مأسسة الصحوة الوطنية
والآن، لا بد من السؤال عن الخطوة التالية، بعدما أفشلت الصحوة الوطنية السورية المفاجئة مؤتمر سوتشي، وتكامل موقفها مع جهود الأمم المتحدة للإبقاء على جنيف مكاناً للحل السياسي الدولي، وللتمسك بوثيقته الأم، الصادرة يوم 30 يونيو/ حزيران من عام 2012 بإجماع دول مجلس الأمن، بما فيها روسيا التي تنكرت لها فيما بعد، وأوكلت إلى جيشها وديبلوماسيتها فرض حل تنفرد به، يبقي الأسد في السلطة مكافأةً له على وضع سورية في جيبهم.
ماذا يجب أن تكون الخطوة التالية لهذه الصحوة الوطنية التي وقعت في لحظةٍ مفصلية، واستهدفت طرفين: داخلي، يعتقد أن مصير سورية بيد روسيا، وأن الركوع أمامها يضمن وحده حقوق الشعب السوري الذي يجب أن يقبل استعمارها باسم الواقعية السياسية، ويفيد منه لتهميش أميركا والتحكم بتركيا، فإن تكرَّم رئيس روسيا، بوتين، علينا ببعض حقوقنا، كان ذلك أكثر مما نستحق، نحن المعارضة المشتتة، والمقاومة في طور انهيار. طرف خارجي، روسيا التي توهمت أنها قادرة على فرض الحل الذي تريده، بعدما همشت واشنطن وحجّمت تركيا والشعب السوري، وأعادت النظام إلى قرابة نصف مساحة سورية، ومثله أميركا التي اعتقدت أن دور السوريين تلاشى تماماً. ومن الأفضل لها التفاهم مع روسيا على توافقٍ يضمن مصالحها، بعيداً عنهم، فإذا بصحوةٍ عامة تؤكد لواشنطن وموسكو راهنية التلازم بين وطنيتهم وحريتهم، ورفضهم التنازل عن كرامتهم ووحدتهم، وإهانة بوتين لهم حين اعتبرهم "شعوب" سورية، وليسوا شعباً واحداً. وتطاول الوزير لافروف الذي قرّر أن الأسد رئيسهم رغم أنوفهم، وتنكّر لما كان قد كرّره عنهم، جهة وحيدة لها الحق في تقرير مصيره. فاجأتهم، وفاجأت الجميع صحوة الوطنية وقرارها المستقل برفض "سوتشي"، على الرغم من الضغوط والتهديدات.
ماذا بعد سوتشي وتهديدات "صديقة" الشعب السوري موسكو بالرد عسكرياً على نكستها السياسية؟ مبدئياً، من غير المقبول وطنياً السماح بتحول صحوة السوريين الوطنية، بما حققته من حضور هائل الأهمية إلى "هبّة أو فورة عاطفية" تنطفئ بعد حين. ولا بد من مأسستها بحيث تغدو قوة دائمة الحضور في الثورة، لن تكون ولاءاتنا وانتماءاتنا غير لبناتٍ فيها، بوصفها أداتنا التي نصد بواسطتها الأخطار المحدقة بها.
من غير الجائز أن يترك السوريون صحوتهم تتحول إلى هبة يخمدها الكسل وسوء التقدير، ولا بد من إدامتها من خلال مأسستها عبر عملٍ مكثف ومنظم وعام، يغطي جميع مشكلاتنا وقضايانا، ويشارك فيه مواطنونا حيثما كانوا، ليواكبوا بأدواتها التطورات بحيويتهم التي ظهرت إبان مواجهة ألاعيب موسكو التي لم تنته بعد.
بمأسسة الحراك الوطني الذي عشناه الشهر الماضي، سيتوفر لنا، أخيراً، الحامل المجتمعي الفاعل لنضالنا، المؤهل لتوحيد إرادتنا في الداخل والخارج، ولوضع العالم من جديد أمام قوتنا وقرارنا المستقل، وحقنا في الحرية: مشروعنا الذي لا بديل عنه، وسنواصل تضحياتنا من أجله في حاضنة الحقيقة الوحيدة: الوطنية السورية الجامعة التي سنتجاوز معها الصعاب، وسنهزم التبعثر والتشرذم، وسيخرج من صفوفها من تناقض أهدافه الحرية والعدالة والمساواة، أو يريد، كالنظام وأعوانه، إخراج قيمها من النفوس لإسقاطها في الواقع.
من غير المقبول أن نعتبر صحوة شعبنا الوطنية لحظة عابرة في نضاله. ولئن رد السوريون من خلالها بنجاح علی "سوتشي"، فإن نجاحهم في مأسستها سيكون نقلةً نوعيةً، تقيهم الفشل بما ستوفره لهم من طاقاتٍ معطلة، يخرجهم تفعيلها من تخبط سياسي/ عسكري أنهكهم، ويقنع أعداءهم بحتمية انتصارهم، بعد أن يتوفر لهم ما كانوا يفتقرون إليه: سلاح الوطنية الصاحية، الذي يقتلون به عجزهم وخلافاتهم.