عشرات، إن لم يكن مئات، العائلات، تفاجئها يوميا أنباء مقتل أبنائها في سجون نظام الأسد، إما بتبليغ الأسر مباشرة من أجهزة المخابرات، أو يكتشف الأهل الأمر عند استخراج أوراق من دوائر السجل المدني، أو حتى يبلغهم أحد من الدوائر ذات العلاقة بالأمر.
طوفان من أسماء الشهداء الذين يموتون تحت التعذيب تغرق فيه سورية. وبصمت، وبعيداً عن أعين الإعلام يتم تهريب مذبحة لعشرات آلاف المعتقلين على مدى سنوات الثورة. تفيد تقديرات بأن عدد السجناء الذين انقطعت أخبارهم يتجاوز مائتي ألف معتقل، عدا عن عدد مثلهم لم يعترف نظام الأسد باعتقالهم، على الرغم من دلائل كثيرة على قيامه بذلك.
تنسب تقارير الوفاة التي تستخرجها أجهزة مخابرات نظام الأسد موت المعتقلين إلى أزمة قلبية، من دون خشية من انكشاف هذه الذريعة المتهافتة، والسبب أن الأزمة القلبية واحدةٌ من أسباب الموت التي لا تثير أسئلةً كثيرة لدى المتلقي، ما دامت الأجهزة لا تستطيع الادعاء بأن عشرات آلاف السجناء انتحروا في السجون، نتيجة إحساسهم بالذنب، وما دام النظام لا يستطيع ذكر الأسباب الحقيقية للوفاة، التعذيب الشديد، أو القتل المتعمد.
لكن من هؤلاء الذين تصر أجهزة الأسد على إرسالهم إلى الموت من دون رحمة؟ وكيف لنظام يقول إنه انتصر ويقتل شبابا؟ ثم ماذا عن الحل السياسي الذي زعم رأس النظام أنه صار ممكناً الآن؟ من يفتش في هوية هؤلاء يجد أنهم، في الغالب، من عناصر الثورة المدنية، طلاب ثانويات وجامعات، كتّاب ومصورون ونشطاء وكوادر متعلمة، أصحاب أفكار ليبرالية ويسارية، وحتى لا منتمون سياسياً، بقدر ما لديهم ثقافة تحرّرية، ونشطون اجتماعياً وثقافياً، ولديهم القدرة على التعبير عن أنفسهم وعن الحراك الثوري ووصف جرائم النظام. ظهر هؤلاء يوم قامت الثورة، بعد أن كانت قدراتهم وطاقاتهم حبيسة خيالاتهم وصدورهم، وشكلت الثورة المنصّة الكبرى لعرض قدراتهم.
في حسابات نظام الأسد، هؤلاء هم عدّة الثورة وأدواتها الأساسية، وبتحطيم هذه العدّة لن تكون هناك ثورة لسنوات طويلة مقبلة، فهم محرّكات الثورة، ومن يبلورون محفّزاتها، وهم من يكشفون للمجتمع دروب الخلاص من الاستعباد والفساد. وبحسابات هذا النظام، لا يمكن التصالح مع هؤلاء، كما يفعل مع المسلحين، ولا يمكن المغامرة بإطلاق سراحهم، وإعادتهم إلى بيئاتهم، لأن الثورة إذا نامت، فهؤلاء قادرون على إيقاظها.
ليس قتل الناشطين في سجون الأسد حدثاً مقطوع الصلة عن كل الإجراءات التي قامت بها أجهزة النظام لقتل الثورة، فلم تكن قد مضت على انطلاق الثورة أشهر قليلة، حتى أصدر نظام الأسد قائمةً بمليون مطلوب للأجهزة المخابراتية، حينها لم يكن السلاح قد ظهر، ولم يعرفه أي من الناشطين والمتظاهرين، وبما أن هؤلاء المليون كانوا يعرفون مصائرهم، لو تم القبض عليهم، فإنهم قرّروا مرغمين التخفّي أو الهرب خارج البلد، وتكشّف لاحقاً أن نظام الأسد تعمّد تسريب لوائح المطلوبين، ليتخلص من عدّة الثورة.
أيضاً، يدخل أمر قتل السجناء ضمن مخطط القضاء، بالكامل، على الجيل الذي مسّته الثورة، سواء الذين انخرطوا مباشرة بفعالياتها، أو الذين لم يثبت أنهم شاركوا من قريب أو بعيد في الثورة. وقد يرى القارئ أن هذا الطرح مبالغٌ فيه، غير أن جنون نظام الأسد وغباءه دفعاه إلى التفكير على هذه الشاكلة، بل والعمل على تطبيق هذا التفكير عملياً، بدليل وضعه كل شخص يبلغ عمره بين العقدين، الثاني والرابع، على لوائح المطلوبين، إن لم يكن لزجّهم على جبهات المعارك، لإدخالهم إلى السجون بذريعة الاشتباه.
تكشف مجريات تطورات الأوضاع في سورية أن نظام الأسد سيواصل الحرب على السوريين إلى أمد طويل، وحتى لو سكتت الجبهات، وصمتت المدافع، وزالت المخاطر، فإن ماكينة القتل لن تتوقف، والسبب أن تقييم نظام الأسد هذه الأوضاع يقوم على اعتبار أن لديه فرصة يتوجب استثمارها إلى أبعد الحدود، فعين العالم غائبة، والستارة أسدلت على الحدث السوري، والمجتمع السوري ضعيف وممزق إلى أبعد الحدود، والفرصة مواتية لممارسة التنكيل بأبشع صوره.
من بين أصعب المآسي التي واجهها السوريون مأساة قتل السجناء، ذلك أن أهالي المعتقلين ماتوا عشرات المرّات، وهم يعيشون قلق الانتظار والخوف، ويتمسّكون بالأمل، على الرغم من حبائله المتقطعة، ليأتيهم خبر موت أبنائهم، في نهاية المطاف، مثل ضربة صاعقة، وكأن عصابة الأسد تقول لهؤلاء، موتوا جماعياً بالأزمات القلبية، قتلنا أبناءكم خنقاً وسحلاً وتقطيعاً، أشبعنا غليلنا بموتهم، والآن ننتقم منكم لمسؤوليتكم عن تنشئة هؤلاء العاقين.
ليس بشار الأسد فارساً نبيلاً كي يعفو عن خصومه، حينما يكون في موقع القوّة، ولا هو بالرجل الذي عرك السياسة ووصل إلى المنصب بجهوده. ويذكر من عرفوه أنه حين تم استدعاؤه من لندن، بعد موت شقيقه باسل، الوريث الأساسي لسلطة حافظ الأسد، جرى تكليف قادة أجهزة المخابرات بتعليمه ألف باء الحكم، وهؤلاء يعتبرون جميع السوريين خونةً ومتآمرين، ما داموا أحياء يتنفّسون، وهم ليسوا سوى عبء فوق ظهورهم، والسياسة الممكن التعامل معهم بها هي إخضاعهم بالسوط إلى أن يأتي أجلهم، وأفضلهم من يرحل باكراً ويريح.
لم تكن ثورة أهل السنة في سورية من 1979 حتى 1982 بذاك الاتساع والامتداد الجغرافي الذي يُعوّل عليه، بل اقتصرت على محافظة حماة و أجزاء من محافظات أخرى بوتيرة أقل كمحافظات حلب وإدلب ودمشق وديرالزور، واختلف التفاعل معها من محافظة لأخرى بطرق متعددة (مواجهات مسلحة، كمائن، تفخيخ) أو بطرق سلمية (إضرابات، مظاهرات على نطاق ضيق).
ولم تكن بمعزل عن بعض التدخلات الإقليمية التي ساندت (الثورة الصغيرة) ولو بنطاق ضيق سواء بإيواء الثوار وتدريبهم وتسليحهم وحتى بدعمهم إعلامياً، على الرغم من التقوقع الإعلامي والخطاب الخشبي اللذين كانا سائدين آنذاك.
أو سواء بدعم النظام من الدول العربية (باستثناء العراق والأردن) والصديقة التي ساهمت بالتعتيم الإعلامي على مجازر النظام و دعمه عسكرياً واقتصادياً كـالاتحاد السوفييتي ودول عربية كان مسؤولوها على علاقته متينة مع المجرم "رفعت الأسد"!!
وكان أحد مسؤولي هذه الدول ولي عهد، وكان في زيارات دائمة وأسبوعية لسورية، ولا يمر (يوم خميس) إلا وهو ونائب الرئيس السوري "رفعت الأسد" مجتمعان في سهرة حمراء، تنتهي بحمل ولي العهد على الأكتاف فاقداً للوعي لإفراطه في السُكر و مقارعة النساء (حسبما روى لي أحد أفراد سرايا الدفاع) والذي كان يعمل في الحرس الخاص للمجرم "رفعت أسد".
ولن أستفيض أكثر في هذه النقطة حتى لا أخرج عن موضوعي الأساسي.
ما أريد قوله هو أن ما حدث في ثورة أهل السنة في سورية من مجازر، لا يُشكّل كنسبة مئوية (5%) على سبيل الافتراض مما حدث في ثورة أهل السنة في سورية التي اندلعت عام 2011 والمستمرة حتى اللحظة، ولن أدخل في حوار الطرشان في الإجابة عن سؤال (هل انتهت الثورة أم ما زالت مستمرة) و لهذا السؤال مقام آخر ليس هذا مكانه.
تلك الثورة الثمانينية في القرن الماضي و آلامها و جروحها، كانت جمراً تحت الرماد، أشعلت ثورة استمرت لسنين سبع ولما تنتهي، وامتدت واتسعت في كل الجغرافية السورية، وتفوقت على أمها وأبيها و خلّفت ما يقارب المليون شهيد ومثلهم من المفقودين والمُصابين والمعاقين، فضلاً عن أيتام وأرامل وأكثر من عشرة ملايين لاجئ في دول العالم، وخمسة ملايين أو يزيد نازحين عن ديارهم داخل سورية، وأجيال نشأت في مخيمات القهر و الحرمان و عايشت تمنن الشقيق والصديق، واحتقار العنصريين والنازيين الجدد، هذا الثورة لم ولن تنتهي، ولن تمر بمرحلة انقطاع طويلة كثورة الثمانينيات، بل ستؤتي أُكلها (بإذن الله) عقائدياً وسياسياً وربما جغرافياً، ولن ينتصر النظام و حلفاؤه، وسيتبع هذا الجزر مدّاً يجرف كل شائبة طفت على سطح الثورة (سهواً) أو (تآمراً)، ومن يعرف ويتذكر (ضفادع) الثمانينات، حجم أهل السنة الرماديين الذين ساندوا النظام آنذاك، وحملات الاعتقال والتضييق التي سادت بعد سيطرة النظام على مناطق الثورة في الثمانينيات، سيُدرك اليوم أن ثورة القرن الحادي والعشرين ستبقى وتُغير بإذن الله.
تحوّل الوضع السوري إلى محور لقاءات دولية لا تنتهي، وليس مؤكدا أنها ستنتهي قريبا. وبعد حقبة أولى، كان موضوع هذه اللقاءات التعبير عن دعم الشعب السوري والصداقة له، ضد نظامه المتوحش، تتمحور المفاوضات اليوم بشكل صريح بشأن تأكيد كل طرف إقليمي أو دولي مصالحه القومية. وتدّعي دولٌ تبعد آلاف الكيلومترات عن حدود سورية مصالح استراتيجية كبرى ومصيرية فيها. لكن أحدا من هذه الأطراف لم يعد يسأل أو يتساءل عن مصالح السوريين الوطنية، ولا عن معاناتهم الهائلة، ولا من باب أولى عن حقهم في تقرير مصيرهم، أو تمكينهم منه.
