نجحت روسيا في مسعاها السياسي بتعويم مخرجات مؤتمر سوتشي للحوار الوطني الذي عقد يوم 30 يناير/ كانون الثاني 2018، والذي انتهى بالدعوة إلى تأسيس لجنة لإعادة كتابة الدستور السوري، على الرغم من مقاطعة الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين المؤتمر. وقد جاءت الخطوة الروسيّة الرامية إلى إعادة كتابة الدستور، والوصول إلى انتخابات "ديمقراطية" على شكل طعنة نجلاء لمقرّرات مؤتمر جنيف، لتصبح اللجنة الدستورية وفق تصريح ممثل الأمم المتحدة ستيفان دي ميستورا "واقعا في جنيف".
سبق لروسيا أن أعدّت مسوّدة للدستور السوري، وزّعت نسخه على المتفاوضين في مؤتمر أستانة، ليعتبر الدستور من حيث الجهة التي كتبته، ومن حيث صياغته، مثيراً لوفد المعارضة الذي اعتبرت شأن كتابة الدستور مهمّةً سورية بحتة، إلى جوار عدم ترحيب النظام السوري بالمسودة الروسية التي تقلل من صلاحيات رئيس الجمهورية، وتمنح الأطراف حيّزاً في حكم أنفسهم على حساب المركز، ولعل هذين الأمرين هما أكثر ما يضايقان النظام السوري الراغب في العودة بالبلاد إلى ما قبل عام 2011. بيد أن المهم في خطوة الروس هذه كان إلقاء حجر في بركة راكدة، وتحفيز طرفي النزاع على الشروع في خطواتٍ عمليّة باتجاه كتابة دستور جديد وإجراء انتخابات ديمقراطية، وقد يكون لهذين الموضوعين الأثر البالغ في تجفيف كل مقرّرات مؤتمر جنيف، بالإضافة إلى منح روسيا مزيدا من الحق والشرعية الدولية داخل سورية، على اعتبارها العين الساهرة على تطبيق الدستور.
ستخضع اللجنة الدستورية، كما كل الوقائع السورية، إلى دور الدول النافذة في الملف السوري، ولعل تعبير روسيا إنها اتفقت مع الجانبين، التركي والإيراني، في هذا الخصوص، يفي بالمعنى المراد قوله، فمهما تلوّنت مكونات كتابة الدستور الجديد وتنوّعت، من حيث مشاركة خبراء قانونيين وممثلين عن المجتمع المدني ومستقلين وقيادات قبليّة ونساء، إلّا أن كعب الدول النافذة والمتدخلة في الشأن السوري سيبقى الأعلى في كتابة فصول الدستور ومواده.
إلى ذلك، لا تبدي الولايات المتحدة وحلفاؤها الاهتمام اللازم بعملية كتابة الدستور وقد يكون الأمر راجعاً إلى فهمهم جوهر المسألة بأنها إعادة لترتيب الوجود الروسي في سورية بشكل قانوني مختلف، أي جعل هذا الوجود ودوره في سورية أقرب إلى دور الوصيّ والمنتدب منه إلى المحتل المباشر، إضافة إلى معرفتهم بأن الحل لا يمكن أن يكون ورقيّاً دستورياً فحسب، في ظل بقاء النظام على شكله الحالي، ومهما جرت محاولة تلطيف شكله الخارجي، بغرض إعادة تدويره وتعويمه مجدّداً، وبالتالي تتمثّل رؤية الولايات المتحدة وشركائها في أن عدم إيجاد حل سياسي جدّي وسابق لكتابة الدستور هو أشبه بعملية تورية الغبار تحت السجادة.
في السياق الدستوري الذي بدأ يأخذ مساحةً في إعلانات الروس وضع اللّمسات الأخيرة لحل المسألة السورية، يعي معظم السوريبن أن الكلمات، مهما تغنّت بالديمقراطية والحرية، ستبقى مجرّد كلمات لا طائل منها، طالما أن الطرف المنوط به صون الدستور وتطبيقه هو السلطة الأمنيّة القمعية نفسها، المتهيّبة لخرق الدستور، حتى وإن حاز على قبول كل السوريين، ورضا المجتمع الدولي برمته.
لا يتعارض ما سبق أعلاه مع القول إن المشاركة في كتابة دستور جديد للبلاد مهمّة جليلة، على ما تحويه من احترام لعقد مؤسس لجمهورية جديدة، وأن كل خرق لاحق للدستور سيعتبر خرقاً لاتفاق دولي، ويضع المجموعة الدولية الراعية أمام مسؤوليات جديدة، زد على ذلك أن الدستور قد يساهم في ردم الهوّة بين السوريين، لجهة الإقرار بتعددية المجتمع السوري الإثنية، وإعادة الاعتبار لقيم المواطنة ودور الأطراف في المشاركة في حكم ذاتهم، وتقليص السلطات المهولة الموكولة لرئيس الجمهورية. لذلك قد تكون هذه المسائل الإشكالية، والتي أصر نظام البعث على تخبئتها، أبرز ما يمكن مناقشته في اللجنة الدستورية متعدّدة الأطراف.
في مجمل الأحوال يبقى الدستور المنتظر، على الرغم من صورته الضبابية حتى اللحظة، والتشكيك بإمكانية تطبيقه واحترامه على أرض الواقع حال الاتفاق على مضمونه، وثيقة تاريخية جديدة، تستلزم إصرار المعارضة على قول كل ما أراد السوريون قوله خلال السنوات الماضية من حرية وديمقراطية وعدالة اجتماعية.
بات مؤكدا أن دخول تحولات "سوتشي" إلى الأحداث السورية، مدينة ومكانا للتفاوض واللقاءات، يدل على أن لروسيا الكلمة الفصل في الميدان، ومنذ استُخدم تعبير "الدول الضامنة" والحراك السياسي السوري يخرج أكثر من يد السوريين.
بمراجعة التداعيات ما بعد مؤتمر تلك المدينة الروسية بين المعارضة والنظام، يلاحظ أن جبهات قتالية كثيرة هدأت، وأن الصراع أخذ شكل التصعيد العسكري على المناطق المعارضة تباعاً، لتفريغها بشكل تام. وفي الوقت عينه، تابعت تركيا شمالاً مسيرة التوغل، كما في عمليتها العسكرية "غصن الزيتون" في عفرين التي أصبحت، إلى جانب مناطق "درع الفرات"، تحت الوصاية التركية، والآن باتت تشكك بانسحاب "القوات الكردية" السورية أصلاً من مبنج المقتسمة "احتلالياً" مع الولايات المتحدة!
في حينها، عملت روسيا على تصعيد هجماتها في الغوطة وريف دمشق وريف حمص والقلمون وجنوب دمشق، لتكون بذلك أتمّت صفقة الدول الضامنة بالقسمة الجغرافية للمناطق السياسية المؤثرة على كيان النظام، وما يحدث في الجنوب السوري اليوم، من تساقط لبلدات درعا، تباعاً، بيد النظام وحلفائه، ما هو إلا تتمة لاتفاقيات مؤتمر أستانة التي مسخت المفاوضات إلى مساومات إقليمية، أسكتت تركيا ببعض مناطق الشمال السوري، ووعدت الولايات المتحدة بأمانٍ دائم لإسرائيل. بالتالي، كلما ظهرت عبارة "الحل السياسي" هو المخرج الوحيد للأزمة تبيّن العكس تماما لذلك الحل، خصوصاً حين يصدر هذا التصريح من موسكو، وترجمته على الأرض أن "الحل العسكري" هو المستمر لتقليص أوراق المعارضة وفصائلها.
ويلخص التراجع الأميركي لدعم فصائل المعارضة المسلحة جنوب سورية طبيعة التفاهم الذي دفع إلى لقاء الرئيسين، الروسي فلاديمير بوتين والأميركي دونالد ترامب، أخيرا في هلسنكي. والمبادرة بين موسكو وواشنطن ترسم خريطة التعديلات الأمنية واقتسام مصائر الموت اليومي في سورية، خصوصاً المناطق المعارضة، يتم تعديلها بصفقات روسية، وهنا سوف يقف المتابع مستغرباً تحولات المواقف بين الولايات المتحدة وروسيا منذ تحرّكات هذه الأخيرة المطمئنة! إذ وقبل أسابيع قليلة صرّح الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، موجهاً كلامه إلى حلفاء الأسد في سورية "يا روسيا استعدي الصواريخ قادمة، وهي جميلة وجديدة وذكية"، في إشارة منه إلى رغبة بلاده، إلى جانب بريطانيا وفرنسا، بتنفيذ "ضرباتٍ محدودة" ضد النظام، حينها دفعت القوات الروسية بوارجها الحربية بعيداً عن السواحل السورية دليلا على عدم رغبتها بالمواجهة المباشرة ضد تلك الصواريخ، بل أكثر من ذلك، راحت تتضرّع لأميركا قائلة: نحن نطلب توجيه تلك الصواريخ إلى "الإرهاب الذي تقاتله الحكومة الشرعية منذ سنوات على أرضها"، حسب تعبير المتحدثة باسم الخارجية الروسية التي وصفت صورة العلاقة بين موسكو وواشنطن في حينها على أنها "أسوأ مما كانت عليه في أي وقت مضى، وحتى خلال الحرب الباردة!". ونفذت الولايات المتحدة مع شركائها ضربتها العسكرية في منتصف إبريل/ نيسان الفائت على مواقع سورية، مدّعية أنها تعاقب نظام الأسد، بسبب استخدام السلاح الكيميائي ضد المدنيين في دوما في ريف دمشق، ومضت الضربة، وأعلن النظام في دمشق عن "انتصارٍ" من نوع ما، تلخص بمسيرات لأعلام حلفاء الأسد تتجول في ساحات دمشق، كأن تلك المسرحية متفق عليها، سرعان ما تصعّدت الحملة العسكرية على باقي الغوطة غرباً لتسقط بيد النظام، واختتم مشهد الموقف الدولي المزعوم بشأن الإنسانية المنتهكة بحق المدنيين والمناطق المعارضة. ولكن ربما هذه هي بقية السيناريو الذي اتفقت عليه إدارة ترامب مع أذرع روسية على جبهة الجنوب السوري، إذ باشر الروس بإظهار النيات التوافقية لحكومة الاحتلال الإسرائيلي والولايات المتحدة والأسد في آن، والسؤال هنا كيف كان ذلك؟
استدعى بوتين، قبل أسابيع، رئيس النظام بشار الأسد، من دمشق إلى سوتشي، ليخبره عن الفصل الثاني من مسرحية المهادنة، من أجل بقاء النظام في الحكم، وكلمة السر: إسرائيل لا تريد أي قوات إيرانية في سورية. الأمر الذي أخفاه إعلام النظام، لكنه ظهر مرتاحاً بإطلاق دعاية لعدة تحركات سريعة على مستوى الداخل السوري، مثل تسريح الدفعة 102 الأقدم في جيش النظام، وإزالة حواجز عسكرية في البلاد، وخفض سعر الدولار في مقابل الليرة السورية لبعض الأيام واستمرارية وصول التيار الكهرباء إلى مناطق كان يصل إليها ست ساعات يومياً فقط.. إلخ، هكذا يصنع النظام الشعور بالتغيير على مستوى التحكم بالتضييق الأمني على حياة الموالين له، خصوصاً بعد نهاية صفقة إخراج تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) من مخيم اليرموك جنوب دمشق بسلام إلى البادية السورية، بوساطة امرأة من جهاز إعلام النظام، وقد تعاد تلك الصفقة قريباً في تسيل، في ريف درعا، حيث سيرحل "داعش" بسلام إلى البادية السورية، أو إلى ريف دير الزور.
