على الطريق المفضي إلى سقوط النظام الإيرانيّ، كاحتمال بارز، قد يداهمنا إرهاب يكون للبنان نصيب مؤكّد منه. لغة التهديد بمنع تصدير النفط من المنطقة توحي بالوجهة هذه. وإذا صحّ خبر الشبكة المتّهمة باغتيال معارضين إيرانيّين في الخارج، فإنّه يقطع بالأمر نفسه.
لكنْ دعنا نفترض – وهو افتراض مسنود إلى وقائع باتت معروفة – أنّ النظام المذكور سقط في يوم قريب، وأنّ مواجهته موتَه لم تُجدِ نفعاً. ما الذي يفعله، والحال هذه، حزب الله؟
نتحدّث عن طرفين غير عاديّين، أغلب الظنّ أنّ لاعاديّتهما سبب أساسيّ في نجاحهما معاً حتّى الآن، وفي تكاملهما: حزب الله، قياساً بالأحزاب اللبنانيّة، مسلّح ومقاتل وحديديّ، وهو عقائديّ بالتأكيد، تقف على رأسه زعامة كاريزميّة جدّاً. فوق هذا، هو الحزب الوحيد الطائفيّ والدينيّ في وقت واحد. لكنّه، كذلك، وبفضل المعونات الإيرانيّة، يقدّم خدمات وفرص عمل لجمهوره الواسع، ويلقّن أجيال هذا الجمهور تربيةً وتعليماً يصهرانها فولاذيّاً. إنّه يصنع ما تسمّيه أدبيّات الأحزاب التوتاليتاريّة «إنساناً جديداً».
إيران، قياساً بدول المنطقة وأنظمتها، تحمل برنامجاً لتغيير طبيعة الأشياء، وليس فقط لتغيير الأنظمة: ربط طهران بغزّة وبصنعاء، وإحداث تحويلات ديموغرافيّة ومذهبيّة، على النحو الحاصل في سوريّة، وتزعيم غير العرب على ما يُفترض أنّه قضايا عربيّة، لا سيّما فلسطين...، هذه كلّها من أشكال الفائض الثوريّ – التوسّعيّ لإيران.
سقوط الشطر الإيرانيّ من هذه المعادلة يفضي حتماً إلى سقوط الشطر اللبنانيّ. «إنسان – حزب الله – الجديد» لا ينمو ويترعرع إلاّ مع التغيير الخمينيّ لطبيعة الأشياء. إنّنا، هنا، أمام علاقة السبب بالنتيجة، أو المقدّمة بالاستخلاص المنطقيّ.
مع ذلك، فحزب الله ليس هذا فحسب. هو أيضاً حزب لبنانيّ، استدعت نشأتَه ظروفٌ محلّيّة وإقليميّة تصدّرها احتلال 1982 الإسرائيليّ لبنان، خصوصاً للمناطق المأهولة شيعيّاً. قبل ذلك، تجمّعت مصادر بعيدة وقريبة تؤسّس لهذين الوعي والممارسة: ظاهرة موسى الصدر و «الحرمان» الشيعيّ، والتوتّر الشيعيّ – الفلسطينيّ في المناطق الحدوديّة جنوباً، والاستحواذ على قضيّة الصراع مع إسرائيل بعد تجريد السنّيّة الفلسطينيّة (والعراقيّة الصدّاميّة) منها فيما مصر تسلك طريقاً آخر.
هل يمكن فرز اللبنانيّ - السياسيّ عن الإيرانيّ - العسكريّ في حزب الله؟ مستحيل. لكنْ في حال سقوط النظام الإيرانيّ يتراجع المستحيل إلى سويّة الصعب جدّاً.
هل يستطيع اللبنانيّون من خصوم الحزب، وممّن هم خارج محيطه، أن يجعلوا الصعب جدّاً صعباً فحسب؟ أي أن يجعلوه قابلاً للتفاوض السياسيّ؟ هل يحدث ما يشبه الانعطافات الكبرى التي أقدمت عليها أحزاب شيوعيّة بعد سقوط الاتّحاد السوفياتيّ؟ هل يمكن الأطراف المعنيّة أن تتدخّل كي تسهّل أمراً كهذا؟
هذا السؤال سيُطرح بإلحاح شديد في حال سقوط النظام الخمينيّ، الذي لا بدّ أن يرافقه انحسار للاستثنائيّ وللفائض الراديكاليّ وقدرٌ من رجوع المنطقة إلى العاديّ. العقل والمصلحة يستدعيان من بقية اللبنانيّين التفكير بما يواكب تحوّلاً كهذا. بيتهم الوطنيّ ينبغي أن يتّسع للابن الضالّ إذا قرّر (؟) أن لا ينتحر. فالضلال في ظلّ الرعاية الإيرانيّة يصنع النحر، فيما الضلال من دونها يصنع الانتحار.
وفي تداعي الأسئلة التي لا بدّ أن يُمطرنا بها ذاك اليوم العصيب: هل تكون بقية اللبنانيّين مهيّأين لمناقشة هذه المسألة في حال سقوط النظام الإمبراطوريّ، وهل يناقشون برحابة تستبعد عقليّة الثأر وأحقاد الماضي، مُقرّين بمكانة حزب الله كحزب سياسيّ وشعبيّ يريد، إذا أراد (؟!)، أن يتعافى من ماضي الشقاء المسلّح والحروب القاتلة.
لو عدنا للأشهر القليلة الماضية، واسترجعنا العدد الكبير من الأخبار والتوقعات التي كانت تؤكد على أن انسحاب الإيرانيين من جنوب سوريا وبجهد روسي أحيانا، واستجابة لـ»اشتراطات إسرائيلية» أحيانا أخرى، ثم شاهدنا صور قادة ميليشيا النجباء وأبو الفضل العباس في درعا، لعلمنا مدى تناقض التوقعات مع الواقع، وهي ثنائية تتكرر منذ سنوات في كل محاولة لاستشراف المشهد في النزاع السوري، مردها فقر التقديرات الموضوعية.
وعلينا أن نتذكر أنباء مشابهة ترددت منذ عامين، عن أن الأمريكيين، لن يسمحوا بسيطرة الإيرانيين على الحدود السورية العراقية، في عملية وصل الطريق البري بين طهران لبيروت، التي شاع عنها الحديث سابقا، ولكن ما حصل أن الأمريكيين وبعد دعمهم لفصائل البنتاغون، تعثرت خططهم في إيجاد حليف بري كفوء من المعارضة السورية، يقوم بهذه المهمة في وسط الصحراء السورية، كما الأكراد شمالا، فكان أن أكمل النظام والإيرانيون سيطرتهم على معظم الخط الحدودي بين سوريا والعراق، وتخللت هذه العملية اشتباكات متبادلة لكن محدودة، واستهداف جوي امريكي لميليشيات النظام.
واليوم تكرر المشهد لكن مع إسرائيل، فكيف يمكن للإسرائيليين السماح بتقدم ميليشيات إيران لجنوب سوريا بعد التصريحات الاسرائيلية الرافضة لهذا الامر، والمطالبة بجيش نظامي فقط على الحدود؟
لعل القضية تتعلق أولا، بمدى القدرة على إرغام الإيرانيين والنظام في سوريا، وتتعلق ثانيا بالتوافق مع الروس على التوقيت، فكما الامريكان تعثروا وسط الصحراء السورية بلا أطراف يمكن الاعتماد عليها، فإن الإسرائيليين لا يملكون أوراقا يمكنهم المناورة فيها داخل سوريا، بل إنهم في حالة مواجهة تصل للاعمال الحربية مع من يملك النفوذ الاكبر في دمشق اليوم، وهو الاسد وحلفاؤه الشيعة، وهذه المواجهات نتجت أصلا بسبب محدودية قدرتهم على التحكم في المجريات داخل سوريا، من خلال حلفاء لهم، فتم اللجوء للقوة، وهنا يظهر أن علاقة تل ابيب بموسكو لم تمنحهم القدرة على تحقيق أهدافهم، بتحجيم وإبعاد الايرانيين في سوريا، بدليل انهم لجأوا للقوة العسكرية لقصف مواقعهم داخل سوريا.
وهذا يقودنا لاستنتاج آخر، بدا واضحا منذ البداية رغم محاولة معاندته باستمرار، وهو أن لنفوذ موسكو في سوريا حدودا لا تتجاوز فيها طهران، الاكثر رسوخا وارتباطا بالنظام السوري وعلى عدة اصعدة، وان تحالفهم العسكري والسياسي في سوريا بني على ثوابت مشتركة، أهمها التنافس مع واشنطن، ولكن الروابط المشتركة للايرانيين مع النظام وحزب الله تشكل بحد ذاتها بنية مستقلة، لها مشروعها وسماتها الاقليمية، قد لا تكون روسيا معنية بكافة تفاصيلها، ولا هي قادرة على زج نفسها خارج المساحة المخصصة لها في هذا التحالف، الذي يستفيد منها لايجاد شريك دولي قوي، يمنح اوراق قوة لمنظومة اقليمية كهذه، مقابل تحقيق روسيا لأهدافها في تحجيم اي قوة مناهضة ايديولوجيا لها قد تصل رياحها بسرعة لحدودها الجنوبية في القوقاز الذي قمعته موسكو لسنوات، والأهم هو استعادة مواقعها قرب المياة الدافئة التي خسرتها فترة انهيار الشيوعية امام الولايات المتحدة.
الروس لم يقدموا «تعهدات» لاسرائيل بذلك، كما أشيع، وهي صيغ واطلاقات تجدها فقط في منابر اعلامية، لانه حتى كتصريحات اعلامية معلنة، لا تحمل قيمة عادة، فإن روسيا تحدثت عن خروج القوات «الأجنبية» وحددتهم اولا بالامريكيين، واخيرا بالإيرانيين، كذر للرماد في العيون، ولأنه لا داعي اصلا لبقاء الضباط الايرانيين، إن سيطر النظام على سوريا، وخرج الامريكييون، وهي إحدى الغايات التي تحاول روسيا المساومة عليها، من أجل شراء انجاز مهم بخروج الامريكيين من قاعدة التنف، ومن مناطق الشمال السوري، وهو هدف مهم ايضا للايرانيين، مقابل بيع خروج لا قيمة له لبضعة ضباط بعد إنجاز مهمتهم، التي أفضت إلى تثبيت وجود راسخ لإيران في سوريا من خلال الاسد، وهو يذكرنا ربما بما قاله فاروق الشرع بعد انسحاب القوات السورية من لبنان عقب اغتيال الحريري، بأن نفوذ سوريا في لبنان بات اقوى مما كان عليه في اي وقت مضى من خلال حلفائها، وهو ما ثبتت صحته اليوم بوجود حزب الله في لبنان.
