكس تيلرسون، عن قلقهم من التبعات المترتبة عن عملية "غصن الزيتون".
ومن جهته، دعا البيت الأبيض تركيا لضبط النفس، بعد تنفيذ الجيش التركي عمليته العسكرية في عفرين السورية، محذرا من عواقب هذه العملية، فقد تؤدي إلى تفاقم الأزمة الإنسانية وتقوض الاستقرار في المنطقة. وفقا لما أكدته المتحدثة باسم البيت الأبيض، سارة ساندرز، في مؤتمر صحفي، "إننا ندعو تركيا إلى ضبط النفس فيما يتعلق بالعمليات القتالية، وتحديد المهام والتوقيت في العملية العسكرية، فضلا عن أهمية ضمان استمرار المساعدات الإنسانية، وتجنب وقوع خسائر في صفوف المدنيين".
وفقا لوكالة فرانس برس، أكد المتحدث باسم الرئيس الروسي، ديمتري بيسكوف، أن موسكو على اتصال مع أنقرة ودمشق حول العملية التركية في سوريا. كما أضاف "إننا نراقب العملية بعناية فائقة"، فضلا عن أن "الممثلين الروس على اتصال مع القيادة السورية والقيادة التركية بخصوص هذه المسألة".
والجدير بالذكر أن المبدأ الأساسي للسلطات الروسية يتمثل في الحفاظ على الوحدة السورية. وقال بيسكوف "مما لا شك فيه نحن نراقب عن كثب الجوانب الإنسانية المرتبطة بما يحدث الآن في عفرين".
في سياق متصل، أفادت وزارة الدفاع الروسية بأنه تم نقل الشرطة العسكرية الروسية من مركز المصالحة بين الأطراف المتنازعة الواقع في عفرين إلى منطقة تل-رفعت، في سبيل الحفاظ على حياة الجنود الروس وتجنب أي استفزازات محتملة.
ووفقا لوزارة الدفاع الروسية "اتخذت القوات الروسية في سوريا كل التدابير اللازمة لضمان سلامة قواتها المتمركزة في منطقة عفرين، حيث انطلقت العملية العسكرية التركية ضد الأكراد". وفي الواقع، إن تواجد القوات العسكرية الروسية في منطقة تل-رفعت، يساهم في مواصلة مراقبة الوضع في المنطقة والمناطق المحيطة بها، بالإضافة إلى توفير المساعدة الضرورية للاجئين.
لا شيء يفضح الهوة بين «حزب الله» وعموم اللبنانيين، ومن بينهم حلفاء الحزب، كالثقافة. الثقافة بمعناها الواسع بوصفها جزءا من الهوية اللبنانية الاجتماعية، كذائقة وأنماط استهلاك وعادات وفنون وصورة؛ صورة البلد الرخوة، الطرية المبالِغة أحياناً باحتفائها بالحياة والإقبال على ملذاتها.
في هذه المساحة تتبدى المسافة بين اللبنانيين وبين «حزب الله»، لا سيما أن الحزب بعقيدته وقيمه ومحرماته حزب قيادي في مجتمعه وبيئته، خلافاً لأشباهه في البيئات الأخرى، ممن لا يقلّون عنه افتراقاً عن «النموذج» اللبناني العام، ولكن تعوزهم الصفة التمثيلية التي للحزب، وتنقصهم القدرة على ترجمة أجنداتهم إلى سياسات تسندها حشود. مناصرو «حزب الله» من السنة مثلاً، ليسوا في متن الطائفة ولا يتصدرون التعبير السياسي والاجتماعي عنها، ودائرة تأثيرهم تتقلص إلى أحياء محددة. أما البيئات المسيحية والدرزية فهي، حتى في نواحيها المحافظة، مفتوحة كفاية على أنماط الهوية الاجتماعية اللبنانية ومشتركاتها.
