هل يمكن تجميع التاريخ، وطحنه، وعجنه، وإعادة إدخاله إلى أفران السياسة لإنتاج خبز جديد؟ علامة الاستفهام هذه ربما تفتح لنا باباً واسعاً ندخل منه إلى براح غير ساخن، لنقرأ مخرجات رحلة صاخبة للرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى بروكسل وهلسنكي.
لقد أبدع الرئيس الأميركي سياسة داخلية وخارجية في جميع المجالات، تتداخل فيها اللغة وزوايا المواجهة وخطوط الهجوم.
استطاع ترمب أن يسترجع كل المحطات التي وقف فيها التاريخ العالمي الحديث، الذي رسم خطوط الطول والعرض على خرائط السياسة الدولية بعد الحرب العالمية الثانية، والتي كانت الولايات المتحدة الرسام الأساسي لها. القمم التي اجتمع فيها قادة الحلفاء من طهران إلى الدار البيضاء وبوتسدام ويالطا، بقيت آثارها وقوداً محركاً للسياسة الدولية على مدى عقود ساخنة.
رؤساء الولايات المتحدة، منذ روزفلت وترومان وآيزنهاور، ربطوا أوروبا الغربية بحبل عسكري عملاق عابر للأرض والزمان، هو حلف شمال الأطلسي، القوة العسكرية الأكبر في التاريخ البشري. قوة عسكرية سياسية تواجه قوة عسكرية آيديولوجية هي الشيوعية، بقيادة الاتحاد السوفياتي.
الرئيس دونالد ترمب ليس ظاهرة سياسية هبَّت من تحت الأرض الأميركية؛ بل هو نتاج تراكم مسيرة مركبة وطويلة في أميركا، من تنقل السلطة بين كيانين سياسيين كبيرين هما الحزب الجمهوري والحزب الديمقراطي. كل منهما يقدم سياسة يقودها رئيس، في رؤيته أضواء وظلال من تطلعات الشعب الأميركي وآماله وشكواه.
هناك رؤساء تركوا بصماتهم على الواقع والقادم، وفي مفاعيل التفكير السياسي الأميركي.
دونالد ترمب، يرسم خرائطه بألوانه الصاخبة في داخل الولايات المتحدة وخارجها. يحسب المنتجات السياسية بالأرقام. انسحابات متتالية من ارتباطات دولية، وإعادة تصميم علاقات سابقة مع البعيد والقريب. انسحب من اتفاق المناخ الدولي، من اليونيسكو، من منظمة حقوق الإنسان، والانسحاب الكبير من الاتفاق النووي مع إيران. قرر بناء جدار على حدود المكسيك. اصطدم بشركائه في مجموعة الدول السبع. وأخيراً أشعل معركة حلف الناتو في موقعة بروكسل. اقتحم حصون الحلف من محاور عدَّة. المساهمات المالية للدول الأعضاء في ميزانية الحلف. ترمب يطلب رفع المساهمة من كل دولة إلى 4 في المائة من ناتجها القومي، ويحتج بأن بلاده تغطي 72 في المائة من ميزانية الحلف.
صحيح أن ترمب يتحدث بلغة أرقام فصحى؛ لكن بين طبقات صوته أنغام مقاصده الحقيقية. يريد أن يقول: هل من العقل أن تدفع أميركا مليارات الدولارات في جسم عسكري، هو الناتو، وقد زالت كل أسباب وجوده؟ ما الخطر الذي يتهدد أوروبا وأميركا بعد زوال الاتحاد السوفياتي وكتلته الشيوعية وإلغاء حلف وارسو؛ بل إن بعض دوله صارت حليفة للغرب؟ ماذا قدم هذا الحلف لأميركا في السابق وماذا يقدم اليوم؟ تلك حزمة من الأسئلة يمكن أن نعتصرها من تغريدات ترمب وتصريحاته الغاضبة أو الهادئة. يرد عليه بعض قادة الناتو، بأن الحلف ساعد أميركا في حربها ضد أفغانستان بعد عملية 11 سبتمبر (أيلول)، وقبل ذلك تدخل معها في حربها ضد يوغوسلافيا السابقة، وكذلك في العراق. لقد فتح الرئيس دونالد ترمب هذا الملف ولن يغلق بمجرد خطابات وتصريحات مجاملة في بروكسل. تصريحاته سيكون لها صدى في هلسنكي، أثناء لقائه مع الرئيس بوتين وبعده.
إيران، مستنقع النار الذي لا يغيب عن موائد القمم العالمية الثنائية والجماعية، ستكون حاضرة بحرارتها على مائدة الزعيمين في هلسنكي. مشروعها النووي، صواريخها، الإرهاب والعنف العابر للحدود. بالنسبة للرئيس الأميركي، الملف الإيراني هو المفتاح والقفل في العلاقة بين البلدين، وبالنسبة للرئيس الروسي بوتين، الملف الإيراني هو البرزخ والجسر، ورقة استخدمها في سوريا لتعود روسيا إلى دائرة الفعل القيادي في المسرح الدولي، وقد نجح في ذلك. لقد فتح صفحة جديدة مع إسرائيل التي لها قوة ضغط فاعلة في روسيا، وتربطهما علاقات اقتصادية متينة، وكذلك اللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة. لقد احتلب بوتين كل ما يريده من الوجود الإيراني في سوريا، وهو اليوم يستخدم آخر ما بقي بضرع وجودها في سوريا عبر توظيفها في صفقة كبيرة مع أميركا.
زيارة نتنياهو إلى موسكو قبيل قمة هلسنكي، تضيف أوراقاً إلى تلك القمة. فرئيس الوزراء الإسرائيلي يصر على أن تراجع روسيا موقفها من الاتفاق السداسي مع إيران حول ملفها النووي، وكذلك مشروعها الصاروخي وتدخلاتها الخارجية؛ خاصة بعد موقف دول الناتو التي أعلنت صراحة مطالبة إيران بالموقف نفسه.
زيارة علي ولايتي، مستشار المرشد الأعلى للثورة الإيرانية، إلى موسكو، تزامناً مع وجود نتنياهو بها، تحمل رسائل متعددة. بعضها دون شك يطلب إبلاغها إلى إسرائيل، أولها استعداد إيران لمراجعة تموضعها في سوريا، وعدم القيام بأعمال معادية لإسرائيل انطلاقاً من الأراضي السورية، مقابل أن تمارس إسرائيل تأثيراً على الإدارة الأميركية لتخفيف العقوبات على إيران. ورسالة خامنئي إلى ترمب عبر بوتين باستعداد إيران لمراجعة برنامجها النووي والصاروخي، وكذلك نشاطها العابر للحدود، مقابل تخفيف أميركا من موقفها المتشدد ضد إيران، وعودتها إلى الاتفاق السداسي حول ملفها النووي. إيران تدرك جيداً أن خروجها من سوريا سيؤدي مباشرة إلى ضمور وجودها في لبنان؛ بل قد يتعداه إلى نفوذها في العراق، وذلك سيكون له انعكاس قوي في الداخل الإيراني الذي يعاني من مشكلات اقتصادية واجتماعية تتفاقم كل يوم. الورقة السورية مضافة إليها الورقة الإيرانية، ستكونان عاملاً تفاوضياً مهماً بيد الرئيس بوتين، عندما توضع على مائدة الاجتماع العقوبات الأميركية والأوروبية على روسيا، وكذلك ملف أوكرانيا، وجزيرة القرم التي ضمتها روسيا إليها وتسببت في فرض تلك العقوبات.
الرئيس ترمب، يرتاح للتعامل مع (الزعماء)، وهو يرى في شخص بوتين الزعيم الذي يمتلك كل القرار في بلاده، وهو يغبطه على ذلك، ويتمنى لو أن له بعض ما لبوتين من تلك القوة، ولهذا فهو لن يتردد في عقد صفقات اختراقية معه. والرئيس بوتين بعقليته الأمنية، وميراثه السوفياتي، سيعمل على أن يطرق والحديد ساخن.
موقف ترمب من حلف الناتو، سيفتح الباب لمناقشة قضايا الأمن في أوروبا والشرق الأوسط، والسلاح النووي، وكذلك الحرب التجارية التي فتح الرئيس ترمب نيرانها على الصين وأوروبا.
قمة هلسنكي ستعيد رسم كثير من الخرائط الدولية، فالرئيس ترمب له اعتراضات لا حدود لها على الموروث في المشهد الدولي. وتكتيكه أن يحقق انتصارات من دون حروب؛ لأنه يكره دفع الأموال. وفي المقابل يحرص الرئيس الروسي أن ينتقل بين الخنادق دون إصابات. بوتين وترمب، سيترافقان وإن لم يتحالفا.
انتظرت إسرائيل طويلاً كي تقول كلمتها في الوضع السوري. وقد ظن الكثير من المغفلين السوريين، وخاصة في المعارضة أن تل أبيب تقف إلى جانبهم، لكن الحقيقة الإسرائيلية ظهرت فاقعة جداً قبل أيام عندما صرح وزير الدفاع الإسرائيلي بأن بلاده قد تعقد حلفاً استراتيجياً مع النظام السوري بعد أن سلمته المنطقة الجنوبية. ثم تبعه نتنياهو قائلاً من موسكو: ليس لدينا أي نية لإزعاج نظام الأسد. وقبل إسرائيل غالباً ما كانت أمريكا تبدو غير مهتمة بالوضع السوري منذ بداية الثورة قبل سبع سنوات، فقد كانت تحاول أن تعطينا الانطباع بأنها بريئة مما يحدث في هذا البلد المنكوب، وفي كثير من الأحيان كانت تكتفي بالنصح والمناشدة للأطراف الداخلية والخارجية كي ترأف بحال السوريين. وقد شاهدنا قبل سنوات تسجيلاً لنائب الرئيس الأمريكي الأسبق جو بايدن وهو يلقي اللوم على أصدقاء الولايات المتحدة من العرب وغير العرب ويتهمهم بالتدخل في سوريا وإيصالها إلى ما وصلت إليه. وكأن أمريكا لا علاقة لها أبداً في كل ما يحدث في بلادنا. وفي آخر أيام أوباما اعترف بن رودز مستشاره الشهير في كتابه الجديد «العالم كما هو» بأن أوباما كان قد غسل يديه من المسألة السورية في آخر أيامه، وأطلق يد إيران في البلد مقابل التوقيع على الاتفاق النووي.
ثم جاء ترامب ليعطي الانطباع أن سوريا ليست ذات أهمية بالنسبة للرئاسة الأمريكية الجديدة، وبأنه باع سوريا للروس هذه المرة. لكن تلاميذ الصف الأول في السياسة يعرفون تمام المعرفة أن كل التصريحات الأمريكية التي تحاول أن تبدو غير مكترثة بالقضية السورية هي للضحك على الذقون وذر الرماد في العيون. كيف تكون سوريا عديمة الأهمية بالنسبة للمشروع الأمريكي في المنطقة وهي جارة إسرائيل المباشرة؟ هل يمكن أن تتخلى أمريكا عن هذه المنطقة الحيوية جداً في الشرق الأوسط وتهديها لروسيا وإيران؟ ومنذ متى توزع أمريكا الهدايا على الروس والإيرانيين؟ نحن نعلم أنه عندما تدخلت روسيا في جارتها أوكرانيا لأسباب تتعلق بحماية الأمن القومي الروسي، عاقبتها أمريكا وأوروبا بشدة وفرضت عليها عقوبات اقتصادية كبيرة، رغم أن التدخل فرضته المصلحة القومية الروسية. أما عندما غزت روسيا سوريا البعيدة عن حدودها، فلم تتعرض لأي عقوبات غربية او أمريكية، ورحبت بها اسرائيل. وهذا يعني أن الاحتلال الروسي لسوريا جاء بضوء أخضر أمريكي اسرائيلي. لكن «بتوع» المقاولة والمماتعة لا يريدون أن يفهموا ذلك، ويمضون في تحالفهم مع الغزاة الروس في سوريا وهم يعلمون انهم مجرد أجراء لدى أمريكا وإسرائيل وأوروبا.