ولأن الامريكيين يدركون جيدا، أن لا قيمة لقضية سحب بضعة ضباط ايرانيين مع بقاء سوريا كلها ضمن الحلف الايراني، فإنهم يستخدمون هذه القضية اعلاميا فقط، كما بقية تصريحاتهم الشهيرة الفارغة بضرورة رحيل الاسد، ولذلك أعلن الامريكيون نيتهم الرحيل من سوريا، بدون مواصلة التفاوض الجدي مع الروس حول الايرانيين، وبحلول العام المقبل، وبعد انتهاء فترة التمديد للقوات الامريكية التي اقرتها الادارة الامريكية لتأمين انسحاب سلس من سوريا، قد تكون معظم القوات الامريكية قد انسحبت من مناطق شمال سوريا وبقت في جيوب حدودية صغيرة مع العراق والاردن، حسب مصادر مطلعة.
ونعود هنا، لقضية المطالب الاسرائيلية من روسيا بما يتعلق بابعاد الايرانيين، ومن الملاحظ اولا، وكما اسلفنا، أن الروس لم يتمكنوا من تلبيتها لحد الان، بدليل تدخل اسرائيل بنفسها بقصف الايرانيين، ولكن الروس، وكما هو معلن في التصريحات، ويعضده سياق الاحداث، قدموا تطمينات لتل ابيب، بأن الوجود الايراني في جنوب سوريا لن يكون مهددا، حاليا، لاسرائيل، وانما هو مخصص لمواجهة المعارضة، وان النظام السوري هو الذي سيبقى في هذه المنطقة الحدودية بعد السيطرة عليها، وستنسحب الميليشيات الايرانية.
هذا التوافق، نجح فيها الروس، لانه ببساطة ينسجم مع المصلحة «المرحلية» للايرانيين بعدم الدخول في صدام واسع مع قوة متفوقة كاسرائيل، قبل انجاز مهمتهم المرحلية بقمع التمرد ضد الاسد بشكل كامل، ولكنه وضع مرحلي قد يستمر لعام أو اثنين حتى تثبيت النظام، وبعد ذلك، علينا أن لا نتفاجأ، كما حدث في مناسبتين بعد مشاركة الميليشيات الايرانية في درعا، وسيطرتها على حدود سوريا والعراق، من أن الايرانيين بدأوا بتحويل حدود الجولان لمنطقة مواجهات مع اسرائيل، وإن بعمليات محدودة، كما فعلوا في جنوب لبنان، لتحقيق رغبة جامحة واستراتيجية لديهم تتعلق بتصدر المواجهة مع عدو يجمع عليها سكان المنطقة، وإن دون فعل عسكري كبير، إذ يمثل طرق هذه القضية، بابا للدخول لقلوبهم بلا استئذان، خصوصا مع السخط العربي والاسلامي المتنامي من مواقف الدول العربية «السنية» التي قد ينتهي بها المطاف، إنها ستخسر الشرعية في قيادة الصراع مع اسرائيل، كما خسرت عواصم عربية كبرى لصالح الايرانيين.
لم يكن مستغرباً أن تصل معارك النظام السوري إلى الجنوب والتركيز على مدينة درعا، منطلق الإنتفاضة. فبالإضافة إلى الأهداف العامة للنظام في مد سلطته إلى كامل الأراضي السورية، فإن مدينة درعا لها خصوصية في أحقاد النظام ورئيسه لكونها كانت أول مدينة تتحدى الاستبداد البعثي، وترفع شعارات «إرحل إرحل يا بشار»، و «الشعب يريد إسقاط النظام». الآن جاءت المناسبة لتصفية الحساب مع هذه المدينة، لتكون درساً لكل من يفكر يوماً في التمرد على حكم آل الأسد.
لم يكن لمعركة الجنوب السوري أن تندلع لولا أن مخطط تقسيم سورية إلى مناطق نفوذ يستوجب استكمالاً، بعد أن خطا خطوات واسعة في مناطق أخرى خصوصاً في الشمال والشرق. ولم يكن لمعركة الجنوب أن تندلع لولا التوافق الأميركي– الروسي على إنهاء وجود المعارضة المتواجدة بقوة في تلك المنطقة، وتسليمها إلى النظام. سبق الصفقة بوقت غير قليل تهديدات أميركية للنظام بعدم التوجه إلى الجنوب، وبقصف قواته، بما أعطى قوات المعارضة الأمل في الصمود. لكن الأميركيين، كعادتهم، ينطلقون من مصالحهم الخاصة، ولا يكترثون بوعود قطعوها، فأعلنت الولايات المتحدة عن الامتناع عن التدخل العسكري لنجدة قوى المعارضة. كان التصريح الأميركي إعلاناً صريحاً بانطلاق المعركة العسكرية، ترافق مع تخلي روسيا عن التزاماتها بالحفاظ على مناطق خفض التوتر، وانخراطها في المعركة العسكرية إلى جانب النظام في إنهاء الوجود المسلح في الجنوب.
لا تُقرأ معركة الجنوب في معزل عن المطالب الإسرائيلية بحصتها في اقتسام مناطق النفوذ. إسرائيل تعتبر هذه المنطقة من حصتها، وترفض وجود أي قوى أخرى على حدودها، وخصوصاً قوى إيرانية مباشرة أو عبر ميليشياتها. وهي حددت سابقاً مسافة أربعين كيلومتراً لوجود قوى من غير النظام السوري. سبق لها وترجمت أهدافها بضربات متتالية للمراكز الإيرانية، ولحزب الله اللبناني الذي كان يطمح لتواجد مسلح على الحدود في الجولان، فعمدت إلى اغتيالات لقادته وتدمير مراكزه. أعلنت إسرائيل صراحة أنها تريد العودة إلى إحياء اتفاق فك الاشتباك الذي وقعته مع الرئيس حافظ الأسد في 1974، والذي ظل سارياً طوال العقود الأربعة الماضية، بحيث تحول الجيش السوري إلى حرس حدود لإسرائيل وحامياً لها من أي عمليات فدائية قد تنطلق من الأراضي السورية. صرح وزير الدفاع الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان «أن قوات النظام السوري هي أفضل من يحافظ على أمن وسلامة حدود إسرائيل مع سورية»، فيما صرح رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو قبل أيام بـ «أن حكومته تطالب بتطبيق فك الاشتباك مع الجيش السوري في هضبة الجولان».
في ظل هجوم الجيش السوري مدعوماً بالطيران الروسي، يصعب على قوى المعارضة المسلحة الصمود. فخطة الحليفين الروسي والسوري هادفة لتدمير المدينة أسوة بمدن سبقتها في حلب وحمص وغيرها. المجتمع الدولي غير مهتم لا بالحفاظ على المدنيين ولا بالنازحين الذين يناهز عددهم حوالى 270 ألف نازح من مدينة درعا. الكل مهتم ببقاء الأسد في وصفه ضامن الاستقرار في سورية. في الأصل، وخلافاً لتصريحات دولية كانت تصدر من هنا وهناك داعية الأسد إلى الرحيل، فإن القرار الفعلي، من الأميركي إلى الروسي إلى الأوروبي إلى التركي... كلها مجمعة على الحفاظ على النظام وبقاء رئيسه والمجموعة المحيطة به.
هذه الاستعادة للمواقف الدولية تسلط الضوء على الهدف الذي كانت تسعى إليه هذه الدول من منع إسقاط النظام السوري. كان الهدف تدمير سورية، بجيشها ومجتمعها، وإنهاء موقعها الاستراتيجي في الصراع العربي الإسرائيلي. كان الهاجس الدائم لدى هذا المجتمع أن الانتفاضة التي قامت قد تطيح بنظام شكل ضامناً للمصالح الإسرائيلية وحارساً لحدودها، وممارساً لكل الأدوار القذرة في ضرب حركات الاعتراض الوطني في المنطقة العربية، من ضربه لقوى المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية، وتدخلاته في أكثر من قطر عربي. هذا النظام، إذا ما سقط، فقد تقع سورية في يد حكم وطني سيشكل تهديداً لأمن إسرائيل، ويمارس أدواراً وطنية ضد القوى الأجنبية التي تستنزف الثروات العربية وتحرم شعوب البلدان العربية من التمتع بها. هذا الهاجس حكم هذه الدول، فالتقت جميعها على تدمير سورية، وقد تحقق لها ذلك، سواء عبر التدخل المباشر من إيران وميليشياتها أو من روسيا وجيشها وسلاحها الحربي.
تبقى كلمة في شأن المعارضة، التي تذررت إلى معارضات كل طرف له مرجعيته الإقليمية والدولية. قبل خلق داعش وأخواتها، سعت أقطار اقليمية إلى تفريخ تنظيمات مسلحة وصل عددها إلى المئات، كما خلق النظام ومعه إيران وتركيا وقطر تنظيم داعش والنصرة وغيرها... لعبت هذه التنظيمات دوراً مهما في تدمير سورية وحرف الإنتفاضة عن أهدافها الأصلية. استخدم النظام هذه المجموعات في ضرب الإنتفاضة، وقد نجح في ذلك في شكل مذهل. وعندما حان موعد إعادة ترتيب البيت السوري، لم يكن من الصعب أن تتلاشى هذه التنظيمات بناء لقرار من أوجدها. تلك واحدة من مآسي الإنتفاضة السورية التي كانت واعدة عند اندلاعها، وقبل أن تخطفها التنظيمات المتطرفة، بما خدم النظام إلى أبعد الحدود.