لا أعتقد أن السؤال الصعب الذي تطرحه هذه المفاوضات الدولية على اقتسام جلد الحمل السوري يكمن في معرفة لماذا لا تتردّد الدول في سحق شعب، واستباحة حقوقه، عندما تبدو لها الفرصة سانحة لذلك. فهذه هي سنة الصراع بين الأمم منذ أقدم العصور. السؤال الأهم والذي يساعدنا على توسيع مداركنا حول ما يجري حولنا وفي العالم هو السؤال المعاكس: ما الذي يحفز دولا، قادرة ولديها القوة للتوسع وزيادة مواردها ومصالحها ألا تفعل ذلك على حساب الشعوب الضعيفة أو المنكوبة؟ والأكثر أهمية سؤال ما الذي يدفع بعض الدول القوية إلى تقديم العون لشعوب زلت قدمها أو اعتدي عليها، من قوى داخلية أو خارجية، إلى الشعور بالمسؤولية تجاهها، وبذل الجهد لمساعدتها للخروج من نزاعات داخلية أو خارجية مدمرة، حتى لو اضطرها الأمر أحيانا لمواجهة دول طامعة فيها، ومصممة على احتلالها أو الفتك بشعبها؟ باختصار، ما الذي يجعل السوريين يعتقدون أن المجتمع الدولي قصّر في حقهم، لأنه لم يبادر إلى نجدتهم ووقف عمليات القتل المنظم وأعمال الإبادة الجماعية والتهجير القسري الذي مورس بحقهم، ومن أين يأتي هذا الحق، وهل يمكن المراهنة بالفعل على التضامن الدولي في المستقبل، وما الخيار إذا لم تعد لهذا التضامن أسس قوية أو نوابض حقيقية؟
تدخل هذه التساؤلات في إطار البحث في موضوع المجتمع الدولي، من حيث هو مجال منظم نجحت فيه الدول والمجتمعات في أن تخضع سلوك الدول المكونة للمجموعة الدولية قواعد وقوانين وقيم أخلاقية، تساهم في ضبط ديناميات القوة التي تتحكّم في النظام الدولي، من حيث هو توازنات للقوى، حتى لا يظل محكوما بقانون الغاب الذي يأكل فيها القوي الضعيف، من دون تردّد ولا رحمة. وهي تبطن إمكانية التوفيق، إلى هذا الحد أو ذاك، بين السياسة التي توجهها المصالح الخاصة أو الوطنية، والأخلاق التي تطمح إلى وضع حدودٍ لاستخدام القوة، لغاية الحفاظ على المجتمع الدولي وضمان التعايش بين شعوبه ومجتمعاتها القوية والضعيفة. وهو ما نجم عنه مفهوم المجتمع الدولي الذي يشير إلى فضاء دولي منظم حسب قواعد ومبادئ، لا حقل صيد مفتوح من دون حدود لمن يملك القوة. وهذا هو أساس قيام النظام المجتمعي أيضا.
(1)
ولد المجتمع الدولي القائم، كما تمثله مواثيق الأمم المتحدة ومنظماتها، والذي نشهد كل يوم تراجع صدقيته وتفكك بنيانه، من رحم الحرب العالمية الثانية. وكان الدافع إليه مشاعر الأسى التي نجمت عن الكارثة الإنسانية التي خلفتها حربان عالميتان، دمرتا حياة عشرات ملايين البشر في القارة العجوز وخارجها، وزرعتا الخراب في أوروبا ومحيطها، وقسم كبير من آسيا التي دخلت في الحرب، أو أدخلت فيها. فقد نشأت عن هذا الخراب، وبسببه، إرادة قوية لدى النخب السياسية والرأي العام الغربي، لوضع حد لهذه الحروب التي كانت جميعها حروبا استعمارية، محورها الصراع على تقاسم مناطق العالم من الدول الأكثر تقدما صناعيا وعسكريا وحضاريا في أوروبا وآسيا والأميركيتين. وهكذا أقرت الدول الخارجة من الحرب إقامة منظومةٍ من المؤسسات والقواعد والأعراف، تضبط سلوك الدول، وتهدف، كما ينص على ذلك ميثاق الأمم المتحدة، إلى ضمان السلم العالمي، وحل النزاعات بالوسائل السياسية. وحلت منظمة الأمم المتحدة محل عصبة الأمم التي سقطت في الحرب، وبسببها بمقدار ما أظهرت، في الصورة التي شكلت عليها، عجزها عن بناء التفاهم بين الدول، والمساعدة في حل النزاعات فيما بينها، قبل أن تتفجر في حروب دموية وانتحارية.
لم يكن التوقيع على اتفاقية دولية تجربة جديدة في العلاقات الدولية، حتى بالنسبة للغرب الذي تحول، منذ القرن السابع عشر، بما كان يشهده من تحولاتٍ علميةٍ وسياسيةٍ وعسكريةٍ واقتصاديةٍ جديدة ومجدّدة، في الوقت الذي بقيت فيها المدنيات الكبرى القائمة في آسيا والشرق الأوسط تكرّر نفسها، إلى أهم مسرح لحركة التاريخ العالمي، فقد سبقتها اتفاقات ويستفاليا التي أنهت دورة حروب قارية طويلة عصفت بأوروبا في القرن المذكور ذاته. وقامت حقبة السلم التي أعقبت التوقيع عليها على وضع حد لمبدأ التوسع الإقليمي، بصرف النظر عن الذرائع، دينية أو ثقافية أو استراتيجية، والاعتراف بالحدود القائمة للدول حدودا نهائية. وكان ذلك أول محاولة لوقف العمل بما كان يسمّى حق الفتح الذي ساد خلال القرون السابقة، وفي كل القارات، حيث لا يرسم حدود الدولة إلا قوة سلاحها ومقاتليها، والذي قام عليه قيام الإمبراطوريات والسلطنات الكبرى، والاعتراف بها في جميع أنحاء العالم. وحل محل حق الفتح إقرار مبدأ سيادة الدولة التي تشكل المقوم المعنوي والسياسي الأول لها، واعتبار المساس بها تقويضا لوجودها، وخرقا للاعتراف المتبادل بمساواة الشعوب في حقوق الحماية والاستقلال والحفاظ على هويتها ومواردها ووجودها.
ولم يعد يعترف بالدولة ناقصة السيادة كدولة، وإنما بوصفها مستعمرة أو محمية أو إمارة.
لكن اتفاقيات ويستفاليا التي يعتبرها علماء العلاقات الدولية أحد الأركان المؤسسة للدولة القومية وللنظام العالمي الحديث، لم تحترم كثيرا بعد توقيعها. وكما يحصل اليوم في منظومتنا الأممية، عادت الدول الأقوى في القرون الثلاثة التالية إلى استخدام تفوّقها الاستراتيجي والعسكري من أجل فرض خياراتها على العالم، أو على الدول القريبة منها. وشنت الحروب بالوكالة من أجل إضعاف هذه الدولة أو تقسيم تلك، أو قطع الطريق على هذا الشعب أو ذاك على استكمال تحرّره الوطني، وممارسة حقوقه التي تعترف له بها المواثيق الدولية. ومع ذلك، استمر درء الحروب، والحفاظ على السلم العالمي الدافع الرئيسي لاتفاقيات دولية متجدّدة، والمبرّر لها، وبموازاتها عرف القانون الدولي تطوراتٍ مهمة في اتجاه إخضاع العلاقات بين الدول لقوانين وأعراف وقواعد، تحمي الضعيف من القوي، وتشيع مناخا من الأمن والسلام العالميين بين الشعوب التي تعيش في ظلها.
كانت فترات الحروب الطويلة تنتهي دائما بمعاهدات سلام مشابهة للتي وقعتها دول أوروبا والعالم بعد الحربين العالميتين، وبترتيبات قانونية ضرورية من أجل توطيد الأمن وإعادة إعمار المناطق المنكوبة وحفظ حياة ما تبقى من سكانها قبل العودة من جديد، في حقبة تالية، إلى جدلية الحرب والنزاع: في الماضي، لتوسيع رقعة أراضي الملك أو السلطان، وبالتالي تعظيم قوته وقدراته العسكرية مد حدود الإمبراطورية، وفي الحاضر للهيمنة الإقليمية أو الدولية التي تترجم، تماما كما كان الأمر في حروب التوسع الإمبراطورية، بتحقيق فوائد ومنافع وأفضليات اقتصادية واستراتيجية تعزّز موقف الدولة وموقعها في المنظومة الدولية، وبالتالي نصيبها من التحكّم في الموارد العالمية والسياسات الدولية التي تمس مصير المعمورة بأكملها.
ما ميز سلام ما بعد الحرب العالمية الثانية الذي نشأت في ظله منظمة الأمم المتحدة عن سابقاتها ليس الهدف، وإنما أمران: الأول طموحها إلى جعل معاهدة السلام الأوروبية الأميركية اليابانية معاهدة دولية مفتوحة تشمل جميع الدول، تلك التي دخلت الحرب وتلك التي لم تدخلها، والدول القائمة بالفعل وتلك التي سوف تقوم في ما بعد، أي نزوعها العالمي. والثانية ضمان تطبيقها من خلال آليات ومؤسسات تعمل في اتجاهين: تعزيز التقارب بين الدول على الصعد الثقافية والاقتصادية والاجتماعية، ثم إرساء قواعد تضمن ضبط القوة، وتقييدها بقوانين ومواثيق، والحيلولة دون استخدامها بغير حق وخارج القانون الدولي، والتشجيع على حل النزاعات بالوسائل السياسية. وهذا ما تشير إليه تعدّدية مؤسسات الأمم المتحدة المتخصصة في الشؤون الثقافية والاجتماعية والقانونية والإنسانية، وكذلك الدور المركزي الذي يلعبه مجلس الأمن الذي احتفظت الدول المنتصرة في الحرب باحتكار الحق في تعطيل أعماله، إذا لم تتطابق قراراته مع مصالحها.
بعد أقل من سبعة عقود، تبدو تجربة الأمم المتحدة أكثر تخييبا للآمال من سابقاتها، فقد أدى التعطيل المنهجي لمجلس الأمن، وهو المؤسسة السياسية الرئيسية للمنظمة، إلى القضاء نهائيا على مفهوم حكم القانون في العلاقات بين الدول. وتكاد هيئاتها القيادية تعلن إفلاسها وفشلها في إيجاد حل سياسي وسلمي لمعظم النزاعات القائمة. والسبب واضح: إذا كانت المنظمة الدولية قد أقرّت حكم القانون بين الدول، وجسّدته يبقى السؤال: ما الذي يضمن تطبيق القانون نفسه، أو كما نستخدم بالنسبة للدولة، سيادة القانون في العلاقات الدولية؟ لا شيء بتاتا سوى إرادة الدول الأقوى، منفردةً أو متكتلة. فهي تملك وحدها إمكانية تطبيقه من عدمه. غياب القوة لتطبيق القانون بشكل مستقل عن أصحاب العلاقة، قوّض معنى القانون الدولي تماما. ولم يكن هذا أكثر وضوحا مما هو عليه اليوم.
وراء التطلع إلى منظمةٍ ترعى سلاما عالميا ودائما، كما تنص مواثيق الأمم المتحدة كانت تكمن ثقافة الأنوار التي أحيتها كوارث الحربين العالميتين، الأولى والثانية. وهي ثقافة كونية أو إنسانية تقدم قيم كرامة الفرد وحريته إنسانا على حساب قيم التعصب القومي والتفوق العرقي أو الحضاري التي سيطرت على المجتمعات السياسية التي أشعلت نار الحروب، وشجعت عليها، في عموم دول القارة الأوروبية. وكانت هذه الثقافة قد نمت في سياق ترشيح شعوب أوروبا نفسها لقيادة العالم منذ القرن الثامن عشر، بعد أن أسست لفكر الحقوق الفردية والأخلاق المدنية.
