عقدة الحل في سوريا
يدرك السوريون أن ثورتهم من أجل الحرية والكرامة أصبحت حدثاً هامشياً، فقد تطور الصراع من تظاهرات عفوية ضد سطوة أجهزة أمن النظام إلى تصفيات دولية بين القوى الكبرى في العالم. وتحول السوريون في المشهد الدولي الراهن إلى ضحايا، دورهم في المسرحية التراجيدية أن يموتوا، بينما يتنافس الكبار على لعب دور البطولة في قيادة العالم. ولا أحد يصدق أن روسيا دخلت إلى سوريا بكامل قواها العسكرية من أجل الدفاع عن الأسد أو نظامه، فهي في الحقيقة تصارع الغرب كله، وتتقن شروط اللعبة، بأن يكون الضحايا من الكومبارس السوري الذي يشكل الأغلبية السكانية على الضفتين. وأما إيران فهي تنفرد وحدها بمشروع توسعي بين الدول المتصارعة وتقضم الأمة العربية ضمن خطة منهجية محكمة، فبعد أن استولت على العراق ولبنان، وجدت في انهيار الأمة فرصة سانحة لقضم سوريا واليمن معاً، وهي تتابع مشروعها غير عابئة بالتهديدات الأميركية التي لم تتوقف.
أما الولايات المتحدة التي تبدو مترددة في رسم توجهاتها، فهي الغائبة الحاضرة في القضية السورية، وقد بدا غيابها نوعاً من التخلي عن مبادئ كبرى مثل حقوق الإنسان التي بات الإنسان السوري يطلب أقل من أدناها، فقد علق بعض السوريين إثر تركيزها الإعلامي على التهديد بخطورة تكرار استخدام الأسلحة الكيماوية، بقول ساخر «ليس بالكيماوي وحده يموت السوريون» وكانت الاتفاقية التي وقعت في فيتنام بين الرئيسين ترامب وبوتين اهتمت بالتنسيق بين طائرات البلدين في سماء سوريا، واختصرت حل القضية السورية في الدستور والانتخابات، وهذا ما فعله الروس في سوتشي، وما ركزت عليه ورقة اللاورقة التي قدمتها الدول الخمس في باريس، وكلا الحلين المقترحين (شوتشي واللاورقة) يتجاهلان العقدة الرئيسة للحل النهائي في سوريا وهي موضوع بقاء الأسد أو رحيله.
ويدرك أكثرية السوريين أن قادة العالم يعرفون جيداً أن بقاء الأسد يعني بقاء الصراع واستمراره لعقود طويلة، فليس بوسع الأسد أن يستعيد سلطته إن لم يستخدم مزيداً من العنف والقمع، وهذا لا يوفر أمناً واستقراراً مهما بلغ حد العنف. كما أن الشعب الذي أسقط جدار الخوف وضحى بمليون شهيد، وتعرض لهجرة غير مسبوقة في تاريخه، لن يرضخ لحكم طائفي لا يستطع الأسد التخلي عنه، فهو العضد الذي يشد أزر النظام منذ خمسين سنة، وليس بوسع النظام أن يغير شيئاً من سلوكه، وبنيته عصية على التغيير. وهذا سر تمسك الأسد بمنظومة حكمه، فهو يخشى أي تغيير في قوائم طاولة الحكم خشية أن يزحزح ثباتها الوهمي. كما يخشى أيضاً من أي تنازل يمكن أن يؤدي إلى رفع سقف المطالب الشعبية أو إلى مزيد من التنازلات، وهذا سر كونه لم يقدم أية مبادرة للحل منذ سبع سنوات، وهو مصر على الحسم العسكري بيد الإيراني والروسي، حتى لو فقد سيادته وبقي تحت سطوة الأجنبي، فهو يخشى أن تخرج بنية نظامه (العصبية) من التاريخ فلا تعود إليه قروناً. ولن يغامر السوريون مرة أخرى بمنح الولاء والتفويض لأية طائفة تتفرد بالحكم في سوريا، وهذا سر إصرارنا على الوصول إلى حكم غير طائفي، يتشارك فيه السوريون جميعاً في إطار ديموقراطي، وينتهي فيه التمايز الإثني، فقد أثبتت السنوات الخمسون الماضية أن تحكُّمَ طائفة واحدة في السلطة المطلقة وتفردها بها، مفسدة مطلقة، وقد أوصلت البلاد إلى الدمار الشامل، ولم يسعفها وجود ممثلين عن السُّنة، أو الأقليات الأخرى، في واجهات الحكم، لأن طبيعة النظام كانت عضداً يقوم على (العصبية ) كما وصفها ابن خلدون.
ومع انهيار مؤتمر سوتشي الذي استغل النظام فيه جهل روسيا بالأبعاد والرموز الاجتماعية السورية، فأرسل إليه وفداً كرنفالياً تعبيراً عن عدم اهتمامه بالمؤتمر، جعل الروس يخسرون فرصة تبييض الوجه الدامي بعد أن أعلن بوتين انتصاره في حميميم! لقد قادهم النظام بعد سوتشي إلى مزيد من التدمير في الغوطة وإدلب، وأسقط عنهم قناع رعاية السلام، فلم يعد بوسع روسيا أن تلعب دور راعي المفاوضات في آستانة أو في جنيف بعد أن غرقت سوريا في الدماء تحت شعار السلام والمصالحة في سوتشي.
ويبدو أن الجولة العاشرة القادمة من المفاوضات ستواجه ذات الطريق المسدود، إن هي لم تقتحم عُقد الحل، فأي حديث عن دستور وانتخابات برعاية الأسد مضيعة للوقت وهدر لمزيد من الدماء.