ربع مليون سوري يفرون من مناطقهم في جنوب غربي سوريا، وسط قتال على الأرض بين قوات النظام وفي الجو المقاتلات الروسية، وبين خليط من تنظيمات مسلحة سورية ثورية، ومحلية تدافع عن مناطقها، وأخرى متطرفة. معظم الهاربين نساء وأطفال، من محافظة درعا، يسيرون على أقدامهم، بعضهم نحو الحدود غرباً إلى إسرائيل، والبعض الآخر إلى الحدود مع الأردن. كلا البلدين، الأردن وإسرائيل، يرفضان السماح للاجئين، على غرار السلطات التركية التي قررت إغلاق الحدود أمام لاجئي الشمال السوري. والأردن، هو الآخر، فاض باللاجئين السوريين، وكان الملاذ منذ بداية الحرب، ولا يزال فيه بقايا من لاجئي العراق من الماضي القريب. أما إسرائيل فمن المستبعد أن تسمح لأحد بالدخول وهي تفكر بشكل مستمر في كيفية التخلص من الفلسطينيين، وتحديداً طرد أهالي الضفة الغربية المحتلة.
القوانين الدولية، واتفاقية اللاجئين لعام 1951 تلزم الدول باستقبالهم، ومن دون مأوى سيموت الآلاف من هؤلاء جوعاً وعطشاً في الصحاري، أو تفجيراً في حقول الألغام الفاصلة بين حدود الدول الثلاث، وفي حال التخلي عنهم، غالباً ستستخدم التنظيمات المتطرفة أولادهم وتعيد تجنيدهم، كما حدث في العراق وأفغانستان من قبل.
لكن، وبعد سنوات من المأساة السورية، وسكوت المجتمع الدولي عن تشريد أكثر من خمسة ملايين سوري في الخارج، وأكثر من عشرة ملايين سوري في الداخل، فإننا نتفهم، ولا نتوقع من جيران سوريا أن يستوعبوا ويتحملوا فوق ما تحملوه. فمزيد من اللاجئين سيهدد أمن الأردن واستقراره. وإن كان هناك من ملامة فإن اللوم يوجه إلى مهندسي التفاهمات الأخيرة بشأن درعا، أرادوا إنهاء القتال وتسليم كل الجنوب دون اعتبار للتبعات على الأهالي، ودون وضع حلول لمشكلة الفارين من القتال الذين يتوقع أن يتجاوز عددهم خلال هذا الصيف أكثر من مليون شخص.
الأطراف المعنية إقليمياً ودولياً، مع المنظمات الدولية، تستطيع أن تعالج مشكلة اللاجئين هذه المرة بطريقة مختلفة، ليس بإرسالهم عبر الحدود بل بإقامة المآوي في داخل سوريا، والإشراف عليها مباشرة، وليس عن طريق الحكومات المضيفة، كما يحدث في الأردن ولبنان وتركيا.
هل يمكن إقامة مخيمات للاجئين داخل سوريا، بوجود أطراف تُمارس القتل الجماعي، ومن بينها قوات النظام نفسه و«داعش» وغيرها؟ سواء سار المشروع في طريقه المرسوم بإنهاء الاقتتال، أو فشل وبالتالي استمرت الحرب، فإن إقامة مآوٍ للمشردين في مناطقهم هو الحل المتبقي. الأردن لا يستطيع، ولا يفترض أن يجبر على استقبالهم، ولا تريدهم إسرائيل، وتركيا أغلقت حدودها، وكذلك العراق. نحن أمام مأساة إنسانية أعظم من سابقاتها، لأن التهجير السابق تم التعامل معه من خلال جهود المنظمات الدولية التي قامت بعمل إنساني ولوجيستي عظيم، وكذلك تعاملت دول الجوار مع الطوفان البشري بمسؤولية وإنسانية على قدر إمكاناتها.
أما الموجة الحالية من اللاجئين ليست مفاجئة، فهي نتيجة للحرب الجديدة في درعا، التي خطط لها منذ أسابيع، ومهدت الطريق لقوات النظام للانتقال إلى الجنوب، وذلك بعد منع قوات إيران وميليشياتها. لقد كان بإمكان المنظمات الدولية والحكومات المعنية وضع حلول مسبقة لمئات الآلاف المتوقع فرارهم من مناطق القتال. لم يفعلوا، ربما لأنهم لا يريدون تشجيع الأهالي على ترك بلداتهم، مع هذا وقعوا في الأزمة نفسها، وهي أن هناك مليون إنسان قد يملأون سهول وجبال تلك المنطقة يهيمون على وجوههم.
وقف إطلاق النار، تفادي كارثة إنسانية، مساعدة المدنيين داخل الأراضي السورية، العودة إلى الحل السياسي، الالتزام باتفاقية خفض التصعيد. .. هذه عناوين رئيسية لموقفٍ أردني عن الوضع المتفجر في جنوب سورية، عبّر عنه وزير الخارجية الأردني، أيمن الصفدي، في الأيام القليلة الماضية وفي منابر مختلفة، بما فيها المؤتمر الصحافي مع وزير الخارجية الروسية، سيرجي لافروف، في موسكو الأربعاء 4 يوليو/ تموز الجاري.
الأردن هو البلد الأكثر تأثراً بما يجري، حتى أن قذائف سقطت في مدينة الرمثا المتاخمة لحدود البلاد الشمالية. ويشكل تدفق اللاجئين قريبا من الحدود الأردنية بالفعل ضغطا نفسيا على الأردن، إذ لا يستطيع تجاهل محنة هؤلاء المهدّدين بالهلاك، ولا يملك، في الوقت نفسه، إدخال عدد هائل منهم لا يُمكن استيعابه لوجستياً واقتصاديا، علاوةً على الجوانب الأمنية للمسألة. لكن هذا الضغط النفسي، وحتى الشعور بقدر من الحرج مع دعوات الأمم المتحدة إلى فتح الحدود جرت مواجهته باتخاذ موقف صائب بالمبادرة إلى تقديم يد العون للمدنيين المشرّدين داخل الأراضي السورية.
وحسناً فعل الجانب الروسي، مُتعهّد الحرب على المعارضة وعلى المدنيين، بعدم اعتراضه على الجهد الأردني الإنساني الرامي إلى تقليص المخاطر، وإنقاذ من يمكن إنقاذهم من العائلات المنكوبة. على أن هذا الجهد يبقى مُهدداً أن لا يؤتي ثماره إذا استمر المُتعهد الدولي الروسي في اندفاعه للقضاء على المعارضة المسلحة، مصحوباً بمليشياتٍ، مثل أبو الفضل العباس وكتيبة الرضوان التابعة لحزب الله، وبقية المليشيات التي تخوض حربا طائفية. ولهذا، تأتي الدعوات لوقف إطلاق النار، فلا يُعقل أن تستخدم موسكو اتفاقية خفض التصعيد لشن حملة عسكرية تلو أخرى، بمشاركة كثيفة من مليشيات إيران: العراقية واللبنانية والأفغانية، فضلاً عن كتائب "المستشارين" الإيرانيين!
والراجح ان موسكو لن تتوقف عن حملتها هذه، فقد باتت أكثر حماسة من النظام نفسه لاعتماد الخيار العسكري التدميري (الأرض المحروقة) بعدما جرى في حلب والغوطة الشرفية، مع ذرّ الرماد في العيون، بتصريحاتٍ عن أهمية الحل السياسي، وحتى عن أهمية انعقاد مؤتمر جنيف. (كان عنوان لقاء الرئيس فلاديمير بوتين وبشار الأسد في سوتشي قبل نحو شهرين: آن الأوان لإطلاق العملية السياسية..).
وعلى الرغم من علاقات الصداقة التي تربط موسكو بعمان، إلا أن سلوك الأولى يفيد بأنها لا تنشغل كثيرا بمصالح الأردن، مقارنةً بانشغالها بمشروعها لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء في سورية، وكما كانت عليه قبل أزيد من سبع سنوات، أو مقارنة بتفاهمات موسكو مع تل أبيب. ويستوقف المرء أن الجهد الأردني يبدو منفرداً بغير إسناد سياسي مستحق من دول شقيقة أو أطراف دولية، فيما لا ترى واشنطن في سورية سوى "داعش" وقوات سورية الديمقراطية (قسد) الكردية، وتحاول اختزال المعضلة بدعم الأخيرة ضد "داعش" الإرهابي بتفاهمات حدٍّ أدنى مع تركيا بشأن المسألة الكردية دون سواها.
ويكمن القلق الأردني في الشعور بأنه يُراد الحؤول دون عودة اللاجئين السوريين إلى ديارهم، وإضافة أعداد كبيرة جديدة إليهم، وذلك وفق مخطط إعادة الهندسة الديمغرافية للمجتمع السوري الجاري على قدم وساق. فيما تسعى موسكو، كما يُفهم من تصريحاتٍ أطلقها لافروف أخيرا، إلى جعل مسألة اللاجئين ورقة للمساومة، تتضمن ما يشبه وضع "شروط" على البلدان المستضيفة للاجئين، وخصوصا تركيا والأردن ودول الاتحاد الأوروبي، للبدء بعودتهم. فيما يبدو الأردن مرناً لبحث المسائل السياسية، على أن تتوقف، في الأثناء، مفاعيل الكارثة الإنسانية، ويصار إلى وقف إطلاق نار ضمن تسويةٍ آنية تفتح الباب أمام عودة الحل السياسي بالفعل، وليس ترديد العبارات بشأن هذه المسألة للتغطية على النشاطات العسكرية التدميرية بحق المدنيين والعمران والبنى التحتية والطبيعة، والتي تغلق حُكماً الباب أمام العملية التفاوضية. وهو ما لا تخفيه طهران، مثلا، التي لا تنفكّ تتحدّث، بعد كل حملةٍ عسكريةٍ، عن ضرورة أخد الوقائع الميدانية في الاعتبار! وللأسف الشديد، ليست موسكو بعيدة عن هذا المنطق الذي يقضي عملياً بجعل التفاوض يدور عبر إطلاق الصواريخ والقنابل والبراميل المتفجرة.
أمام هذا المسرح الذي تنفجر فيه نوايا غير سلمية بمحاذاة الحدود الأردنية الشمالية، فقد أخذت أصوات ترتفع تنادي بإقامة مخيمات داخل الأراضي السورية تحميها المنظمة الدولية (مقال الكاتب جميل النمري في صحيفة الغد 3 يوليو/ تموز الجاري). وهي مسألة تستحق أن توضع على الأجندات السياسية. ليس فقط من أجل تفادي موجات لجوء جديدة، بل لتمكين اللاجئين الذين بارحوا بلدهم من العودة إليها بحماية الأمم المتحدة. وهو أمر كان يستحق العمل من أجله منذ سنوات من طرف بلدين، هما تركيا والأردن، وذلك حين اتضح الحجم الهائل للاجئين، مع نوايا النظام المكشوفة في التخلص الدائم منهم، واعتبارهم كتلة اجتماعية غير مرغوب بها. ومن الواضح أن تحقيق هذا الهدف يتطلب معالجةً للوضع المتفجر الحالي، فسلسلة الكوارث لا تتوقف، ومليشيات إيران لن ترعوي عن الفتك بالمدنيين العزل، كجزء من جهادها المقدس على طريق التغيير الديمغرافي، وهي التسمية الملطفة لعملية التطهير الطائفي. والخشية أن تتواصل الحملة المليشاوية بتغطيةٍ من الطيران الروسي، وأن تتسع هذه الحملة، في الفترة الراهنة، حتى قمة ترامب وبوتين في 16 يوليو/ تموز الجاري.