إذاً بات مفتاح الارتياح في جيوب وحوش العاصمة السورية، ليتم إعلان تسليم جثث آلاف المعتقلين المعارضين من سجون الأمن السوري، وتأييد وفاتهم ضد مجهول بكل "ثقة" لن يحاسبهم أحد، فما تريده الولايات المتحدة وإسرائيل تم بدقة، ماذا يهم ما سيحلّ بالسوريين وثورتهم، سواءً قتلوا تحت التعذيب أو بالأسلحة والطيران والقصف والسلاح الكيميائي إلا قليلاً؟
وبخطوات سريعة، لاحظنا الرفض المتكرّر للروس، من أجل التفاوض مع فصائل المعارضة جنوب سورية، ليكون كما تريد، سقوط تام، ثم تم التهجير وتسليم السلاح الثقيل للمعارضة، وسقط معظم الجنوب بيد الأسد، بما فيه النقاط الحدودية مع الأردن، وتحولت فصائل الجبهة الجنوبية من دون سند دولي على الملأ، تدريجياً، إلى يد الروس، بتفويض إسرائيلي وضمانات من نظام دمشق.
يرجّح أن لقاء ترامب وبوتين ناقش بجدية خطةً للتخلص من الإيرانيين في سورية، أو على الأقل تحجيم دورهم من استثمارات النفط السوري، مروراً بتجنيس المليشيات الشيعية المقاتلة إلى جانب النظام، واحتلال المناطق التاريخية التي تحمل تراث سورية وهويتها، لتشوّه حقائقها تبعاً لمشروع إيران، وصولاً إلى السماح لهم بإقامة بعض الشعائر المزعومة لحماية "مقاماتهم" في دمشق. بينما ما زالت المعارضة السياسية تدرس اقتراح المبعوث الأممي، ستيفان دي ميستورا بشأن اللجنة الدستورية، وهي لا تستطيع أن تحرّك ساكناً في فصيل مسلح معارض، حين يسير على اقتراحات مجالس الشورى والمرجعيات الدينية (على كثرتها)، تلك التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه اليوم.
بعد قمة هلسنكي وسيطرة النظام على درعا، طوى الأسد صفحة البحث عن حل سياسي في بلاده ومعه احتمال التقدم بإصلاحات أو حتى الرد على سؤال عن مسألة بقائه في السلطة، فهو لم يعد مضطراً إلى كل ذلك. وفي المقابل، طوت الثورة السورية واحدة من أهم لمعاتها الحضارية في التاريخ التي لو تسنى لها أن تُحدِث تغييراً لقدّمت أنموذجاً يضاهي في معناه نتائج الخلاص من الاستعمار.
ومع سيطرة النظام على درعا تكون اكتملت الحلقة التي بدأتها روسيا بضرب مبادئ جنيف منذ اليوم الأول لدخولها بهدف قلب المعادلة ويكون النظام أكمل مسلسل انتقاماته بضربة معنوية دهست مشاعر السوريين حين حطّم ضريح الشهيد الطفل حمزة الخطيب. جملة تصدعات معنوية جُل ما تقوله إن حجم التواطؤ الدولي تغلّب على أحقية السوريين في العمل لبلد نظيف وآمن، وأن المجاراة الدولية لروسيا في مساري أستانة وسوتشي لم يأتِ إلا في سياق هذا التواطؤ.
السؤال عن مصير الحل السياسي لم يعد موضع جدل إذ لا أحد يسأل عنه، إنما السؤال عن عودة اللاجئين بات يرمز إلى جوهر المشكلة التي لا يمكن القفز عليها، وإن أتت سيطرة النظام لتشجعه على تجاهل الحاجة إلى الحوار فإن مسؤوليته ومسؤولية روسيا كراعي للنظام في إعادة اللاجئين لا يمكن أن تتجاهل الأسباب والدوافع السياسية التي أدت إلى التهجير، وهي الأسباب التي دفعت بالجزء الأكبر من السوريين إلى مغادرة سورية. لكن روسيا تتعاطى مع هذه الأزمة من زاوية الحاجة الأوروبية إلى حلها، وليس من زاوية حق اللاجئين بالعودة بعد إزالة الأسباب السياسية، وهنا الفارق بين التوجهين، إذ لا تزال روسيا ترعى خروج المسلحين وعائلاتهم من كثير من المناطق وأشرفت على أكبر عملية تغيير ديموغرافي في الغوطة وضواحي دمشق.
إن استقرار سورية الذي يهيئ لإعادة إعمارها والشروع في استثمارات الشركات الروسية يترافق لحد الآن مع إجراءات توحي بعدم رغبة النظام وروسيا في إعادة اللاجئين، بل بالعكس فإن إعادة رسم الخرائط بين دمشق والمحافظات الأخرى وتنظيف قلب العاصمة ومخيم اليرموك والغوطة من الكتل السكانية إنما تقف خلفه فلسفة تعطي الأولية للسلم الاقتصادي والإعماري وكأن ليس هناك حاجة للأمان الأهلي والمجتمعي الذي يحافظ على نسيج سورية ومكتسباتها الحضارية. فلسفة مأخوذة من العقل ذاته الذي يحاول إقناع الفلسطينيين ببعض المحفزات الإقتصادية لقاء التخلي عن حقوقهم وكراماتهم. والقانون الرقم 10 الذي يجرد اللاجئين من حقوقهم يقول بالفم الملآن إن لا رغبة للنظام بعودة هؤلاء.
هنا لا يعود الأمر يتعلّق بمشيئة الأسد وأركان حربه في معالجة هذا الأمر، بل يتعلق بتحول مشكلة اللاجئين السوريين إلى قضية دولية تستوجب معالجاتها إقرار حقهم في العودة إلى ديارهم وضمان سلامتهم، وإن عبر قرارات دولية تصدر عن مجلس الأمن، لأن الانتقاص من البعد السياسي للأزمة السورية، إنما يحوّل تداعياتها إلى مشكلة إقليمية ودولية تستعصي على الحل. إضافة إلى ذلك ووفق التجربة التي يعيشها لبنان اليوم، حيث توحي الوقائع بأن الهدوء عاد إلى كثير من المناطق السورية ما يدفع كثيرين إلى إعلاء الصوت بضرورة إعادة النازحين، يتبدى أن الأمر أعقد بكثير مما يُقال إذ إن الهاربين من الخدمة الإلزامية من الشباب السوري الذين يقودهم الأسد إلى القتال بمواجهة أهلهم يشكلون نسبة كبيرة من اللاجئين، وهؤلاء إنما يلجأون لأسباب سياسية تتعلق بمظالم النظام الذي يمارس ساديته بوجه مستقبلهم. فالشروط المتعلّقة بالعودة بحسابات النظام هي شروط المُنتصر على شعبه وليس المُتصالح معه لحد الآن!
في جميع الأحوال فإن رحلة التهجير في سورية لم تنته بعد لكي تبدأ رحلة العودة التي تتلهّف لها الدول المتضررة من النزوح، فيما النظام يستعملها ورقة تستدعي الاعتراف بشرعيته وفتح حوار معه والدخول في ابتزاز المجتمع الدولي للضخ في إعادة الإعمار، من دون التوصل إلى اتفاق سياسي يوحي بالثقة بأن الإعمار إنما يتأسّس على واقع سياسي متماسك واستقرار مستدام.
وبالتالي فانتقال النظام من درعا إلى إدلب لا شك سيفاقم مسألة اللجوء وسيدفع بكتلة كبيرة من سكانها والنازحين إليها نحو تركيا التي بدأت تتلمّس هذا الأمر بصفته عملاً عدائياً واضح الأهداف والغايات. تحذير أردوغان يحمل أبعاداً تتعلّق بإمكانية أن تطال تداعيات التهجير أوروبا أيضاً! فيما التماثل بين الوضعين القائمين في الشمال والجنوب السوريين غير واقعي لحد الآن: فإذا هضم كل من الأردن وإسرائيل مسألة إعادة بسط النظام سيطرته على حدودهما وفقاً للترتيب الذي أدارته روسيا وتعاملا مع تدفق اللاجئين على حدودهما بصفته وضعاً مؤقتاً وغير مستدام، فإن الواقع بعد إدلب يختلف تماماً، وذلك لطبيعة تشابك القوى والدعم التركي المباشر للفصائل الذي لم يصل في الجنوب مع الأردن إلى هذا المستوى.