والحال أن تراجع أثر هذه الثقافة لدى النخب الحاكمة في عموم البلاد أو أكثرها، وعودة ثقافة التفوق العرقي والثقافي والتمييز ضد الشعوب والأمم الضعيفة، وفي مقدمها العرب والمسلمون عموما، وتفاقم الاعتقاد بأن الشعوب أو الأمم ليست متساوية، وأن هناك الصالحة للمدنية منها وأخرى يحسن تهميشها وتحييدها، أو أن هذا الشعب متخلفٌ لا يرقى إلى مستوى ممارسة قيم الحق والقانون والحرية والكرامة، أو همجي لا يصلح معه الحل السلمي والحوار، ولا يمكن التعامل معه إلا بالقوة والعنف، أقول تراجع هذه الثقافة عند النخب الحاكمة، بما فيها الديمقراطية والليبرالية في الغرب، قد قوّض الأسس الفكرية والأخلاقية التي تقوم عليها فكرة المجتمع الدولي القائم على حكم القانون والشرعية الدولية، والذي يعني تضامن القوي والضعيف في تطبيق القانون، وضمان الحقوق المتساوية للدول والشعوب السيدة. لم يعد هناك حافز للتعاون على تطبيق القانون، بل يزداد الميل اليوم عند الدول القوية أساسا إلى التحلل من الالتزامات والعهود الدولية السابقة، كما تفعل واشنطن وروسيا اليوم، أكبر قوتين عسكريتين في العالم.
(2)
بانهيار مفهوم التضامن العالمي، وهو ليس مفهوما سياسيا، ولا يرتبط بالدول والحكومات فحسب، ولكن قبل ذلك، وأكثر من ذلك، بوعي الرأي العام العالمي وثقافته، أي بالشعوب والمجتمعات، وتراجع فاعلية الضمير المرتبط بقيمه، لا يبقى هناك أساس يرتكز إليه احترام القانون الدولي.
وبتقويض الأساس الأخلاقي الرئيس الذي يقوم عليه المجتمع الدولي ومنظمة الأمم المتحدة، يزول الحافز لاحترام حق الشعوب الأخرى، أو حتى التضحية بأي جهد، مهما كان ضئيلا، من أجل حماية حقوقها الأساسية، ويحل البحث عن الأمن والسلام الداخليين، الوطنيين، محل شعار الحفاظ على الأمن والسلام الدوليين الذي قامت على أساسه منظمة الأمم المتحدة.
وكما قاد التطلع العالمي في فترة ما بعد الحرب الثانية إلى منظومة دولية تضمن السلام والأمن الدوليين، في سياق أجندة إعادة الإعمار للدول التي أنهكتها الحرب إلى تخفيف القبضة عن الشعوب والأقطار المستعمرة، وفتح لها نافذة كبيرة لانتزاع استقلالها وإعادة تنظيم نفسها، وفي ما وراء ذلك تغيير البنية الجيوسياسية العالمية، وإعادة بناء مسرح السياسة العالمية، مع تشكيل دول قومية جديدة، وتقدم بعضها إلى مصاف دول مؤثرة ومستقلة بالفعل، يقود النكوص الذي نشهده اليوم إلى الثقافة الشعبوية والخصوصويّة وقيمها الأنانية والشوفينية، بل والعنصرية الفاقعة، إلى تخلّ كامل عن أي فكرة للتضامن العالمي، والقبول بإبادة شعوب واستخدام المحارق كما حصل في الأربعينيات من القرن الماضي، من دون اكتراث كبير من أحد. وهذا هو السقوط الأخلاقي بحد ذاته. وتقدم منطقة الشرق الأوسط، وفي قلبها المحنة السورية، النموذج الأكثر تجسيدا لهذا السقوط، وانهيار أخلاقيات التضامن الذي قام عليها.
لا تتعلق المشكلة، إذن، بطبائع شخصية أو بأشخاص "مصروعين"، أو مستهترين بالأعراف والقواعد المرعية والأصول، من دونالد ترامب إلى فلاديمير بوتين وكيم جونغ أون وحتى بشار الأسد. المشكلة بنيوية تتعلق بانهيار التوازنات الدولية، وشعور الأقوياء بأنهم محتكرون للقوة، وقادرون على فعل أي شيء من دون عقاب أو مساءلة، ولا قوة أخرى تستطيع ثنيهم عن قراراتهم، أو أخرى تحدّ من جنون القوة.
وهذا الاختلال الكبير في موازين القوة هو الذي ينتج الجنون الدولي، ويحوّل "العقلاء" إلى شاذين وساديين ووحوش. وهذا ما حصل بالضبط، ولا يزال يتفاقم، بعد زوال توازنات الحرب الباردة ونظام ثنائية القطبية، من دون أن يحل محله أي نظام يحفظ الحد الأدنى من التوازن الدولي. أما تكتل معسكر عدم الانحياز فقد كان لانهياره أثر أكبر من زوال الحرب الباردة على مصير الدول المتوسطة والصغيرة التي تشكل أكثرية دول العالم. وهي التي تفتقر اليوم لوسائل الدفاع، بل وشروط الاستقرار، وربما بالنسبة لكثير منها، البقاء في المستقبل.
لا أعتقد أن النتائج ستكون أفضل لو حصل تفاهم بين الكبار، أميركا والصين وأوروبا وروسيا، عليها. بالعكس سوف يزيد هذا التفاهم من فرص تسلط هؤلاء القادة وجنونهم، ويحولهم إلى وحوش تتقاسم فرائس سهلة، لاحول لها ولا قوة ولا معين. والواقع أن زعماء دول كبرى كثيرين يتصرفون منذ الآن كقبضايات الحي ويتنازعون، كما كان الحال في الحقبة الاستعمارية، على اقتسام موارد المعمورة، وعلى مناطق النفوذ فيها من دون خوفٍ ولا خجل.
ما هو مطلوب لتغيير سلوك الدول والحكومات المستأسدة ليس الاستسلام لها، ولا مواجهتها الانتحارية. إنه تماما عكس ما فعلته إيران الخمينية في السنوات العشر الماضية. بدل السعي إلى تقليد الدول الكبرى ومواجهة ضغوطها القوية بالفتك بالدول الصغيرة، وانتزاع مواردها وميزاتها منها، ينبغي العمل على لمّ شمل الدول المتوسطة والصغيرة، وإعادة بناء قطب عالمي قوي منها، يحل محل كتلة عدم الانحياز البائدة، يحمي مصالحها، ويحدّ من تغول القوة على القانون والحق. ولا يمكن تحقيق ذلك إلا ببناء روح التضامن المعدومة بينها وبناء قواعد الدعم المتبادل، والتقريب بين وجهات نظر دولها، وحل الخلافات التي تفرّق صفوفها. وهذا يحتاج تطوير ثقافة ما فوق قومية، أو عالمية جديدة، وتجديد المهمل والمتهالك من قيمها، وتظهير وحدة المصالح ووشائج القربى وحوافز التعاون والتكافل بين الشعوب الضعيفة والمستضعفة، وتوسيع دائرة التبادل الثقافي والاقتصادي والاجتماعي والحوار بين نخبها، في سبيل إنشاء فضاء حي وفاعل للمجتمعات الضعيفة، موازٍ لفضاءات الدول الكبرى المهيمنة على الاقتصاد والسياسة والقانون والفكر العلميين.
لا يشكّ اثنان في أن روسيا حققت إنجازا كبيرا من خلال تنظيمها لدورة كأس العالم لكرة القدم. كانت دورة كأس العالم مناسبة كي تلمّع روسيا صورتها في العالم، وكي يظهر الرئيس فلاديمير بوتين في مظهر رجل الدولة القادر على الاهتمام بأدق التفاصيل الداخلية.
كلّ من ذهبوا إلى روسيا في الفترة الممتدة بين منتصف حزيران – يونيو ومنتصف تمّوز – يوليو، يوم جرت المباراة النهائية بين فرنسا وكرواتيا والتي أسفرت عن فوز فرنسا بالكأس، يجمعون على أن فلاديمير بوتين استطاع تحقيق إنجاز كبير على الصعيد الشخصي.
طوال الشهر الذي استغرقته مباريات كأس العالم، التي كان العالم كله مشدودا إلى روسيا، لم يحصل خطأ، لا في المجال التنظيمي ولا في المجال الأمني. هناك دولة استطاعت أن تكون في مستوى أفضل دول العالم، في مستوى بريطانيا مثلا التي استضافت الدورة الأولمبية صيف العام 2012.
بعد حدث دولي مثل كأس العالم لكرة القدم في 2018، تبيّن بكل بساطة أن لا شيء ينقص روسيا كي تكون في مصاف الدول الراقية القادرة على لعب دور إيجابي على الصعيد الدولي في حال تخلصت من عقدة الدولة العظمى، من عقدة العودة إلى أيّام الاتحاد السوفياتي تحديدا.
في اليوم الذي تلا مباشرة اختتام دورة كأس العالم، توجّه بوتين إلى هلسنكي لعقد قمة مع الرئيس دونالد ترامب الذي أثار في جولته الأوروبية سلسلة من العواصف. كشفت الجولة نظرة أميركية جديدة لكيفية التعاطي مع الحلفاء، إنْ في الإطار الأوروبي أو في إطار حلف شمال الأطلسي.
هناك تعاط أميركي فوقي مع الأطلسيين الذين يعتبر ترامب أنّهم مقصّرون في مجال المساهمة في إقامة قوة عسكرية في مستوى التحديات التي تواجه ما كان يشكل في الماضي، إبّان الحرب الباردة، العمود الفقري للمعسكر الغربي في مواجهة الاتحاد السوفياتي والمنظومة التابعة له.
نجح بوتين في امتحان دورة كأس العالم. هل ينجح في مناوراته السياسية خارج روسيا؟ ما لا مفرّ من الاعتراف به أنّ الرئيس الروسي استطاع في السنوات القليلة الماضية وضع الولايات المتحدة في موقع دفاعي. عرف جيدا كيف التعاطي مع باراك أوباما مستفيدا من نقطة الضعف الأساسية في سياسته الخارجية. كان همّ أوباما محصورا طوال سنوات في كيفية استرضاء إيران. لم يكن يريد إزعاجها بأي شكل وذلك خشية أن تنسحب من المفاوضات في شأن ملفّها النووي.
تسلل بوتين من هذه الثغرة كي يجعل من روسيا اللاعب الأوّل في سوريا. حقق ما لم يستطع أي زعيم روسي تحقيقه وذلك منذ حلم القياصرة بإيجاد موطئ قدم في المياه الدافئة أي في البحر المتوسط. صحيح أن روسيا كانت تمتلك، منذ أيّام الاتحاد السوفياتي، تسهيلات في ميناء طرطوس السوري، لكنّ الصحيح أيضا أنّها لم تكن في أيّ يوم اللاعب الأساسي في سوريا. كان حافظ الأسد يعرف في كلّ وقت كيف يوازن بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة.
دخل جيشه لبنان في العام 1976 بضوء أخضر أميركي وإسرائيلي “من أجل وضع اليد على مسلحي منظمة التحرير الفلسطينية”. قبل ذلك، كان اتفاق فك الاشتباك مع إسرائيل عام 1974 بوساطة هنري كيسينجر ولا أحد غيره. أمّا وضع لبنان كله فتحت الوصاية السورية، بما في ذلك قصر بعبدا في خريف 1990، فجاء بقرار أميركي مكافأة لحافظ الأسد على مشاركته إلى جانب التحالف الدولي، على رأسه الولايات المتحدة، في حرب تحرير الكويت.