عدم الاكتراث الأمريكي بسوريا إذاً كذبة سمجة لا تنطلي على أحد، وأن الموقف الأمريكي البارد تجاه سوريا يدخل في إطار ما أسماه وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر ذات يوم بالغموض البناء. ولا ننسى أن كل الاتهامات الأمريكية لدول عربية وإقليمية ولروسيا بتخريب سوريا لا يمكن ابتلاعها أو تصديقها. هل تستطيع أي دولة في العالم أن تتدخل في سوريا وترسل إليها السلاح والميليشيات والطائرات من دون ضوء أخضر أمريكي، أو رغماً عن أمريكا؟ كيف يمكن أن تضحي واشنطن بهذه المنطقة الخطيرة جداً المحاذية لإسرائيل وتتركها للقوى الأخرى كي تلعب بها وتستغلها؟ أليس أمن إسرائيل أولوية قصوى لأمريكا؟ إذاً ليس صحيحاً أبداً أن الأمريكيين لا يبالون بالوضع السوري، وأن الحقيقة الفاقعة أنه لم يحدث شيء في سوريا منذ اليوم الأول للثورة من دون علم أو توجيه أمريكي. لا بل إن البعض يعتبر ما حدث في سوريا على مدى الأعوام الماضية هو جزء لا يتجزأ من مشروع «الفوضى الخلاقة» الأمريكي الذي بشرتنا بها وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كوندوليزا رايس. ولا ننسى أن سفير أمريكا الشهير في سوريا روبرت فورد كان أول مسؤول غربي يتدخل في الثورة السورية علناً عندما زار مدينة حماة في بداية الثورة وشاهد بأم عينه أكبر مظاهرة شعبية سورية وصل عدد المشاركين فيها في ذلك الوقت في إحدى ساحات حماة إلى أكثر من نصف مليون شخص. ولا شك أنه أرسل تقاريره آنذاك للخارجية الأمريكية حول الهبة الشعبية العارمة في سوريا من أقصاها إلى أقصاها، وكيف يجب التعامل معها وتخريبها قبل أن تحقق هدفها بعيداً عن التوجيه الأمريكي.
وإذا تركنا الجانب السياسي، وتوجهنا إلى الجانب العسكري والأمني سنجد أن كل الجماعات التي دخلت سوريا في بداية الثورة للقتال ضد النظام كانت تحت المراقبة الأمريكية. لا يمكن لتلك الجماعات التي عبرت الحدود أن تدخل سوريا دون أن تراها وتراقبها وتوجهها الاستخبارات الأمريكية.
وحدث ولا حرج عن السلاح الذي دخل سوريا بالأطنان، فقد كان أيضاً بتوجيهات أمريكية، وخاصة الشحنات التي جاءت من ليبيا. لا يمكن أن تدخل كل تلك الجماعات والكميات الرهيبة من السلاح وتصل إلى حدود إسرائيل دون أن تراها وترعاها المخابرات الأمريكية. وهل ننسى غُرف الموم والموك التي كانت تدير الجماعات السورية التي تقاتل ضد النظام؟ ألم تكن كلها بقيادة وتوجيه أمريكي؟ ألم تكن الاستخبارات الأمريكية بمثابة رئيس مجلس إدارة الفصائل السورية التي تعارض النظام؟ ألم تكن أمريكا تجلس في المقعد الخلفي وهي توجه القوى والدول التي تعمل على الساحة السورية؟
هل ننسى ما يسمى بأصدقاء سوريا الذين كان يقودهم جون كيري؟ هل ننسى صواريخ التو الأمريكية المضادة للدروع التي كانت تزود بها أمريكا قوى المعارضة وتفعل فعلها بدبابات الجيش السوري؟
يعترف كثير من الضباط السوريين المنشقين بأن الاستخبارات الأمريكية كانت دائماً تجلس على رأس الطاولة أثناء الاجتماعات التي تعقدها القوى المتورطة في الوضع السوري، بينما يجلس ممثلو الدول الأخرى وقيادات ما يسمى بالجيش الحر على أطراف الطاولة للاستماع إلى توجيهات المسؤول الاستخباري الأمريكي. ولا ننسى أن اسم «الجيش الحر» نفسه لم يكن تسمية سورية، بل تسمية غربية.
ماذا كانت أمريكا تريد في سوريا بعد أن كانت تقود الجميع هناك وتوزع الأدوار؟ هل فعلاً انهزم مشروعها أمام الروس والإيرانيين وما يسمى بحلف الممانعة؟ هل خسرت المعركة في سوريا وأصبحت مضطرة للقبول ببقاء الأسد ونظامه؟ بالطبع لا، خاصة وأن الاستخبارات الأمريكية اعترفت عندما سافر بشار الأسد إلى روسيا في زيارته الأولى بأن الرئيس اختفى عن رادار المراقبة الأمريكي في دمشق لمدة أربع وعشرين ساعة، وأنها كانت تعلم بموعد زيارته وعودته. بعبارة أخرى، فإن الاستخبارات الأمريكية تعرف الغرفة التي ينام فيها الرئيس السوري، وليس فقط المنطقة، وهي تراقب صوته عن طريق بصمة الصوت ثانية بثانية. ولو كانت تريد رأسه فعلاً لاعتقلته من مخبئه كما اعتقلت صدام حسين وعرضته أمام الشاشات. لكن طبعاً، لديها خطط أخرى تستوجب بقاء الرئيس لفترة معينة، خاصة وأنه ينفذ لها ببراعة ومهارة مشروع الفوضى الهلاكة بالتعاون مع بتوع المقاولة والمماتعة. وقد وصف أحدهم بشار الأسد بأنه قائد مشروع الفوضى الأمريكي في سوريا والمنطقة.
هل انتهى الدور الأمريكي في سوريا بعد تسليمها للروس وإعادة سلطة النظام على الكثير من المناطق التي كانت تسيطر عليها قوى المعارضة بدعم أمريكي، وبعد أن أعلن الإسرائيليون عن نيتهم إعادة تأهيل النظام؟ أم إن الروس والإيرانيين والنظام مازالوا مجرد أدوات في اللعبة الإسرائيلية الأمريكية الكبيرة؟ هل حدث كل هذا التدمير والتهجير في سوريا دون تخطيط مسبق، وأن كل ما شهدناه هو مجرد إصابات حرب عشوائية ليس لها هدف؟ هل اكتفت أمريكا وإسرائيل بتدمير سوريا وتهجير نصف شعبها والاستحواذ على مناطق النفط والقمح والماء شرق سوريا؟ أم إن المخطط في بدايته وأن كل ما نشاهده الآن على أنه نهايات هو في واقع الأمر مجرد محطات، وأن القطار لم يصل إلى محطته الأخيرة بعد، وربما تكون سوريا محطته الأولى فقط؟
باستعادة جيش النظام السوري معبر نصيب، وتقدم «المصالحات» في عشرات القرى والبلدات في كل منطقة «خفض التصعيد» الجنوبية، تبدو الحرب السورية؛ والأصح «الحرب على الشعب السوري»، قد وضعت أوزارها. ما بقي تحت سيطرة بقايا الفصائل المسلحة لا يتعدى جيوباً بسيطة معزولة، بالإضافة إلى تجمعات متواضعة عاجزة لـ«داعش» و«النصرة»، أما إدلب، التي تحولت إلى ما يشبه الثقب الأسود، فهي في التوقيت المناسب بين المطرقة الروسية والسندان التركي المطالب ببتر هذا الوضع.
اليوم باتت الخريطة السورية خرائط نفوذ... الأتراك عززوا وضعهم في الشمال ويتمركزون في عفرين، وهم يتحدثون عن اكتشاف مقر يعود إلى مصطفى كمال أتاتورك، قد يكون مقدمة لفرض وضع خاص على هذا الجيب ذي الأغلبية الكردية، ويتمركزون في جرابلس ومحيط منبج بعد الاتفاق مع الأميركيين، ويسيطرون عبر فصائل موالية لهم في تل رفعت وإدلب وبعض الريف الشمالي للاذقية.
«قوات سوريا الديمقراطية (قسد)» عززت سيطرتها في كل شرق الفرات؛ أي على 28 في المائة من المساحة السورية، لكنها المنطقة الأغنى بثروات النفط والغاز كما بالثروات المائية والزراعية، ومن كوباني إلى الرقة وناحية البوكمال ودير الزور استعادت هذه القوات بدعم أميركي كبير أهم المناطق من سيطرة «داعش».
القوات الأميركية ما زالت متمركزة في قاعدة التنف قرب المثلث الحدودي مع الأردن والعراق، وتنتشر في قواعد لها في شرق الفرات وحتى منبج، ويعلن قائد القوات الخاصة للتحالف الدولي الجنرال جيمس جيرارد، أن هذه القوات ستبقى في سوريا إلى حين التوصل لتسوية سياسية يقبل بها السوريون.
ما زال «داعش» موجوداً؛ وإن بفعالية متدنية، وذلك من خلال ما يسمى «جيش خالد» في حوض اليرموك وجيوب متفرقة في البادية كما في مناطق حدودية مع العراق في شرق الفرات.
وتحت القبضة الروسية تنتشر قوات النظام السوري المدعومة من الميليشيات المتطرفة لـ«الحرس الثوري»، من حلب شمالاً وحماة وحمص والساحل إلى دمشق والغوطتين وتدمر ودير الزور وصولاً إلى الحدود مع الأردن والجولان المحتل.
في كل هذه المشهدية بدت معركة الجنوب، التي أصرت روسيا على حسمها سريعاً، رغم انشغالها بالمونديال والصورة التي أرادت موسكو تقديمها للعالم، كأنها عملية تتجاوز حجم سوريا وموقعها ودورها. عملية عسكرية - سياسية مثيرة للاهتمام نتيجة تكثف أدوار أطراف مختلفة مؤثرة وفاعلة في المسألة السورية. من البداية انطلقت المعركة مع تسليم واسع غربي وأميركي خصوصاً ببقاء النظام السوري واستمرار رئيسه. وتسلم الجيش النظامي السوري من دون الميليشيات المتطرفة الحدود مع الأردن ومعبر نصيب، ولهذا المعبر أهمية كبيرة جداً لحجم العائدات. وشهدت هذه العملية عودة إسرائيلية علنية للمطالبة بالتزام دقيق باتفاق فك الارتباط في الجولان لعام 1974 وتنفيذه حرفياً؛ فلا يدخل الجيش السوري إلى القنيطرة، وتُحترم المنطقة العازلة التي توسعت، ويتم تحديد عديد الجيش ونوعية الأسلحة. هذا الاتفاق هو لإسرائيل ضمانة لحدود احتلالها؛ تماماً كما كان منذ عام 1974 عندما حوّل الأسد الأب وبعده الابن، الجيش السوري إلى حارس حدود السيطرة الإسرائيلية.