كلام الرئيس الروسي حول اللاجئين في هلسنكي مقدمة لدخول هذا الملف في التوازن الروسي الأوروبي، مثله مثل ملف إمداد أوروبا بالغاز! وجولة النظام القادمة في إدلب لا شك تدخل في هذا السياق.
سؤال يؤرق العالم منذ سبع سنوات، فسوريا أصبحت من الموضوعات الأهم في العالم الآن التي توضع على جداول اجتماعات الدول الكبرى والمنظمات الدولية.
من أين بدأ كل شيء؟
استطاع حافظ الأسد الانقلاب على صديقه صلاح جديد بمساعدة ودعم مؤيدين له داخل الجيش، فقد كان وقتها وزيراً للدفاع وقت اتهمه صلاح جديد في العام 1967 بأنه سبب النكسة وسبب احتلال جيش الكيان الصهيوني إسرائيل للقنيطرة. بعد الانقلاب بعام، عين حافظ أول رئيس لسوريا من الطائفة العلوية، وأخذ بمساعدة أخيه رفعت، يقضى على كل المعارضين له وأشهر تلك الحوادث مجزرة سجن تدمر، فبعد محاولة لاغتيال حافظ الأسد صعد على أحد الطائرات وتوجه إلى سجن تدمر وأمر بقتل كل المساجين فيه مهما كانت تهمتهم بدم بارد بلا رحمة أو شفقة انتقاماً من الجماعات الإسلامية والإخوان المسلمين المعارضين له وقتها.
ضيعة آل الأسد:
بعد موت حافظ الأسد في العام 2000 أثر أزمة قلبية بعد مرض طال عشر سنوات، تم تغيير القانون ليناسب سن بشار الأسد طبيب العيون والذي لم يكن هو ولي العهد الذي يعد لخلافة أبيه، بل أخيه باسل الأسد الابن الأكبر. والذي توفي أثر حادثة سيارة قرب مطار دمشق في العام 1994 واعتبرته الدولة حينها شهيد الوطن وأعلنت سوريا الحداد ثلاث أيام، وتوقف بيع الخمور في الفنادق الفاخرة احتراماً له.
بداية النهاية:
بعد حوالي 41 عاماً من حكم آل الأسد لسوريا، هبت نسائم الربيع العربي علي ياسمين الشام الذي تفتح معها، فخرج الشعب السوري، تصرخ حناجره بالتخلص من ظلم وفساد وسلب لحرياته طوال كل تلك الأعوام كما الشعوب العربية. ولكن الأوضاع انفجرت في سوريا لتتحول الثورة السلمية إلى ثورة مسلحة لحمايتها من طاغية متحكم في الجيش وكل مؤسسات الدولة. الكل يتراقص في الاتجاه الذي يشير إليه، والذي فجر الأمور وحولها لما يشبه إلي حرب أهلية هو وقوف طائفته العلوية ودعمها المستميت له ليس فقط داخل سوريا وحتى من الجارة لبنان والبعيدة إيران.
لا بترول ولا أسلحة نووية؟ فلما كل هذا التكالب عليها؟
صحيح أن سوريا لا تمتلك البترول أو موارد طبيعية كدول الخليج، ولا حتى أسلحة نووية كإيران ولكنها استطاعت جذب دول العالم بل وتطور الأمر إلى التدخل العسكري لبعض الدول فيها وحلف الأطلسي. فسوريا تقع أهميتها لروسيا التي تدعم الأسد - على سبيل المثال- في أنها الدولة الوحيدة في الشرق الأوسط الذي بقي لها بها نفوذ تضغط به على أمريكا وتناطحها بها، خاصةً موقع سوريا من العراق ولبنان وفلسطين المحتلة والكيان الصهيوني وإسرائيل والأردن. وكلها دول تشكل مصالح كبري لابنة أمريكا المدللة ولأمريكا نفسها، وستفعل روسيا كل شيء لبقاء الاسد وبقائها بالمنطقة. وقد بنت لها قاعدة عسكرية وأشركت جنود ومرتزقة لمساعدة بشار في قتال الشعب السوري. أما إيران فهي الأخرى لن تترك ضلع يساعدها هي وحزب الله في تقوية وضعهم في المنطقة، وقد أرسل كليهما جنود لمساعدة الأسد. أما أمريكا فجاءت متخفية وحذرة تحت غطاء حلف الأطلسي، فهي لن تغامر كما حدث في العراق فمازالت تلملم خسائرها من العراق حتى الآن.
أين العرب؟ نحن لا نراهم!
في بداية الأزمة شهدنا دوراً بسيطاً للكثير من الدور العربية، تمثل أكثره في التنديد وأحيانا تهديد الأسد. فدول الشام كلبنان والأردن وحتى العراق استقبلت السوريين الهاربين من جحيم الحرب. أما دول الخليج فاكتفت بالأموال والغذاء للاجئين وحث أمريكا على التدخل لوقف التمدد الإيراني الشيعي في المنطقة - على حد تعبيرهم - لتهديده لمصالحهم وأمنهم. أما مصر فكانت تتأرجح بمواقفها تبعا لكل رئيس، فموقف مرسي لا يشبه موقف النظام الحالي، ودول شمال أفريقيا هي الأخرى انغمست بمشاكلها بعد الثورات التي طالتها. هل نسيت دول الخليج سوريا وانشغلت مع إيران في اليمن لتصفيتها هناك؟
من سيكتب النهاية!
لن يكتب النهاية سوي أحد القوي الدولية الكبرى وهي أمريكا أو روسيا، التي تناطح كل منهما كالنعاج داخل سوريا، لاستعراض كل قوتهما وسيطرتهما على منطقة الشرق الأوسط. إذا اتفقتا روسيا وأمريكا وتنازلت إحداهما للأخرى تحت أي ظرف أو مصلحة في مكاناً أخر، ستنتهي الحرب السورية في غضون عام. والدليل على ذلك هو تنظيم داعش الذي ظهر من اللامكان وانتهي في اللامكان، لا أحد يدري من كان يدعم هذا التنظيم بالأسلحة والأموال وحتى الأشخاص والتدريبات. فلا أظن أن الشعب السوري كان قادراً على هكذا تمويل. والسؤال الذي يجب أن يطرح ليس متي يرحل بشار أو تنتهي الحرب، بل متي تتفق مصالح روسيا وأمريكا في سوريا؟
دعا المتحدث باسم الخارجية التركية أمس الولايات المتحدة إلى التقدم في خارطة طريق منبج. هذه رسالة إلى واشنطن كي تدع المماطلة في هذا الخصوص.
منذ مدة والقوات التركية تجري دوريات مع نظيرتها الأمريكية على طول الطريق الواصل إلى منبج، لكن قوات "بي واي دي" لم تنسحب من المدينة حتى الآن.
ومع أن شائعات عن انسحابها تنتشر من حين لآخر، إلا أن عدم صحتها يتضح خلال فترة قصيرة.
بعد مرور كل هذه الأسابيع كان من الواجب أن يُستكمل الانسحاب.
من المقرر إعادة تشكيل النسيج الاجتماعي الذي كان موجودًا قبل احتلال "بي واي دي"، وتأسيس إدارة تمثل كل سكان المدينة.
لم تبدأ حتى الآن هذه المراحل.
تستمر الدوريات التي تجريها القوات التركية مع نظيرتها الأمريكية على طريق منبج بهدف المراقبة، ويطول أمد هذه الخطوة الأولى.
بحسب شكوك أنقرة فإن الجانب الأمريكي ربما يعمل على إطالة هذه المرحلة. وهذا لا يعد تحركًا يزيد الثقة في العلاقات التركية الأمريكية.
كما أن هناك مؤشرات على تطورات سلبية أيضًا.
هناك أحاديث عن اعتزام "بي واي دي" مكتبًا له في دمشق.
قبل اندلاع الحرب لم يكن بعض الأكراد يملكون حتى الهوية السورية. بطبيعة الحال هذا مخالف لحقوق الإنسان ولا يمكن قبوله.
لكن من المثير للقلق المضي قدمًا في "فتح مكتب في دمشق"، وهو ما يعني "الاعتراف" بكانتونات "بي واي دي" في شمال سوريا.
هذا بمثابة تحذير حول المشاريع المزمعة بخصوص سوريا في المستقبل.
أي.. مشروع "الدولة السورية الفيدرالية".
هذا نتيجة خطة رسمتها الولايات المتحدة.
لكن كيف تم التوافق على تأسيس مكتب "بي واي دي" في دمشق، وهو ما يمكن فهمه على أنه ضوء أخضر من النظام السوري للخطة المذكورة؟
لا أظن التوافق حصل بضغوط أمريكية، ولكن قد يكون بتعليمات روسية لنظام الأسد. فـ"بي واي دي" لديه مكتب في موسكو نفسها.
من هنا يمكننا الانتقال إلى تقييم القمة الأخيرة بين الرئيسين الأمريكي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين.
فجزء من مباحثات الزعيمين تناول القضية السورية، وكلاهما أبديا تفاؤلًا.
السؤال الذي يطرح نفسه هو "هل التقارب الأمريكي الروسي إيجابي بالنسبة لتركيا؟".
مما لا ك فيه أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على تواصل مع زعيمي القوتين العظميين، وهذا أمر إيجابي.
لكن من جهة أخرى..
ماذا لو اتفقت القوتان العظميان على حل للأزمة السورية يتمثل في مشروع دولة فيدرالية كردية عمادها "بي واي دي" في شمال سوريا؟
عندها قد يكون من الصعب على أنقرة اللعب بورقة إحدى القوتين العظميين ضد الأخرى.