وسرعان ما تنفجر بين «حزب الله» والآخرين، حتى الأقربين منهم، حين تكون المسألة الثقافية هي المحك. من يتابع وسائل التواصل الاجتماعي مثلاً، سيشهد على شبه حرب إلكترونية مندلعة بين أنصار «حزب الله» وجمهور الرئيس ميشال عون، على خلفية إجازة عرض فيلم «ذا بوست» للمخرج الأميركي اليهودي ستيفن سبيلبيرغ، وانحياز تلفزيون عون للعرض، وانتقاده بشدة في مقدمة النشرة الإخبارية منطق المقاطعة باعتباره «لا يوصل إلا إلى الهزائم»! تختفي هنا الاعتبارات السياسية التي جمعت في تحالف هجين، تياراً ليبرالياً مسيحياً هو التيار العوني، مع ميليشيا مذهبية كـ«حزب الله» منذ عام 2006. وتطفو على السطح الحساسيات المتصلة بالنموذج اللبناني، على رداءة كثير من جوانبه وكليشيهاته. فمنع فيلم بحجة أن مخرجه متعاطف مع إسرائيل، شأن لا يحتمله مسيحي ليبرالي، أو سني أو درزي أو شيعي، أي هذا اللبناني المشترك في كل اللبنانيين، والذي لا صلات لـ«حزب الله» به.
فلا تنطلي، إلا على قلة، فكرة رفض التطبيع التي توسلها «حزب الله»، وهو يفتتح نقاشاً خاسراً حول جواز عرض فيلم سبيلبيرغ أو منعه؛ لأن الأصل هو الافتراق الهائل بين نموذج «حزب الله» وبين المساحة المشتركة لنماذج بقية اللبنانيين.
فهو في كل مرة أطل بمقص رقيبه، توسل عنواناً مختلفاً، وقدم لرأيه بحيثيات تختلف عن المرة التي سبقتها ليبقى الثابت الوحيد، شهيته لقضم المزيد من مفردات النموذج اللبناني وتطويعها.
المجمع الجامعي التابع للجامعة اللبنانية في الحدث جنوب شرقي بيروت، شهد في مناسبات عدة على هذه الحرب الخفية بين نموذج «حزب الله» وما أسميه النموذج اللبناني العام. من مثالات ذلك إسقاط الحزب من برنامج كلية الفنون الجميلة، للموديل، الذي يعد من «ألف باء» دروس الرسم والنحت ومادة نجاح أو رسوب في تخصصات الفنون التشكيلية، في حين تحافظ عليه برامج معاهد وجامعات خاصة في لبنان منذ أربعينات القرن الماضي.
المجمع الجامعي نفسه، الذي يتحول في أوقات عدة من السنة إلى حسينية بالمعنى الحقيقي للكلمة، شهد على منع بث أغنيات السيدة فيروز، في إحدى المناسبات الطلابية، بضغط مباشر قاده طلبة «حزب الله» على اللجان الطلابية وعلى إدارة الكلية التي كانت تحتضن المناسبة.
وأذكر بين ما أذكر «نأي» وزير «حزب الله» بنفسه في إحدى الحكومات قبل سنوات قليلة، عن رعاية وزارته لمهرجان النبيذ اللبناني، وتولي وزير بالوكالة، مهمة الرعاية والحضور. صحيح أن النأي بالنفس، لا يرتقي إلى مستوى المنع والتحريم، وهو أمر دونه الكثير، لا سيما أن صناعة النبيذ في لبنان صناعة كبيرة نسبياً وترفد قطاع الزراعة والعاملين فيه، لكنه يعطي إشارة إلى مدى الافتراق بين نموذج «حزب الله» والنموذج اللبناني العام.
لا يقف الأمر هنا. فبمثل ما حوّل «حزب الله» المجمع الجامعي في منطقة الحدث جنوب شرقي بيروت إلى حسينية، حوّل بعلبك، مدينة الشمس، إلى مدينة الإمام الخميني، بصوره العملاقة التي تستقبلك عند مداخلها والأعلام والرايات الحزبية والإيرانية. لا شيء في بعلبك يشير إلى أنها مدينة سياحية، بل ربما المعلم السياحي الأبرز في لبنان، إلا في خلال مواسم مهرجانات بعلبك التي لطالما عبر «حزب الله» عن امتعاضه الموارب والصامت منها. وقد نجح الحزب، متذرعاً عام 2013 بالظرف الأمني الناتج عن الحرب في سوريا، في منع المهرجانات لتعود في العام التالي، من دون أن يخلو أي من الأعوام من اعتراضات لـ«حزب الله» على الفرق الأجنبية والأميركية المستقدمة إلى الحفلات بالإضافة لسجالات التطبيع لو حصل أن فناناً سبق له الغناء في إسرائيل!!