في مباحثاته الشاقة مع موسكو، يستحق الأردن دعما واضحا جديا، يحول دون تدفق اللاجئين المذعورين نحو حدوده الشمالية، ومن دون تسلل مليشيات إيران نحو هذه الحدود، وحتى لا يتم الانتقال من وضع متفجر إلى وضع آخر يحمل نذور التفجر، إذا ما تمركزت قرب الحدود مليشياتٌ لا تكتم عداءها للأردن، ولأبناء منطقة حوران، وتهجس بجعل تلك المنطقة إقليماً شبه إيراني، مع حرمان اللاجئين السوريين من العودة إلى ديارهم، وتحت طائلة التهديد الماحق لحياتهم. وبالتأكيد، فإن التفاهمات وأوجه التعاون السابقة بين القيادتين، الأردنية والسورية، بحاجة لأن تمتد إلى الوضع في حنوب سورية، وحتى لا تتحول هذه المنطقة إلى بؤرة تفجر دائم، وإلا فإن من حق الأردن الدعوة إلى منطقة عازلة، تضم مخيمات اللاجئين، وتطفئ عوامل الانفجار، وتضع حداً لمشاريع إقليمية توسعية، يُراد لها أن تحاذي الأردن، وتتسلل إليه.
ظللت أتابع المصادر الإعلامية العالمية خلال الأيام الماضية، بحثاً عن صدى الهجمة الوحشية غير المسبوقة التي يتعرّض لها قرابة مليون شخص في جنوب سورية المنكوبة. ولكن، يبدو أن هناك أشياء أهم تشغل بال الخلق هذه الأيام: عملية إنقاذ لاعبي الكرة الشباب في تايلاند، تسمّم رجل وزوجته في جنوب إنكلترا، نتائح مباريات كأس العام، هروب سجين فرنسي، تعيين قاض جديد في المحكمة العليا في أميركا وطرد آخرين من محاكم بولندا، هوس الهجرة في أميركا وأوروبا، وحروب ترامب التجارية الدونكيشوتية.. إلخ. أما حالة مئات الآلاف من المدنيين ممن يفترشون العراء، ويلتحفون السماء، ويُطعمون أحدث القنابل الروسية، فهي أقل من أن يلتفت إليه من يسمون أنفسهم بشراً، إلا التفاتة عابرة عجلى. ويشمل هذا العرب، ممن كان ينبغي أن تذكّرهم نكبة سورية المستمرة بنكبة فلسطين. ولكن لعل النسيان أفضل، حتى لا تتحول هذه مثل تلك التي أصبحت خيانتها اليوم أربح تجارة عند بعضهم.
لدي تحفظ على استخدام مصطلح "النكبة" لوصف ما حل بفلسطين والعرب في عام 1948: من تشريد لأكثر من نصف سكان فلسطين (800 ألف من من 1.4 مليون)، وفشل الدول العربية مجتمعةً في تلافي الكارثة، أو التصدّي لذيولها. ذلك أن المصطلح يوحي بأن ما وقع هو أشبه بكارثة طبيعية، مثل الزلازل والبراكين، ما يغيّب مسؤولية من سمح وساهم وتواطأ. وأهم من ذلك، يساهم في التستّر على جريمة الجرائم، وهي التطهير العرقي لفلسطين العربية (لا يزال مستمراً)، وما صاحبه ويصاحبه من فصل عنصري وجرائم مركبة ضد الإنسانية، فاستخدام هذا المصطلح، وما يصحبه من ممارسات خطابية تضخم المقاومة غير الفعالة للاغتصاب، يرقى إلى نزع ذاتي لسلاح اللغة في المواجهة مع المنظومة الصهيونية التي لا يصح كذلك وصفها بأنها استعمارية، فهي تفتقد حرص الأنظمة الاستعمارية، بما في ذلك نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، على بقاء السكان الأصليين بغية استغلالهم، فهي لا ترغب في وجود أهل البلاد حتى للسّخرة، بل إنها تجتهد في استئصالهم. ولهذا، فإن الخطاب السياسي الملتبس هو من أكبر مظاهر فشل مقاومة هذا النوع الجديد من الإجرام، الأقرب إلى النازية في سعيها المهووس إلى استئصال الفئات المحتقرة، حتى على حساب المجهود الحربي والمنافع الاقتصادية المحتملة من استخدامهم في السّخرة.
هذه الملاحظة الاعتراضية على قدر كبير من الأهمية، خصوصا عند استخدام مصطلح النكبة لوصف ما يواجهه أهالي درعا وجنوب سورية في هذه الأيام. ذلك أن ما يحدث اليوم يمثل منحدراً جديداً في مسار الانحطاط الأخلاقي الذي رافق النكبة السورية الكبرى، ففي هذه الحالة، ترك العالم قرابة المليون شخص بدون أي سند إغاثي أو مهرب من بطش نظام كانت وحشيته ضد المدنيين العزل، والأطفال خصوصاً، هي التي فجرت الثورة في الأساس. الفرق، وهو أن العالم لم يكن يتابع مأساة مهاجري فلسطين عام 1948 على الشاشات الحيّة، أو يسمع صراخهم واستغاثاتهم. ويبدو أن عرب اليوم أسوأ بكثير من عرب ذلك الزمان، حيث إنه لم يكن مطلوباً منهم تسيير الجيوش أو الهبّة لنجدة المعذّبين، فقط فتح الحدود لاستقبالهم في صحارى تترامى مد البصر، لكنهم اليوم أغلقوا أبوابهم وأعينهم وقلوبهم، ووقفوا يتفرّجون على جريمة هم شركاء في صنعها. فهذا العمى والتعامي هو تواطؤ أعطى عملياً الضوء الأخضر للنظام السوري، وأعوانه من البرابرة، من روس وأعاريب وفرس لممارسة وحشيتهم، بدون أي رقيب أو حسيب.
وهذه نقطة سوداء، ليس فقط في تاريخ العرب والمنطقة، بل في تاريخ الإنسانية، فمنذ فجر التاريخ الإنساني، كان هناك رد فعل فطري أمام أي حالة لإنسان آخر (بل حتى حيوان) يتعرّض لخطر على حياته، وهو التحرّك للمساعدة، فكما نشهد من حالة الشباب التايلاندي المحصور في الكهف، فإن الغريزة البشرية هي التحرّك للإنقاذ، فقد سارع حتى البعداء، بمن فيهم الأميركان والإسرائيليون (لم نسمع بعرب ساهموا) لتقديم العون لعمليات الإنقاذ. وقبل أسابيع قليلة، قرأت عن شاب سوداني كان يتجول على شاطئ البحر في الإسكندرية مع عروسه، وهما في شهر العسل، حين شاهد شخصين يغرقان، فقفز في البحر لإنقاذهما، ونجح في ذلك، لكنه فقد حياته.
تلك هي الإنسانية في أروع تجلياتها. ولكن هذا ليس ولم يكن المطلوب في حالتنا هذه، فلم يكن المطلوب التضحية من أجل إنقاذ السوريين، فقط التصرّف بأدنى درجات الحس الإنساني. فيكف إذن نفسر رد الفعل العالمي شبه الإجماعي، المعبر عن غياب كامل لهذا الحس في أبسط أشكاله تجاه أعدادٍ أكبر، وحاجةٍ أكثر إلحاحاً، ومشاهد ماثلة للعيان، لا تحتاج إلى خيال أو تمثل حتى تصل إلى عقول وضمائر القادرين على فعل شيء؟
إنها نكبةٌ من نوع جديد، تتعدّى فقدان الأوطان أو المساكن أو الأمن إلى فقدان الإنسانية، وفقدان الحس الأخلاقي. ولا أتحدث هنا عن القادة الفاسدين والمتواطئين، ممن باعوا ضمائرهم بثمنٍ بخس، دراهم معدودة وكانوا فيها من الزاهدين. لا نعني من شاركوا بهمة وحماسة في القتل والتعذيب، أو هللوا لهلاك الأبرياء، وانحازوا لفراعنة العصر. ولا من دخل في حلف نتنياهو - بوتين لتصفية القضيتين، ومباركة النكبتين، متوهمين أن ذلك سينقذ عروشاً أينعت، وحان قطافها، فجعلوا لله على أنفسهم حجة وسبيلاً. ما نعنيه هو البقية الباقية من أصحاب الضمائر والعقول والقلوب، من لم ينقرض كإنسان مع المنقرضين. أين هم، وأين أصواتهم، سوى قلة من أصحاب الضمائر في أردن الصمود وتركيا النجدة؟
في القرآن، هناك قصة للاعتبار عن أصحاب تلك القرية اليهودية التي فقد فيها الحسّ الأخلاقي، حتى لم يبق فيها إلا قلة تستنكر الإجرام، فمسخ غالبية أهلها إلى قردة. ما نخشاه هو أن نستيقظ غداً فنجد شوارع بلداننا مكتظة بالقرود، نعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا.