ولتأكيد المطالب التي تُمكن تل أبيب من مدِّ هيمنتها على الجنوب السوري، حمل نتنياهو إلى موسكو في زيارته التاسعة للعاصمة الروسية في أقل من عامين، مطلباً واضحاً برفض أي وجود للقوات الإيرانية والموالية لها في أي جزء من سوريا، وإثباتاً لهذا الموقف قصفت تل أبيب مساء الأحد الماضي، القوات الإيرانية في قاعدة «تي فور» وأوقعت بالإيرانيين إصابات مباشرة. توقيت الزيارة الجديدة لرئيس الوزراء الإسرائيلي إلى موسكو لافت، لأنها تستبق بأيام قمة هلسنكي التي ستجمع الرئيسين ترمب وبوتين، والمرجح أن تشهد أكثر من صفقة بين القطبين، ومن المرجح أيضاً أن يتم فيها وضع النقاط على حروف عملية الجنوب السوري، خصوصاً لجهة المطالبة الأميركية لروسيا بضرورة إخراج القوات الإيرانية من سوريا. هذا الاستحقاق بات من الصعوبة بمكان على موسكو تجاهله، مع العلم بأن النفوذ الإيراني في سوريا ودور طهران في مجمل القرار السوري له تاريخ وجذور، وحكام طهران ليسوا بوارد الانصياع بسهولة لرغبات الكبار، ومن وجهة نظرهم يعدّون الانسحاب من الوضع السوري بمثابة المقدمة لكسر نظام حكم الملالي في إيران... هنا تبرز الصعوبة وتبرز الاحتمالات؛ وأولها أن تسعى طهران مع المتضررين من بطانة الحكم السوري لابتداع الأعداء وإطالة أمد الصراع.
هل سوريا اليوم أمام مرحلة بدء المتدخلين جني الغنائم والاستثمار في النصر الذي حققته روسيا بشكل أساسي وبأقل تكلفة عليها، وأضخم فاتورة دفعتها سوريا وكل السوريين؟ وهل تدرك روسيا، بوصفها الطرف الأقوى في المعادلة السورية، أنه إذا أرادت الحفاظ على أرباح جدية فعليها توظيف كل النجاحات المحققة مع الأميركيين وإلاّ فلا شيء ثابت؟ وبمقابل المحتمل عن جني الغنائم وواقع خرائط النفوذ على الأرض السورية، هناك خاسر كبير؛ هو سوريا، سواء أكان النظام الملحق، أو المعارضة السياسية المطعون في شرعية تمثيلها. سوريا هذه ربما لن تعود البلد الذي نعرفه أياً كانت التسوية الآتية مهما تأخرت. إعادة إعمار ما تم تدميره، وهو كثير، بعلم الغيب، والأخطر استحالة استعادة النسيج الشعبي السوري مع ملايين النازحين في الداخل من سوريا إلى سوريا، والأصعب هو: متى وكيف يمكن أن يعود ملايين المهجرين من لاجئين على أبواب المدن الأوروبية، وفي مخيمات تركيا والأردن ولبنان؟ ومن سيتمكن من العودة منهم إلى أين ستكون عودته؟!
اليوم آن أوان الأسئلة الحقيقية عن مسؤوليات الجميع عما حلّ بسوريا، وما كان يجب أن تُسأل المعارضة بخصوصه، منذ استعادة الروس حلب وما تلاها من تقطيع للمناطق، وجعلها بؤراً معزولة آيلة للسقوط: أسئلة عن المصير وعن الحاضر والمستقبل، خصوصاً أن الانتفاضة السورية التي تفجرت في درعا وبعدها حمص والغوطتين بدأت في أكثر المناطق رضوخاً للديكتاتورية، وتركت بصمة مميزة قبل استجلاب كل هذه الجيوش والميليشيات... وهذا حديث آخر.
تفيد تقارير استخباراتية دولية بأن تنظيم الدولة الإسلامية لم ينتهِ، وأنه ما زالت لديه القدرة على شن الهجمات، سواء في داخل العراق أو سورية، أو حتى في أوروبا وأميركا. وبالتالي، فإن النصر الذي تفاخر به الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، وقائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، شركاء الحرب على "داعش"، ما زال ناقصاً.
وإذا كانت إيران والولايات المتحدة تشاركتا الحرب على هذا التنظيم في سورية والعراق، فإنهما يدركان ماذا تعني عودة هذا التنظيم إلى كل منهما، لاسيما إيران التي قد تلعب دوراً في إعادة الحياة إلى هذا التنظيم، خصوصا إذا علمنا أن طهران لا تبالي في التعامل حتى مع أشد أعدائها وأخطرهم، إذا كان ذلك يوفر لها فرصة إضافية في تحقيق ما تصبو إليه، سواء في تمددها الإقليمي أو في الحفاظ على ما حققته من مكتسبات. ولعل في ما كشفته صحيفة التايمز البريطانية أخيرا من أن إيران تدرب كبار قادة تنظيم القادة في أفغانستان دليل على هذا القول.
قد يتخيل بعضهم أن كاتب هذه المقالة من أنصار نظرية أن "داعش" صنيعة إيرانية، أو حتى أميركية أو حتى صهيونية، كما يحلو لبعضهم أن يردّد، والرد على هؤلاء أن "داعش" صنيعة الظروف التي تسبب بها الغزو الأميركي للعراق، وما تبعه من احتلال وتمدّد إيرانيين، لكن هذا لا يمنع من أن القوى التي تتصارع في المنطقة، أميركا وإيران، تلعب دوراً في إحياء هذه الحركات المسلحة المتشدّدة، سواء بغض الطرف عنها، كما حصل في عملية احتلال الموصل، عندما أمر رئيس الوزراء العراقي آنذاك، وفتى إيران، نوري المالكي، قواته بالانسحاب من الموصل، وترك معدات أربع فرق عسكرية غنيمة لمسلحي التنظيم. أو بتوفير الأسباب الموجبة لظهور مثل هذه الحركات، كالظلم والتهميش والإقصاء والاعتقالات غير المبرّرة والخطف الذي تمارسه حكومات بغداد منذ 2003.
إيران اليوم في ورطة، فالعقوبات الاقتصادية الأميركية بدأت تؤثر في الداخل الإيراني، وبدأت حركات الإحتجاج تتصاعد في عدة مدن، وهبط سعر التومان الإيراني إلى أرقام قياسية، هذا كله وما زلنا على مسافة شهرين من توقف شراء النفط الإيراني، لتتصاعد التصريحات الإيرانية المنددة بالعقوبات، وبالدول التي سوف تزيد من إنتاج نفطها لسد النقص في الأسواق العالمية، بل وصل الأمر إلى التهديد بإغلاق مضيق هرمز، ممر النفط العالمي الأهم.
بيد إيران سلاح أكثر فتكا وأمضى، وهو مجرّب في التعامل مع أزماتها الإقليمية، وهو الإرهاب، وسجل إيران ناصع، ليس فقط في الإرهاب الذي تمارسه، وإنما حتى في الإرهاب الذي تصنعه وتدعمه. وليس منسيا أن بشار الأسد، بنصيحة إيرانية، أفرج عن كبار سجناء التنظيمات الإسلامية من أشهر سجونه في صيدنايا، عقب اندلاع الثورة، فانخرط عدد كبير منهم في الثورة المسلحة، ليستخدمهم بشار بعد ذلك ذريعة في عنفه الدموي في محاربة الإرهاب.
ونتذكّر جيدا عملية هروب، أو تهريب إن شئنا الدقة، عدد كبير من السجناء المعروفين بخلفياتهم المتشددة من سجن أبو غريب في بغداد، في أثناء حكم نوري المالكي، وأن عدداً كبيراً منهم التحقوا بصفوف تنظيمي القاعدة والدولة الإسلامية، لتتحول مطالب أهل السنة بتحقيق العدل ونهاية التهميش والإقصاء إلى حرب ضد الإرهاب، تماماً كما أراداها، المالكي وإيران، وبعد أن كانت مليشيات إيران العراقية لا تجرؤ على عبور بغداد غرباً بأكثر من 40 كيلو متراً بسبب الرفض الشعبي والعشائري لها، ها هي اليوم، وبعد أربع سنوات من الحرب على "داعش"، باتت تتحكم بكل أجزاء العراق، شماله وغربه.
إذن، الإرهاب لعبة، وذريعة يلجأ إليها من يُحسن استخدامها، ولدى إيران كثير في هذا الشأن. وبالتالي، ليست قدرتها على بث الروح في تنظيم داعش مستحيلة، فيكفي أنها تسحب مليشياتها من المناطق الواقعة شمال بغداد وشمال غربها، حتى يظهر مقاتلو التنظيم مرة أخرى، وبالإمكان إعادة إنتاج سيناريو سقوط الموصل، مع تعديلات عليه. وهنا ستكون المقارنة بين الإرهاب والتهديد الذي يمثله داعش وبين إيران ضرباً من الترف، فأميركا حتما ستقبل في لحظتها بمشاركة إيران الحرب على "داعش"، أو أي تنظيم جديد، وربما ستؤجل العقوبات على إيران، أو تطبيقها على الأقل إلى حين القضاء على الخطر الجديد.
تعرف إيران كيف تلاعب أميركا، وكيف تلاعب وتتلاعب بدول عديدة في المنطقة، تعتقد أنها تحارب إيران، فقد اكتسبت جمهورية المرشد خبرة طويلة في التعامل مع التحديات. السؤال الأهم الآن: هل يملك العراق قراره بمنع عودة "داعش"؟ أم أن حيدر العبادي يمكن أن يتحوّل إلى نوري المالكي رقم إثنين، إذا ما أرادت إيران ذلك؟ خصوصا أن درب الانتخابات العراقية ونتائجها ما زال طويلاً.
هل ثمّة جديد في ما نشره تسيفي بارئيل في صحيفة هآرتس، قبل أيام، عن قبول إسرائيل ببقاء الأسد في حكم سورية؟ أم هذا هو موقف إسرائيل الحقيقي الذي لم يتغيّر منذ البداية؟ أي تفضيل الأسد على المعارضة المسلّحة بصورها المتعددة؟
منذ اليوم الأول لاندلاع الثورة السورية، كان واضحاً أنّ هنالك موقفاً إسرائيلياً متشكّكاً من نتائجها، ومن البديل الذي قد يحلّ محل نظام الأسد، الذي، وفقاً للمسؤولين الإسرائيليين حينها، كان ضامناً حدود الجولان، إذ لم يطلق من خلالها طلقة واحدة على مدى عقود طويلة، بينما البديل المتوقع، وهي غالباً قوى إسلامية، ليست مضمونة الجانب للإسرائيليين، أو حتى في حال كانت الفوضى الداخلية فهي أيضاً مقلقة للأمن الإسرائيلي.
اليوم، وعلى الرغم من وجود إيران قويةً في الملعب السوري إلى جوار حزب الله، إلاّ أنّ الروس هم الضامن للحدود، ولتنفيذ الشطر الآخر من الاتفاق المتعلّق بإبعاد المليشيات والإيرانيين كيلومترات محددة عن المناطق التي تحتلها إسرائيل في الأراضي السورية، وبضمانة النظام وسلوكه تجاه الإسرائيليين.