حقق «حزب الله» «انتصارات» في هذا المجال، وخاض معارك خاسرة مع النموذج اللبناني؛ آخرها فشله في منع عرض فيلم «ذا بوست»، وهذا يظهر قوة النموذج اللبناني الليبرالي، لكنه أيضاً ينذر بأن الخطر الحقيقي ليس التطبيع مع إسرائيل بل التطبيع مع «جمهورية حزب الله»!
جاءت زيارة مساعد وزير الخزانة الاميركية لشؤون مكافحة تمويل الارهاب مارشال مبلتغسلي لبيروت بعد جملة اجراءات وعقوبات اتخذتها الادارة ضد «حزب الله»، آخرها تشكيل وحدة في وزارة العدل للتحقيق في ما تسميه نشاطات الحزب في الحصول على تمويل من الاتجار بالمخدارات لغايات الارهاب.
وتقول مصادر ديبلوماسية، ان المسؤول الاميركي هدف من زيارته مراقبة تنفيذ لبنان والقطاع المصرفي للعقوبات، وامتثال القطاع للقوانين الاميركية والدولية.
ولدى الاميركيين متابعة دقيقة للموضوع، اذ لا تعتبر واشنطن الامر امنياً او سياسياً فحسب، انما ايضاً، يكمن في ان وجود تنظيم مسلح في لبنان شريك في الحكومة والبرلمان متهم بهذه الاعمال من جانب الولايات المتحدة. وزيارة المسؤول الاميركي، تثبت المسار الذي تتمسك به واشنطن بالنسبة الى سياستها تجاه الحزب وتجاه ايران من ورائه. كما يأتي التحرك الاميركي للادارة الحالية، رداً على الانتقادات التي وجهت داخلياً للادارة السابقة هناك، والتي تغاضت عن ملاحقة شبكات «حزب الله» في العالم، من اجل التوصل الى التوقيع على الاتفاق النووي مع ايران. ويدخل التحرك في اطار تصعيد الضغوط لتوقف تنامي نفوذ ايران في الشرق الاوسط. والقدرات العسكرية للحزب مع الاشارة الى ان ملاحقة هذه الشبكات كانت موضوع تحقيق بموجب «مشروع كاساندرا» السابق.
وما لا تستسيغه واشنطن هو ان الحزب الذي لديه "الدور السياسي الميليشيوي" بحسب المصادر، شريك في ادارة البلد في ظل الاتهامات الاميركية الموجهة اليه. ولديها تساؤلات حول ان الحزب الذي يدعي بأنه يحارب التكفيريين "هو نفسه متورط في المخدرات والارهاب". وبالتالي، ان الزيارة جاءت في اطار "الضغوط القانونية والمعنوية والسياسية على الدولة لتذكيرها ان شريكها في السلطة خارج القانون الدولي وهو متهم".
وتفيد المصادر بأن الولايات المتحدة استطاعت ادراج اسماء من «حزب الله» او غيره على لوائح الارهاب، نتيجة المراقبة الدقيقة للتعاملات التي تحصل بين الدول، لا سيما بين اميركا اللاتينية وافريقيا. وبالنسبة الى واشنطن، فان ما قامت به وزارة العدل، هو مراقبة المعاملات المالية المرتبطة غالباً بالمخدرات، حيث هناك العديد من الشبكات المتخصصة في هذا المجال. ما يعني انه قبل تشكيل اللجنة المولجة بالتحقيق في انشطة «حزب الله»، في هذه الوزارة، فان التحقيقات الفعلية الاميركية، والاستقصاءات ومتابعة حركة التحويلات المصرفية، كانت نشيطة ومركزة.
ولا تستبعد المصادر، ان تضع الولايات المتحدة لوائح جديدة تطال هذا الموضوع، وهي تأتي في اطار سياسة التشدد حيال الحزب وحيال الراعي الاقليمي له، اي ايران. وتأتي ايضاً بالتزامن مع موقف الرئيس الاميركي دونالد ترامب الاخير حول ضرورة تعديل الاتفاق النووي بما يضمن عدم قدرة ايران على امتلاك القنبلة النووية نهائياً، وليس فقط لمدة عشر سنوات كما ينص عليه هذا الاتفاق. وهو سيقود محادثات مع الاوروبيين حول هذا الهدف.