اتبع بشّار الأسد سياسة مختلفة عن سياسة والده. تقوم هذه السياسة على الذهاب بعيدا في التحالف مع إيران والإعجاب الشديد بـ“حزب الله” وما قام به في الداخل اللبناني. استطاعت إيران إنقاذ نظامه لدى اندلاع الثورة الشعبية في آذار – مارس 2011، لكن نقطة التحول الأساسية كانت في أواخر 2015 عندما استنجدت إيران بروسيا كي يبقى بشّار الأسد في دمشق.
تقف روسيا وراء معظم التحولات التي تشهدها سوريا منذ العام 2015 عندما كانت دمشق مهددة بالفعل وعندما كان الساحل السوري، بما في ذلك معاقل العلويين، على قاب قوسين أو أدنى من السقوط في يد المعارضة.
هل يحقق فلاديمير بوتين اختراقا ذا طابع استراتيجي في قمّة هلسنكي؟ الثابت أنّه وضع الأسس لمثل هذا الاختراق المبني على اتفاق يقوم على بقاء بشار الأسد في دمشق في مقابل تأمين الخروج الهادئ للإيراني من العاصمة السورية ومحيطها ومن مناطق الجنوب. وضع الرئيس الروسي أسسا لهذا الاتفاق مع بنيامين نتنياهو أوّلا، ومع الجانب الأميركي في مرحلة لاحقة. لو لم تكن هناك نقاط اتفاق مع إدارة ترامب، وإنْ عبْرَ إسرائيل، في شأن سوريا، لما كانت الولايات المتحدة اتخذت الموقف المطلوب منها عندما تقدّمت قوات تابعة للنظام السوري من درعا ومن الحدود مع الأردن.
سيتوقف الكثير على مدى جدّية فلاديمير بوتين في تنفيذ المطلوب منه إسرائيليا وأميركيا في سوريا، فضلا بالطبع عن قدرته على ذلك. ليس مصير بشّار الأسد أمرا مهمّا. المهمّ هل يستطيع الروسي إخراج الإيراني من سوريا، وصولا إلى اللحظة التي سيتمكن فيها من القول إن روسيا صارت صاحبة الكلمة الفصل في سوريا، وإن ما حلم به القياصرة في القرنين التاسع عشر والعشرين، ثمّ قادة الاتحاد السوفياتي، تحوّل إلى حقيقة؟
في النهاية، سيتبين أن مرحلة ما بعد قمّة هلسنكي امتحان لبوتين وترامب في آن. الامتحان لبوتين في سوريا حيث سيكون على الرئيس الروسي لعب دور إيجابي يذكّر بنجاحه الداخلي، خصوصا في الإعداد لدورة كأس العالم. إذا نجح بوتين في سوريا، أي في إخراج إيران منها، سيكشف أنّه رجل قادر على تحمل مسؤولياته وليس مجرد رئيس دولة تمتلك سلاحا جويا قادرا على إلحاق تدمير كبير بالمدن والبلدات السورية خدمة لنظام أقلوي يشنّ حربا على شعبه.
أما بالنسبة إلى ترامب، فإن سوريا ستكشف أيضا هل هو أفضل من سلفه باراك أوباما، أم أنّه سيكون مجرد دمية في يد الرئيس الروسي الذي أقنعه في مثل هذه الأيام من العام 2013 بغض النظر عن استخدام بشّار الأسد السلاح الكيميائي في سياق حربه على السوريين.
الأهمّ من ذلك كله، ستكشف قمة هلسنكي هل يمتلك دونالد ترامب سياسة متكاملة بدأت بالانسحاب من الاتفاق في شأن الملف النووي الإيراني. كان الانسحاب من هذا الاتفاق ضرورة ولكن ما تتمة ذلك؟ ما هي الخطوة الأخرى التي ستقدم عليها إدارة ترامب لتأكيد أنّها إدارة جدّية ولا تتميز عن إدارة أوباما سوى بالكلام الكبير. لا تتمة منطقية للانسحاب من الاتفاق مع إيران خارج الإطار السوري. إمّا تنسحب إيران من سوريا وإما لا تنسحب. كلّ ما تبقى تفاصيل وسقوط في الامتحان لكلّ من بوتين وترامب.
إذا كان من رغبة حقيقية في تقطيع أذرع إيران في المنطقة في سياق الحرب على الإرهاب والتطرف بكل أشكالهما، الإرهاب السنّي والإرهاب الشيعي، تبقى سوريا، ولا أرض أخرى غيرها، نقطة البداية.
لمرة جديدة تفشل الفصائل التي تتغنى بنصرها على "كفريا والفوعة" في إبرام صفقة حقيقية تعود بالنفع لأبناء الحراك الشعبي لاسيما فيما يتعلق ببند الإفراج عن المعتقلين، والذي يتلاعب فيها النظام وحلفائه كما يشاء دون أن تتعلم الفصائل من الدروس السابقة التي وقعت فيها.
لسنا في سياق الحديث ليوم عن ورقة "كفريا والفوعة" التي كانت بيد الفصائل لثلاث سنوات مضت ولم تعرف كيف تستخدمها في الضغط على النظام وتتبع ذات السياسية التي مارسها هو وحلفائه على المناطق المحاصرة لإجبارها على الركوع وتحقيق مكاسب عسكرية كبيرة بل تحولت لورقة ضدهم ومصداً للمتاجرة بها، فالوقت مضى والسجال في الأمر قد يطول، ولكن لابد من السؤال اليوم عن قضية محورية وأساسية تتعلق بمصير آلاف المعتقلين.
يحق لنا كنشطاء حراك ثوري ومدنيين وأهالي معتقلين أن نسأل الفصائل المعنية بالتفاوض أيً كانت، "أين معتقلي الحراك الشعبي الثوري"، ولماذا لم يكن هناك أي جمع لأسماء المغيبين قسراً في سجون الأسد منذ سنوات بشكل حقيقي والتفاوض عليهم والضغط للوصول لمعرفة مصيرهم والإفراج عنهم، ولماذا في كل عملية تفاوض تتكشف حقيقة الخارجين بأن جلهم من المعتقلين حديثاً ومنهم من الموالين للنظام حتى اعتقلتهم حواجزه، أو دخلوا السجون بقضايا جنائية أو موظفين راجعو النظام لقبض رواتبهم فاعتقلهم.
هذا الملف الأساسي والجوهري الذي يتمسك فيه النظام دائماً ويراوغ لمرات في الإفراج عن معتقلين من أبناء الحراك الثوري، والفصائل لم تحرك أوراقها يوماً للضغط والتمسك حتى في ملف "كفريا والفوعة" والذي كان ورقة أساسية على اقل تقدير للإفراج عن معتقلي الثورة ولا نطلب منكم أكثر.
اليوم خسرتم آخر ورقة بأيديكم فصائل ثورتنا، لم تستطيعوا استخدامها ولو لمرة واحدة، سيحاسبكم على هذا المعتقلون يوم اللقاء إن بقي منهم حياً في زنزانات الأسد الموصودة على أضلعهم وعذاباتهم، فشلتم نعم في إعادة البسمة والفرحة لتلك الأم التي فقدت ولدها وتلك العائلة التي فقدت معليها في سجون الأسد، فشلتم وحق عليكم الاعتراف اليوم أن تفاوضكم لم يكن باسم قضية بل باسم تحقيق نصر وهمي.
ورغم كل هذا يخرج علينا من يدعي الانتصار اليوم في "كفريا والفوعة" ويتجول "أبو اليقظان بين حافلات أهالي وميليشيات كفريا والفوعة يغرد فرحاً ويتفاخر بالنصر المؤزر الذي حققه، وكأنه حرر سوريا وحرر معتقلينا، فعلى ماذا تتفاخرون !! ..... أجيبوا الأم المكلومة والطفل المنتظر على باب الدار ليرى والده أو أخاه الغائب متأملاً بمفاوضاتكم الهشة التي لم تخرج إلا بعض الثائرين يعدون على أصابع اليد.، آلا شاهت وجوهكم أيها المفاوضون.
إجابة الرئيس دونالد ترامب على سؤال أحد الصحافيين في هلسنكي، عما إذا كانت هناك ترتيبات معينة مع فلاديمير بوتين حول سورية كانت معبرة، فقد قال: «لقد عملنا طويلاً مع إسرائيل، ونحن أقرب دولة إليها، والرئيس بوتين يساعد إسرائيل، وكلانا تحدث مع نتانياهو، والإسرائيليون يريدون القيام ببعض الأعمال بالنسبة إلى سورية تتعلق بأمنهم. فنحن نريد العمل لمساعدة إسرائيل التي تعمل معنا منذ مدة طويلة وإسرائيل ستعمل معنا. والرئيس بوتين وأنا نرغب في العمل لضمان أمن إسرائيل».
ترامب سلم مستقبل الحل السوري إلى إسرائيل التي تحبذ بقاء بشار الأسد منذ عقود والتي تريد إخراج الإيرانيين من سورية، وبوتين في رده لم ينف ذلك. إن الصفقة التي تمت بين ترامب المستسلم كلياً للرئيس بوتين هي الاعتراف له بالدور الأساس في مستقبل سورية، شرط أن يضمن ما ترغب به إسرائيل، ما يعني إخراج الحرس الثوري الايراني وحزب الله . وكانت روسيا قبل القمة دفعت بعض قوات حزب الله في سورية إلى ما وراء الحدود السورية اللبنانية في سعي للقول إلى ترامب إن روسيا تعمل على إخراج الإيرانيين ووكلائهم اللبنانيين من الأراضي السورية. إلا أن إخراج إيران من سورية سيكون مهمة صعبة لبوتين لأن الأسد لا يمكنه الاستمرار بلا الحرس الثوري إلا في حال اعتمد في بقائه على حماية إسرائيلية معززة. حماية إسرائيل نظام الأسد ليست جديدة ولكن إذا وافق الأسد على إخراج الحرس الثوري سيكون ذلك في صفقة اسرائيلية روسية أميركية مقابل ضمان استمراره بمعزل عن مستقبل أو مصير الشعب السوري . هذه الصفقة الروسية الأميركية غير مطمئنة لمستقبل المنطقة. إسرائيل كما إيران لها طموحات تخريبية أينما كان في الشرق الأوسط لإلهاء العالم بأوضاع غير مستقرة ومنع الأسرة الدولية من التفكير في سلام مع الفلسطينيين. وتعزيز دور إسرائيل في سورية يزيد الخطر على لبنان ومستقبله. إن سياسة ترامب المستسلمة بهذه السهولة لبوتين خطيرة ليس فقط من المنظور الأميركي الداخلي بل أيضاً على منطقة الشرق الاوسط بأسرها.
الأمر الملفت الآخر خلال المؤتمر الصحافي المشترك بين بوتين وترامب قول بوتين في الشأن السوري: «إننا سنربط جهودنا في العمل في مسار آستانة حيث تعمل روسيا مع ايران وتركيا مع ما يعرف «بالمجموعة الصغرى» للدول المعنية بسورية. وهذه المجموعة الصغرى التي تكلم عنها بوتين تضم الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وألمانيا والأردن والسعودية اجتمعت الأسبوع الماضي على هامش قمة الـ «ناتو» في بروكسيل بمشاركة وزير الخارجية الأميركي بومبيو للمرة الأولى من دون أي نتيجة خارقة. فتقارب مجموعة آستانة والمجموعة الصغرى جاءت بمبادرة من الرئيس الفرنسي ماكرون لدفع مسار جنيف. ولكن بوتين بعد الاستسلام الأميركي له لن يأخذ برأي فرنسا وأوروبا حول مستقبل سورية لأن ترامب اعترف له بالهيمنة في الموضوع السوري. المؤلم في كل ذلك أن روسيا بوتين التي ساهمت الى جانب نظام الأسد والحرس الثوري في قتل وتهجير الملايين من الشعب السوري تتحدث الآن عن البحث عن حلول، مدعية أنها لتخفيف معاناة الشعب السوري. المستقبل أسود في ظل قوات روسية إيرانية سورية نظامية انتصرت بالبراميل والقصف والقتل والتعذيب وأصبحت الآن تدعي العمل الإنساني. إن نتائج قمة هلسنكي تبشر بمستقبل قائم على القمع وقتل والتخريب في سورية وبعدم استقرار الدول المجاورة مع بقاء الأسد بحماية روسية إسرائيلية وحروب إسرائيلية إيرانية حزب اللهية تهدد المنطقة.