ذلك لم يمنع إسرائيل، أو حتى الأميركيين، من توجيه ضرباتٍ إذا اقتضى الأمر، تطاول قيادات إيرانية، أو لحزب الله في عمق الأراضي السورية. وفي الأغلب، بعد إخبار الروس وبتنسيق مسبق، من دون الاهتمام كثيراً بتوعّد زعيم حزب الله حسن نصر الله ووعيده، وهو الذي تلقى الضربات تلو الأخرى، وقبل بمقتل قياداتٍ من حزبه في سورية، كما الحال لحزب الله العراقي، من دون أي رد، طالما أنّ "الغنيمة الكبرى"، أي سورية، أصبحت في أيديهم.
"اليوم التالي للأسد" كانت ذريعة الجميع لبقائه في السلطة، وربما كان الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، أكثر وضوحاً فيها، على الرغم من أنّه توعده مرات، وأعلن ضرورة إخراجه من سورية، إلاّ أنّ الأميركيين لم يعملوا، في أيّ وقت، بصورة جادة وحقيقية، لإزاحته، وإخراجه من المعادلة، لعدم وجود تصوّر واضح لليوم التالي له.
صحيح أنّ الأطراف الدولية والإقليمية دعمت المعارضة المسلّحة، وأعطتها معدات ورواتب، لكن ذلك في سبيل بناء هذه الأطراف أوراقها في اللعبة السورية، وتحصيل مواقع نفوذ، أو حماية مصالحها على أقل الأحوال، لكن أيّاً من هذه القوى لم تخطط جديّا لإسقاط نظام الأسد، والتخلّص منه.. لماذا؟
بصورة أو بأخرى، كان هنالك "فيتو" أميركي ضد إسقاط الأسد، بالذريعة نفسها، لأنّ شبح ما حدث في العراق بعد سقوط صدام حسين، والتجربة الليبية المريرة، خصوصا صورة مقتل السفير الأميركي في بنغازي، كانت جميعاً تتحكّم بالعقل الأميركي الباطن، وتؤجج المخاوف من عدم وجود تصوّر مدروس وعميق لمرحلة ما بعد الأسد، بما يضرّ المصالح الأميركية، ما يجعل بقاء الأسد أفضل الشرور وأخفّها، وهذا ما يفسرّ تراجع أوباما عن قرار الضربة العسكرية في عام 2013، وهي الحيثيات التي شرحها الصحافي الأميركي، جيفري غولد بيرغ، في مقالته في مجلة ذا أتلانتيك "عقيدة أوباما".
كانت الدول العربية والغربية منقسمة على نفسها تجاه الأسد، لكنّ أيّا منها لم تكن بمثابة "العامل الحاسم" في أيّ وقت، فالأميركان كانوا أولاً عاملا حاسما بعدم الحسم في مصير الأسد، وإسرائيل متغير مؤثر جداً في الموقف الأميركي، ثم جاء الروس والإيرانيون الذين شكّلوا حليفاً استراتيجياً لنظام الأسد ولبقائه، بعدما كان يترنّح ويستعد للانهيار.
في كتاب "رسائل الأسماك" الذي يوثق قصة التدخل العسكري الإيراني في سورية، ومذكرات القائد في الحرس الثوري حسين همداني الذي قتل في سورية، (قدّمت قراءة له فاطمة الصمادي في مجلة سياسات عربية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات)، اعتراف صريح بأنّ نظام الأسد كان على وشك السقوط في 2013، وكان الأسد يبحث عن "مأوى" بعد أن ضيّق الخناق عليه، لكن ما لم يذكره الكتاب أو أنكره أنّ الأجندة الدولية والأميركية والإسرائيلية لم تكن مستعدة لهذا السيناريو، فتمّ ترحيله، قبل أن تنقلب المعادلة لاحقاً بدخول الروس وخروج الأميركان فعلياً من المشهد.
من المفترض أن تكون هذه اللعبة الدولية والإقليمية وصعود الداعشية حاضرةً في تحليل ما حدث في سورية، ومن الذي وقف مع الثورة، ومن خذلها، ومن حوّلها إلى حربٍ بالوكالة، وحرب داخلية، وجعل من جزء كبير من الفصائل المسلّحة عصابات حرب، وحوّل النظام السوري إلى نظام تابع وضعيف، وليس صاحب قرار، بينما الروس والأميركيون والإيرانيون والأتراك هم فعلياً من يحدّدون مستقبل هذه الدولة.
عاش العالم بعد الحرب العالمية الثانية ما تم الاصطلاح عليها بـ"الحرب الباردة" التي قامت على الثنائية القطبية، وشكل كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي مركز استقطاب لمجموعةٍ دولية من حوله. وعلى هذا الأساس، تم ترسيم حدود الأمن الدولي والمصالح في ظل استمرار مظاهر الحرب الساخنة، مثل سباق التسلح.
قسّمت الثنائية القطبية العالم، بصورة قسرية، إلى معسكرين كبيرين، غربي وشرقي. وعلى الرغم من سطوة الجبارين، فإنها تحولت إلى صمام أمانٍ للنزاعات الكبرى، وكان من أهم إنجازاتها كبح الأطراف القوية عن التحكّم بمصائر الأطراف الضعيفة، سواء باللجوء إلى الأمم المتحدة، مثلما حصل خلال أزمة خليج الخنازير بين الولايات المتحدة وكوبا، أو بواسطة الحرب المباشرة، كما حدث في فيتنام، حين دعم الاتحاد السوفياتي السابق والصين الثورة الفيتنامية ضد الاحتلال الأميركي.
حين انهار الاتحاد السوفياتي عام 1991، ووضعت الحرب الباردة أوزارها، انتهت الثنائية القطبية، وعاش العالم مرحلةً جديدةً عرفت بـ"الأحادية الأميركية" التي قامت على هيمنة الولايات المتحدة على القرار الدولي. وجرت، في هذه الفترة، سلسلة من التحولات الدولية الكبرى، أبرزها تشظي الاتحاد السوفياتي، ولم تسلم المنظومة التي كانت تدور في فلكه، وبسرعة شديدةٍ تفككت دول أوروبا الشرقية بشكل سلمي (الثورة المخملية)، باستثناء يوغسلافيا التي انتهت على نحو دراماتيكي، وعن طريق حربٍ ضاريةٍ بين مكوناتها العرقية والدينية.
وكان من الطبيعي أن تصل التداعيات إلى المنطقة العربية، حيث وجدت الدول العربية صديقة موسكو نفسها في وضع حرج، ما دفع بعضها إلى الهرولة، مقدما أوراق الطاعة لواشنطن، وبعض آخر بحث عن حلفاء جدد في الصين وأوروبا الغربية، في حين دخل آخرون في تكتلات إقليمية من أجل حماية أنفسهم.
يواجه العالم اليوم بداية مرحلةٍ من أحاديةٍ جديدةٍ، تقوم على تفرّد روسيا بعد انسحاب الولايات المتحدة من ملفات ساخنة عديدة، وتخليها عن دورها وحضورها في مناطق متفجرة من العالم، عاشت تاريخيا على التوازن بين القطبين، وأدّى التخلي الأميركي إلى انكشاف دولٍ كثيرةٍ أمام الروس الذين بدأوا هجوما كاسحا على المنطقة منذ عدة سنوات، ودخلوا طرفا في الصراعات الأهلية، كما الحال في سورية التي باتوا أصحاب الكلمة الأولى فيها، ومنها بدأوا يعدّون العدة للتوسّع على المدى المنظور.
القطبية الجديدة معكوسة، حيث تبدو مواقف الطرف الأميركي ملتبسةً حيال الملفات الرئيسية. وبدلا من أن يكون الانكفاء الأميركي نحو الانعزالية، فإنه يتجه إلى تنازلٍ ضمني للأحادية الروسية، حتى أن قمة ترامب بوتين المرتقبة يوم الاثنين المقبل تبدو أيسر من اجتماع ترامب مع زعماء حلف شمال الأطلسي في قمة منتصف هذا الأسبوع، وذلك على حد تعبير ترامب نفسه. وفي حين يعزو كثيرون الالتباس الذي يصل إلى حد الميوعة للرئيس ترامب، وظروف انتخابه، فإن التأسيس للعملية تم على يد سلفه باراك أوباما الذي مارس سياسة الانكفاء من المنطقة، وكان أبرز تجلياتها تسليم العراق لإيران، وترك الشعب السوري لمصير كارثي، ولا سيما بعد استخدام النظام السوري السلاح الكيميائي في أغسطس/ آب 2013.
تعمل روسيا على وضع أقدامها في المنطقة بقوة، وتخطط للتوسع من سورية التي سوف تكون مرشحةً كقاعدة للانتداب الجديد، نحو الأردن ولبنان والعراق، وذلك بالتفاهم التام مع إسرائيل التي نالت أكبر جائزةٍ، تتمثل في دمار المنطقة من العراق وحتى اليمن.
التدخل الروسي العسكري والمشاركة في الحرب ضد الشعب السوري سوف يجرّ على روسيا الويلات، ويعقد أساليب الوصول إلى حلٍّ ينهي الحرب والنزاع، ويسد الأفق أمام تسويةٍ داخلية بين مكونات البلد. وتشكل الفظاظة الروسية عاملا إضافيا لإدامة النزاع، وهذا هو التحدّي الأساسي للأحادية الروسية، وقد يشكل مدخل هزيمتها، مثلما كان العراق للولايات المتحدة.
اخترق هدوء العاصمة دمشق، في إحدى ليالي خريف عام 2011 صوت رصاص غزير أطلق في الهواء، فرحاً وابتهاجاً، من مختلف مواقع تمركز قوات النظام... بدا الأمر غريباً في ظل تواتر مظاهرات السوريين وتمددها لتشمل مختلف المدن والمناطق، ليشاع في صبيحة اليوم التالي أن السبب هو وصول تأكيدات حاسمة للنظام السوري بأن دولة إسرائيل لا تزال على عهدها، ولم تغير موقفها من دعم بقائه في السلطة، بعد أن بدأت الثورة السلمية تهز أركانه واستقراره.
وبغض النظر عن الغرض من إشاعة ذلك التفسير وقتئذ، فإن ثمة حقيقة قديمة وقوية تقول إن إحدى دعائم استمرار النظام السوري وتسويقه دولياً هو الرضا الإسرائيلي عنه بصفته نظاماً مجرباً حافظ على جبهة الجولان آمنة ومستقرة طيلة عقود، ويسهل التوصل معه إلى تفاهمات بشأن القضايا الأكثر حساسية، وهي حقيقة لم يحجبها تصنع حكومة تل أبيب عدم الاكتراث وادعاء الحياد في الصراع السوري، ولا تصريحات بعض قادتها عن فقدان النظام لشرعيته، وأنه غير قادر على الحكم بعد العنف المفرط الذي مارسه ضد شعبه، مثلما لم تحجبها الاشتباكات والمعارك التي اشتعلت بينهما بالأصالة مرة، في حرب أكتوبر عام 1973 وبالوكالة مرات في جنوب لبنان وغزة، بل تؤكدها إعلانات إسرائيل المعروفة في أزمات سورية كثيرة، عن ضرورة الحفاظ على السلطة القائمة كخيار أفضل، على أن تبقى ضعيفة من أجل لجم اندفاعاتها الإقليمية المؤذية، وتؤكدها أيضاً حالة العداء الأصيل عند حكام تل أبيب لقيام نظام ديمقراطي في دمشق يمكن أن يحدث تبدلاً استراتيجياً في الوضع القائم، ويحمل فرصة النهوض بالبلاد وتعزيز قدرتها ومكانتها، تحدوهم مصلحة عميقة في استمرار الاستبداد والفساد كوسيلة حكم في سوريا تلجم حضور المجتمع الحي وتستنزف طاقاته، وتأخذه نحو التنابذ والتفكك والتفسخ كي يأمنوا جانبه موضوعياً لعشرات قادمة من السنين، ويضمنوا تالياً طي صفحة الجولان المحتل ليغدو مصيره كمصير لواء إسكندرون.