وتشير المصادر، الى ان الولايات المتحدة لديها لوائح متنوعة حول الارهاب والمخدرات، وحقوق الانسان، والاتجار بالبشر، والارهاب المتصل بالوضع السوري وغيرها وهي تفرض عقوبات في كل هذه المجالات وتضع اسماء افراد وشركات تعتبرها متورطة. وعلى الرغم من ان اللوائح اميركية، الا ان كل العالم يتأثر بها، لان من يتعامل مع المتورطين، يخضع للعقوبات نفسها من جانب الولايات المتحدة.
مصادر ديبلوماسية اخرى، تقول ان اي تحقيق اميركي مباشر في لبنان من وزارة العدل الاميركية لم يحصل، لكنه اذا حصل يبدو غريباً، لانه يجب ان تكون هناك ممارسة سيادية والا كل شيء بات مستباحاً ويجب ان تكون هناك اطر ما لاي تعاون، فهناك التعاون القضائي مثلا، ويتخلله ارسال مذكرات حول اسماء محددة، وهناك التعاون الامني، وهذا بالتحديد سيجعل الحزب قلقاً من مثل هذا التعاون، الا اذا حمل الاميركيون اسماء معينة. كما يمكن ان يتم التحقيق ضمن اطار الامم المتحدة والاتفاقيات المالية الدولية التي ترعى العمل ضد كل الجرائم المعروفة، والتحويلات المالية التي تخصص لها. فهناك لجنة مكافحة الجريمة المنظمة والمخدرات في الامم المتحدة. ثم هناك التعاون عبر الانتربول الدولي.
وتؤكد المصادر، ان كل ما تقوم به واشنطن هو وسيلة ضغط اضافية على «حزب الله» وعلى ايران في الوقت نفسه. لانها تعتبر انه من ضمن الموقف الاستراتيجي من ايران يجب ملاحقة اتباعها في المنطقة، انما ليس سهلاً ارسال وفد الى الدول ومن بينها لبنان للتحقيق في انشطة الحزب.
وافادت مصادر ديبلوماسية، ان مجيء اي لجنة الى بيروت في حال حصوله ستسمع ان الحزب اعلن بذاته انه لا يستعمل المصارف في حركة امواله، وليس لديه تحويلات عبرها والحزب لا يتعاطى مع المصارف. وفي الوقت نفسه فان القطاع المصرفي يلتزم بالقوانين الدولية.
تستمر العملية العسكرية التي تقودها القوات المسلحة التركية في شمال سوريا بهدف إنهاء فعاليات عناصر بي كي كي ووحدات الحماية الشعبية بالتقدم، وذلك من دون التعرّض لأي عوائق تُذكر، فيما اشترك ذوو الخبرة في الشأن العسكري على رأي موحّد وهو أن سر النجاح الكبير لهذه العملية يعود إلى تخطيط مسبق وطويل الأمد، أما على الصعيد السياسي فمن الممكن والمتوقع حدوثه بشدة أن تأتي عملية عفرين بنتائج قد تعود بمكاسب كبيرة على السياسة الخارجية لتركيا. وتجدر الإشارة إلى أنّ هذا النجاح السياسي تحقق نتيجة التقييم الجيد للسياسة الدولية والإقليمية.
ومن المعلوم أن مجرد وجود حزب الاتحاد الديمقراطي الجناح السياسي لـ بي كي كي في سوريا هو أمر غير مقبول بالنسبة إلى تركيا، ولا سيما أن دعم أمريكا وروسيا لحزب الاتحاد الديمقراطي وتسليحه بحجة مكافحة داعش يشكّل مصدراً لإثارة المشاكل، باعتبار أمريكا وروسيا دولاً حليفةً لتركيا. في السابق لم تكن الظروف السياسية موائمة لتدخل تركيا، لكن أدت بعض التطورات في الآونة الأخيرة إلى فتح المجال أمامها للقضاء على هذا الخطر الذي يهدد أمنها القومي بشكل مباشر.