إنهاء ما تبقى من قوى معارضة سورية مسلحة وغير مسلحة في الجنوب السوري هو ما يجري اليوم استكماله في درعا وريفها، وصولاً إلى القنيطرة ومحيطها، بعدما وصلت قوات النظام السوري إلى الحدود مع الأردن وسيطرت بدعم من القوات الروسية والميليشيات الإيرانية على معظم المناطق التي كانت تسيطر عليها جماعات المعارضة المسلحة وصولاً إلى المعابر الحدودية مع الأردن التي صارت تحت سلطة النظام.
ورافق هذه العمليات العسكرية نقل الآلاف من المقاتلين وعائلاتهم إلى إدلب، في ظلّ أكبر عملية نهب طالت بيوت ومتاجر السوريين في المناطق التي دخلها الجيش السوري والميليشيات الحليفة، لا سيما في مدينة درعا التي شهدت انطلاقة الثورة السورية قبل سبع سنوات.
الاتفاق على إنهاء المعارضة في الجنوب وفي جنوب غرب سوريا، يبدو أنّه الاتفاق الأكثر ثباتاً، فالعمليات العسكرية التي انطلقت منذ نحو شهر، كان الغطاء الأميركي – الروسي عجلة انطلاقتها، والتأييد الإسرائيلي عنوان نجاحها الميداني، بحيث أكدت المواقف الرسمية الإسرائيلية بلا تردد أنّها تؤيد عودة النظام السوري إلى هذه المناطق، على قاعدة إعادة الاعتبار لاتفاق الهدنة أو فض الاشتباك والذي جرى توقيعه عام 1974؛ إذ لم يعد خافيا أن العمليات العسكرية وسلاسة سيطرة النظام وحلفائه الروس والميليشيات الإيرانية، ما كانت لتتم لولا الغطاء الإسرائيلي لها.
الشروط الإسرائيلية لإعطاء الضوء الأخضر للعمليات العسكرية هذه باتت واضحة، فإلى جانب الالتزام بشروطها الأمنية تجاه ابتعاد القوات الإيرانية لنحو 80 كلم عن حدود الجولان المحتل، كان التزام القوات السورية الرسمية بحماية الاستقرار على هذه الحدود بضمانة روسية، وعلى قاعدة إطلاق يد نظام الأسد في “تأديب” شعبه في مقابل الالتزام الكامل بمقتضيات الأمن الإسرائيلي على الحدود مع سوريا.
وفي إشارة عسكرية واضحة إلى الغطاء الإسرائيلي لعمليات النظام العسكرية في الجنوب السوري، وإلى مدى التزام قوات النظام السوري والميليشيات الحليفة بالشروط الإسرائيلية، فإنّ أيّ موقف إسرائيلي لم يشر إلى قلق لدى قادة إسرائيل من استمرار هذه العمليات وتطورها في المناطق الجنوبية، فيما قامت الطائرات الإسرائيلية قبل يومين (الأحد) بقصف مطار النيرب في الشمال السوري (حلب). هذه الضربة الإسرائيلية إن دلّت على شيء فهي تدل على أنّ إسرائيل راضية عن مسار العمليات العسكرية التي يقوم بها النظام وحلفاؤه في الجنوب، والدليل أنّ طائراتها التي وجهت ضربات عسكرية في مطار يقع في حلب، لم تقم بتوجيه أي ضربة عسكرية في الجنوب، يُشتمُّ منها أي اعتراض إسرائيلي على العمليات العسكرية في الجنوب.
في موازاة كل ذلك تدور الأسئلة حول طبيعة التفاهمات التي جرت في الجنوب السوري، والتي تتم على أساسها العودة الميدانية إلى ما كان عليه الحال ما قبل الثورة السورية، وإذا كان ثمّة تفاهم أميركي وروسي وإسرائيلي على هذه الخطوة التي ينفذها النظام السوري وحلفاؤه من الميليشيات الإيرانية، فإن الاطمئنان الإسرائيلي لتنفيذ هذه العمليات، وصولاً إلى السماح للطائرات السورية الحربية بالاقتراب من حدودها إلى مسافة خمسة كيلومترات، يشير إلى أنّ إسرائيل مطمئنة إلى حدّ كبير لتنفيذ شروطها الأمنية والاستراتيجية في سوريا، وإلا لم تكن لتسمح بتنفيذ خطة سيطرة النظام من دون أي عرقلة، بل وفرت كل شروط النجاح لها، عندما اقتصرت تحذيراتها إعلاميا على عدم المس بالمدنيين السوريين ولا سيما في المناطق القريبة من حدودها.
الأرجح أنّ إيران وافقت على الشروط الإسرائيلية المتصلة بمناطق الجنوب السوري، فقد التزمت بوقف أيّ نشاط عسكري لمجموعات سورية أو موالية لها بذريعة تحرير الجولان كما كان عليه الحال قبل سنوات، إذ لم يعد يسمع في سوريا عن أيّ نشاط ولو إعلامي لمجموعات أو هيئات تنشط تحت عنوان تحرير الجولان، وأعلنت إيران بلسان مستشار مرشد الثورة، علي ولايتي، بعد لقائه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قبل أيام أنّ “إيران مستعدة لسحب مستشاريها العسكريين من سوريا فيما لو طلبت الحكومة السورية ذلك”. ولكن يبقى السؤال حول مستقبل الوجود الإيراني العسكري في سوريا قائما، والدور الذي يمكن أن يجعل من وجوده المباشر أو غير المباشر حاجة دولية أو إسرائيلية.
حاول ولايتي وهو يبدي استعداد طهران للخروج العسكري من سوريا، أن يقدم إغراء لبوتين من خلال إبداء إيران استعدادها لعقد صفقات تجارية وعسكرية مع روسيا تفوق قيمتها الخمسين مليار دولار، وهو إغراء سيعزز العلاقة مع موسكو في مرحلة تحتاج إليها إيران لمواجهة العقوبات الأميركية المتنامية ضدها. ويعكس فيما لو تم إقراره دخول إيران مجددا في متاهة الاستنزاف والابتزاز الروسي والصيني، لا سيما لجهة فرض اتفاقات عليها بشروط قاسية.
يبقى أنّ إيران التي استثمرت في تعزيز وجودها الأمني والعسكري على حدود إسرائيل سواء في غزة أو جنوب لبنان أو جنوب سوريا، تمتلك ورقة تتيح لها المساومة مع الإسرائيليين، وهذه الورقة لن توفرها إيران في سياق الدفاع عن وجودها ونفوذها الذي بات أمام مرحلة حصار جديدة، وفي هذا السياق تشير معلومات دبلوماسية من بيروت إلى أن اتصالات غير مباشرة جرت بين الإيرانيين والإسرائيليين، فإلى جانب الاتصالات التي تقوم بها روسيا بين الطرفين فيما يتصل بالشأن السوري، تحدثت هذه المصادر عن اتصالات تمت بوساطة أردنية ومن خلال وفدين رسميين في أحد فنادق عمّان حيث تمركز كل وفد في أحد الطوابق وقام الوسيط الأردني بدور نقل الرسائل بين الطرفين. هذه اللقاءات تمت عشية انطلاق العمليات العسكرية الأخيرة في الجنوب السوري مع تصعيد العقوبات الأميركية ضد إيران، من دون أن تتضح نتائج هذه اللقاءات، لكن بحسب المصادر نفسها فإن الملفات العالقة بين إيران وإسرائيل عديدة ولدى الإيرانيين أوراق كثيرة يمكن أن يقدموها للإسرائيليين، لا سيما وأن دفع الأثمان يتم من كيس اللبنانيين أو السوريين والفلسطينيين.
الغياب العربي ;غياب المعارضة السورية عن هذه التطورات التي تطال الثورة السورية ووجود المعارضة سياسيا وعسكريا، يفتح الباب واسعاً أمام خلق تفاهمات إقليمية ودولية في الجغرافيا السورية بما لا يتناسب مع أدنى حقوق الشعب السوري، وأدنى شروط النظام الإقليمي العربي، وهو ما يفتح المجال أمام معادلة طالما استثمرتها إسرائيل لحساب مصالحها، ونجحت إيران في استغلالها لمقارعة خصومها، وهي معادلة حماية الفوضى وإدارتها في المنطقة العربية، فكلا الطرفين يعتمد استراتيجية العداء اللفظي في مخاطبة الآخر، فيما يوغل في تدمير المنطقة العربية وجعلها منطقة ضعيفة ومنكوبة.
سوريا مثال الثابت فيه تدمير الدولة وإضعافها بتشريد شعبها ودفع من تبقى للاستسلام، وهذا وحده كفيل بتوفير القدرة لدى إسرائيل وإيران على بقاء نفوذهما لا سيما إذا كانت الحاجة مستمرة لاستثمار ذريعة العداء المتبادل من أجل استكمال تعزيز نفوذهما السياسي والأمني على امتداد المنطقة العربية، وهذا ما سيكشف صحته من عدمها حدود التفاهم الأميركي الروسي في سوريا في ظل صمت عربي مريب وغياب أي موقف سياسي للمعارضة السورية بمختلف فصائلها.
أنهى وفدٌ من منظمة التحرير الفلسطينية زيارةً إلى دمشق، قبل أيام، التقى في أثنائها مسؤولين سوريين، أرفعهم رئيس الحكومة (اسمه عماد خميس). .. الخبر ليس هنا، وإنما في أن الزيارة تأتي، بحسب وكالة الأنباء الفلسطينية، الرسمية، (وفا)، "في سياق الجهود التي تبذلها القيادة الفلسطينية على صعيد بلسمة جراح أبناء فلسطين في سورية الذين أصابتهم المحنة السورية، خاصة في بعض المخيمات والتجمعات، ...". ذلك أن زوبعةً من الأسئلة يثيرُها هذا الكلام، أولها عن هذه الجهود التي لم يعلم بها أحد، ما قد يُشيع ظنّا بأن القيادة الفلسطينية لا تتوسّل شكرا على واجبٍ تقوم به، فلا تستحسن إضاءة الإعلام على ما تفعل. أما عن الجراح التي أصيب بها الفلسطينيون هناك فمعلومة، على غير أمر بلسمتها الجارية، والتي لم نقع يوما على خبرٍ عنها.
ولكن لا بأس، فقد أذاعت "وفا" خبر تلك الجهود (والبلسمة) عشيّة الزيارة التي ترأس وفدها عضو اللجنة التنفيذية، وعضو اللجنة المركزية لحركة فتح، عزام الأحمد، والذي تحدّث في أثنائها في دمشق، عن نجاح الشعب السوري، وقيادته، في إحباط المؤامرة الكبيرة، والمتواصلة منذ سنوات، وهدفت إلى شقّ وحدة سورية أرضا وشعبا. كما تحدث عن تقدّمٍ كبيرٍ جرى على طريق دحر التنظيمات الإرهابية التي قبلت أن تكون أدواتٍ بيد أعداء سورية والأمة العربية. ويلتبس على قارئ هذا الكلام ما إذا كان صاحبُه مسؤولا عن فرقة كشّافة في واحدةٍ من طلائع البعث السوري أم مسؤولا فلسطينيا معنيّا بجراح شعبه وبلسمتها. سيما وأن الرجل زاد وعاد في قصة المؤامرة، فقال أيضا إنه، وزملاءه، شاهدوا بأم أعينهم إرادةً حقيقيةً تدل على صمود الشعب السوري في وجه المؤامرة التي تستهدف سورية والأمة العربية.