قَتَلَ الشاعر هدبة بن خشرم رجلاً، فجيء به للقصاص، وعرض أهل الشاعر دية ضخمة لإنقاذه من القتل فرفض أهل المقتول، ولكن أحد أبناء القتيل كاد أن يوافق على أخذ الدية، وينسى دماء أبيه المهدورة، فقالت له أُمه: أُقسم بالله لئن قبلت بالدية لأتزوجنه فيكون قد قتل أباك وتزوج أُمك!.. فرفض الدية التي حدثته نفسه بها مقابل دماء أبيه، وعزموا على الْقِصَاص، الذي نُسي في حارات درعا التي خُطت جدرانها بأنامل حمزة الخطيب، دفن قصاص أهلنا مع الشهداء وكُبّل ما تبقى منه مع المعتقلين ونزف حتى الموت مع المصابين المنكوبين فأمسى جثة هامدة لا روح فيها ولا رمق حياة.
ومن يعيد الحياة لثأر ميت، لم توقده صيحات حمزة الخطيب، ولم تُزكي لهيبه أنات المعتقلين، ولن يثور بآهات المكلومين، من يقسم بالله على شرفاء درعا؟، وقد قُدّ ثوب حريتهم وخُرق لباس عزهم، ورُقِعت سماء بلدهم بالذلة والانكسار، أيُّ مبضع جراح يحيكُ ما تبقى من عزة ليستنهض ثأركم الذي مات قهراً، ونحر نفسه على أطلال مثوى (حمزة الخطيب)، (ولكن حمزة لا بواكي له).
تنحدر الأدمع وتنزوي الآهات مخنوقة بعبَرات الكلام في مشهد مهيب لأسد الله ورسوله، ترنو العيون المفجوعة لحبيب الله عليه أفضل الصلاة والتسليم موقنة بأن الألم الكبير.. يردد عليه الصلاة والسلام (لن أصاب بمثلك أبداً) المصاب جلل، فهذا أسد الله ورسوله قد التحق بركب الشهداء، لكن الجزاء الآخروي ونعيم الجنان لم يثني الصحب الكرام عن المسارعة بالأخذ بالثأر، لا بواكي على أسد الله لأن السيوف أجدى في الوفاء من دمع عين قد ثكُلت، لأن رائحة دماء المؤمنين لن تخبو حتى يُنتصر لها، من ينتصر لشبل ثورتنا (حمزة) لا بواكي عليك حمزة ولا أيد تدفع الباطل عن مثواك الطاهر.
نُسيت الدماء، وترمدت شعل الضياء في القبور، ونُزعت الصرخات من ثغور الشرفاء، وذبلت فسيلة الحرية في أيدي البقية المتبقية، لم تكن لتنمو وتزهر بين أنفاسٍ تلفظها معنىً ومبنى، تكفر بها وبدماء سقتها فنفحت عطراً وشذى، لكن براثن الإثم كانت الأسبق نزعتها من صدور قومٍ حادوا عن الطريق، من يقيم اعوجاج الظلم بعد اليوم وقد كُسِرت عصا حرية هششتم بها على أعباء الناس حيناً مباركاً من الزمان، ولما ابتغيتم بها مآرب أُخرى، ما حملتْ وزر سعيكم للدنيا، مالت وتمايلت.
أبت عصا (حُريتنا) أن تخوض بالمساومات على أشلاء حمزة الذي شق بها يوماً من الأيام طوفان الظلم فعبر منه القوم سالمين، لكنهم انقلبوا على أعقابهم في سبيل عرض من الدنيا قليل، وباءوا بالخسران المبين، لا عزاء لمن ضحى بثوابت ثورة دُفع الغالي والنفيس في سبيل استمراريتها مع انعدام مسببات وجودها، إلا أنها ما زالت تجاهد وتنفح بأريج الحرية، ما دامت تُسقى بدماء الأحرار والحرائر من أبناء ثورتنا الأبية، رُبما تذبل وتهن، تنحسر وتقتصر على بضع مناطق، تسكن في أجواف بضع من الناس تدفئ نفسها ليلاً بنار عزيمتهم وتأخذ قبس همة من شموس نهارهم.
هم أهلها وهي سبيلهم الذي حُف بالمكاره وحوط بالابتلاء والفتن، فسقط من سقط وخاض بمستنقعات الخيانة والعمالة وتلوث بآسن الطاغوت، فخسر الدارين وساء عمله وهو يحسب أنه يُحسن صنعا، صدح أولياء المصالحات وأدعياء الثورة وحاشى (لثورتنا) أن تمت لهم بصلة، بقول من سبقهم من الطغاة (ما أُريكم إلا ما أرى)، التقمت الأعين رماد الخونة، فعميت ألبابهم وأعينهم عن الصواب، ومات السيف في غمد الكلام، وطُمست أفئدتهم عن رؤية دماء الشهداء، ونُحِرت إرادة القتال على فوهات بنادق الجبناء، وسالت الدماء تروي قصة العار الوليد من الخائن ابن الطاغوت (أحمد العودة)، سيلعن التاريخ كل متخاذل عن نصرة أهله وسترميه الحتوف على حروف صغير ثوارنا ليروي قصة الجرح الغائر (درعا) مردداً بأسف مرير: عذراً حمزة الخطيب.. درعا عدو.
في سبتمبر (أيلول) من عام 2012 عندما كان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يقف على منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة، عرض أحد مظاهر المنتدى الدولي لفتاً للانتباه عندما أمسك بلافتة تحمل صورة قنبلة كرتونية، وقال: «في هذه الساعة المتأخرة، هناك طريق واحد فقط للحيلولة سلمياً دون حصول إيران على القنابل النووية، وذلك برسم خط أحمر واضح على البرنامج النووي الإيراني». ثم قام برسم خط أحمر على اللافتة التي يمسكها بيده تحت عبارة تقول: «المرحلة النهائية».
إنها الصورة التي ينبغي أن تظل ماثلة في أذهاننا مع مصير الاتفاق النووي الإيراني الذي أصبح على المحك.
يعد خطاب نتنياهو الذي ألقاه في الأمم المتحدة ذروة جهوده الدبلوماسية العامة لتعبئة المجتمع الدولي لاتخاذ الإجراءات ضد برنامج إيران النووي.
وكان التهديد الضمني واضحاً مثل الخط الأحمر الذي رسمه بيده: إن لم يتحرك العالم، فلن يكون أمام إسرائيل من خيار سوى توجيه الضربات العسكرية.
ومع توقيع الاتفاق النووي المؤقت بين القوى العالمية وإيران في العام التالي، لم يتحول تهديد نتنياهو إلى واقع قط.
ومع نظرة سريعة على أيامنا الحالية، ومع الانهيار المحتمل للاتفاق النووي الإيراني في غضون الأشهر القليلة المقبلة - ونتيجة لقرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب بالانسحاب من الاتفاق - ربما نشهد حزمة جديدة من التهديدات من جانب إسرائيل والولايات المتحدة بشأن استخدام القوة العسكرية ضد إيران. ويصدق هذا الأمر بصورة خاصة إذا ما قررت طهران استئناف العمل على إنتاج واستخدام اليورانيوم المخضب لديها بكميات معتبرة ومستويات من النقاء تماثل ما بلغته إيران قبل إبرام الاتفاق النووي.
ولا تزال الضربة الإسرائيلية على المنشآت النووية الإيرانية من الاحتمالات بعيدة الحدوث. فقد يثبت الجانب الأوروبي نجاحه في إنقاذ الاتفاق النووي. حتى وإن فشلوا في ذلك، فمن غير المرجح للجانب الإيراني الحصول على القنبلة النووية على نحو مفاجئ للجميع؛ حتى وإن فعلوا ذلك، فلا يزال أمامهم أكثر من عام كامل لإنتاج ما يكفي من المواد الانشطارية المستخدمة في صناعة قنبلة نووية واحدة.
ولكن لا يمكن أن توجد هناك شكوك في وضعية إسرائيل الأفضل اليوم من حيث توجيه الضربة العسكرية الفعالة ضد المنشآت النووية الإيرانية، ومجابهة عواقب تلك الخطوة وتداعياتها، مما كان عليه الأمر بالنسبة إلى تل أبيب قبل ست سنوات مضت. ولا بد من أخذ هذه الحقيقة بعين الاعتبار في الوقت الذي يزن فيه المجتمع الدولي وإيران ردة فعلهم على انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي مع إيران.
خلال السنوات الأولى من العقد الحالي، عندما كان يُنظر إلى الخيار العسكري بكل جدية من جانب الحكومة الإسرائيلية، شكك كثيرون في قدرة تل أبيب على توجيه الضربة العسكرية الفعالة التي قد تُلحق الأضرار الكبيرة المؤثرة في البرنامج النووي الإيراني.
وعلى النقيض من البرامج النووية السورية والعراقية، حيث كانت ضربة وحيدة ضد منشأة واحدة كفيلة بإنهاء الأمر برمته والقضاء التام على القدرات النووية لكلا البلدين، فإن البرنامج النووي الإيراني يتألف من عشرات المواقع المنتشرة في طول البلاد وعرضها، وأحدها أكبر من فرنسا وألمانيا وإسبانيا مجتمعة ويقع على مسافة ألف ميل من إسرائيل.
وعلاوة على ما تقدم، فالمنشآت النووية الإيرانية الرئيسية لا تخضع فقط لحماية أنظمة الدفاع الجوي المتقدمة، وإنما هي فائقة التحصين بشكل كبير.
ولهذا السبب، قدر المحللون العسكريون أن الهجوم الفعال سوف يستلزم موجات متكررة من الغارات الجوية، التي قد تستمر لعدة أيام متتالية، مما يتطلب من المقاتلات الإسرائيلية معاودة الذهاب والإياب لعدة آلاف من الأميال لأجل إعادة التزود بالوقود وإعادة التسلح. وبالتالي سوف تكون عملية عسكرية عسيرة وعالية التعقيد حتى بالنسبة للقوى العظمى.