لم تتمكن أمريكا التي تعتبر الحليف الأقوى لحزب الاتحاد الديمقراطي، وكذلك روسيا التي تعتبر العامل الأكثر مساهمةً في تطور الحزب من تقديم أي اعتراض ملموس تجاه عملية عفرين التي تستهدف التنظيم بشكل مباشر، وهناك عدة أسباب لذلك والأول هو المنافسة الموجودة بين موسكو وواشنطن فيما يخص التحالف مع حزب الاتحاد الديمقراطي، لنتوسّع في هذه المسألة قليلاً، بي كي كي هو تنظيم يؤسس علاقاته ويختار حلفاءه بناء على الموازين الدولية والإقليمية، في الواقع بعد تأسيس تنظيم بي كي كي في ظل الإدارة الروسية بدأ التنظيم يميل إلى واشنطن أكثر من موسكو، كما أصبح في بعض الأحيان قريباً من إيران وبعض الدول الأوروبية أيضاً.
ربما لو استمرت فترة الحل التي حاولت تركيا تنفيذها لمرتين مسبقاً لكان ذلك قد أدى إلى تشكيل حركة سياسية كردية تحت إدارة أنقرة، لكن القوى الخارجية لم تسمح بحدوث ذلك، فيما انتهت فترة الحل الثانية حين اقترب الأكراد من تأسيس دولة كردية مستقلة في منطقة "روجافا" -منطقة في الشمال السوري حاول الأكراد تحويلها إلى دولة كردية مستقلة ولكن لم تعترف بها أي دولة في العالم حتى الوقت الحاضر- ولكن يجب أن لا ننسى نقطة مهمة وهي بعكس ما تزعمه الحملات الدعائية الصادرة عن بي كي كي فإن الجمهورية التركية بحكم مبادئها وقيمها السياسية والثقافية لا تعارض تأسيس حزب سياسي كردي، وتأكيدا على ذلك اقترب إقليم كردستان العراق الذي عارضت تركيا تأسيسه بشدة في البداية لأن يكون الحليف الإقليمي الأقوى لأنقرة حين بدأ بإظهار مواقف قريبة من الحكومة التركية، واستمر ذلك إلى مرحلة الاستفتاء الذي أُجري في الإقليم على الرغم من معارضة أنقرة لذلك، يمكن القول إن أنقرة قد أظهرت ردة فعل طبيعية حيال إنشاء دولة كردية أو إقليم كردي وذلك لخوفها من أن تتبع الدولة المزعومة سياسة التمييز الطائفي بين الشعب. وأثبتت الأمثلة التي شهدناها مسبقاً أن الأمر لا يتعلق بهوية الطرف الآخر إنما يتعلق بموقفه تجاه الحكومة التركية.
عند العودة إلى الوقت الحاضر نلاحظ أن سيطرة أمريكا على منطقة كوباني تزداد يوماً تلو الآخر، فيما استمرت منطقة عفرين بالبقاء تحت سيطرة روسيا، إذ تعتبر روسيا أنه لا فائدة من السيطرة على عفرين فقط من ضمن منطقة روجافا كاملة، وأن عفرين ستعود للاتحاد مع كوباني التي تقع تحت السيطرة الأمريكية عاجلا أو آجلا، لذلك لم تجد ضرورةً للمبالغة في معارضة اقتراحات تركيا فيما يخص عملية عفرين، وهناك من يصف تحليل هذا الموقف بعبارة "روسيا خانت بي كي كي لأن الأخير قد خانها مسبقاً"، أما بالنسبة إلى الصمت الأمريكي تجاه عملية عفرين فيعود السبب في ذلك إلى اعتبار أمريكا أن عفرين في جميع الأحوال منطقة تابعة لروسيا.
يمكن أخذ هذا التحليل بعين الاعتبار لدرجة معينة لكن عند مشاهدة الظروف من منظور أوسع نلاحظ وجود لوحة جديدة في سوريا، حان الوقت لتأسيس بنية سياسية جديدة في سوريا، وبما أنه لا وجود لاحتمال توحّد الأطراف التي أراقت دماء بعضها البعض لسنوات عديدة فذلك يعني التوجّه نحو إيجاد حل مشترك ومناسب لجميع الأطراف، في حين تبدو الخريطة الجديدة للمنطقة أكثر وضوحاً الآن.