كان في الوسع أن يُحتمل شيءٌ من المجاملة الطفيفة التي تقتضيها واجبات الضيف على المضيف، غير أن الأحمد بدا أنه، في ذلك الكلام وغيره، يقدّم أوراق تحالفٍ واصطفافٍ معلنٍ من قيادة منظمة التحرير الفلسطينية مع نظام الأسد وموسكو وطهران. وبالمنطق البراغماتي المحض، المُفرط منه خصوصا، يمكن أن يمرّر واحدُنا فائض التشبيح الظاهر في عبارات الأحمد أعلاه، لو أنه سينفع الفلسطينيين الذين تبقّوا في سورية، ونجوا من التهجير والتجويع والاعتقالات ونوبات التمويت في السجون، وغيرها من ألوان العسف التي يحترف النظام الرثّ في دمشق معاقبة السوريين بها. أما ما كشفه عضو الوفد الزائر، عضو اللجنة التنفيذية في منظمة التحرير، محمود الهولي، إن أسماء مفقودين فلسطينيين في سورية قدّمها الوفد إلى عماد خميس (رئيس الحكومة السورية)، فينتسب إلى المستطرف في كل فنٍ مستظرف، سيما وأن خميس وعد زوّاره بمتابعة الموضوع، بل بموافاتهم بكل جديدٍ بشأنه. .. تُرى، هل اشترى الهولي والأحمد، ومن معهما، هذه البضاعة؟ منذ متى تُؤخذ وعودٌ كهذه من موظفٍ لا يمون على مخبرٍ في سورية على محمل الجد؟ أم إن زائري عماد خميس انتهجوا في سماعهم ما سمعوه ملاحقة العيّار إلى باب الدار؟
للتذكير، قضى نحو 280 فلسطينياً تحت التعذيب في سجون الأسد في السنوات السبع الماضية، وأزهقت جولات الفتك التي لم يعتصم النظام ومشايعوه (وبينهم فلسطينيون) يوما عن المضي فيها أرواح نحو أربعة آلاف فلسطيني في هذه السنوات. ولم يكن وفد عزام الأحمد في حاجةٍ لمن يذكّره بالتهديم المريع الذي استُهدف به مخيم اليرموك في أثناء إحباط النظام المؤامرة إياها، فقد زار الوفد المخيم، وشاهدوا ما شاهدوا. وللحق، هناك ما هو مفاجئ في الذي نقله محمود الهولي عن عماد خميس، ومسؤولين سوريين آخرين استقبلوا الوفد، موجزُه أن مجلس الوزراء السوري أخذ قرارا بإعادة تنظيم مخيم اليرموك وجوبر وبرزة والقابون "بما يتناسب مع الواقع"، فهذا كلامٌ يحتاج إلى شرحٍ يفك ألغازا باديةً فيه، وإن استطرد الهولي إن الحكومة السورية تولي إعادة إعمار "اليرموك" وتأهيله أولوية.
هل هذا صحيح؟ وهل صحيحٌ أن وراء الأكمة ما وراءها في زيارة وفد عزام الأحمد إلى دمشق، وأن حساباتٍ وأوراقا وفيرة تتشابك فيها؟ ربما، أما بلسمة جراح الفلسطينيين في سورية فالأرجح أنها كانت، فحسب، تزيّدا إنشائيا في وكالة "وفا".
تبدو إيران الآن بالنسبة للرئيس الأميركي، دونالد ترامب، وفريقه السياسي، الهدف رقم واحد، وقد أطيح وزير الخارجية الأميركي السابق، ريكس تيلرسون، ثمناً لبقاء الملف الإيراني مشتعلاً، ومن عبَّر عن المهمة الأميركية المقبلة هو الوزير الحالي، مايك بومبيو الذي أجاب على سؤال أحد الصحافيين بأن الهدف الأول لأميركا الآن هو إيران، أما سورية فليست في مقدمة أولوياتنا. ويوضح هذا التصريح كيف تشعر أميركا حيال إيران، ولكن إلى أي مدى يمكن أن يذهب ترامب في محاربة إيران، وهناك مستويات سياسية ودبلوماسية، وحتى عسكرية، يمكن الوصول إليها؟ في المستوى الأول، إبعادها عن حدود دولة الاحتلال الإسرائيلي، وهو مطلب إسرائيلي وسعودي أيضاً، والثاني إخراجها من كل سورية، والثالث تجريدها من كل مناطق نفوذها فضلاً عن سورية، وتحجيمها داخل حدودها الدولية، وهي رغبة أميركية وحلم سعودي، ويبقى إسقاط نظامها السياسي خياراً يقع في مناطق شائكة، قد تجرّ محاذير كبيرة، لكن السعودية لا تمانع في ذلك، بينما لا تجد أميركا ضرورةً للوصول إلى هذه المرحلة.
حين يزور ترامب روسيا، ستحتل إيران جانباً كبيراً من الزيارة، بالإضافة إلى مناقشة العقوبات الأميركية وضم القرم، وقد تناقش كل هذه الموضوعات حزمة واحدة، يمكن أن تشكل بالمعنى السياسي صفقة كبرى.
يغادر رئيس وزراء إسرائيل، بنيامين نتنياهو، موسكو قبل ساعات من لقاء ترامب ونظيره الروسي فلاديمير بوتين. وكان أكبر مستشار سياسي للمرشد الأعلى الإيراني، علي أكبر ولايتي، قد غادر العاصمة الروسية قبل وصول نتنياهو إليها بقليل. ويحمل هذا التتابع واحدا من وجوه الصفقة، والتي تبدو روسيا محوراً لها، وقد احتضنت موسكو كل هذه الشخصيات خلال أيام قليلة.
ومن الواضح أن المطلوب هو انحسار إيراني بأي ثمن. وكانت روسيا قد أطلقت بالون اختبار بشأن النقطة نفسها، قبل فترة، وهو تصريح خاطف، يطالب جميع القوات الموجودة في سورية بالمغادرة. جاء الرد الإيراني سريعاً، بأن وجودها شرعي، بطلب من الحكومة الرسمية، وانطفأ كل شيء.
وتوحي سهولة دخول جيش النظام إلى درعا بوجود اتفاق أعمق من اجتماعات الروس مع قادة فصائل الجنوب، فقد كان في وسع دوريات المراقبة الإسرائيلية أن تسمع صرير مدرعات جيش النظام على الطرف الآخر من الحدود. ويفهم مما حدث أن كل ما له صلة بإيران كان بعيداً عن القوات التي دخلت درعا، وسواء كان ذلك صحيحاً أم خاطئاً، فرسمياً لا يوجد إيرانيون قرب الحدود "الإسرائيلية"، وهو مؤشر يعطي مقدمات لنتائج جيدة للإسرائيليين، قد تخرج من تسلسل اللقاءات بين كل أولئك في موسكو.
على الرغم من انتصارات نظام الأسد المتلاحقة، والتي قلصت مناطق المعارضة إلى إدلب فقط، وجيب أخير في الجنوب السوري، إلا أن الحرب غير محسومة، فالأسد غير قادر بقواته الحالية على الإمساك بما لديه، وهو بحاجة "وجودية" إلى الدعم الجوي الروسي الدائم، وخصوصا الكتائب الإيرانية، أو المليشيات التابعة لها، والتي يطلق عليها القوات المتحالفة مع الجيش. ويدرك بوتين ذلك تماماً، ويبدو مرتاحاً للوعد الذي قطعه نتنياهو بأن إسرائيل لن تعمل على زحزحة الأسد. وهنا تبدو الفكرتان متعارضتين، فلن يكون نظام الأسد مستقراً من دون عون عسكري إيراني كبير على الأرض. ويحتاج بوتين إلى مزيد من التدبير للخروج من هذا المأزق، ويمكن أن يشكل إبعاد إيران وحلفائها عن الجنوب مسافة كافية حلاً معقولاً، قد تقبل به إسرائيل مع الاحتفاظ "بحقها" في ضرب ما تجده مناسباً لها داخل سورية وبموافقة روسية، على أن تبقى إيران في الداخل، ويحصل النظام على سيطرةٍ رخوةٍ على الجنوب، تُبقي له العلم، ووجودا في المؤسسات الحكومية، وبعض الصور على المعابر والمداخل الدولية، وتجمدا في الموقف السياسي، يتيح لترامب ابتزاز مزيد من كل الأطراف. وبهذا المعنى، لا تكون الصفقة كبرى، إلا لترامب نفسه.
لا تعدو مسألة الحديث عن الانسحاب الإيراني من سوريا عن كونها نسيجا هشا من الرغبات والأوهام والأمنيات، ولا تتوافر على الحد الأدنى من المعقولية الممكنة واقعيا. وهي تقع في إطار رغبة إسرائيلية جامحة لترتيبات أمنها القومي بالاعتماد على القوتين الأمريكية والروسية. ففي سياق متصل من النفاق والكذب المتبادل بين أمريكا وروسيا، من المنتظر عقد لقاء قمة بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الأمريكي دونالد ترامب في 16 تموز/ يوليو 2018 في مدينة هلسنكي الفنلندية، في سبيل التوصل إلى إنجاز صفقة تمهد الطريق باتجاه ترميم العلاقات بين البلدين، عبر مدخل تثبيت الاستقرار والسلم في سوريا، وإبعاد إيران. وقد أعلن يوري أوشاكوف، مساعد الرئيس الروسي أن الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والأمريكي دونالد ترامب؛ سيناقشان خلال قمتهما الأزمة السورية والوجود الإيراني في سوريا.
إن الهوة بين أمريكا وروسيا كبيرة، لا يمكن أن تجسرها التصريحات المنمقة المتبادلة. ففي الوقت الذي يصف ترامب ورسيا بالمنافسة، يصف بوتين أمريكا بالشريكة، لكن تلك الصفات لا تخرج عن إطار الرطانة البلاغية، ومن المؤكد أن كلا الرئيسين سيخرجان بوعود لن يستطيع أي منهما تحقيقها بخصوص التواجد الإيراني في سوريا. فقد تدخّلت إيران وحليفها "حزب الله" اللبناني للدفاع عن نظام الأسد، الذي كان قاب قوسين أو أدنى من السقوط، وذلك في أعقاب انطلاق الثورة السورية، وعلى مدى سنوات تصاعد الاستثمار الإيراني في سوريا، ووصل إلى مليارات الدولارات، بالإضافة إلى وجود عسكري متعدّد الأشكال.
لا شك أن الحديث عن صفقة أمريكية روسية على حساب إيران في سوريا قد أزعجت القيادة في إيران، مما دفع المرشد الأعلى علي خامنئي إلى إيفاد كبير مستشاريه، علي أكبر ولايتي، لنقل رسالة إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وكانت روسيا قد ألمحت في وقت سابق إلى أن جميع القوات الأجنبية، بما فيها الإيرانية، يجب أن تغادر سوريا في نهاية المطاف، لكن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف قال في الرابع من تموز/ يوليو الجاري إن إيران إحدى القوى الرئيسية في المنطقة، ومن غير الواقعي توقع تخليها عن مصالحها في سوريا.