روى لي الصديق هادي الدمشقي حكاية طريفة عن فريق الجيش السوري لكرة القدم. قبل أن أنقل لكم الحكاية، سأحدّثكم عن مادة صحافية عنوانها "فريق الجيش ليش؟" كُتِبَتْ، على ما أذكر، بإشراف الصديق لقمان ديركي في العدد الأول من صحيفة الدومري (26 فبراير/ شباط 2001)، واعتبرناها آنذاك جريئةً، لأن فريق الجيش كان مصنفاً بين الخطوط الحمراء للسُّلْطة، إذ لم يكن ممكناً آنذاك تناول الوريث بشار الأسد، وأبيه، وعائلته، ووزارة الدفاع، وضباط الأمن، والفرقة الرابعة، والحركة التصحيحية، والحرس الجمهوري، والقيادة القُطرية، ووزارة الدفاع، ووزارة الإعلام، وقوى الأمن الداخلي، وفريق الجيش، وفريق الشرطة.. ولكن الرقباء، على ما يبدو، تساهلوا مع بعض مواد "الدومري" إكراماً للفنان الكبير علي فرزات، باعتبار أنه سيُصدر أول جريدة غير حكومية منذ ما قبل عصر الوحدة التي جعلت "الواقفَ فوق الأهرام يرى أمامَه بساتين الشام"، فهل يُعقل أن يُجبروه، منذ البداية، على جعل صحيفته شبيهة بـ "البعث" و"الثورة" و"تشرين" من حيث تقييدها بالخطوط الحمراء كلها؟
كانت الفرق الرياضية السورية تعاني من الفقر، والعوز، وينطبق عليها القول الشعبي "تشحد المنخول"، يعني أنها لا تطلب من المحسنين إعطاءها كميةً من الطحين الأصلي نمرة زيرو الذي يَصلح لصناعة الكعك، والمعمول، والغريبة، والبيتزا، وإنما تقبل بـ "المنخول" الذي ينزل تحت المنخل وعمادُه الشوائب، والغبرة، والهرارة.. وأعضاء إدارة النادي في كل مدينة كبيرة، أو صغيرة، أو متوسطة، يذهبون إلى المحافظ، ويرجونه أن يجمع التجار والصناعيين والملاكين الزراعيين، ويفرض عليهم التبرّع لناديهم، أو أن يعطيهم تعميماً يقضي بإجبار كل مَنْ يشتري كمية من الخشب، أو الشمينتو، أو الدواليب، أو السمنة النباتية، على التبرع بمبلغ ما لهذا النادي المسكين، أو أن يشتري بطاقة دخولٍ إلى الملعب، لحضور مباراةٍ لا يعرف متى موعدها. وفي الوقت نفسه، غير مستعد أن يذهب لحضورها مهما كلف الأمر.. وأما فريق الجيش، فقد وُضِعَتْ تحت تصرفه ميزانية الجيش العربي السوري التي كان نبّيحةُ النظام يقنعوننا بأنها تَلتهم 75% من ميزانية هذا القطر العربي الصامد، ثم يصلون، أعني النبّيحة، إلى نتيجةٍ مرعبة، هي أن سورية، لولا وجودُ الكيان الصهيوني الذي زرعه الاستعمار في قلب الوطن العربي، ولو لم يكن قَدَرُ سورية قد جعلها من دول المواجهة، لكانت ميزانيتنا كافيةً لجعل المواطن السويسري يحسد المواطن السوري على عيشته، حيث الخضرةُ، والماءُ، والوجهُ الحَسَن، والقادةُ التاريخيون.
لم يكتفِ هذا الجيشُ العقائدي الباسل، خلال مسيرته التاريخية، بأنه تَخَلَّى لإسرائيل عن مرتفعات الجولان، وانسحب كيفياً من القنيطرة، ودخل لبنان ليضرب قواها الوطنية، ويعفّش خيراتها، وابتكر سرايا الدفاع وأفلتَ كلابها على المدنيين، بل إنه أوجد فريق الجيش، وأعطاه صفةً رسمية شبه قانونية؛ إذ أصبح الفتى الذي يلمع نجمُه في كرة القدم في أية مدينةٍ سورية، يُساق إلى خدمة العَلَم، ويفرز، أتوماتيكياً، للخدمة في فريق الجيش. والفتيان، بدورهم، يسرّهم هذا الفرز، لأنهم يعيشون، خلال الخدمة، حياةً تستحق الحسد، ففي حين تحترقُ قلوب أقرانهم في الخدمة الميدانية، حيثُ الركض والغبرة وقلة القيمة، يمضون خدمتهم معزّزين، مكرمين، يأكلون أطايب الطعام، ويزورون مختلف الدول، ويقبضون الرواتب والمكافآت العالية.. هذا الوضع المخملي جعل المسؤولين، سواء أكان أبناؤهم مساقين إلى خدمة العلم أو لا، يسعون إلى إدخالهم في صفوف فريق الجيش..
ما سبق يقودنا إلى الحكاية الطريفة التي رواها هادي الدمشقي، وهي أن قيادة الجيش استقدمت، ذات يوم، فريقاً طبياً بلغارياً، للاطمئنان على لياقة لاعبي فريق الجيش، وجاهزيّتهم من الناحية البدنية، وبعد فحص العناصر البالغ عددهم ثلاثين لاعباً، ذهل الفريق الطبي، إذ وجدوا أن لاعباً واحداً يستطيع الجري خلال الشوطين من دون توقف، بينما الـ 29 الآخرون يستطيع واحدهم الجري من 10 إلى 15 دقيقة فقط!
اعتقد أصحاب القرار في عالمنا العربي لفترة طويلة، أن نـــشر برامج الترفيه والتسلية من خلال القنوات الفضائيـــة ودعـــم مــسلــسلات الدراما المبتذلة، يساعد في تخدير الشعوب وإلهائها، وذلك على منوال برامج الشو والتوك شو التي اعتمد عليها أصحاب القرار في الغرب، لكن المـــفاجأة كانت حين شعر أصحاب القرار، في الشرق والغرب معاً، بالصدمة والدهشة من انفجار الربيع العربي، فمن كان يتابع تلك البرامج إذاً
ومع ذلك، يشير واقع الحال الى نجاحهم، وذلك بعد جهد جهيد، في إفشال الربيع العربي وحصاره بالخراب والإرهاب. هذا من جهة، أمَّا من جهة أخرى، فيشير الى أن عقولهم وأساليبهم في التعامل مع الأزمات لم تتجدد، لذلك عملوا على إيصال وجوه شابة الى سدة الحكم، كما في فرنسا وكندا وبلجيكا، في محاولة منهم لذر الرماد في العيون والالتفاف على الأزمة الكامنة بين الأجيال التي تتعاظم رويداً رويداً، وهي، أي الأزمة، مع أنها ليست جديدة بنيوياً، إلا أنها بفضل الإنترنت أخذت أبعاداً واسعة وعميقة، عابرة للحدود والقارات كذلك، فهل هنالك متسع من الوقت ليشعر أصحاب القرار، في المرة المقبلة، بالصدمة والدهشة؟!.
لطالما كان التوحد والاعتصام مطلباً شعبياً كبيراً لجميع القوى العسكرية والمدنية والسياسية، وشرطاً أساسياً وسبباً من أسباب الانتصار ومواجهة أي عدوان على المناطق المحررة، وهذا ما عمل النظام ودول غربية وعربية جاهدين على تمكين التشرذم بين أقطاب المعارضة على كافة المستويات لمنع توحدهم من خلال إغراقهم بالدعم المتعدد الاتجاهات لتحقيق التفرقة الحالية.
ومع تمكن النظام من السيطرة على مساحات واسعة في سوريا كانت بالأصل محررة، بغض النظر عن حجم الدعم الذي يتلقاه من حلفائه على كل المستويات، وخذلان حلفاء المعارضة لنا في المرحلة الأخيرة وتخليهم عن دعم المعارضة وتكشف مشاريعهم التي كانت جلها لتحقيق الفرقة ومنع وجود كيان عسكري وسياسي ومدني موحد يمثل المعارضة والذي لو تحقق لكانت رقماً صعباً في الحسابات الدولية، إضافة للطعنات الكثيرة التي تلقتها الثورة من جهات عدة.
واليوم باتت محافظة إدلب في الشمال السوري المرهونة باتفاق "خفض التصعيد" في مواجهة قد تكون شبيهة لما حصل من خرق لهذا الاتفاق في حمص والغوطة ودرعا مؤخراً، وقد لا تكون، ولكن تغير المصالح الدولية ومراوغة الروس تفرض علينا لزاماً اتخاذ التدابير والاحترازات اللازمة لأي طارئ، لمنع أي انهيار مفاجئ شعبياً وإعلامياً وعسكرياً ومدنياً وأمنياً، وعدم التعويل على أي ضمانات أو تطمينات نقضت سابقاً واتخذت كإبر مسكن في مناطق عدة أخرها الجنوب السوري.
وربما ينتاب الحاضنة الشعبية التي وصلت لأكثر من 3 مليون إنسان في إدلب من شتى بقاع سوريا تساؤلات كبير وحالة تخوف لا يمكن إنكارها عن مصير إدلب وما ستؤول إليه في ظل تهديدات النظام والحملات الإعلامية المستمرة ضد المحافظة، لاسيما أن تثبيت نقاط المراقبة لم يفض لوقف إطلاق نار شامل وكذلك لم يوقف القصف، وهذا ما يزيد من مخاوفهم.
ومن خلال ما لمسناه سابقاً من غدر روسي وإيراني للمناطق التي صنفت على أنها ضمن اتفاقيات خفض التصعيد مع أن الأمر في إدلب مختلف قليلاً بوجود تركيا الدولة الجارة التي تتقاطع مصالحها مع مصالح أبناء المحافظة وقاطنيها في استمرار الهدوء والأمن، وكذلك كونها اول منطقة تثبت فيها نقاط مراقبة وتتمركز فيها قوات عسكرية إلا أن الاحتياط ووضع كل الاحتمالات أمراً لابد منه في ظل هذه الظروف المريرة التي تواجه سوريا والثورة السورية.
مصير إدلب اليوم مرهون في الدرجة الأولى بـ "وحدة قرارها" على كافة المستويات أبرزها عسكرياً والتي تتطلب من جميع الفصائل إعادة الثقة بينها وبين الحاضنة الشعبية سريعاً من خلال إعلان غرفة علميات شاملة والإسراع في تثبيت خطوط دفاعاتها والتحرك سريعاً لتنظيم صفوفها ووضع الخطط اللازمة لأي مواجهة قد تحصل في حالة استنفار تامة، من شانها أن تطمئن الحاضنة الشعبية التي ستقف لامحال مع الفصائل وتدعمها في حال لمست منها الجدية والصدق في التحرك.