والأكثر منذ ذلك، من شأن هذه الضربات الجوية أن تثير ردود فعل انتقامية وعنيفة من جانب «حزب الله»، الوكيل الإيراني في لبنان، بما في ذلك إطلاق الآلاف من الصواريخ والقذائف ذات المدى الذي يغطي كل أرجاء إسرائيل. وفي ذلك الوقت، لم تكن لدى إسرائيل أنظمة الدفاع الفعالة لمواجهة هذا التهديد الصاروخي الواسع المجال.
ولقد دخلت «القبة الحديدية»، وهي نظام الدفاع الجوي المصمم لاعتراض الصواريخ بمدى يبلغ 60 ميلاً، مرحلة التشغيل الفعلي ابتداء من عام 2011 فقط. ولم يكن تطوير نظام «ديفيد سلينغ» الدفاعي - المصمم لاعتراض الصواريخ بمدى يصل إلى مائتي ميل، والمطلوب للحماية من ترسانة صواريخ «حزب الله» اللبناني التي تهدد تل أبيب وكثيراً من المواقع الاستراتيجية الأخرى والبنية التحتية الوطنية - قد بلغ مراحل متقدمة بعد.
وأخيراً، فإن عواقب أي ضربة إسرائيلية ضد إيران لن تشمل نشوب حرب طويلة مع «حزب الله» فحسب، وإنما تشمل كثيراً من الإدانات الدبلوماسية القوية من الخارج. ولسوف تحتاج إسرائيل إلى الاحتماء بالمظلة الدبلوماسية الأميركية للتعامل مع كثير من المبادرات العدائية داخل مجلس الأمن، فضلاً عن المساعدات العسكرية العاجلة التي تمكنها من الصمود في الصراع الطويل الأجل ضد «حزب الله». ومن غير المؤكد تماماً أن إدارة باراك أوباما السابقة كانت على استعداد لتوفير مثل هذا الدعم والحماية.
أما اليوم، فإن الأمور قد اختلفت كثيراً عن ذي قبل؛ فلقد حازت إسرائيل وضعية جيدة للغاية من كل سبيل يمكنها من تنفيذ هذه الضربات الجوية والتعامل مع عواقبها.
ومن الناحية العملانية، فإن التحسن في العلاقات بين إسرائيل وبعض دول المنطقة، على مدى السنوات القليلة الماضية، يفتح المجال أمام مجموعة كاملة من الإمكانات لسلاح الجو الإسرائيلي.
وعلى الصعيد العسكري، حققت إسرائيل وثبة هائلة خلال السنوات الأخيرة على صعيد قدرتها على توصيل المزيد من القنابل، بصورة أكثر دقة، وضد المزيد من الأهداف، وفي فترة زمنية معينة. وعلاوة على ذلك، أعلنت إسرائيل في ديسمبر (كانون الأول) الماضي عن دخول أسطولها من المقاتلات الأميركية الحديثة طراز إف - 35 الخدمة الفعلية في الجيش الإسرائيلي. ولا يزال هذا الأسطول صغيراً نسبياً من حيث عدد الطائرات، إذ لا يتجاوز 12 مقاتلة فقط، ولكن إسرائيل تخطط للحصول على سربين كاملين آخرين بحلول عام 2024.
وصحيح أن الإيرانيين قد عززوا من قدراتهم الدفاعية أيضاً، حيث تسلموا بطاريات إس - 300 الدفاعية الروسية المتطورة، التي اتخذت مواقعها حول المرافق الاستراتيجية في البلاد. ومع ذلك، تعتقد إسرائيل أنه بإمكانها التغلب على هذه الدفاعات الجوية حتى من دون الحاجة إلى استخدام مقاتلات إف - 35 الخفية، فضلاً عن استخدامها فعلاً.
ومما يُضاف إلى ذلك، أنه من المرجح أن توافق إدارة الرئيس ترمب - بعكس البيت الأبيض في عهد الرئيس أوباما - على تزويد إسرائيل بالقنابل المدمرة للمخابئ الجبلية التي تعتبر ضرورية في تدمير العناصر الرئيسية من البرنامج النووي الإيراني، وعلى وجه التحديد منشأة (فوردو) لتخصيب اليورانيوم التي توجد على بعد عشرات الأمتار تحت سطح الأرض بالقرب من أحد الجبال في إيران.
وإسرائيل في مركز أفضل اليوم من حيث التعامل مع تداعيات مثل هذه الضربات. أولاً، من المؤكد أن إدارة الرئيس ترمب سوف توفر الحماية الكاملة لإسرائيل داخل مجلس الأمن الدولي، في الوقت الذي توفر فيه أيضاً كل ما تحتاج إليه إسرائيل للمحافظة على العملية العسكرية الطويلة الأجل.
ثانياً، في حين أنه يمكن لإسرائيل تكبد بعض الأضرار الكبيرة نتيجة صواريخ «حزب الله» الكثيرة، فإن القدرات المثبتة والانتشار الموسع لبطاريات «القبة الحديدية» الدفاعية، جنباً إلى جنب مع نظام «ديفيد سلينغ» الدفاعي الحديث الذي دخل الخدمة الفعلية، يجعل من الاستعداد الإسرائيلي عند أعلى مستوياته عما كانت عليه الأمور قبل بضع سنوات.
ولا يُفهم من ذلك أنه لمجرد أن إسرائيل قد حققت وضعيات أفضل على عدة أصعدة تتيح لها الهجوم العسكري على إيران أنها سوف تنفذ هذا الهجوم حتماً، فلا تزال الفرص قليلة ومتدنية لمثل هذا الهجوم في الآونة الراهنة.
وهناك كثير من القيود الداخلية ومثلها من العوامل الخارجية التي من شأنها منع إسرائيل من توجيه مثل هذه الضربات في خاتمة المطاف، أو حتى تحولها إلى مجهود عسكري زائد على الحاجة (مثل الضغوط الدولية التي تجبر إيران على الالتزام بضبط النفس).
وعلى الرغم من أن القدرات الإسرائيلية المحسنة تسمح لرئيس وزراء البلاد باتخاذ مقاربة أكثر عدائية إزاء طهران، إن احتدمت الأمور وساءت عما هي عليه، فإن توقعات نجاح الضربة العسكرية سوف تكون أعلى بكثير مما كان عليه الأمر مع تلك اللافتة الكرتونية في الأمم المتحدة.
عندما يقول رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ويكرر هذا القول أكثر من مرة بأن نظام الأسد الأب والابن قد وفر الضمان لأمن إسرائيل على الجبهة الشمالية، أي جبهة هضبة الجولان المحتلة منذ عام 1970 وحتى الآن، فإن هذا «يفسر» كيف أنَّ مستجدات الأزمة أو الكارثة السورية بقيت تتلاحق وتتابع إلى أنْ أصبحت قوات هذا النظام البائس تقرع أبواب مدينة القنيطرة بعدما حطمت أبواب درعا ولكن بقذائف المدافع الإيرانية وبقنابل القاصفات الاستراتيجية الروسية، بينما الإسرائيليون على بعد أمتار قليلة يفركون أكفهم بعضها بعضاً فرحاً وتشجيعاً... و«ليذهب المعارضون ومعهم معارضتهم إلى الجحيم»!!
وحقيقة أن هذا ليس جديداً ولا هو بعد الانتفاضة الشعبية السورية في عام 2011، إذ إن المعروف إلا لمن هم مصابون بحولٍ سياسي أبدي أن حافظ الأسد عندما كان وزيراً للدفاع، عشية انقضاضه على حكم البعث في وصلته الثانية بعد فبراير (شباط) عام 1966 وانتزاعه وبالقوة من بين أيدي رفاقه، قد أصدر بياناً على لسان عبد الحليم خدام أعلن فيه سقوط مدينة القنيطرة ومعها هضبة الجولان كلها قبل سقوطها بيومين وهذا كانت إسرائيل قد اعترفت به للأمم المتحدة في وقته مما يعني أن هذه المنطقة الاستراتيجية قد سُلِّمت للإسرائيليين تسليماً وبلا أي قتال ولا مواجهة فعلية.
كانت عملية «عيلبون» التي كانت البداية لانطلاقة الثورة الفلسطينية المسلحة في الفاتح من عام 1965 قد تمت بقيادة الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات (أبو عمار)، رحمه الله، بالانطلاق من هضبة الجولان هذه في اتجاه مدينة الناصرة بالقرب من بحيرة طبريا مع أنَّ بلاغها «رقم 1» كان قد أعد في بيروت ويومها كان قد مرَّ على حكم حزب البعث نحو عامين وكان حافظ الأسد في بدايات مشواره لانتزاع الحكم من أيدي رفاقه وكان هناك «شيء» اسمه: «القيادة القومية» التي كانت داعمة ومؤيدة لـ«الكفاح المسلح» ولثورة الفلسطينيين على غرار الثورة الجزائرية التي كانت حررت الجزائر بثمن باهظ يقدر بمليون ونصف المليون شهيد بعد استعمار فرنسي ظالم كان قد تواصل لمائة واثنين وثلاثين عاماً وكان أسوأ استعمار عرفته البشرية.
لقد كانت تلك هي البداية للعمل الفلسطيني المسلح ضد إسرائيل عبر هضبة الجولان التي غدت محتلة بعد حرب يونيو (حزيران) عام 1967 لكن ما إن كانت هناك حركة فبراير عام 1966 التي أنهت حكم «القيادة القومية» ووضعته في أيدي مجموعة من العسكريين على رأسهم اللواء صلاح جديد الذي كانت نهايته الموت البطيء في إحدى زنازين سجن المزة المعروف ومن بينهم حافظ الأسد الذي بدأ يلمع نجمه والذي ما لبث أن انتزع الحكم من أيدي رفاقه في عام 1970 فيما يسمى «الحركة التصحيحية» حتى تغيرت الأمور وأصبح عبور الفدائيين الفلسطينيين لهذه الهضبة في اتجاه فلسطين المحتلة ممنوعاً ومحرماً حتى على تنظيم الصاعقة التابع لحزب البعث.