إن تناقض التصريحات بات سمة بارزة للدبلوماسية الروسية، التي اعتادت على تقديم تعهدات وضمانات لأكثر من طرف في سوريا من دون الالتزام بها، وإيران لن تخرج من سوريا من خلال الضغط الروسي، فقد باتت متجذرة في سوريا والعراق ولبنان بسبب السياسات الأمريكية التي ساهمت بإضعاف السلطات المحلية ونشر الفساد في هذه البلدان. فأمريكا لم تتمكن من الحد من النفوذ الإيراني في العراق التي احتلته وفككت مؤسساته، بل إنها خلصت إيران من حكم صدام حسين عام 2003، وأصبح العراق في دائرة النفوذ الإيراني. ومنذ هجمات أيلول/ سبتمبر 2001، دعمت أمريكا (وبشكل منتظم) المصالح الإيرانية، عندما قامت بالإطاحة بنظام طالبان في أفغانستان. ولم تنته جوائز أمريكا لإيران عند هذا الحد، ففي عام 2014، وبعد اجتياح مقاتلي تنظيم "الدولة الإسلامية" شمال العراق، قامت الولايات المتحدة بتشكيل تحالف من 80 دولة لمواجهة جهاديي تنظيم "الدولة"، وكالعادة كانت إيران هي المستفيدة.
إن الفشل الأمريكي في الحد من نفوذ إيران، لا يمكن أن يتحقق عن طريق روسيا، ليس بسبب عدم رغبة بوتين، وإنما لكونها أشد عجزا من الولايات المتحدة في هذا السياق. ويبدو أن القمة المرتقبة بين ترامب وبوتين لن تخرج عن ترتيبات تحقق أمن إسرائيل، ذلك أن أطراف المعادلة في واشنطن وموسكو وتل أبيب متفقون على بقاء بشار الأسد. فأولوية ترامب هي الانسحاب من سوريا، وإسرائيل أعربت عن ارتياحها منذ زمن بعيد من التفاهم مع نظام الأسد، فهي تفضل بقاء الأسد على وصول نظام إسلامي يهدد مصالحها، مع المطالبة برحيل القوات الإيرانية عن سوريا.
رغم الرغبة الإسرائيلية الجامحة بإبعاد إيران عن سوريا، حسب صحيفة "هآرتس"، والإدعاء بأن "الروس يخططون للعمل من أجل انسحاب القوات الإيرانية بمقابل وعد إسرائيلي بعدم إيذاء الأسد أو نظامه"، إلا أن إسرائيل تدرك استحالة ذلك، حيث قالت "هآرتس" (في إشارة إلى القمة المرتقبة بين الرئيسين الروسي والأمريكي)، إنه إذا وافق ترامب على رفع العقوبات التي فرضت على روسيا بعد الحرب في أوكرانيا واحتلال "القرم"، "فإنه سيطلب من روسيا سحب القوات الإيرانية من سوريا، أو على الأقل تحريكها إلى ما وراء 80 كيلومترا من الحدود الإسرائيلية". وتابعت: "على الرغم من تهديدات بعض الوزراء الإسرائيليين بإلحاق الأذى بالنظام، إلا أن إسرائيل مهتمة ببقاء الأسد، وبسيطرته الكاملة على سوريا، وباستئناف اتفاق فك الاشتباك عام 1974 الذي وقعه والده حافظ الأسد". و"وفقا لمصادر دبلوماسية غربية، فإن إسرائيل تريد من روسيا صياغة خطة استراتيجية لما بعد الحرب، والتي ستمنع سوريا من أن تصبح دولة عبور للأسلحة بين إيران وحزب الله".
منذ أن تدخلت روسيا في سوريا في أيلول/ سبتمبر 2015، باتت في شراكة مع إيران لانقاذ نظام الأسد، وهو نطام أصبح مرتهنا لكلا القوتين، وإذا كانت روسيا ترغب بالتفرد فعلا في سوريا، فإنها لن تتمكن من إقناع الأسد بالحد من وجود القوات الإيرانية في سوريا. فعلى مدى سنوات، تجذرت إيران بطرائق عديدة في سوريا عسكريا واقتصاديا. فقد أصبحت المليشيات الإيرانية التي تقاتل في سوريا جزءا لا يتجزأ من الجيش السوري، وذلك من خلال عمليات اندماج تم تنفيذها بتعليمات من إيران. وحسب مجلة "فورين بوليسي"، فإن مسؤولين إيرانيين وغيرهم من الخبراء والمحلّلين قالوا: إن "طهران استثمرت في دمشق المال والرجال"، حيث بلغ حجم ما أنفقته هناك منذ اندلاع الحرب فيها أكثر من 30 مليار دولار، في حين وصل عدد القتلى الإيرانيين في سوريا إلى نحو 2000 قتيل. وحسب منصور فارهنج، وهو باحث إيراني ودبلوماسي سابق مقيم في أمريكا، فإنه "بغضّ النظر عن قيمة المبالغ التي صرفتها إيران، فهي بعد ذلك من الصعب عليها حمل حقائبها والخروج؛ فقواتها تعمل في 11 قاعدة بأنحاء سوريا، فضلاً عن تسع قواعد تابعة للمليشيات الشيعية المدعومة منها في حلب وحمص ودير الزور، و15 قاعدة ونقطة مراقبة تابعة لحزب الله على طول الحدود مع لبنان وفي حلب".
وعلى الرغم من صغر حجم المجتمع الشيعي في سوريا، اضطلعت المليشيات التي يديرها الشيعة أو يسيطرون عليها؛ بدور غير متكافئ في الصراع. فحسب فيليب سميث، من معهد واشنطن، "فقد كان عدد الجماعات الشيعية المحلية محدوداً، حيث بلغ إجمالي عدد المقاتلين حوالي 3500 إلى خمسة آلاف مقاتل خلال الأيام الأولى من الحرب، وحالياً ما بين ثمانية إلى 12 ألفاً. لكن إيران قامت بتعزيز هؤلاء المقاتلين بشكل مطرد بمقاتلين شيعة أجانب، من بينهم أعضاء من "حزب الله" والمليشيات من أفغانستان وباكستان والعراق. ويتراوح عدد هؤلاء الأجانب في الوقت الراهن ما بين 20 إلى 30 ألفَاً، وفقاً لاحتياجات التجنيد والانتشار".
إذا كانت أمريكا ليست مستعدة للمخاطرة بدخول حرب مع إيران، فإنها لن تستطيع إخراج إيران من سوريا عن طريق الضغوطات الروسية، ذلك أن إيران تعتبر وجودها في سوريا والمنطقة مسألة وجودية، كما أن الحرس الثوري الإيراني لديه الدافعية للانخراط في لعبة حافة الهاوية، وحسب باتريك كلاوسون هو مدير الأبحاث في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى. فعلى عكس "الحرس الثوري الإيراني" الأكثر حزما، ليس لإدارة ترامب مصلحة في مواجهة أخرى في الشرق الأوسط. وقد اشتكى الرئيس ترامب من مقدار ما أنفقته الولايات المتحدة في صراعات الشرق الأوسط. ومع انسحابه من "الاتفاق النووي" الإيراني، أوضح ترامب أنه كان يمارس ضغوطات اقتصادية على إيران من أجل الوصول إلى صفقة دبلوماسية جديدة. فقد بذل جهده لتجنب الإشارة إلى أي احتمال لوجود مواجهة عسكرية. وقد تنشب حرب كبيرة تنخرط فيها إيران/ "حزب الله" وإسرائيل، إن لم تشمل بعض دول الخليج أيضاً، لكن السبب هو أن "الحرس الثوري الإيراني" يستمر في ممارسة الضغوطات، وليس لأن إيران تشعر أنها تخضع لأي قيود كبيرة.
خلاصة القول أن الانسحاب الإيراني من سوريا لا يعدو عن كونه وهما، وما لم تستطع أمريكا تحقيقه لمصلحة إسرائيل لن تتمكن روسيا من تنفيذه، فقد باتت إيران اليوم تفرض هيمنتها ونفوذها على القوس الممتد من طهران وحتى البحر الأبيض المتوسط، ومن حدود حلف شمال الأطلسي إلى حدود الأراضي الفلسطينية المحتلة، أيضاً على امتداد الطرف الجنوبي من شبه جزيرة العرب. فلدى إيران اليوم الآلاف من المليشيات المتحالفة معها، والجيوش التي تقاتل وكالة عنها في الخطوط الأمامية في سوريا والعراق واليمن، فضلاً عن آلاف من أعضاء الحرس الثوري الإيراني الذين يشاركون في تلك المعارك. وتدرك أمريكا وروسيا، فضلا عن إسرائيل، أن إيران قادرة على خلق مشاكل عديدةفي المنطقة، وأن كلفة مواجهة إيران باهظة جدا. وبهذا، فإن هدف الضغوطات على إيران لا يعدو عن البحث عن صفقات ممكنة في عالم عربي لا يتمتع بوزن في مجال الحسابات الاستراتيجية.
لماذا على لبنان دفع ثمن من يريد أن يكون البلد مجرد "ساحة". يفترض في السياسيين اللبنانيين الواعين لخطورة ما يمر به البلد الإجابة عن هذا السؤال الذي يكشف في طياته وجود من لا يزال يقاوم.
هناك لبنانان. لبنان الذي يريد أن يكون بلدا طبيعيا يهتمّ بأبنائه ولبنان الآخر أي لبنان “الساحة”. يستهدف الذين يعملون من أجل لبنان “الساحة” أن يكون البلد مجرد أرض تستخدم في خدمة مآرب لا علاقة لها بلبنان واللبنانيين، مآرب تهمّ تحديدا النظام الإيراني الذي يمتلك أجندة خاصة به.
ورث النظام الإيراني، الذي أسّس “حزب الله”، لبنان “الساحة” عن الفلسطينيين الذين اعتقدوا في مرحلة معيّنة أن لبنان منصة يمكن أن ينطلقوا منها لتحقيق أهداف سياسية. نجحوا في ذلك جزئيا على حساب لبنان واللبنانيين وعلى حساب أنفسهم في نهاية المطاف بعدما اكتشفوا متأخرين أنّهم كانوا، في أحسن الأحوال، أداة للنظام السوري لا أكثر ولا أقلّ.
ورث بعد ذلك الإيراني “الساحة” اللبنانية عن النظام السوري الذي اضطر إلى دفع ثمن جريمة اغتيال رفيق الحريري، التي نفّذها أو غطّاها، بالتواطؤ مع آخرين معروفين جيّدا.
دفع النظام السوري الثمن بالخروج العسكري والأمني من لبنان تمهيدا لليوم الذي سيخرج فيه من سوريا. وهذا ما سيحصل عاجلا أم آجلا بغض النظر عن الدعم الإسرائيلي العلني للعائلة الحاكمة هناك.
يفسّر وجود لبنانين، وليس لبنان الواحد، أسباب تأخير تشكيل حكومة برئاسة سعد الحريري تنكبّ على معالجة الأزمة الاقتصادية الخطيرة التي يمرّ فيها البلد من جهة وحمايته من العواصف الإقليمية من جهة أخرى.
هناك مآرب سياسية تسعى إيران إلى تحقيقيها عبر تشكيل “حكومة العهد الأولى” وكأنه يوجد شيء، بعد اتفاق الطائف، اسمه “العهد”. بين المآرب السياسية لإيران ترجمة نتيجة الانتخابات النيابية الأخيرة عبر حكومة تابعة لـ”حزب الله” على غرار تلك الحكومة الفاشلة التي شكّلها نجيب ميقاتي في العام 2011.
تريد إيران هذه المرّة تحويل سعد الحريري إلى غطاء لحكومة تابعة لها وذلك من منطلق أنّها استطاعت امتلاك أكثرية داخل مجلس النوّاب. ليس كلام الجنرال قاسم سليماني قائد “فيلق القدس″ في “الحرس الثوري” عن 74 نائبا موالين لإيران، من أصل 128 في المجلس الجديد، سوى دليل على رغبة في ترجمة ما تعتبره إيران حقيقة. إنّها في الواقع حقيقة مشكوك فيها إلى حدّ كبير، فضلا عن أنّها تكشف جهلا إيرانيا في لبنان وطبيعة تكوينه.