كذلك يلقى على عاتق الفصائل تشكيل قوة أمنية سريعة لحفظ الأمن في المناطق المحررة وتأمين حماية المدنيين من الخلايا التي قد تتحرك في حال أي عدوان او هجوم لاسيما خلايا المصالحات التي تعمل على تفكيك كل منطقة على حدة واستمالتها لصالح النظام وقبول التسوية، وكذلك تنظيم القطاعات المدنية ووقف التضييق على المدنيين وترك الجهات الإنسانية والطبية وفرق الاستجابة تنظم نفسها وتتخذ تدابير الطوارئ بعيداً عن تدخلها واستغلالها.
كما أن توحيد القرار الإعلامي والعمل على مواجهة الحرب الإعلامية وطمأنة الحاضنة الشعبية أمر بالغ في الأهمية، لمواكبة أي طارئ ومواجهة الحملات المشوهة التي تعمل على خلق الفوضى والوهن في نفوس المدنيين، في وقت ينقل الإعلام الواقع ويكون صادقاً مع نفسه ومع الحاضنة الشعبية دون مراوغة أو التفاف بما يخدم قضيتنا، كون النظام يعول على الحملات الإعلامية بشكل كبير وهذا ما لمسناه في حملات الغوطة الشرقية وحمص ودرعا مؤخراً.
إن "وحدة القرار" في إدلب لكافة فعالياتها الشعبية والمدنية والعسكرية والإعلامية والإنسانية بأنواعها هو وحده الكفيل بحفظ إدلب وحمايتها من السقوط، دون التعويل على أي دعم خارجي أي كان، فإدلب تملك مقومات كبيرة للصمود، وطاقات بشرية وعسكرية وإمكانيات لوجستية كبيرة ولكن لن تنفع إلا أن كانت جميعاً تحكم بقرار موحد وتنظيم ودراية بخطورة الوضع الراهن في تاريخ الثورة وإلا فإن مصيرها لن يكون بأقل من سابقاتها وهذا ما يحتم علينا العمل جاهدين للضغط بشتى الوسائل حتى تحقيق "وحدة القرار" لأن المصير سيكون واحد في السلم والحرب.
في ردّه على المساعي التي تقوم بها الولايات المتحدة لقطع صادرات النفط الإيرانية، وتشديد الضغط على طهران، لتحدّ من تدخلاتها في دول الجوار العربية، قال الرئيس الإيراني، حسن روحاني، مستغلا زيارته جنيف، ولقاءه الاثنين الماضي رئيس الاتحاد السويسري، آلان برسيه، إن "افتراض أن إيران ستصبح المنتج الوحيد غير القادر على تصدير نفطه خاطئ، ومحض خيال وجائر. الولايات المتحدة لن تستطيع قطع إيرادات إيران من النفط". واعتبر أن "سيناريو من هذا النوع يعني أن تفرض الولايات المتحدة سياسة إمبريالية، في انتهاكٍ فاضحٍ للقوانين والأعراف الدولية. العقوبات غير العادلة المفروضة على أمّةٍ عظيمة، هي أضخم انتهاك لحقوق الإنسان يمكن تصوّره". ولمزيد من التفصيل بشأن الرد الذي يمكن لطهران أن توجهه لواشنطن وحلفائها، أضاف في هذه الحالة قول وزير داخليته، عبد الرضا رحماني فضلي، محذرا الأوروبيين: "إذا أغمضنا عيوننا 24 ساعة سيذهب مليون لاجئ إلى أوروبا عبر حدودنا الغربية" من خلال تركيا، بالإضافة إلى إمكان تهريب نحو خمسة آلاف طنّ من المخدرات إلى الغرب. وهذا تهديدٌ مباشر لأوروبا التي تمسّكت بالاتفاق النووي، ودافعت عنه في وجه واشنطن.
ما أثار انتباهي ليس تهديد وزير الداخلية، وإنما أن الرئيس روحاني لا يجهل مفاهيم الامبريالية ومعنى القوانين والأعراف الدولية، بل إنه يحسّ بأن هناك شيئا اسمه حقوق إنسان. لكنه لا يرى انطباق أي من هذه المفاهيم والمعاني والحقوق على ما تقوم به الدولة التي هو رئيسها من انتهاكٍ صارخ لها في بلدان الجوار، والتي تكاد تنطبق حرفيا على ما يتهم به الولايات المتحدة. فكما هو واضح، يشكل تحجيم دور إيران الإقليمي، واحتواء عدوانيتها الطافحة، وإجبارها على إعادة مليشياتها الطائفية إلى داخل حدودها، على الأقل كما تصرح به حكومة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، وما تخشى منه علنا طهران، يشكل الهدف الرئيسي لسياسات فرض العقوبات الدولية على إيران، ومنها قطع شريان المال المستخدم في تمويل الأعمال التخريبية للمليشيات الإيرانية في بعض الدول، من خلال تقليص صادراتها النفطية. بمعنى آخر، ما تطمح إليه عقوبات الرئيس الأميركي يتمثل بالضبط في احتواء ما ينبغي تسميته، اقتداءً بروحاني نفسه، سياسة طهران الإمبريالية، وخرقها القوانين والأعراف الدولية التي تنص على احترام سيادة الدول واستقلالها وحقوق شعوبها في تقرير مصيرها، وانتهاكاتها غير المسبوقة لحقوق الإنسان واعتدائها الظالم والمدمر على شعوبٍ ودولٍ لا تقل أحقية في السلام والأمن والبقاء من الأمة الإيرانية "العظيمة". وهذا يعني باختصار إجبارها علي وقف سياساتها التخريبية، وتقويضها أسس الحياة السياسية والاجتماعية والدينية في محيطها المشرقي المباشر، من أجل تحقيق مصالح لا يمكن وصفها، ولا يصفها الإيرانيون أنفسهم إلا بالسعي إلى الهيمنة، بل والاحتلال وتوسيع دائرة النفوذ في المنطقة، أي بمصالح إمبريالية. لماذا يحق في هذه الحالة لإيران أن تحمي سياساتها الإمبريالية في الشرق، وتفتخر بسيطرتها على أربع عواصم لدول أخرى مستقلة، وإرسالها المليشيات والأسلحة والأموال والخبراء والمستشارين العسكريين وغير العسكريين إلى خارج حدودها، من أجل تمكين نظام استبدادي دموي، فاسد وفاقد أي مقومات للحكم السياسي، من ذبح شعبه وإخراجه من وطنه، ولا يحقّ لترامب الذي يرأس بلدا هو مركز الإمبريالية، وموطنها الأكبر، وقاعدتها الرئيسية، الضغط عليها للحد من أطماعها التوسعية، ووضع حد لسعيها إلى انتزاع السيطرة على الشرق الأوسط منه، ومن شركائه، والحكم بالإعدام السياسي على شعوب المنطقة وتحويل دولها، كما حصل في لبنان وسورية، إلى أدواتٍ وبيادق تستخدمها إيران لفرض إرادتها على محيطها والمجتمع الدولي؟
لا يبرر ما تقوم به إيران الخامنئية سياسات الولايات المتحدة الأميركية، ولا يعفيها من أي مسؤولية. وهي بالتأكيد المسؤولة الرئيسية عن الخراب الذي يعم منطقة الشرق الأوسط اليوم، بما في ذلك في إيران، سواء بسبب سياساتها التدخلية، وفي مقدمتها تدخلها الكارثي في العراق، في حربين متتاليتين دمرتا أسس التوازنات الإقليمية عامي 1991 و2003، أو بسبب تشجيعها إيران التي كانت المستفيدة الرئيسية من انهيار العراق، على مد نفوذها إلى سورية، وتغذية الوهم بإمكانية ابتلاعها لها، وضمها إلى ما أطلقت عليه اسم الهلال الشيعي، والذي فتح الباب أمام حربٍ مذهبيةٍ دينيةٍ عصفت بالمنطقة، وسوف تدمر آخر ما تبقى من مكتسباتها المدنية والعمرانية والسياسية الحديثة.
مشكلة طهران هي بالضبط أنها تريد أن تكون ندّا للولايات المتحدة الإمبريالية، وتعمل مثلها، وهي تطلب من الجميع، بمن فيهم ضحاياها، أن يعترفوا لها ويسلموا بهذا الحق. وإن لم يقبلوا ذلك، فسيكون الرد تماما كما ذكّر به وزير الداخلية الإيراني، تصدير اللاجئين وأطنان المخدرات إلى الغرب، وتمويل المليشيات المذهبية والحشود الطائفية المدرّبة على القتل في دول الشرق. واضحٌ أن خيارات بلدان المنطقة لا يمكن أن تكون في نظر طهران سوى القبول بإحدى الإمبرياليتين، الإيرانية أو الأميركية. ولأن إيران بنت المنطقة، ومن صلبها فهي صاحبة الشرعية الوحيدة في التحكّم بمصير شعوبها، وتجاوز الأعراف والتقاليد والقوانين الدولية وانتهاك حقوق الإنسان فيها.
هذا هو أيضا مضمون السياسة التي يسير عليها بشار الأسد الذي عمل، في السنوات الماضية، عميلا علينا لإيران، والذي لا يكفّ، في موضوع أزمة بلده، والحرب التي تطحنها بسببه منذ سبع سنوات، عن الحديث عن الحل السياسي. وعندما تأتي فرصة الحل وتعلن الفصائل والمعارضة استعدادها لكل الخيارات، يأبى أن يعترف بالمعارضة إلا كإرهابيين، ولا يجد ما يعرضه على ملايين السوريين من المدنيين، وليس المقاتلين المسلحين فحسب، سوى الاختيار بين الموت بكرامة تحت قنابل البراميل المتفجرة والغازات السامة أو الموت مجانا بسلاح الانتقام والإعدام أو جوعا وعطشا ومرضا في معسكرات الاعتقال التي أصبحت تسمّى مخيمات.
في النهاية، لم تنتصر إيران، ولن تربح شيئا، لأنها على الرغم من جنون عظمة قادتها الحاليين، أخفقت بالضبط في بناء عظمتها القومية، أي في تنمية إيران، والعناية بشروط حياة شعبها، وتحولت إلى دولةٍ لا هم لها سوى خدمة مليشيات محلية وخارجية، اسمها الحرس الثوري وأزلامه ومريدوه من الطبقة الفاسدة الدينية وغير الدينية، وترك الشعب الذي يصرخ، ويطالب حكومته، أكثر مما يفعل السوريون أنفسهم، بخروج هذه المليشيات من سورية، والكفّ عن استخدامها ذريعةً لتبرير استمرار حكم القتل والإبادة الجماعية واللصوصية والفساد. وطالما بقيت طهران على هذه الحال، ستخسر إيران، مهما أرسلت إلى أوروبا من لاجئين، وصدرت للغرب من مخدرات ومهربين وقتلة وإرهابيين. وسوف تنقل الأزمة إلى داخلها، وتشتعل فيها النيران، كما أشعلتها هي نفسها بمساعدة أتباعها في سورية ولبنان والعراق واليمن، وغيرها من البلدان.