وهكذا وحتى عندما لا يزال حافظ الأسد وزيراً للدفاع في سوريا وقائداً لسلاح الجو السوري ولم يقم بعد بحركته التصحيحية في عام 1970 فإنه قد أصدر «تعميماً» عسكرياً من 26 نقطة منع بموجبه استخدام الملابس العسكرية الفدائية على الأراضي السورية ومنع الانطلاق بأي عمل مسلح ضد إسرائيل لا من هضبة الجولان التي غدت محتلة بعد عام 1967 ولا من غيرها وذلك ضد رغبة ما من المفترض أنهم رفاقه في الحزب وفي النظام من الدكتور نور الدين الأتاسي رئيس الدولة وصلاح جديد الذي كان يعتبر الرجل الأقوى في الحزب وفي الدولة.
وعليه فإن أبواب السجون السورية وفقاً لهذا «التعميم» قد أطبقت في السنوات اللاحقة، أي بعد احتلال هضبة الجولان في عام 1967 على المئات من الفدائيين الفلسطينيين الذين حاولوا القيام بعمليات عسكرية عبر هذه الهضبة وفيها الذين ينتمي بعضهم إلى «منظمة الصاعقة» التي كانت تابعة لحزب البعث وكانت تعتبر منظمة سورية.
لقد بقيت هضبة الجولان حتى بعد احتلالها في عام 1967 وحتى بعد حرب أكتوبر (تشرين الأول) في عام 1973 وعملياً حتى الآن محرمة على الفدائيين الفلسطينيين وأيضاً على أي عمل مسلح وذلك في حين أن الضغط في هذا الاتجاه وخاصة في ستينات وسبعينات القرن الماضي كان يتركز على الأردن وعلى لبنان وكانت حجة نظام الأسد في عهد الأب وفي عهد الابن أنه لا يجوز جر سوريا إلى مواجهة مع «العدو الصهيوني» قبل أوانها... وحقيقة أن هذا الأوان لم يأتِ بعد حتى بعد كل هذه السنوات الطويلة وهو قد لا يأتي أبداً ما دام بقي هذا النظام وبقي على رأسه بشار الذي بهذا الخصوص هو سر أبيه بالفعل!!
وحتى بالنسبة للوجود العسكري الإيراني في هذا البلد العربي فإن آخر ما صدر عن طهران على لسان مستشار الشؤون الدولية لقائد الثورة الإسلامية علي أكبر ولايتي خلال وجوده في روسيا قبل بضعة أيام هو أن وجود إيران في سوريا لا علاقة له بإسرائيل، وحقيقة أنَّ هذه مسألة معروفة ومؤكدة، وأنَّ هذا الوجود، الذي تمثل بأكثر من سبعين ألفاً من المقاتلين الإيرانيين بالإضافة إلى الكثير من الميليشيات الطائفية الإيرانية والأفغانية والعراقية، هو لمواجهة الثورة السورية وللحفاظ على نظام بشار الأسد الذي أكد بنيامين نتنياهو أنه بقي الضامن للأمن الإسرائيلي في هضبة الجولان على مدى كل هذه السنوات الطويلة منذ عام 1970 وحتى الآن... حتى هذه اللحظة وهنا فلعل ما هو واضح ومؤكد ولا خلاف عليه هو أنَّ إسرائيل باعتبارها لاعباً رئيسياً في الأزمة السورية هي من أبقت على هذا النظام الدموي وعلى رئيسه.
ثم وإنه ما كان من الممكن أن يكون هناك كل هذا التدخل الإيراني وبكل أشكاله المتعددة هذه لو لم تكن إسرائيل راغبة في هذا التدخل ولو لم تكن للإسرائيليين مصالح استراتيجية فيه وأهم الأدلة في هذا المجال هو أن الروس كانوا وما زالوا يساندون هذا التدخل لأنه في مصلحتهم أيضاً ولأن روسيا فلاديمير بوتين تعتبر أن بنيامين نتنياهو هو أكبر حليف لها في هذه المنطقة، بالإضافة إلى أن الولايات المتحدة إنْ في هذا العهد وإنْ في العهد الذي سبقه لا بل وفي كل العهود تعتبر أن الدولة الإسرائيلية هي الثابت الوحيد في الشرق الأوسط وأنه لا يمكن الاعتماد فعلياً على غيرها.
وهنا فإنه من المفترض أنْ لا خلاف عليه هو أن ما كان من الممكن أن تلعب روسيا كل هذه الأدوار الفاعلة والمصيرية في سوريا من دون رضا إسرائيلي وموافقة إسرائيلية وأنه ما كان من الممكن أن تكون هناك مناطق «خفض التصعيد» هذه التي كانت ولا تزال تشكل أكبر مؤامرة على الشعب السوري والثورة السورية لولا أن إسرائيل تعد يداً طولى في هذه المؤامرة الخطيرة ولولا أن الإسرائيليين يعتبرون أن هذه الثورة تشكل خطراً عليهم بمقدار الخطر الذي تشكله على النظام الأسدي فالأمور في هذا المجال باتت واضحة ومعروفة وإلا ما معنى أن تصمت تل أبيب كل هذا الصمت إزاء ما جرى مؤخراً في الجهة الجنوبية وإزاء استهداف جيش النظام السوري لمدينة القنيطرة المطوقة بالقوات الإسرائيلية من كل جانب بحجة أن فيها مجموعات إرهابية.
فماذا يعني هذا كله..؟!
إنه يعني أن من حقق لنظام بشار الأسد كل هذه «الانتصارات»!! وأبقاه في سدة الحكم حتى الآن ليس الروس ولا الإيرانيين وإنما إسرائيل بل بنيامين نتنياهو الذي أثبت فعلياً وعملياً أنه اللاعب الرئيسي في هذه الأزمة وأنه لا توجد تعقيدات ولا حلول من دونه وهذه طامة كبرى ما دام أن الأوضاع العربية بصورة عامة هي هذه الأوضاع المأساوية.
وهذا يعني، إذا أردنا قول الحقيقة، أن إسرائيل إنْ هي أبقت على نظام بشار الأسد وحافظت عليه، على اعتبار أنه بقي «حارساً أميناً»!! لأمنها خلال كل هذه السنوات الطويلة، فإنها ستبقى الرقم الرئيسي في هذه المنطقة ولسنوات طويلة.
في هلسنكي رمى القيصر الروسي فلاديمير بوتين الكرة في الملعب الأميركي، ونجح في حسم نتائج أول لقاء ثنائي جمعه مع الرئيس الأميركي دونالد ترمب لصالحه. ففي قمة استمرت 3 ساعات، عقد خلالها ترمب وبوتين لقاءً منفرداً استمر 90 دقيقة، وهي المدة التي تتطابق مع المدة الرسمية لمباراة كرة القدم، أثارت حفيظة مراكز صنع القرار في واشنطن، الذين عبروا مباشرة عن استيائهم من نتائج نهائي مونديال هلسنكي، فقد رفعت شخصيات مؤثرة في «الاستابلشمنت» ما في جعبتها من بطاقات صفراء وحمراء بوجه ترمب، معتبرة أنه ارتكب مخالفات استراتيجية وتكتيكية فادحة، منها مستوى الهجوم الذي غاب عن أدائه أمام خصم بلاده ومنافسها التاريخي، ومنها خطط الدفاع التي فشلت في حماية مصالح واشنطن وحلفائها، ما دفع بالمدير السابق لوكالة المخابرات المركزية الأميركية (سي. آي. إيه) جون برينان إلى القول إن تصريحات ترمب أكدت أنه «في جيب بوتين تماماً». موقف جون برينان يعكس قلق نخب أميركية من حجم تأثير بوتين على ترمب، خصوصاً بعد تمسكه برواية الأول عن تدخل موسكو في الانتخابات الأميركية، حيث أكد «أنه لا يرى ما يدعوه لتصديق أجهزة المخابرات الأميركية بدلاً من الثقة في زعيم الكرملين بشأن مسألة ما إذا كانت روسيا تدخلت لمساعدته بانتخابات عام 2016». تصريح ترمب جاء رداً على حديث مدير وكالة المخابرات الوطنية الأميركية دان كوست الذي قال إن «جهازه كان واضحاً بشأن التهديد الذي يمثله التدخل السياسي الروسي، وأن المخابرات ستستمر في تقديم تقييمات مخابراتية واضحة وموضوعية»، الأمر الذي يكشف الهوة في العلاقة بينه وبين المجمع المخابراتي والعسكري الأميركي المتمسك بثوابته الأمنية والاستراتيجية في العلاقة مع روسيا.
فمما لا شك فيه أن فلاديمير بوتين حصد في هلسنكي نتائج 10 سنوات من لعبة المراوغة، التي أتقن استخدامها في كافة مواجهاته الدولية، وعكست إصراره على التمسك بأغلب مواقفه وفي قدرته على انتزاع التنازلات من لاعبين أقوياء، في مقدمتهم واشنطن، بسبب عدم وجود استراتيجيات واضحة في معالجة قضايا عالمية وإقليمية حساسة، فقيصر الكرملين ذهب إلى هلسنكي وهو على قناعة بقدرة شريكه المحدودة في تقديم تنازلات في الملف الأوكراني، وبأن مقايضة أوكرانيا بملفات أخرى غير وارد، في ظل تصاعد مستوى القلق الأوروبي من الطموحات الروسية، إلا أن بوتين تمكن من الالتفاف على استحالة الاعتراف باحتلال القرم، وصعوبة رفع العقوبات الاقتصادية عن بلاده، وانتزع في القمة اعترافاً بسيادته على سوريا، وتحديده حجم ودور كافة اللاعبين، بعدما تمكن من إنجاز تفاهم مع تل أبيب وطهران يقضي بالحفاظ على مصالحهما التي تتقاطع على بقاء الأسد في السلطة، وذلك على حساب تطلعات الشعب السوري في الحرية والكرامة، والأخطر أن هذه التفاهمات بين موسكو وطهران وتل أبيب لم تراع مصالح الأمن الجماعي العربي الذي خسر آخر موطئ قدم له في سوريا بعد هزيمة المعارضة المعتدلة في درعا على يد الروس. فقد تعمد بوتين تقديم إجابات مبهمة في هلسنكي حول مستقبل الوجود الإيراني في سوريا، مراهناً على الالتباس الذي أوقع فيه كافة الأطراف، والقائم على معادلة إبعاد الميليشيات الإيرانية عن حدود الجولان المحتل إلى مسافة يحددها بالتوافق مع تل أبيب، وليس إبعادها عن سوريا، وهو بذلك يتوافق مع واشنطن في الحفاظ على أمن إسرائيل. هذا الفشل في إقناع موسكو بالضغط على طهران من أجل خروجها نهائياً من سوريا دفع السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام إلى القول «إن القناعة بضبط روسيا لإيران في سوريا، ذات منطق قيام روسيا بإزالة وتدمير الأسلحة الكيماوية في سوريا. إيران هي حليف الأسد الأكبر وحتى أكبر من روسيا».