ولكن ما العمل، عندما تعتقد إيران أن لبنان “ساحة” وأن تشكيل الحكومة اللبنانية ورقة في يدها، تماما مثل تشكيل الحكومة العراقية. أيّدت إيران نتائج الانتخابات اللبنانية التي اعتبرت أنّها صبّت في مصلحتها من خلال قانون وضع خصيصا لتحقيق هذه الغاية.
رفضت إيران، في المقابل، نتائج الانتخابات العراقية بعد شعورها بأنّ هناك روحا وطنية عراقية، بما في ذلك في الأوساط الشيعية، تعمل من أجل التخلّص من الهيمنة التي تمارسها طهران على المجتمع العراقي وعلى الحياة السياسية والاقتصادية في بلد تحوّل بين ليلة وضحاها إلى بين الأكثر فسادا في العالم.
في لبنان، حيث تعمل إيران على متابعة الانقلاب الذي أخذ بعدا جديدا بعد التخلّص من رفيق الحريري في 2005 ثم بعد تحقيق انتصار على لبنان نفسه في حرب صيف عام 2006 ثم عن طريق الاعتصام في وسط بيروت لتعطيل الاقتصاد واستكمال مهمة تدمير البلد، بات لبنان في مرحلة حرجة بالفعل.
يمكن القول إن الانقلاب الذي كانت له محطات أخرى، من بينها سلسلة الاغتيالات التي بدأت بسمير قصير وانتهت بمحمد شطح، شمل غزوة لبيروت والجبل وضربا لكل مفاهيم اللعبة الديمقراطية عبر إغلاق مجلس النوّاب ومنعه من انتخاب رئيس للجمهورية. لم يعد لدى مجلس النواب من خيار آخر غير انتخاب مرشّح “حزب الله”… من أجل إنقاذ ما بقي من الجمهورية.
يحاول لبنان “الساحة” الانتصار على لبنان. مطلوب حاليا تكريس طريقة جديدة في تشكيل الحكومة. مطلوب بكلّ بساطة أن يكون رئيس مجلس الوزراء مجرّد صورة لا أكثر. مطلوب بكلّ وضوح أن تعكس الحكومة وجود أكثرية في مجلس النواب. هذا معناه أنّ من يقرّر في داخل هذه الحكومة هو تلك الأكثرية التي تحدّث عنها قاسم سليماني ولم يجد سوى قلّة تردّ عليه وتضع النقاط على الحروف.
لماذا على لبنان دفع ثمن من يريد أن يكون البلد مجرّد “ساحة”. يفترض في السياسيين اللبنانيين الواعين لخطورة ما يمرّ به البلد الإجابة عن هذا السؤال الذي يكشف في طياته وجود من لا يزال يقاوم.
من يقاوم هذه الأيّام هو سعد الحريري الذي يعمل من أجل حكومة “وفاقية” تكون عنوانا للمساعدات التي أقرها مؤتمر “سيدر”. يفترض في مثل هذه الحكومة أن تضمّ وزراء معقولين ومقبولين من المواطن العادي الذي يعرف تماما ما هو على المحكّ. ما على المحكّ العمل على فرض نظام جديد تريده إيران للبلد. نظام يعزله عن محيطه العربي لا يعود فيه للرئيس الوزراء المكلّف دور محوري في تشكيل الحكومة.
يصعب أن تكون السنة 2018 تتويجا لسلسلة الانقلابات التي بدأت باغتيال رفيق الحريري. في الواقع، بدأت هذه الانقلابات بالتمديد لإميل لحود، رئيس الجمهورية وقتذاك، على الرغم من صدور القرار 1559 عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.
ثمّة فارق كبير، فارق بين السماء والأرض، بين لبنان الطبيعي ولبنان “الساحة”. لبنان “الساحة” ورقة تستخدمها إيران لتمرير سياساتها التي تشمل استخدام بيروت للتحايل على العقوبات الأميركية التي ستزداد وطأتها. مثل هذا التحايل الإيراني عن طريق لبنان لن يخدم اللبنانيين، بل سيلحق ضررا بهم وبكل المؤسسات المالية في البلد.
لبنان “الساحة” قاعدة في خدمة الميليشيات المذهبية التابعة لإيران في المنطقة، بما في ذلك ميليشيا الحوثي في اليمن. للبنان “الساحة” استخدامات كثيرة لا تفيد أي منها لبنان واللبنانيين. لذلك، لا وجود سوى لخيار وحيد.
يتمثل هذا الخيار في مقاومة المشروع التوسّعي الإيراني الذي يسعى إلى شق طريقه عبر تغيير قواعد لعبة تشكيل الحكومة اللبنانية. الأكيد أنّ الأكثرية اللبنانية لن تقبل بذلك بعدما صارت مؤسسة رئاسة مجلس الوزراء عنوانا للمحافظة على الطائف وعلى المناصفة بين المسيحيين والمسلمين، بدل المثالثة بين الشيعة والسنّة والمسيحيين، وعلى التوازن في البلد وممرّا للمساعدات الخارجية في حال جاءت يوما.
ما هو مطروح حاليا في لبنان يتجاوز مسألة تشكيل حكومة. المطروح بكلّ بساطة أن يكون لبنان أو ألاّ يكون. وحدها حكومة وفاقية لا تلغي أحدا تحظى بثقة المجتمع الدولي تصلح للمرحلة الراهنة. مثل هذه الحكومة تستطيع أن تثبت أنّ البلد لم يستسلم بعد وأنّ تركيبة المجلس النيابي ليست كما يتصورّها قاسم سليماني وغيره من الذين يعتقدون أنّ لبنان صار دويلة في دولة “حزب الله”.
نعم. هناك لبنانان. أي لبنان سينتصر؟ لبنان ثقافة الحياة أم لبنان ثقافة الموت؟ الكثير سيتوقف على ما إذا كان “حزب الله” سينجح في فرض حكومته على غرار ما فعله في العام 2011.
بعيداً عن التحليلات السياسية والعسكرية، والتي لطالما سمعناها وشاهدناها على شاشات التلفزة العربية، منذ بداية الثورة السورية وحتى يومنا هذا، اليوم سأتحدث من وجهة نظري كإعلامي سوري ومتابع للوضع الميداني والسياسي السوري، أريد أن أتحدث عن ما رأيته أمامي طيلة السبعة أعوام الماضية، بعيداً عن الانحياز لأي جهةٍ كانت.
في البداية يا سادة كانت مجريات الثورة السورية تسير في الطريق الصحيح، ثورة خالية من الشوائب والتدخلات الخارجية كانت ثورة شعب أعزل طالب بحقوقه المشروعة والمحقة، من خلال المظاهرات السلمية والعصيان المدني في مختلف المحافظات، إلى أن تحولت هذه المظاهر إلى ثورةٍ مسلحة، بعد تجاوزات النظام اللإنسانية، هنا أيقن الشعب السوري أن الثورة بسلاحها قادرة على تحقيق مطالبهم بالحرية والعدل، وفعلاً تم تحقيق إنجازات على الأرض من قبل الجيش السوري الحر حتى هذه المرحلة لم يكن هناك أي تدخل خارجي يُذكر بمسار الثورة وانتصاراتها على الأرض.
تَخوفت الدول القمعية والأنظمة الشمولية المعادية للربيع العربي من انتصارات الثوار على الأرض، والتمست الخطر من هذه الانتصارات، ورأت بتقدم الثورة تهديداً مباشراً لها هذا من جهة، بينما من جهةٍ أخرى هناك إسرائيل المجاورة وفي حال سقوط نظام الأسد الضامن لأمنها واستقرارها، قد يؤدي لجلب نظام آخر معادي لإسرائيل ومهدد لأمنها، بقيت هذه المخاوف حبيسة غرف المخابرات العالمية وكواليس إفشال ثورات الشعوب المطالبة بالحرية والتحرر من الأنظمة القمعية والشمولية، حتى تم تطبيق نواياهم وسياساتهم على الأرض فيما بعد.
بعد إحراز الثوار المزيد من التقدم والسيطرة على الأرض على حساب النظام، وزيادة الحاضنة الشعبية المؤيدة لهم ارتفعت وتيرة القصف بمختلف صنوف الأسلحة، بما فيها الأسلحة الكيميائية لتزداد أعداد اللاجئين بشكل كبير وتكتفي الدول بالإدانة والاجتماعات الوهمية، للتعبير عن رفضها لمجازر النظام وسياساته القمعية، دون اتخاذ أي إجراء مباشر على الأرض يساعد في حقن الدماء وإنصاف المظلومين.
اتبعت الدول سياسة التصريحات المنحازة للشعب السوري المليئة بالشجب والاستنكار والإدانة للنظام السوري، ولكن دون التدخل الفعلي لنصرة هذا الشعب، وإنهاء معاناته أمام استخدام مختلف الأسلحة ضده، وبعد تدخل روسيا وإيران والميليشيات المساندة وسيطرتها على جميع مرافق الدولة، عم الصمت وانخفضت وتيرة التهديدات ضد النظام، وبدأت السياسة الناعمة تطفو على السطح، وأصبحت روسيا المتحدثة الرسمية، وصانعة القرارات والمفاوضات باسم النظام والمتحكمة بكل شيء سياسياً وعسكرياً.
بعد وضوح المشهد للجميع وسقوط قناع المجتمع الدولي والأمم المتحدة وفشل مجلس الأمن الدولي في وضع حد وحقن دماء السوريين، سأذكر لكم لماذا قتلوا ثورة الشعب السوري، وهي أسباب مباشرة تندرج تحت إطار التفاهمات الدولية والغرف التابعة للمخابرات العالمية.
1- موقع الجمهورية العربية السورية المحاذي لإسرائيل، وسقوط النظام السوري الضامن لأمنها واستقرارها سيؤدي لظهور نظام آخر، قد يكون معادي للكيان الصهيوني وهذا ما لا يريده العالم.
2- رغبة الأنظمة العربية بجعل الشعب السوري وتضحياته عبرة لشعوبها التي تفكر بالثورة ضدها، وإبقاء الثورة السورية خاتمة لثورات الربيع العربي.
3- بعض الدول التي استقبلت اللاجئين السوريين على أراضيها لم تُظهر أي تعاون أو تنسيق مع المعارضة، ولم تستجب لها فكانت سياسة هذه الدول تنسجم مع النظام، وبوجود التنسيق الاستخباراتي بينهم.
4- إجماع دول العالم على أن ما يجري في سوريا ثورة شعبية ضد الظلم، ولكن لا بديل لنظام الأسد المطيع والمُلبي لجميع الرغبات الدولية.
5- انتصار ثورة الشعب السوري سَيُمَهد الطريق للمزيد من الثورات في المنطقة العربية، وسيخلق حالة انتصار الشعوب على الأنظمة بالقوة، وهذا ما لا يريده أعداء الربيع العربي.
6- اختلاف موازين القوى لصالح الدول الداعمة والحليفة للنظام السوري، أدت لحسم المعركة ميدانياً وسط تلاشي القوى المساندة للمعارضة السورية على الأرض.
كل ما ذُكر من أسباب تُعتبر أسباب مباشرة في إفشال الثورة السورية، ناهيكم عن الأسباب الغير مباشرة والمتمثلة بدعم بعض الفصائل المقاتلة على الأرض، لتنفيذ عمليات اغتيالات طالت القادة العسكريين، وبث روح التفرقة بين المقاتلين أدت لانتشار الخيانة والتخلي عن مبادئ الثورة الأولى، كُله بسبب المصالح الشخصية للبعض، وتفضيل المال على المبادئ التي قامت الثورة من أجلها، كل هذه العوامل أدت إلى النتيجة الحالية وخسارة الحاضنة الشعبية المؤيدة للثورة بعد سقوط الأقنعة عن الجميع، وترك الشعب السوري وحيداً يواجه دولاً عظمى، لكل منها غايات ومصالح مشتركة أبرزها إخماد هذه الثورة.