وإذا كان الأسد، كما تبين بوضوح اليوم، قد عمل معولا لتدمير سورية، وفرط عقد شعبها، وتشتيته، وإرساله، بمساعدة طهران، ملايين النازحين واللاجئين إلى أوروبا والعالم، فقد كانت طهران، وحكومتها الحريصة على حقوق الإنسان من الانتهاكات الأميركية الخطيرة لها، هي من دون شك اليد البديل التي استخدمتها تل أبيب، للقيام بالمهمة عوضا عنها. واستغلت من أجل ذلك العزف على عظمة الأمة الإيرانية الغالية على قلب روحاني ومليشياته، وشجعتهم بنأيها عن النفس، وتركها الحبل ممدودا لهم، كما كانت واشنطن قد شجّعت صدام حسين في 1991 على غزو الكويت، على أساس أنها لا تتدخل في النزاعات العربية. في النهاية، ليس أمام طهران اليوم لإنقاذ مشروعها الامبريالي الرثّ إلا التفاهم مع تل أبيب، والتعاون والتنسيق معها، وهو ما يلوح في الأفق، ولو عن طريق الوسيط الروسي، أو الاستمرار في لعب ورقة الخراب الشامل، كما عرّفنا عليها وزير الداخلية، عبد الرضا رحماني فضلي، ناسيا عمدا التهديد بسيف الإرهاب الذي كانت إيران أول من عمم استخدامه في العلاقات الدولية، بالإضافة إلى ملايين اللاجئين وأطنان المخدرات.
ألم يعد يوجد في هذا البلد العريق رجل حكيم أو رشيد؟
ينقل الصحافي الأميركي، ديفيد أغناطيوس، في مقال له نشر في صحيفة واشنطن بوست الأسبوع الماضي، عن معارض سوري اتهامه الولايات المتحدة بـ"الخيانة"، وذلك لسماحها لقوات النظام السوري، مدعومة بغطاء جوي روسي كثيف، بشن هجوم واسع على الجنوب، والجنوب الغربي من البلاد، الخاضعيْن لسيطرة المعارضة إلى حد كبير، على الأقل إلى الآن. وحسب مصادر المعارضة السورية، أبلغتهم واشنطن، منتصف الشهر الماضي، أنها لن تتدخل لحمايتهم في الجنوب، في حال تقدمت قوات النظام إلى مناطقهم، على الرغم من تحذير قوي كانت إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، قد وجهته، شهر مايو/ أيار الماضي، لنظام بشار الأسد، بأنها ستتخذ "إجراءات حازمة ومتناسبة" للحفاظ على "اتفاق خفض التصعيد" في الجنوب السوري، وتحديدا في منطقة درعا على الحدود الأردنية. وكانت الولايات المتحدة وروسيا والأردن قد توصلوا، العام الماضي، إلى اتفاق لشمل مدينة درعا ضمن منطقة "خفض التصعيد" في الجنوب، وذلك في استكمال اتفاق إنشاء أربع مناطق لـ"خفض التصعيد" على مستوى سورية، اتفقت عليها روسيا وتركيا وإيران العام الماضي: إدلب، وريف حمص الشمالي، والغوطة الشرقية، والمنطقة الجنوبية. ومعلوم كيف ألغى النظام السوري، بدعم وغطاء روسيين، مناطق خفض التصعيد واحدة واحدة، كان آخرها الغوطة الشرقية، شهر أبريل/ نيسان الماضي، بحيث لم يبق الآن إلا المنطقة الجنوبية، وامتداداتها في الجنوب الغربي، على الحدود مع فلسطين المحتلة.
أكتب هذه السطور في ساعات الفجر الأولى ليوم الخميس (5/7) من شمال الأردن، الذي أزور الآن، وتحديدا مدينة إربد، من على بعد حوالي 35 كيلومترا عن مدينة درعا السورية، و45 كيلومترا عن بلدة طفس في ريفها. لا أسمع فحسب صوت القصف الذي تتعدّد أنواعه ومصادر أسلحته، بل يهتز البيت الذي أقيم فيه مرات ومرات في الساعة الواحدة من شدة القصف، ويرتج زجاجه، على الرغم من المسافة البعيدة نسبيا عن مواقع العمليات العسكرية. ولك الآن أن تتخيل نوعية (وحجم) العدوان الوحشي الذي يشنه النظام بغطاء جوي روسي، وبدعم من قوات إيرانية ومليشيات لبنانية وعراقية وغيرهما، على مئات آلاف من المدنيين السوريين العزّل، وهو ما دفع عشرات الآلاف منهم إلى النزوح نحو الأردن الذي أغلق حدوده أمامهم بذريعة عجزه عن استيعاب مزيد من اللاجئين. لا يمكن لمن يملك ذرة من ضمير وموضوعية أن يلوم المدنيين السوريين العزّل، في نزوحهم عن أرضهم طلبا لأمن بعيد المنال، وكرامة أصبحت مستباحة، فمجازر نظام الأسد وحلفائه في الغوطة الشرقية وحلب، وغيرهما، ما زالت حية وحاضرة بقوة.
وعودة إلى مسألة "الخيانة" الأميركية التي يتحدث عنها بعض زعماء المعارضة السورية، وهي تحمل كثيرا من الصِّدْقِيَّةِ. منذ انطلقت الثورة السورية عام 2011، ذهبت كل الوعود والتطمينات الأميركية لقيادات المعارضة أدراج الرياح. لم يكن الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، أشرف من ترامب. توعد النظام إن تجرأ واستخدم السلاح الكيميائي ضد شعبه، فكان أن استخدمه الأسد عام 2012، فمسح أوباما "خطه الأحمر"، وقايض دماء السوريين ببعض السلاح الكيميائي حماية لإسرائيل. ثمَّ إنه وعد بعض فصائلهم المقاتلة بالتسليح والدعم اللوجستي، لكنه حرمهم من الأسلحة الفتاكة، وتركهم حمى مستباحا لطيران النظام، ذلك أنه رفض تزويدهم بصواريخ مضادّة للطيران الحربي. ثمّ كانت الطعنة الأخرى التي وجهها لهم بدعم الانفصاليين الأكراد على حسابهم بذريعة محاربة "داعش"، وصولا إلى التدخل العسكري الروسي في سورية، عام 2015، الذي اكتفى أوباما حياله بالتنديد.
أما ترامب، وعلى الرغم من أنه أقدم مرتين على قصفٍ محدود لقوات النظام السوري، بعد ثبوت استخدامه غازات سامة، في ريف حمص الشرقي العام الماضي، وفي الغوطة الشرقية هذا العام، إلا أنه أوقف برنامج تدريب بعض الفصائل السورية المقاتلة وتسليحها، وعزّز من دعم الانفصاليين الأكراد. الأخطر من ذلك ما تسرب، في الأسبوعين الأخيرين، عن أنباء اتفاق أميركي – روسي – إسرائيلي، يسمح للأسد بالبقاء رئيسا، وهو ما تريده روسيا، مقابل أن تلجم الأخيرة النفوذ الإيراني في سورية، وهو ما تريده الولايات المتحدة وإسرائيل. لا تأخذ هذه المقايضة المدنسة في اعتبارها تضحيات السوريين، والجرائم التي ارتكبها نظام الأسد بحقهم، والتي لا تتوقف عند قتل مئات الآلاف من شعبه، ولجوء ونزوح أكثر من اثني عشر مليونا منهم، وتدمير معظم البلد، وتشظيته إلى مناطق نفوذٍ، تتصارع عليها قوى دولية وإقليمية، ومليشيات طائفية، وعصابات محلية. لا يهم هذا كله الولايات المتحدة، المهم الحفاظ على أمن إسرائيل، وهو ما تكشفه البنود المسرّبة للاتفاق المفترض، والتي تتضمن إبعاد إيران ومليشياتها مسافة ثمانين كيلومترا عن الحدود مع فلسطين المحتلة، والسماح لإسرائيل بحرية استهداف أي تهديد إيراني مفترض داخل الأراضي السورية. وفي المقابل، يبقى الأسد على رأس النظام، ويسمح له باستعادة السيطرة على المنطقة الجنوبية على الحدود مع الأردن، وعلى المنطقة الجنوبية الغربية على الحدود مع فلسطين المحتلة.
ما سبق كله أمور تؤهل الولايات المتحدة لتكون شريكا لنظام الأسد والروس والإيرانيين، والمليشيات التابعة لهم، في الجريمة بحق سورية وشعبها. ولكن لا ينبغي لهذا أن ينسينا جرائم أخرى ارتكبها قادة كثيرون في المعارضة السورية، وفصائلها المقاتلة، بحق ثورتهم. تشرذمهم منذ اليوم الأول وتنافسهم على القيادة. تصارعهم على مناطق النفوذ والوجهة الإيديولوجية للثورة. ورهن كثيرين منهم قراراتهم لعواصم عربية وإقليمية ودولية لا تريد الخير لسورية، ولا لثورتها. الثورة السورية موءودة، ومتآمر عليها في آن. الوائِدُ ليس أجنبيا، بل هو من أهل القضية والدار، أما المتآمر فقد يكون أجنبيا، وقد يكون من أبناء الدار. ظنَّ كثير من المعارضة أن تزلّفهم إلى الولايات المتحدة هو مفتاح نجاح الثورة، وظن بعض منهم أن كسب قلب تل أبيب أقصر الطرق لضمان الدعم الأميركي. لم يكن هذا ولا ذاك هو الطريق، وهذا ما أثبتته الأيام. ما زلت أذكر ذلك القيادي السوري المعارض الذي زارنا عام 2011 في الولايات المتحدة، ليحدّثنا بتباه عن اجتماع عقده في وزارة الخارجية الأميركية بشأن الوضع في سورية. لم يتردد ذلك المعارض في البوح لنا "إدراكهم" (أي بعض المعارضة) أن ما تريده الولايات المتحدة هو ضمان أمن إسرائيل، وَصَدَمَنا بالقول: تريد إسرائيل الثمن في الجولان، ونحن مستعدون لهذا الثمن من أجل نجاح الثورة السورية. ذلك لقاء عليه شهود، وأذكر يومها أني قلت للمعارض العتيد: الولايات المتحدة ليست جمعية خيرية، ولا هي تدار بهذه الطريقة، ونظام ضعيف يحكمه الأسد خير لإسرائيل من معارضةٍ لا يُعْرَفُ كنهها ولم تختبر.