والحال، تغدو الحسابات والأهداف الإسرائيلية أشبه بالقطبة المخفية في ما نشهده من تبادل أدوار وتناغم بين واشنطن وموسكو للتأثير بالصراع السوري، ومؤخراً لفرض تسوية في جنوب البلاد، والقصد أن لقادة تل أبيب كلمة قوية حول مستقبل الأوضاع في بلد يجاورهم ويحتلون جزءاً من أرضه، بل لهم الأولوية، عند الغرب والشرق، في تحديد ما يمكن أن يترتب من أي تطور في سوريا على مصالح دولتهم وأمنها خصوصاً في المناطق الحدودية، وكلنا يتذكر، المواقف المثيرة لمسؤولين إسرائيليين، في تحذير الكرملين من مخاطر إسقاط النظام وانتصار ثورة السوريين، وفي مطالبة البيت الأبيض تقنين دعم المعارضة وتخفيف الضغط على الحكم السوري وتركه لشأنه، والمغزى أن هناك حرصاً دولياً لا يمكنه القفز فوق هموم الأمن الصهيوني وحساباته الاستراتيجية، يحدوه قوة اللوبي اليهودي الحاضر ليس فقط في واشنطن والعواصم الأوروبية والمؤثر على سياساتهم الشرق أوسطية، وإنما الموجود أيضاً في موسكو وقد تنامى وزنه بفعل التشابك مع نحو مليوني يهودي من أصول روسية، هاجروا إلى إسرائيل، وبات دوره مؤثراً على قرارات الكرملين المتعلقة بالمنطقة والحدث السوري.
من هذه القناة يمكن النظر إلى ما أثير منذ شهور في لقاء نتنياهو وبوتين عن قبول الأول عودة قوات النظام السوري إلى الشريط الحدودي، في شرق درعا وغرب القنيطرة، شريطة إبعاد ميليشيا طهران و«حزب الله» إلى مسافة لا تقل عن - 80 - كيلومتراً من خط الاشتباك في الجولان، بما يشمل العاصمة دمشق وريفها، مع تمكين القوات الدولية (أندوف) وتفعيل دورها الرقابي في المنطقة المنزوعة السلاح، ومنح إسرائيل حرية ضرب أي أهداف إيرانية في سوريا تشكل ركيزة خطيرة على أمنها، وإذا أضفنا الحرص الدولي على تجنيب المنطقة تداعيات حرب مباشرة بين تل أبيب وطهران بدأ نذيرها يتضح مع ارتفاع حرارة التوتر بينهما، جراء تعزز حضور الميليشيا الإيرانية وفاعليتها في سوريا، وتواتر الضربات الإسرائيلية التي طاولت غير موقع حساس للحرس الثوري و«حزب الله» في العمق السوري، يمكن أن نفسر توقيت الخرق الروسي المتعمد لاتفاق خفض التوتر، الذي أبرم حول جنوب سوريا، وتالياً دوافع الانسحاب الصريح للراعي الأميركي وتخليه عن دعم المعارضة، ربطاً بما يثار عن صفقة أو تسوية لتلك المنطقة ستتم المصادقة عليها خلال لقاء هلسنكي المرتقب بين ترمب وبوتين، تتوافق مع مصالح إسرائيل وتهدف لإبعاد مختلف التشكيلات الميليشياوية الإيرانية، مقابل رفع الغطاء عن الجماعات السورية المعارضة، وإعادة المشهد الحدودي إلى سابق عهده.
صحيح أن ثمة منفعة، تكللت بالصمت، تجنيها حكومة تل أبيب من سياسة النظام في استجرار الدعم من خصومها، إيران و«حزب الله»، مراهنة على تسعير الاقتتال المذهبي في تفكيك الوطن السوري وإنهاك المجتمع، وفي النيل من أهم كوادر «حزب الله» والإجهاز على ما تبقى من سمعته السياسية كحزب مقاوم، لكن تلك المنفعة ترتبط بخطوط حمراء يفترض عدم تجاوزها، بدأت تحضر وتتضح مع تراجع حدة القتال وميل توازنات القوى لمصلحة النظام وحلفائه، منها التمدد العسكري الإيراني في سوريا، خصوصاً في المنطقة الحدودية، وأهمها وصول أسلحة متطورة إلى «حزب الله» قد تسمح بتعديل الستاتيكو القائم.
لا يوفر النظام السوري، بديماغوجيته العريقة، وسيلة لحشر إسرائيل في كل شاردة وواردة، ولنقل في أي أزمة أو محنة يسببها استبداده وعنفه وفساده، غالباً كي يحرر نفسه من المسؤولية والأهم كي يسوغ مختلف أشكال الفتك والتنكيل ضد معارضيه، وبرغم وضوح أسباب ثورة السوريين ودوافعها الداخلية فقد صنفت سلطوياً كمؤامرة صهيونية للنيل من النهج المقاوم للنظام، واليوم وبرغم معرفة القاصي والداني حقيقة الدور الإسرائيلي المشجع والمتواطئ في صفقة أو تسوية جنوب سوريا يطلع علينا الإعلام الممانع بديباجته المقيتة، بأن تلك التسوية هي ضربة قاصمة للمخطط التآمري الصهيوني راعي المنظمات الإرهابية وداعمها، كذا!
لا يبدو السيناريو الروسي حتى اللحظة واضحاً في شكل هيمنة النظام على درعا، على رغم أن قوات الأسد بدأت تتموضع في كثير من المناطق المستولى عليها، في شرق الطريق وعلى طول الحدود مع الأردن، وفي مدنـــها وقراها غرباً، إلا أن ذلك لا يفسر بصورة نهائية إذا كانت موسكو تريد للأسد انتصاراً مشابهاً لما حدث في حمص والغوطة، حيث شاهدناه متجولاً بين دمارها، وعلى أنقاض تهجير سكانها، يلقي خطاب نصره، معلناً عودة هذه المدن إلى كنف النظام وأمنه، أم أنه «نصر شكلي» فتحظر عليه زيارتها، كما هو حاله في حلب، التي لا تزال حتى اليوم في عهدة الروس، على رغم مضي نحو عام ونصف على استرجاع الهيمنة عليها، من الفصائل المسلحة المحسوبة على المعارضة «الممولة تركياً»، ما يعني أن المساومات الدولية الحقيقية لم تحسم بعد، حتى عندما تغادر فصائل الجنوب جبهاتها سواء إلى خارج الحدود (الأردن أو الشمال الســـــوري تحـــت النفوذ التركي)، أو إلى داخلها، أي إلى الفيلق الخامس (الشرطة الروسية) المعد لاستيعاب نشاط المسلحين وتدجينهم ليكونوا السلاح بيد روسيا والنظام وليس عليهما.
والسؤال المكتوم في حلق مناصري النظام الذين احتفلوا بانتصارهم في حلب، والذي لم يكلل حتى اليوم بخطاب نصر الأسد الموعودين فيه من هناك على رغم عودة مؤسسات الدولة الخدمية إليها، وزيارات الحكومة التنفيذية ولقاءاتها بفعاليات حلب الاقتصادية المتكررة لإعادة الحياة إليها: هل طريق الأسد إلى درعا يمر من عمان إلى القدس صار مفتوحاً أمامه، أم أنه كما طريق حلب لايزال مغلقاً ويحتاج إلى معابر جانبية من منبج حتى أنقرة؟
فإذا كان طريق الأسد إلى حلب حتى اللحظة مرهوناً بالتوافقات التركية الروسية، التي تتضمن مصير ريف حلب ومناطق درع الفرات وإدلب وعفرين ومنبج، فإن الطريق إلى درعا أيضاُ، موصول بعمان المفتوحة مباشرة على القدس المحتلة، ولعله الطريق الأقرب إلى دمشق، من طريق حلب المفتوح على خيارات واسعة لكل الأطراف المتصارعة دولياً ومحلياً، فطـــــريق الأسد من دمشق إلى درعا مرهون بخيار العودة إلى ما قبل 2011، اقتصادياً وعسكرياً، وهو ما يسعى له النظام مع كل من الأردن وإسرائيل، إضافة إلى تفصيلات إيرانية لم تخرج في مضمونها عما تريده الولايات المتحدة الأميركية، منها تأكيد التزام إيران ببيت الطاعة الأميركي، والتي جاءت عبر تصريحات السفير الإيراني مجتبى فردوسي بور فــــي عمان في 23 ايار (مايو) 2018، لصحـــيفة «الــغد» الأردنية نافياً فيها «أي وجود للقوات الإيرانية في الجنوب السوري»، ما يعـــــني التزام إيران كمرحلة أولى- ليست نهائيـــة - بمطالب إسرائيل بالابتعاد عن حدودها 80 كيلو متراً.
في الوقت الذي تفتح خيارات الطريق إلى إدلب باب المساومات الدولية واسعاُ، بحيث لا يمكن اقتصار حرب السنوات السبع- بكل القوى الدولية والإقليمية التي شاركت فيها- إلى مجرد حركة عصيان داخلي، يمكن لموسكو لملمتها وإعادتها إلى داخل الجب الأسدي، كما تحاول الآلة الإعلامية للنظام ترويجه، أيضاً لا يمكن التسليم أن كل ما تريده الولايات المتحدة بدخولها هذه الحرب فقط تلبية المطالب الإسرائيلية، المقتصرة على إبعاد إيران ومنظماتها وأذرعها «الميليشياوية» عن حدود إسرائيل، وتأطير وتحديد برنامجها النووي والصاروخي، مع أهمية هذين البندين على خارطة الأجندة الأميركية، وحلفائها من الأوروبيين والعرب أيضاً، لكن الشعار الذي رفعته أميركا «الحرب على الإرهاب» لا يزال في مقدمة أولوياتها، ما يترك المجال لإدلب بأن تكون أمام سيناريوات عديدة:
- إما محاربة «داعش» والتنظيمات المتطرفة حتى الهزيمة المطلقة، وهو الأمر الذي برهنت حروب السنوات الماضية الكثيرة في أفغانستان وباكستان على فشله، لأنها تنظيمات قادرة على إعادة إنتاج نفسها من جديد في مواقع جغرافية أخرى، وبمهمات إرهابية واسعة التمدد، وهو ما تخشاه أميركا والغرب.