خرجت هلسنكي بثابتة واحدة هي أن واشنطن تخلت عن سوريا، وتركتها لموسكو التي تلقت رشوة إيرانية بـ50 مليار دولار، أشبه باتفاقية «النفط مقابل الغذاء»، تعزز من خلالها طهران فرص تفاهماتها الاستراتيجية في المنطقة مع موسكو، التي لا تخلو من خلافات تكتيكية لا تصل إلى مستوى الصدام، وهي شراكة تناسب الانتهازية الروسية التي تستثمر في الضعف الإيراني لصالح طموحاتها التوسعية على حساب النفوذ الإيراني، الذي بات يعاني من ترهل خارجي وصعوبات داخلية وحصار اقتصادي كفيل بتقويض النظام في طهران.
في هلسنكي لم يحصل بوتين على لقب البطولة، لكنه فاز بميدالية أفضل هداف سجل في مرمى واشنطن نتيجة أخطاء إدارتها الدفاعية، التي ارتفعت فيها أصوات محترفيها المخضرمين من جديد، مطالبين بإعادة تأهيل لاعبيها بما يناسب حجم التحديات قبل فوات الأوان.
قبل توجهه إلى العاصمة الفنلندية هلسنكي، للقاء نظيره الأميركي، دونالد ترامب، في أول قمة خاصة بهما، استقبل الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، مستشار المرشد وأبرز وجوه النظام الإيراني، علي أكبر ولايتي، والذي جاءت زيارته موسكو لافتة لجهة التوقيت، ونوع الرسالة، وشخص حاملها أيضًا. أما التوقيت فكان بعد يوم من لقاء الرئيس بوتين رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو (في زيارته الثامنة لموسكو منذ التدخل العسكري الروسي في سورية خريف العام 2015، والثالثة هذا العام)، وقبل ثلاثة أيام من قمة هلسنكي الروسية - الأميركية.
بين لقاء بوتين- نتنياهو وقمة بوتين – ترامب، أوفدت إيران مستشار مرشدها، للوقوف على تفاصيل موقف موسكو وحقيقة التسريبات الصحافية عن "صفقة" روسية – أميركية، تعمل إسرائيل و"أصدقاؤها العرب" على ترتيبها، والتوسط فيها، وتشمل إيران وسورية، وربما القرم أيضا. بحيث تخلي موسكو بين واشنطن وطهران في مقابل انسحاب الولايات المتحدة من سورية وتركها لروسيا لترتب أوضاعها (بما في ذلك إخراج إيران منها أو من أجزاء فيها)، وتنازلات في أوكرانيا تشمل القرم، ووقف مبيعات الأسلحة الأميركية لكييف.
هذا عن التوقيت، أما الرسول فلم يكن إلا علي أكبر ولايتي، المحسوب على جناح روسيا في النظام الإيراني، وهو الذي قصدها لدعوتها إلى التدخل في سورية إلى جانب قائد فيلق القدس قاسم سليماني، ونائب وزير الخارجية في ذلك الوقت، حسين أمير عبد اللهيان، والذي كان يقوم مقام وزير الخارجية، قبل أن يتخلص منه جناح ظريف – روحاني، الساعي إلى تقارب مع الغرب، بدلًا من روسيا.
أما مضمون الرسالة التي قال عنها ولايتي إنها "تمثل انعطافة في تاريخ العلاقات الروسية -الإيرانية"، فلم يكن سوى عرض ضخم من طهران لإقناع موسكو بعدم السير في الصفقة المزعومة، والتخلي عنها في مواجهة صعبة منتظرة مع واشنطن، بخصوص ملفها النووي، ووجودها العسكري في سورية، ونفوذها الإقليمي وبرامجها الصاروخية.
يتضمن تفاصيل العرض الذي طرحه ولايتي فتح قطاع النفط والغاز الإيراني بالكامل (إيران تملك رابع احتياط نفط في العالم وثاني احتياط غاز طبيعي) أمام عملاقي النفط والغاز الروسيين، "روسنفت" و"غاز بروم"، وتحويل كل الاستثمارات من الشركات الأوروبية المنسحبة من السوق الإيرانية بسبب العقوبات الأميركية إلى الشركتين الروسيتين، أي منح روسيا ما يشبه حقوق امتياز حصرية في تطوير قطاع الطاقة الإيراني، تصل قيمة الاستثمار فيها، بحسب الروس، إلى 50 مليار دولار، لكن بوتين الذي يدرك حجم المأزق الإيراني، ويسعى إلى تحقيق أقصى فائدة ممكنة من ظروف المواجهة التي تخوضها إيران مع إدارة ترامب، يطمع بأكثر من ذلك. إذ طرح على الموفد الإيراني إنشاء ما يشبه صيغة "النفط مقابل الغذاء" التي كانت سائدةً في العراق أيام الحصار. وبموجب هذا المقترح، تعرض روسيا الحصول على كامل إنتاج إيران من النفط المخصص للتصدير، والذي قد يصل إلى 2,6 مليون برميل يوميا في مقابل بضائع روسية، وفيما تقدّم روسيا هذا المقترح كأنه معروف تصنعه لتتيح لإيران الالتفاف على العقوبات الأميركية، الا أن حجم المكاسب الروسية المتحققة منه عظيم. وبخلاف تصريف بضائعها في السوق الإيرانية، وبيع النفط الإيراني لحسابها في الأسواق العالمية، تحقّق موسكو مكاسب جيوسياسية كبيرة، إذ يجعل هذا المقترح من روسيا، بإضافة صادرات إيران (6% من صادرات النفط في العالم) إلى صادراتها (11%) اللاعب الأول في سوق النفط العالمية، متفوقة على السعودية (16%) كأكبر مصدر للنفط، ويقضي نهائيا على أي فرص بتحول إيران إلى بديل محتمل للغاز الروسي إلى السوق الأوروبية، وهو ما كانت تطمح إليه أوروبا وإيران من وراء الاتفاق النووي.
هذا يعني أن روسيا تسعى إلى أكثر بكثير مما يعرضه ولايتي: أي سيطرة مطلقة على قطاع الطاقة الإيراني، من استكشاف وإنتاج وبيع وتوزيع (كما الحال أيام السيطرة البريطانية عبر شركة النفط الأنغلو- إيرانية قبل تأميمات مصدّق عام 1951). هذا يحول إيران فعليًا إلى محمية روسية. فهل يكون هذا الثمن الذي يطلبه بوتين لعدم بيع إيران إلى الأميركيين والإسرائيليين؟ وهل غدا أصحاب البازار الأشهر جزءا من بازار أكبر، ساقتهم إليه أوهام القوة والهيمنة؟
هيمن الأداء «المخزي» و«الضعيف» للرئيس الأمريكي دونالد ترامب في قمة هلسنكي على التقارير والتغطيات وردود الأفعال التي صاحبت القمة وأعقبتها، حتى أننا لم نعرف سوى القليل عمّا دار من محادثات في «صلب» القضايا المدرجة على جدول الأعمال، ولولا تصريحات مقتضبة صدرت عن ترامب ونظيره الروسي فلاديمير بوتين في المؤتمر الصحفي المشترك، لما أمكن لنا تجميع «الصورة الكليّة» عن القمة ونتائجها.
ثمة إجماع في أوساط المراقبين والمتتبعين، على أن القمة «التاريخية» المنتظرة، انتهت بتسجيل فوز كاسح للرئيس الروسي على نظيره الأمريكي ... الأول، بدا منتشيا بما أنجز، والثاني بدا تبريريا دفاعيا، فيما فضحت نظراته الكسيفة وهدوءه غير المعتاد، تورطه في مواقف ومقاربات، ستظل تطارده طيلة حياته السياسية... الرئيس الذي يكره القراءة عموما، ويعتمد على «أحاسيسه» و«غرائزه»، خان نفسه بنفسه، قبل أن يبدأ بتلقي الاتهامات من كل نوع وصوب، بما فيها الاتهام بـ»الخيانة» و«العمالة» للكرملين.
فيما خصّ الأزمة السورية، اتفق الجانبان على ما اتضح، على «العمل سويا لحفظ أمن إسرائيل»، أمر دفع نتنياهو لأن يكون الزعيم الدولي الوحيد الذي رحب بالقمة وشكر ترامب وأثنى على بوتين ... نخلص من ذلك، أن التفاهمات الروسية – الإسرائيلية التي قيل بشأنها الشيء الكثير قبل القمة، قد أصبحت بعدها، في صلب التوافق الأمريكي – الروسي في سوريا وحولها.
يعني ذلك أن ثمة مؤشرات على استعداد روسي لـ«التساوق» مع المطالب الأمريكية – الإسرائيلية بشأن إعادة تعريف وتحديد الدور الإيراني في سوريا ... نقول «تساوق» ولا نقول مجاراة وتوافق ... فروسيا كما أسلفنا في مقال سابق، تتفهم مخاوف إسرائيل وحساباتها الأمنية، وإن كانت لا تأخذ بـ«الإيرانوفوبيا» حتى نهايتها، وتبدي استعدادا لتلبيتها على نحو واقعي وبوسائل ناعمة، وهي سبق وأن أعلنت أن لا مبرر لبقاء إيران عسكريا في سوريا، وطالباتها علنا بسحب قواتها وقوات حزب من هذا البلد، على اعتبار أن الحرب ضد الإرهاب، قد شارفت على نهايتها، وهي تؤيد دورا سياسيا (علاقات ديبلوماسية نشطة) واقتصاديا (إعادة الإعمار) لإيران في المرحلة السورية المقبلة.