على أي حال، ذلك زمن انقضى. لم يكن جُلُّ المعارضة السورية ممن راموا المتاجرة بوطنهم وقضيتهم، ورهنهما لتجاذبات إقليمية للتخلص من الأسد، لكن أولئك القلة أوهنوا الثورة، وخذلوا، بل وخانوا الشعب السوري العظيم الذي سطر واحدةً من أعظم ملاحم التمرّد على طاغية دموي، وحلفائه المتوحشين، في العصر الحديث. وحتى انتصار الثورة، نقول: لك الله، يا سورية، وذلك بعد أن تخلى عنك القريب قبل البعيد.
ما يعيد الحقوق لجميع اللبنانيين يبدأ بنبذ كل سلاح غير شرعي، وصولا إلى الاعتراف بأن هناك حقوقا للبنانيين جميعا ضمنها اتفاق الطائف، رغم وجود بعض الثغرات فيه.
ليس معروفا هل إصرار “حزب الله” على تشكيل حكومة لبنانية على مقاسه مرتبط بقراءة خاطئة للموازين الإقليمية أم أنّه عائد إلى حاجة إيرانية إلى إثبات أن لبنان ورقة في جيب طهران ليس إلا؟
أن تسعى إيران إلى إثبات أن لبنان ورقة من أوراقها الإقليمية دليل ضعف وليس دليل قوّة. تستطيع إيران استخدام ورقة جنوب لبنان. ولكن ما الذي ستكون عليه نتيجة ذلك، خصوصا أن الجميع بات يعرف أن أي فتح لجبهة جنوب لبنان سيكون مختلفا إلى حدّ كبير عن حرب صيف العام 2006 التي سمحت فيها إسرائيل لـ“حزب الله” بالانتصار على لبنان واللبنانيين لحسابات خاصة بها. ليس سرّا لدى كل من لديه علاقة بالسياسة الدولية والإقليمية، من بعيد أو قريب، أن أي حرب جديدة يمكن أن يتسبب بها “حزب الله” ستعود بكارثة على البلد. كارثة بكلّ معنى الكلمة، خصوصا في ظلّ وجود إدارة أميركية ليست مستعدة لممارسة أي نوع من الضغوط على إسرائيل. على العكس من ذلك، تبدو هذه الإدارة في توافق تام معها. لا حاجة إلى دليل على ذلك أكثر من دليل الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأميركية إلى المدينة المقدّسة.
يثير ما نشهده حاليا في لبنان من مناورات يقف خلفها “حزب الله”، من بعيد طبعا، تساؤلات في شأن السبب الحقيقي للإصرار على أن يقبل الرئيس سعد الحريري بما لا يستطيع القبول به بأيّ شكل… أي بحكومة تعاني في تركيبتها من خلل كبير تعبّر عنه الرغبة في تهميش “تيار المستقبل” و“القوات اللبنانية” و“الحزب التقدمي الاشتراكي” الذي يتزعمه الزعيم الدرزي وليد جنبلاط.
من يضغط في اتجاه تشكيل مثل هذه الحكومة لا يعرف أنّ مثل هذه المناورات مرفوضة، وأن اللبنانيين الذين انتفضوا على الوصاية السورية في 2005 لن يرضخوا للوصاية الإيرانية في السنة 2018.
قبل كل شيء، لا تسمح تركيبة مجلس النواب الجديد باعتبار أن هناك أكثرية وأقلّية، اللهم إلا إذا اعتبر “التيّار الوطني الحر” نفسه من ضمن النواب الـ74 الذين يرى الجنرال قاسم سليماني قائد “فيلق القدس” في “الحرس الثوري” الإيراني أنهم يمثلون الكتلة الإيرانية في البرلمان. إلى إشعار آخر، لم يصدر عن “التيار الوطني الحر” وعن رئيسه جبران باسيل ما يؤكّد ذلك. لكن الملفت أن كلّ تصرفات باسيل توحي بأنه ليس بعيدا عن هذا الجوّ الذي يعكس، إلى حد كبير رغبة، في تصفية حسابات قديمة مع سمير جعجع من جهة، ورغبة أخرى في الخروج عن اتفاق الطائف من جهة أخرى، وذلك من باب الحساسية الزائدة تجاه أهل السنّة وما يمثلونه على الصعيد الوطني والإقليمي.
بكلام أوضح، ليس من مصلحة لبنان الدخول في مغامرة من هذا النوع في وقت بات معروفا أن سعد الحريري، الذي بات كتاب التكليف في جيبه، لا يستطيع بأي شكل أن يرأس حكومة يشكلها له “حزب الله”.
إنّ الطفل اللبناني يعرف أن ثمّة حاجة قبل كلّ شيء إلى احترام اتفاق الطائف، وليس العمل على تقويضه من منطلق مقولة “العهد القوّي”. يمكن لأيّ عهد في لبنان أن يكون قويّا في حال التفاف اللبنانيين بكلّ طوائفهم حوله. يكون العهد قويّا عندما تتشكل حكومة قوية متوازنة وفاقية تأتي بمساعدات عربية ودولية قبل أيّ شيء آخر. وهذا يعني في طبيعة الحال مراعاة الأصول والقواعد والدستور، بدل الكلام الذي لا معنى له عن استعادة حقوق المسيحيين أو إعادة النازحين السوريين إلى أرضهم من دون مراعاة للوضع في الداخل السوري ولمواقف المنظمات الدولية المختصة التابعة للأمم المتحدة، في مقدّمها المفوضية العليا لشؤون اللاجئين. الأهم من ذلك كله أن القوي فعلا لا يستقوي على اللبنانيين الآخرين بسلاح “حزب الله” غير الشرعي. لا يمكن للبناني عموما وللمسيحي خصوصا تحقيق انتصارات من أيّ نوع بالاعتماد على سلاح غير شرعي تشهره ميليشيا مذهبية ليست، في نهاية المطاف، سوى لواء في “الحرس الثوري” الإيراني.
وحدها لغة المنطق تجعل العهد قويا. والمنطق يقول إن من الضروري تشكيل حكومة يتمثل فيها الجميع وتضمّ كفاءات، وليس حكومة يتمتع فيها “حزب الله” بأكثرية الثلثين لتمرير أمور خاصة به وبإيران.
يخطئ من يعتقد أن “حزب الله” يمتلك أيّ مشروع ذي طابع حضاري للبنان. كلّ ما يهمّ الحزب هو استرضاء إيران وتعويض الخسائر التي لحقت بها على كلّ صعيد، بدءا بإيران نفسها. لو كان لدى النظام الإيراني نموذج يقدّمه للإيرانيين أوّلا، لما كان ما يزيد على نصف من المواطنين في هذا البلد الغنّي يعيشون تحت خط الفقر. لا يمتلك النظام الإيراني سوى آلة قمعية متطورة يستخدمها في مجال نشر البؤس والتخلف والفساد على كل صعيد. أما في الخارج، فلا يمتلك النظام الإيراني سوى الهرب المستمرّ إلى الأمام مستخدما أدواته المتمثلة في الميليشيات المذهبية التي يستثمر فيها منذ سنوات طويلة.
يندرج السعي إلى فرض حكومة لبنانية تكون بإمرة “حزب الله” في سياق الهرب الإيراني إلى الأمام. يريد النظام الإيراني أن يقول للإيرانيين إنّه يسيطر فعلا على بيروت التي أدرجها في قائمة العواصم العربية التي يتحكّم بها، أو على الأصح التي يعتقد أنّه يتحكّم بها. أضاف بيروت إلى بغداد ودمشق وصنعاء وذلك مباشرة بعد سيطرة الحوثيين على العاصمة اليمنية في الواحد والعشرين من أيلول – سبتمبر 2014.
ليس طبيعيا أن تتشكل في لبنان حكومة غير طبيعية وذلك بغض النظر عمّا إذا كان المشروع التوسعي الإيراني يتقدّم أو يتراجع. الواقع الأقرب إلى الحقيقة أن هذا المشروع يتراجع. لم تتحمل إيران انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق في شأن برنامجها النووي، كيف ستتحمل العقوبات الجديدة التي ستخنق صادراتها النفطية. لم تتحمّل مقتدى الصدر في العراق. ألغت نتائج الانتخابات لمجرّد ظهور توجه شعبي، لدى الشيعة خصوصا، يرفض الهيمنة التي تمارسها طهران على السياسيين العراقيين.
بعض التواضع أكثر من ضروري لبنانيا. لا حاجة إلى الدخول في تفاصيل الوضع السوري والمأزق الإيراني هناك والذي في أساسه أن لا وجود لأيّ قوة إقليمية أو دولية على استعداد للقبول باستمرار الوجود العسكري الإيراني في أرض سوريا.
كيف يمكن إيجاد ترجمة للتواضع اللبناني على الأرض؟ يبدأ ذلك بالاعتراف بأنّ سلاح “حزب الله” لا يعيد للمسيحيين حقوقهم، هذا إذا كانت للمسيحيين حقوق مغبونة بالفعل. ما يعيد الحقوق لجميع اللبنانيين يبدأ بنبذ كلّ سلاح غير شرعي، وصولا إلى الاعتراف بأنّ هناك حقوقا للبنانيين جميعا ضمنها اتفاق الطائف، على الرغم من وجود بعض الثغرات فيه. الخروج من الطائف عبر تشكيل حكومة بطريقة مضحكة تستهدف إظهار أن الكلام عن “العهد القوي” يمثل خروجا إلى المجهول، أي إلى “المؤتمر التأسيسي” الذي دعا إليه منذ سنوات عدة الأمين العام لـ“حزب الله” حسن نصرالله. إنّه الطريق الأقصر إلى المثالثة بين الشيعة والسنّة والمسيحيين، بدل المناصفة بين المسلمين والمسيحيين.
هل هذا المطلوب حاليا من وراء كلّ الضغوط غير المباشرة التي يمارسها “حزب الله” لتشكيل حكومة ترضي إيران في لبنان؟