- أو تسليم الملف كاملاً لتركيا لتدوير هذه المنظــمات والميليشيات، وإعادة إنتاج البديل الـــجديد تـــحت مسمى «منــطقة نفوذ سنية» تعود إدارتها سياسياً ومجتمعياً إلى تركيا، وتتشارك مع النظام السوري بتطويق حــدودها أمنياً، أي بإقامة ما يشبه منطقة حكم ذاتي، تجتــمع فيها القوى المسلـــحة التي رحلها النــظام وروسيا من كل سورية إلى إدلب، تحت مسمى فصائل متطرفة، تكـــون فيها الهيمنة على سكانها، والفصائل المسلحة الأخرى لمصلحة «المتحولين» من هيئة تحرير الشام وفصائل التركســــتان وبقــايا «داعــــش» ومن هو في سياقهم أو يتوافق معهم من الإســـلاميين، إلى المسمى الجديد الذي تختاره لهم تركيا اعتماداً على تجربة طالبان باكستان، وهذا السيناريو يتيح فرصة استمرار الصراع داخلياً ودولياً وفق الحــاجة له ولتوظيفاته.
- أو يستعيد النظام كامل الهيمنة ضمن محددات الخطة الروسية، التي تبدأ بشن الحرب، وتنتهي بالتسويات والمصالحات والتسليم، كما جرى في كل من حلب والغوطة ودرعا، مع ضمانات لتركيا بمراعاة كامل مخاوفها لجهة كرد سورية، وتوزعهم الجغرافي على حدودها، ولجهة ضمان حقوق مناصري تركيا من الأحزاب الإسلامية، للمشاركة في سلطة توفر لهم ما يتطلعون إليه من حرية الحركة والنشاط الحزبي الذي يخدم أهداف تركيا في المنطقة.
لا شك أن الولايات المتحدة منحت روسيا حرية التصرف بما يتعلق بالملف السوري، لكن ذلك لا يتناقض مع حفظ ماء الوجه الأميركي داخليا، بإنهاء ملف الإرهاب وتطويق مــخاطره، ضمن أحد السيناريوات التي تكفل إحكام السيطرة على منابع الإرهاب، وهذا يضمنه وجودهم ضمن مساحة جغرافية محددة، مسورة ومحمية من كل الأطراف الداخلية والإقليمية والدولية، وهو الأمر الذي يجعل من مصير إدلب «بعبعاً» للجميع، ومنهم الكرد الذين اختاروا أن يكونوا إلى جوار النظام، وتـــــحت مظلته ليتــجنبوا الدخول في حرب مع تركيا، ويتــموضعوا جنباً إلى جنب مع مصير مجهول لإدلب، وهو ما راعته التسويات التي تجري بين النظام والكرد بعيداً من الحرب المشتعلة في كل من درعا وعلى أطراف غرب إدلب.
قد تبدو السيناريوات موغلة في التشاؤم، ولعل أقلها سوءاً متابعة روسيا لخطة هيمنتها على كامل مساحة سورياة ما قبل 2011، ولكن ذلك كله لا يعني بالضرورة إعادة انتاج نظام الأسد الذي نعرفه سابقاً بنسختيه الأب والأبن، بقدر ما هو إعادة انتاج تجربة الأسد الأب في لبنان، ولكن وفق النسخة الروسية في سورية وتحت رعاية دولية تضمن إنتداب الرئيس فلاديمير بوتين على سورية، وفق صيغة دستورية تعد بالتوافق بين خاسرين (النظام والمعارضة)، وتحت رعاية المنتصرين الولايات المتحدة الأميركية وروسيا الاتحادية.
كل من يتابع المسار العسكري للثورة السورية يدرك أننا أمام المزيد من الخسائر وتآكل المساحات التي كان يسيطر عليها الثوار، أمام غطاء دولي لوحشية الاحتلال الروسي وسياسة غض النظر عن اتباع همجية الأرض المحروقة. ولكن ماذا يعني ذلك في النهاية؟ وبصيغة أخرى هل مجازر الاحتلال الروسي والتوغل في الأرض قادرة حقا على إعادة تأهيل نظام الأسد؟
إن الإجابة الواقعية على ذلك رهن بالنظر إلى إمكانية نظام الأسد بعد السنوات السبع التي استنزف فيها النظام قواه العسكرية والاقتصادية؛ فالمراقب في القوى العسكرية التي تقاتل على الأرض يدرك أنها خليط من المليشيات الأجنبية المرتزقة التي جلبتها قوات الاحتلال الإيراني، وأن الخسائر البشرية قد طالت القسم الأكبر من القوات التي كانت تشكل بنية النظام العسكرية. أما الجانب الاقتصادي فإنه في حالة من الإنهاك لا يستطيع المحتل الروسي ولا الإيراني أن يشكل رافعة له بالمطلق، بل إن الممولين له من أنظمة عربية والتي باتت مكشوفة اليوم، تعاني وستعاني في القريب العاجل من أزمات سياسية واقتصادية نتيجة للمراهقة السياسية التي خاضها أبناء ـ طويلي العمرـ.
على أن الضعف الأكبر اليوم في نظام الأسد هو في القيادات السياسية بدءا برأس الهرم وحتى كافة القيادات الملتفة حوله؛ فمن يستطيع أن ينسى بل أن يسحب من ذاكرة السوريين كيف أن الأسد بات موظفا بدرجة مستخدَم لدى كل من الاحتلال الإيراني والروسي؛ فهذا المستخدَم يستدعيه وزير الدفاع الروسي إلى قاعدة حميميم دون أن يعلم بمن سيلتقي، وليس أقل منها صورة تطعن بكل مظاهر السيادة عندما استدعاه بوتين وتم منعه من قِبَل مرافق بوتين إكمال السير معه على الأرض السورية!
أثبتت الثورة السورية أن الشعوب ونخبها تستطيع تأجيل دفع ثمن قبولها بالاستعباد مقابل بعض المكتسبات التي يغريها بها المستبد؛ سواء على مستوى الأحزاب السياسية أو المفكرين والنخب
لقائل أن يقول: ألم تنتهِ الثورة مع هذه الخسائر العسكرية للثوار السوريين؟ وقبل الإجابة على هذا التساؤل يبدو انه من الواجب علينا أن نقف أمام ما حققته الثورة السورية بعد كل المحاولات للتعتيم عليها، أو غياب هذه الإنجازات تحت ضغط النظر في الواقع الآني. ولنحاول معا الوقوف على أهم ما قدمته الثورة السورية:
* إنها الثورة التي كشفت عن العامل الأهم والأكثر تأثيراً في ارتهان الشعوب لحالة التخلف والدخول في مرحلة التيه المخيفة التي تدخلها الشعوب؛ وهو ما يمكن أن نعبر عنه بثنائية الاستبداد وغياب الحرية.
* إنها بينت أن الشعوب ونخبها تستطيع تأجيل دفع ثمن قبولها بالاستعباد مقابل بعض المكتسبات التي يغريها بها المستبد؛ سواء على مستوى الأحزاب السياسية أو المفكرين والنخب، أو ما يلهي به الجمهور عبر عدة مسالك تتنوع بين الشدة واللين.. العصا والجزرة؛ لكن ذلك التأجيل لن ينجيها أبداً من مضاعفة الفاتورة التي تصبح دموعاً وحسرات تلف الجميع وهم يودعون كل ما بنوه تحت أقدام زلزال هو نتيجة حتمية للخضوع للمستبد وسياساته.
* إن حالة الضبابية التي كان تكسو مواقف الكثير من حكام شعوب المنطقة وأنظمتها عبر التصريحات الإعلامية والتلميع الذي لا يعدموه من قبل الكثير من ـ مطبلاتيةـ الإعلام الرسمي، بل والخاص التابع لمافيات المال التي تدعم وجود هذه الأنظمة لصالحها؛ إن حالة الضبابية تلك انقشعت وأصبح هناك انكشاف تام لمواقف تلك الأنظمة على نحو يرفع عنها أي شرعية سوى شرعية الاغتصاب الآثم للسلطة.
* لقد كشفت الترهل الكبير في البنية الجمعية للمثقفين والنخب، فهم في الأغلب فرديون في عملهم، دجنتهم أنظمة الاستبداد في مسار الفردية والأنانية، بل أوهنت قدراتهم عن الإبداع في العمل الجماعي، واغتالت الكثير من العمل الجماعي والمؤسسي عبر مقاييس الولاء للحاكم بأمر الله.
* إن الشعوب العربية لديها القدرات المكنوزة الكبيرة، وهي قدمت الكثير في ثوراتها، بل وكانت سباقة بأشواط عن النخب في تقديم التضحيات العظيمة. وهي أحوج ما تكون إلى نخب مخلصة تستثمر تلك التضحيات وتعرف قدرها وتلامس أشوقها الشرعية في الحرية والكرامة وتقدم لها أنموذجا في العمل الجماعي الذي يتجاوز المصالح الفردية والأنانيات والاحتراب الإيديولوجي.
* أيضا من أعظم ما حققته الثورة السورية أنها قدمت الوعي ـ لمن يريد أن يعي ـ حول الأدوات القذرة التي يستخدمها سدنة المجتمع الدولي في سعيهم لتحقيق أطماعهم ووأد حق الشعوب العربية في التحرر من الاستعمار السياسي وذيوله؛ فالتحريض الطائفي وإثارة النزعات القومية على نحو مشبوه، والمعارك الإيديولوجية المتسترة بلباس العلمية والتحررية، وصناعة الإرهاب المنسوب إلى الإسلام زوراً من خلال ما يسمى بالتنظيمات الجهادية، والتي عانينا منها اشد العناء واغتالت الكثير من طموحات الشعب السوري وعملت على تشويه هويته، كل هذه الأدوات باتت في اشد درجات الوضوح، ومن واجب كل منا محاربتها والتأسيس لوعي جمعي يحارب كل أشكالها. قد لا تكون هذه الإنجازات وليدة الثورة السورية، بل من المؤكد أنها ليست وليدتها، لكنها أسهمت بشكل كبير ومهم في إنضاج الوعي بها، على نحو يجعلها مفخرة للثورة السورية وكل حر ينشد الخير لهذه المجتمعات.
والآن جوابا على التساؤل حول مآل الثورة السورية:
إن الدرس التاريخي يقول لنا أن الثورات الشعبية ضد أنظمة الاستبداد لا يتم القضاء عليها من خلالل الخسائر العسكرية التي تُمنى بها، ولاسيما تلك الثورات التي تقوم في جوهرها على رفض الظلم الأسود الذي تمارسه تلك الأنظمة، والذي لا تستطيع هذه الأنظمة التخلي عنه لأنه إكسير وجودها.
بل أنه على العكس من ذلك تعود تلك الثورات لإعادة التشكل من جديد، وبقدر ما تستفيد من درس أخطائها، بقدر ما تتجاوز رهان الأنظمة المستبدة وداعميها. إن مسارات ثورتنا أبدا لم تنته، والقدرة اليوم على تحديد المسار أو المسارات الأهم الذي ينبغي العمل عليها، والاستفادة من الأوراق التي بين أيدينا هو العمل الأهم -من وجهة نظر الكاتب- والتي تدفع الوهن الذي أصاب الكثير من النفوس أمام هول البشاعات التي يرتكبها الاحتلال الروسي وقرينه الإيراني بانصياع من نظام الأسد. لا شك أن تداعي المخلصين -كل المخلصين- وأصحاب الخبرات ـ ولا سيما الذين هم في الخارج في عمل منظم مؤسساتي ـ للقيام بذلك، هو واجب إنساني ووطني يضع فيه كل منهم بصمة شرف، وحضور همة لا ترهقها التداعيات الراهنة مهما عظمت.