مثل هذا التوجه، يكفي واشنطن وتل أبيب، مرحليا على الأقل، ولهذا قال ترامب بأنه وبوتين قررا العمل معا لمنع إيران من ملء فراغ داعش ... ولهذا السبب أيضا، احتفى نتنياهو وطاقمه الوزاري، بالمكاسب الإسرائيلية المتحققة في هلسنكي، قبل أن يتصاعد الدخان الأبيض من قاعة الاجتماعات.
ميدانيا، بدا لافتا أن تفاهمات بوتين – ترامب، قد أخذت طريقها للترجمة في الميدان السوري، حتى قبل التئام القمة، ما يؤكد أنها كانت حاضرة بقوة في الاتصالات التمهيدية، وأنها تتمحور حول تفاهمات بوتين – نتنياهو ... وإذا كانت الغارة الإسرائيلية على أهداف في محيط حلب قبل أيام، قد قوبلت بتجاهل روسي متكرر، وغير مفاجئ، فإن المفاجئ حقا، وغير المسبوق، هو أن يقوم الطيران الروسي، بضرب أهداف للجماعات المسلحة على مقربة من الجولان المحتل، ومن فوق الأجواء الإسرائيلية، فما الذي نحتاجه أكثر من ذلك، للتعرف على مدى عمق هذه التفاهمات، مثلثة الأطراف، في سوريا وحولها.
على أن سؤالا -لا شك- يطرق أذهان المراقب، ويتعلق أساسا بموقف النظام السوري من هذه التفاهمات الثلاثية، ومن المقاربة الروسية الجديدة، وكيف تنظر إيران وحلفاؤها، وبالأخص حزب الله، لهذه المسألة؟
والحقيقة أننا جادلنا من قبل، ببطلان نظرية «وحدة الجبهة الشمالية»، أو «جبهة المقاومة»، ورجحنا أن يعاود النظام السوري تسكين جبهة الجولان، ما أن تستتب له السيطرة على معظم المناطق السورية، وتحديدا الجنوبية... مثل هذا التقدير، كان يقابل بالاستنكار والاتهام من قبل ناطقين ومحللين محسوبين على «محور المقاومة»... وفي ظني أن نظام الرئيس الأسد، سيسير على هذا الطريق، وإن بحذر وتؤدة... سيما وأنه بات أكثر اطمئنانا لمستقبل نظامه، ولموقعه في التفاهمات الثلاثية، فصح أن نقول، أنه ونتنياهو، كانا بعد بوتين، أكبر رابحين في قمة هلسنكي، وتلكم من المفارقات الغربية العجيبة، حتى لا نقول من سخريات القدر.
وكان لافتا، أمس الأول، أن صحيفة الوطن السورية، المقربة من النظام، فتحت النار على مستشار المرشد الأعلى للثورة الإسلامية علي أكبر ولايتي، لقوله إنه «لولا إيران لكانت دمشق سقطت في قبضة داعش»، مع إن مثل هذا التصريح، تكرر مرارا على ألسنة مسؤولين إيرانيين كبار من قبل، وحرصت الصحيفة واسعة الانتشار، في سابقة غير معهودة، على التذكير، بأقوال مماثلة للرئيس الإيراني حسن روحاني، مشددة على الدور الحاسم الذي لعبه الجيش السوري في الحرب على الإرهاب وتحرير سوريا، كاشفة عن عمق التناقض بين نفي إيران لوجود قوات لها في سوريا (مستشارين فقط) وحديثها عن دورها في إسقاط داعش ومنع سقوط دمشق؟...
والمرجح أننا سنرى المزيد من هذه السجالات في قادمات الأيام، سيما إن لاحت في الأفق بوادر تسويات سياسية، تعيد انتشار القوات السورية على كافة الأراضي السورية، وخروج الأمريكيين والأتراك منها، بالتفاوض وليس بالوسائل المستبعدة.
رغم كل تصريحاته النارية والمثيرة للجدل إلا أن الرئيس الأميركي ترمب يعرف كيف يقف على حافة الهاوية. كان ذلك صحيحاً حتى قبل ثلاثة أيام فقط حين انزلقت قدمه في المؤتمر الصحافي مع الرئيس الروسي بوتين.
ولأول مرة أيضا منذ أن أصبح رئيساً يتراجع سريعاً ويعزو السبب إلى إساءة في التعبير وبأنه لم ينوِ التقليل من أهمية النتائج التي كشفتها المخابرات الأميركية بتدخل الروس في الانتخابات الرئاسية الأخيرة. عذر مختلق ولكن ترمب العنيد لم يتحمل حرارة النيران العدوة والصديقة أيضا، خصوصاً من زملائه الجمهوريين ومن الذكاء أنه تراجع سريعاً وسحب الزخم العدائي الهائل من خصومه الذي سيوظف لإضعاف شعبيته وإظهاره بصورة الضعيف والخائن والمتواطئ.
ترمب أقر بالتدخل وقد صرح بذلك في السابق بلا حماسة ولكنه يرفض اتهامين مهمين يريد الديمقراطيون أن يثيروا حولهما الغبار. الأول أنه يرفض أن التدخل كان له تأثير على النتائج النهائية، أي لم يتم تلاعب في النظام وحساب أصوات مزيفة له. وهذا صحيح ولا يوجد أي دليل حول ذلك. وسبب الرفض المكرر أن أي اعتراف منه يعني نزع شرعيته كرئيس وتقليل من أهمية انتصاره ويزيد من الدعوات المستمرة للإطاحة به. الاتهام الثاني هو أن هناك تواطؤا بينه وبين الروس، وهي تهمة تتردد منذ وصوله إلى البيت الأبيض ولم تثبت حتى الآن وغالبا لن تحدث. وكل الأحاديث عن أن بوتين والاستخبارات الروسية تمسك على ترمب مستندات خطيرة تبتزه بها وتجعله لين الجانب معها أو يتصرف كفتاة مراهقة عاشقة مع بوتين، هي مجرد سيناريوهات مؤامراتية تصلح لأفلام المغامرات والجاسوسية ولم يثبت منها شيء. وقد تم الترويج سابقا لتقرير يقول إن ترمب نام مع عاهرات في روسيا حينما كان ينظم مسابقات الجمال ولكن تم اكتشاف أنه تقرير مفبرك بالكامل.
ولكن لماذا يُظهر ترمب هذا السلوك المهادن مع الرئيس الروسي بوتين؟ في الغالب لأسباب سياسية واقتصادية بحتة، وقد وبخ قبل سنوات الرئيس باراك أوباما على طريقة الأستاذ والتلميذ في مقطع شهير منافسه على الرئاسة الجمهوري ميت رومني عندما قال إن روسيا أكبر خصوم أميركا. وفي ذلك الوقت كان الديمقراطيون من أكبر الداعين لمشروع الحوار والتقارب مع روسيا. ومن المرجح أن هيلاري كلينتون ستفعل ذات الشيء الذي يفعله ترمب بمد الجسور مع روسيا والتعاون قدر الإمكان لحلحلة المشاكل العالقة من كوريا الشمالية وحتى سوريا. وهكذا فعل غالبية الرؤساء السابقين لترمب بفتح قنوات دبلوماسية مع موسكو منذ روزفلت، وحتى في عز أزمة الصواريخ الكوبية لم تنقطع الرسائل المتبادلة بين كينيدي وخروتشوف. كل الهجوم الديمقراطي الذكي على ترمب بعد الهفوة التي ارتكبها سينعكس مديحا لو كان الرئيس ينتمي لحزبهم. في النهاية هي ملاكمة سياسية حزبية عنيفة وخشنة ولكن في حدود المسموح.
لكن الجديد في حالة ترمب هو أن هناك عداءً واضحاً وصريحاً من شخصيات نافذة كانت حتى وقت قريب تعمل في الاستخبارات الأميركية أو الـ"ف بي آي" وقام ترمب بإبعادها مثل جيمس كومي الذي نشر كتابا كاملا عن ترمب بعد مغادرته ووصفه بغير الكفء أخلاقيا لمنصبه، ومع الأزمة الأخيرة نشر تغريدة يطالب فيها بصراحة بالاصطفاف حول الديمقراطيين. وكذلك بيتر سترزوك أحد كبار المسؤولين عن تحقيقات التدخل الروسي كشفت رسائل له قال فيها إنهم سيوقفون ترمب من أن يكون رئيسا ردا على عشيقته المرتاعة، وفي رسالة أخرى يسخر من مناصري ترمب ويتحدث عن رائحتهم النتنة. ورئيس الاستخبارات السابق جون برينان لا يتوقف عن مهاجمة ترمب ويدعو للإطاحة به واتهمه بعد لقاء هلسنكي مؤخرا بالخيانة العظمى.
وهناك عدد آخر من شخصيات مهمة ناقمة تجعل ترمب يدخل في حالة الشكوك والارتياب بهذه الأجهزة السرية معتقدا أنها تتعقبه. أضف إلى ذلك الموقف الإعلامي منه وستكون الصورة أوضح: رئيس يستخف به لم يعتقد أحد أنه سينتصر يواجه شخصيات قوية ومؤثرة في المؤسسات المترسخة في واشنطن تعلن صراحة أنها تكرهه وتسعى للتخلص منه. من المؤكد سيخلق حالة من العداء المرير بين الطرفين. وعندما ارتكب غلطته بجانب بوتين لم يترددوا وسلوا سكاكينهم، ولكنها ستجرحه هذه المرة ولن تقتله كما يأملون.