ولعل أكبر رد يمكن أن تقوم به القوى الوطنية والحاضنة الشعبية الرائعة التي بذلت الكثير الكثير هو التأكيد على الثابت الأكبر في ثورتنا؛ وهو رفض النظام المجرم وإزالة أي تشويش، في محاولةٍ لتجميل صورته وتغييب جريمته الكبرى (الخيانة العظمى) من قتل مئات الآلاف وتغييب عشرات الآلاف في السجون القذرة، وتحطيم آمال شعب كامل في حياة كريمة، وتلطيخ سيادته بأبشع ما يمكن وصفه. نعم نظام الأسد مجرم خائن.
لأن إيران باتت سبب كل أوجاع هذه المنطقة بأفعالها البشعة وبنواياها السيئة، واستهدافها المستمر والمتواصل للعرب وللقضايا العربية قبل الثورة الخمينية في عام 1979 وبعد ذلك، فقد بقيت تهيمن، إخبارياً وأيضاً سياسياً، على مستجدات هذه المنطقة الملتهبة، التي ازدادت التهاباً باحتلالها الفعلي لدولتين عربيتين هما العراق وسوريا، ومحاولات هيمنتها على اليمن وعلى لبنان، وتسللها إلى ليبيا وبعض دول شمال أفريقيا، هذا بالإضافة إلى الخليج العربي كله.
ولعلّ ما يجب التذكير به في هذا المجال، مع أنه قد قيل أكثر من مرة، ومع أن بعض كبار المسؤولين العرب قد حذروا منه، ليس مرة واحدة وإنما مرات كثيرة، هو أن إيران كانت قد أعلنت وقبل أكثر من 15 عاماً أنها بصدد تحقيق هدف إنشاء «هلالها المذهبي» الذي يبدأ أحد طرفيه في اليمن عند باب المندب وينتهي طرفه الآخر في لبنان على شواطئ البحر الأبيض المتوسط، وحقيقة إن هذا كاد يتحقق كاملاً لولا تصدي المملكة العربية السعودية ومعها «التحالف العربي» لانقلاب الحوثيين، وكان معهم علي عبد الله صالح رحمه الله على أي حال، على الشرعية اليمنية.
والمعروف أنه قد ثبت بالأدلة القاطعة ولا يستطيع إنكاره إلا المنحاز لما يسمى دول «المقاومة والممانعة»، التي تضم إيران، ويصر كبار المسؤولين الإيرانيين، وبخاصة قادة حراس الثورة، على أنها تضم أيضاً العراق وسوريا ولبنان والحوثيين، أن جمهورية الشر هذه متورطة في دعم التنظيمات الإرهابية حتى «ذقنها»، وأن تنظيم «القاعدة» قد تربى وترعرع في كنفها، وهذا ينطبق على «طالبان» الأفغانية، وعلى «داعش» الذي بات معروفاً أن حراس الثورة الإيرانية يعتبرونه أحد فيالقهم الفاعلة الرئيسية. إنّ هذا لا بد من قوله والتأكيد عليه قبل التطرق للإثبات وبالأدلة القاطعة أن «دولة الملالي» هذه قد أصبحت «نمراً من ورقٍ»، وأنَّ انهيارها الذي بات واضحاً سيكون على يد الشعب الإيراني العظيم بكل قومياته وأحزابه وتنظيماته الحية، وفي المقدمة من هؤلاء جميعاً المقاومة الإيرانية بقيادة «مجاهدين خلق» الذين استمروا في مواجهة هذا النظام بعد مواجهة نظام الشاه السابق على مدى أربعين عاماً وأكثر.
وهنا فإن ما يشير لا بل ما يؤكد على أن «الملالي» باتوا يتحسسون أعناقهم بعد هذه الانتفاضة الشعبية الأخيرة التي لا تزال مستمرة ومتواصلة، والتي بالإضافة إلى أن العاصمة طهران، التي بأسواقها (بازاراتها) تستحق أن تعتبر منطلق هذه الثورة المتصاعدة، قد عمت المدن الإيرانية كلها من أقصى الشمال حتى أقصى الجنوب، ومن أقصى الشرق عند الحدود مع باكستان وأفغانستان إلى عربستان (الأحواز) في الغرب عند الحدود العراقية.
إنه ليس عيباً ولا عاراً أن تكون هذه الانتفاضة الجديدة، التي سبقتها على مدى الأربعين سنة الماضية انتفاضات متعددة وكثيرة، عفوية وتلقائية، لكن في الحقيقة إنها ليست كذلك وإنها منظمة ومعدٌّ لها إعداداً جيداً إن من قبل «المقاومة الإيرانية»، وإن من قبل التنظيمات القومية الأخرى التي هي على صلة مستمرة بـ«مجاهدين خلق»، وتنسق معهم، إن في الداخل وإن في الخارج، الأمور كلها وكل صغيرة وكبيرة كما يقال.
كان «ملالي» النظام الإيراني الذين أصيبوا بالذعر وبدنوِّ أجلهم وأجل نظامهم، قد قالوا وما زالوا يقولون إن جهات خارجية تقف وراء هذه الانتفاضة الأخيرة، وذلك في حين أنهم، وكل المعنيين يعرفون هذا، أن هذه ثورة حقيقية، وأنه تقف خلفها ومعها بل وأمامها قوى منظمة وجودها الأساسي والفاعل داخل إيران، وهذا يعني أنها لن تتوقف وأنها ستتواصل حتى النصر «وإنَّ غداً لناظره قريب»، وأنه وداعاً لسنوات الظلم والاضطهاد هذه، ووداعاً للتدخل في الشؤون العربية الداخلية، وأن الأخوة العربية - الإيرانية ستعود إلى تلك الفترة التاريخية العظيمة التي أنجزت وأنجبت حضارة إنسانية رائعة، كانت ذات يوم غير بعيد في الحسابات التاريخية في طليعة الحضارات الكونية.
لقد ثبت وبالأدلة القاطعة أنه لا يوجد صراع سني - شيعي، وأن نظام الملالي بتدخله في الشؤون العربية الداخلية وبتمدده الاحتلالي في هذه الدول العربية التي تمدد فيها، وبغطاء مذهبي موهوم ومفتعل، أراد تصدير أزماته، التي غدت متفاقمة و«تُبشّر» بدنو أجله واقتراب ساعة رحيله إلى الخارج، لكن ها قد جاءت هذه الانتفاضة الباسلة حقاً لتؤكد أنه لن يفلح في هذا، وأن حَبْل الكذب سيكون قصيراً، وأنه لا يصح إلا الصحيح، وأن لحظة الحساب والعقاب قادمة وبالفعل لا محالة.
كان مؤتمر المقاومة الإيرانية، الذي انعقد في باريس قبل أكثر من 10 أيام، وشارك فيه نحو ربع مليون إيراني جاءوا من «أربع رياح الأرض»، وحضره عدد كبير من المؤيدين والمناصرين، من بينهم شخصيات مرموقة بالفعل لعبت أدواراً قيادية في بلدانها، بمثابة التأكيد على أن انتصار الشعب الإيراني بات قريباً وإلى حدِّ القول وبلا أي مبالغة بأن المؤتمر المقبل بالفعل قد يكون في طهران، وأن زوال هذا النظام الاستبدادي «الرجعي» بات قريباً، وأنه على من يشك في هذا أن يراجع مسيرة التاريخ، حيث كانت قد تهاوت أنظمة وإمبراطوريات جبارة كثيرة كان البعض يرى أنها باقية إلى الأبد.
لقد كانت الدلالة الأولى على أن هذا المؤتمر أو هذا التجمع هو غير المؤتمرات السابقة هي الإعلان رسمياًّ عن أن قائد المقاومة الإيرانية ومؤسسها في العهد «البهلوي» مسعود رجوي لم يُقتل ولم يغب الغياب النهائي، كما كان ادعى نظام الملالي ومعه «المذهبيون» المصفقون له، وأنه لا يزال على رأس عمله وفي موقعه القيادي الفاعل، وأنه هو ومعه عدد من زملائه هو من يقود هذه الانتفاضة الجديدة التي من الواضح أنها زعزعت هذا الكيان الاستبدادي الرجعي الذي باتت نهايته قريبة.
إن هذه هي الدلالة الأولى، أما الدلالة الثانية فهي الإعلان وللمرة الأولى عن أن المقاومة الإيرانية عازمة، وقد قطعت شوطاً طويلاً على هذه الطريق، لإقامة جبهة عريضة تضم كل القوى والاتجاهات الإيرانية الفاعلة لإسقاط هذا النظام، إن بالتحركات الجماهيرية المتلاحقة، وإن بالقوة العسكرية والكفاح المسلح، وحقيقة أن هذا تطور نوعي على كل الذين في مصلحتهم إزالة هذه الغيمة السوداء أن يؤيدوه ويدعموه بكل وسائل الدعم والمساندة.
أما الدلالة الثالثة فهي أنّ الأميركيين قد أعادوا النظر في مواقفهم وقراراتهم السابقة، وأنهم لم يعودوا يعتبرون «مجاهدين خلق» منظمة إرهابية، وأن هناك نية جدية لتوجيه دعوة لقائدة المقاومة الإيرانية السيدة مريم رجوي لزيارة واشنطن للقاء كبار المعنيين والمسؤولين في الولايات المتحدة.
وهكذا واستناداً إلى هذا كله فإن «ملالي طهران» قد فقدوا أعصابهم، وأنهم بالإضافة إلى عنفهم الداخلي ضد هذه الانتفاضة الجديدة قد شكلوا شبكة الاغتيالات والتفجيرات الأخيرة التي تم ضبطها في عدد من الدول الأوروبية، والتي كانت تستهدف مؤتمر باريس الأخير الذي أصاب هذا النظام الإيراني بالهلع والخوف، وبأن نهايته باتت قريبة.
لقد وصلت إيران الخامنئية إلى طريق مسدودة بالفعل، وهي إذْ تحاول تأجيل الاستحقاق الكبير الذي لا بد منه بافتعال كل هذه «الزوبعة» العاتية حول «الاتفاق النووي» الذي كانت وقعته مع باراك أوباما في لحظة اهتزاز معادلات هذه المنطقة، فإنها تعرف أن لحظة الحقيقة قادمة لا محالة، وإن «بازار» طهران الذي أعطى لـ«الثورة الإيرانية» هذا الاسم، وأعاد الخميني من المنافي القريبة والبعيدة سيعطي للشعب الإيراني العظيم حقه... وحق هذا الشعب هو أن يقرر مصيره بنفسه وأن يعيد بناء بلده، وأن يضع حداً لكل هذا التلاعب العبثي بمستقبله ومستقبل أطفاله وأجياله.
إنه لم تعد هناك أي إمكانية لمواصلة «ترقيع» أمور غدت متهاوية، فأربعون عاماً من الظلم والظلام وافتعال العديد من الحروب الداخلية والخارجية قد أشعل فتيل هذا الانفجار الهائل، فثورة التغيير قد بدأت والشعوب الإيرانية كلها أدركت هذه الحقيقة، ونهاية هذا النظام المتخلف الذي حاول تأجيل نهايته بافتعال كل هذه التدخلات الخارجية غدت تحصيل حاصل... وإن غداَ لناظره قريب!
في الجنوب السوري ثبتت تل أبيب خياراتها، وترجمتها ميدانياً، بعد أن أزالت كافة الالتباسات السابقة في موقفها من نظام الأسد، وانتقلت إلى المشاركة العلنية في محاولة إعادة تأهيله، ورفضت بشكل واضح وصريح بقاء المناطق المحررة من الجولان خارج سلطة دمشق، فقد أكد كبار قادتها عدة مرات أنهم يفضلون انتشار القوات التابعة للأسد على طول خط الهدنة في الجولان المحتل، فمن درعا تجاوزت إسرائيل كل المحاذير التي رافقت موقفها الغامض من الثورة السورية، وانضمت إلى واشنطن وموسكو وطهران في محاولة إعادة عقارب الساعة السورية إلى الوراء، بهدف إعادة الأمور على حدودها الشمالية إلى ما قبل 18 مارس (آذار) 2011. تزامن هذا التحرك الإسرائيلي المباشر على الجبهة الجنوبية مع إعلان رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو عما وصفه بالإنجاز الجديد لجهاز الاستخبارات الإسرائيلي «الموساد» الذي تمكن من خلال عملية خاصة، لم تكشف تفاصيلها بعد، من استعادة ساعة الجاسوس الإسرائيلي الشهير إيلي كوهين الذي أعدم شنقاً في دمشق سنة 1965، ولكن «إذاعة الجيش الإسرائيلي» نقلت عن أرملته نادية كوهين قولها إن «عملية الموساد الخاصة، ليست إلا عملية شراء عادية في مزاد على أحد مواقع التسوق على الإنترنت».
بين رواية الموساد ورواية نادية كوهين، هناك حقيقة مؤلمة مفادها أن ساعة الجاسوس المتنكر باسم «كامل أمين ثابت» باتت بحوزة تل أبيب، التي حققت إنجازاً معنوياً ثانياً بعد سنتين على إنجازها الأول، عندما قرر حليفها الاستراتيجي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إهداءها دبابة كانت تابعة للجيش الإسرائيلي غنمها الجيش السوري ورجال المقاومة اللبنانية والفلسطينية في معركة السلطان يعقوب في منطقة البقاع اللبناني أثناء اجتياح لبنان 1982، في خطوة اعتبرت عربون ثقة بين بوتين ونتنياهو من أجل تعزيز القواسم المشتركة بينهما في سوريا، حيث تحظى إسرائيل بحماية روسية لمسيرة أرباحها جرّاء الحرب التي تقودها موسكو وطهران على ثورة الشعب السوري.
ميدانياً تمكنت تل أبيب من فرض شروطها الأمنية والعسكرية على موسكو في المعركة التي يخوضها النظام لإعادة السيطرة على محافظة درعا، وقد استجابت موسكو للرغبة الإسرائيلية في إبعاد الميليشيات الإيرانية عن حدودها الشمالية، وذلك عبر تقسيم معركة الجنوب إلى محورين؛ الأول بات يعرف بمحور غرب درعا الذي يصل إلى الحدود الأردنية، حيث قامت إسرائيل بغض الطرف عن مشاركة ميليشيات إيرانية في هذه المعركة شرط عدم وجودها على محور الجولان، وقد التزمت كافة الأطراف بالشروط الإسرائيلية التي حصرت الوجود العسكري في المناطق القريبة من الجولان بقوات الأسد فقط، وذلك ضمن صفقة بين موسكو وواشنطن تسمح للنظام بتوسيع نطاق سيطرته الميدانية، حيث تمارس واشنطن دور المراقب المصرّ على سياسة الانخراط المحدود وغير المكلف، بينما تستدرج موسكو إلى وجود طويل الأمد مجهول النتائج، فيما تغرق طهران نهائياً في وحلها، وتزداد الصعوبات في إيجاد مخرج لها يخفف من حدة استنزافها، في المقابل وحدها تل أبيب تحقق أهدافها المعلنة وغير المعلنة، فقد دمرت أغلب المدن السورية الكبرى، وهجر أكثر من 10 ملايين مواطن، وقتل أكثر من نصف مليون، وتم القضاء على طموحات الأغلبية السورية في الوصول إلى السلطة، فبالنسبة لتل أبيب تشكل الأغلبية السورية العمق التاريخي للشعب الفلسطيني واحتياطه الاستراتيجي في الأزمات الكبرى. فقد أزاحت حرب النظام على الشعب عن كاهل تل أبيب أحد أبرز همومها الوجودية، عندما سوت طائرات الأسد بمساعدة الطيران الروسي مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين بالأرض، وتعرض أهله للتهجير، فيما قضى المئات من شبابه تحت التعذيب في أقبية الأجهزة الأمنية، حيث خسرت القضية الفلسطينية واحدة من أوراق ضغطها القليلة التي كانت تلوح بها عند أي جولة مفاوضات مع تل أبيب القلقة دوماً وأبداً من تمسك الفلسطينيين بحق العودة، الذي لا يمكن التخلي عنه أو المساس بوجوده، فيما ترى تل أبيب أن الجولان المحتل لم يتعرض لأي محاولات سورية رسمية جدية من أجل استعادته، ولا حتى تطبيق نموذج المقاومة الذي جرى في جنوب لبنان، لذلك هناك فرصة جدية في إقناع إدارة ترمب بالاعتراف رسمياً بسيادتها عليه.
تريد تل أبيب ضبط الزمن السوري على عقارب ساعة كوهين، لكنها تعلم جيداً أن زمن الثورات يسير باتجاه واحد، وأن عقارب الساعة لن تعود إلى الوراء، وأن الزمن السوري لم يعد بحاجة إلى ساعة من أجل ضبط مواعيد حريته، رغم أن آلة الحرب الروسية الإيرانية «البعثية» لم تترك حائطاً واحداً في درعا لكي يعود أطفالها ويكتبون عليه من جديد... ارحلوا.
كيف حصل ذلك؟ سؤال من السهل الإجابة عنه لمعرفة سبب هزيمة الثورة في العالم العربي، فالأحداث لم تخف نفسها، وتكالبت الدولة العميقة، بما تعنيه من مراكز فساد، والقوى المافياوية الإجرامية، الممثلة بأجهزة المخابرات وبعض الفرق والألوية في ما يسمى بـ"الجيوش العربية"، مع القوى الدولية والإقليمية ذات المصلحة في عدم حصول تحولات في العالم العربي وحرفها باتجاهات أخرى.
لماذا حصل ذلك؟ هذا هو الملعب الذي يجب أن تجري فيه خيول أفكارنا، ليس فقط للإجابة عن سؤال لماذا انهزمت الثورات العربية، وإنما لإيجاد صيغة نحفظ من خلالها بعض التوازن للمجتمعات العربية؛ الخارجة من أتون حرب وجودية طاحنة شنتها عليها القوى سالفة الذكر، وترغب في دفع المجتمعات العربية إلى أسفل نقطة للضعف البشري، حتى لا تقوم لها قائمة إلى عقود مديدة؛ كي لا تعكر مزاج الأنظمة الحاكمة وسلالتها في السلطة.
قد يقول أحدهم، إنه من الظلم أن نطلب من الناس المنهكين والمسحوقين إعادة إنتاج الثورة من جديد، وهم ما زالوا يمسحون الدماء على وجوههم، وما زالت عائلات كثيرة لم تعرف مصائر أولادها، وما زالوا لم يتعافوا بعد من الجوع الذي حطم أحشاءهم وكرامتهم. ثم إن شريط تخلي العالم عنهم وتركهم للموت يفترسهم؛ ما زال لم يعبر على شاشة الحدث بعد، فكيف نطلب منهم ما لا يستيطعون فعله في ظروفهم الحالية وواقعهم المأساوي؟!
رغم صحة هذا المنطق الظاهرية، إلا أنه يطوي عن قصد حقائق مهمة مقابلة، ولعل أولى تلك الحقائق أن الثورة كما كانت عشية انطلاقها، كذلك هي اليوم، وربما أكثر إلحاحا.. خيار إجباري ومفروض، فكل لحظة تهدئة أو سكون أو تراجع هي بالمقابل عند الطرف الآخر تكريس للهزيمة، وحق مكتسب يستطيع من خلاله غل سكينه في قلب المهزوم بالقدر الذي يشاء هو.
الحقيقة الثانية، أن الأنظمة التي شنت ثورات مضادة على شعوبها ليست في حال أفضل، وهي منهكة وغارقة في الضعف، وقد جرى استنزافها بالفعل، وانتصاراتها على شعوبها لم تكن في الغالب بفضل قوّة تتميز بها، بقدر ما هو نتاج ظروف من خارج موازين القوى الطبيعية بين الطرفين، إما بسبب استخدامها موارد الدولة، أو توفر آلة إعلامية هائلة لها، أو نتاج سلبية وتخاذل فئات ونخب، ودائما نتيجة تدخل الخارج لصالحها، بالمال والسلاح.
الحقيقة الثالثة، رغم تعب المجتمعات العربية، إلا أن محفزات الثورة ودوافعها ما زالت موجودة وبقوّة، فإذا كانت الثورات قد انطلقت طلبا للحرية والكرامة والعدالة، فقد أضيف لتلك الحمولات مئات آلاف القتلى ومثلهم في السجون، فضلا عن مستويات الإفقار العالية ونسب البطالة المهولة، وهذا الأمر ينطبق على مجتمعات سوريا ومصر والعراق وليبيا واليمن، وحتى الدول العربية الأخرى التي شهدت حراكات سلمية، وإن كانت قد نجت من القتل والتدمير، إلا أنها مصابة بالفقر والبطالة وتنمر الفاسدين.
إذن، حتى لو أراد الجيل العربي الحالي التراخي عن الثورة، فإن الظروف الموضوعية تدفعه دفعا إليها بحكم الواقع الذي يصعب التعايش معه بل يستحيل، فكيف يتعايش السوري مع قاتل ابنه ومدمّر بيته وسارق عفشه؟ كيف يتعايش المصري مع سارق حلمه في الحرية والحياة الكريمة ويزاود عليه في الوطنية؛ ويرى كل من في بر مصر خائنا مشكوكا بأمره، وغير السخرة لا تليق به؟
علينا أن نعترف بأن الجزء المسلح من الثورة هو الذي انتهى، وانهزم أيضا؛ لأنه في الأصل طارئ، ولأنه ملعب الأنظمة وقد أدخلونا إليه عنوة ليصلوا إلى هذه النتائج. ومع صعوبة العمل السياسي مع هذا النمط من الأنظمة ومقاومة إغراء إسقاطها بقوة السلاح، إلا أن هذه التجربة يجب إسقاطها بالفعل من أي تفكير سياسي في كيفية مواجهة أنظمة القمع العربية والنيل منها في ساحة الصراع المفتوحة.
ثمة مؤشرات عديدة على أن ثورة الجيل العربي الحالي ما زالت ممكنة ومستمرة، رغم ألم الجراح ونزفها المستمر. فالنقد الذاتي للهزيمة ومسبباتها أمر مبشر، كما أن استمرار حالة الرفض للخنوع للأنظمة التسلطية ورفض قبول تأهيلها وشرعنتها؛ هو تحفظ في مواجهة الهزيمة إلى حين إعادة بناء عدة المواجهة الجديدة، ولن يطول الأمر كثيرا ما دامت ماكينة تهرؤ الأنظمة تعمل باستمرار، وما دام جيل يبحث عن صياغة ثورية تستدرك كل أخطاء الماضي وتتجاوزها.