توصف السياسة الخارجية الأميركية بأنها سياسة الخطط البديلة والسيناريوهات المتزامنة، بينما يُعرف عن النظام الإيراني تفضيله دبلوماسية اللحظة أو الفرصة الأخيرة، وبراعته في عمليات المراوغة والتشتيت والتظليل لإضعاف تركيز الخصوم على طبيعة ومستوى التنازلات، وحصر طموحاتهم في الحصول عليها أولاً. فأي المدرستين ستنجح في تحقيق غاياتها.
من منظور شامل للمسألة الإيرانية، وبحسب تقدير يتَّفق عليه عددٌ كبيرٌ من خبراء الشأن الإيراني، يمكن القول إن سيناريو تغيير النظام الإيراني يبقى وارداً في حدود عمليات الإصلاح أو إعادة التأهيل، لكن إطاحة النظام خيار قد يكون مستبعداً، أو غير وارد في المدى القريب على الأقل؛ إذ لا مصلحة للأطراف الدولية فيه، بل إنه يضيف إلى الأعباء الدولية، ويُعمِّق خسائر المنطقة وأزماتها. ولكن إذا اضطر العالم، نتيجة استهتار النظام الإيراني فسيفعل ذلك.
من جانب آخر، تعيش قوى المعارضة الإيرانية في الخارج حالة نشطة من التحضير والاستعداد لخلافة النظام، وهناك مساعٍ من جانب أطياف المعارضة للوصول إلى جبهة مشتركة وفق تراتبية متفق عليها للأدوار. ويبدو أن هناك من أقنع المعارضة الإيرانية في أميركا بأن الولايات المتحدة لم تعد ترى في النظام الإيراني طرفاً يمكن التفاوض معه، أو الوثوق بالتزاماته أو تنازلاته التي قد تنشأ عن العملية التفاوضية. ويبدو كذلك أن المعارضة الإيرانية واثقة من أن هذه الموجة من التصعيد بين إيران وأميركا، ليست كسابقاتها.
داخلياً، بات من الواضح أن مُحرِّكات الغضب في الشارع الإيراني لا تزال فاعلة. وأن أزمات النظام البنيوية ستبقى تتناسل وتتفاعل في المدى القريب؛ وبالطبع تسهم العقوبات، والضغوط الدولية، إلى جانب الحلول الاقتصادية النيوليبرالية التي تتبناها الحكومة في تعميق الأزمة. وتُمثّل الاحتجاجات التي حدثت مؤخراً استكمالاً لاعتراض «طبقات اجتماعية بعينها» على «السياسات النيوليبرالية» التي يطبقها الفريق الاقتصادي للرئيس روحاني في مساعيهم لإصلاح الاقتصاد، والتي أفرزت موجات من التضخّم، وتسريح أعداد كبيرة من العمال، وتقلبات في سعر العملة الوطنية.
وتؤكد الدروس المستفادة من تجارب الاحتجاجات الشعبية الكثيرة التي شهدتها إيران خلال العقود الماضية، أن النظام ينجح لسبب ما في إخماد الاحتجاجات، ومَنْع انتشارها، أو توسعها بشكل يهدد بقاء النظام. كما ينجح في تفتيت المعارضات وتصفيتها، وتفكيك حواضنها الاجتماعية. ولعله بات من الضروري تحليل أسباب هذا النجاح، وبخاصة في ضوء حقيقة أن النظام الإيراني صدّر هذه الخبرات التخريبية أو استعملها خارج حدوده في كل من العراق وسوريا. وجانب الخبرة هنا مهم جداً، وكذلك مسألة استغلال النظام الإيراني للانقسامات الطبقية أفقياً وعمودياً، وحالة القطيعة السوسيولوجية بين إيران المركز، وإيران الأعراق والأقليات والأطراف.
وعلى سبيل المثال، في احتجاجات ديسمبر (كانون الأول) 2017، ظلت طهران هادئة إلى حدّ كبير، نتيجة إحجام الطبقات المتوسطة والبرجوازية عن المشاركة في الاحتجاجات، في حين تركزت احتجاجات خلال اليومين الماضيين في أسواق العاصمة طهران، حيث تصدّر المشهد تُجّار البازار من الطبقة البرجوازية.
في المقابل، يفيد استقراء المشهد السياسي الإيراني الداخلي حالياً، بأن النظام الإيراني لم يعد قادراً على حشد وتوحيد الجبهة الداخلية كما في السابق، وأن الحديث عن مصالحة وطنية أو تلاحم وطني في مواجهة الضغوط الخارجية صار متأخراً؛ إذ تعاني الأطراف المتصارعة في الداخل من أزمة ثقة، ويعاني النظام ككل من تراجع ثقة الشارع بشكل كبير.
ويبدو خيار الإطاحة بالرئيس حسن روحاني وحكومته أصبح محتملاً في حال أخفق في حماية الاتفاق النووي، أو في حال عدم قدرته على تجاوز الخلافات مع خامنئي والحرس الثوري حول سبل مواجهة الضغوط الأميركية. وفي ضوء الدعوات من جانب قيادات ووسائل إعلام أصولية في طهران إلى ضرورة إطلاق يد الحرس الثوري أكثر، وتفويضه بصلاحيات حكومية واسعة لإنقاذ الوضع الراهن في إيران، يبدو أن النظام بدأ التمهيد لمثل هذه الخطوة، وقد يجد النظام أنه لا مناص من إقالة الحكومة الحالية، وفرض حكومة شبه عسكرية تقود البلاد حتى إشعار آخر.
خلاصة القول، إن دينامية «الأزمات المتناسلة» ستبقى نشطة في إيران، اقتصادياً وسياسياً، لكن ذلك لا يعني أن النظام الإيراني بات على مشارف السقوط، أو أنه قابل للانهيار قريباً. وبناءً على هذه القراءة، لا يبدو من المجدي التركيز على الإجراءات والممارسات الهادفة إلى إطاحة النظام، أو المراهنة على ثورة داخلية ضده. بل إن الأجدى والأهم في الوقت الراهن، هو تعميق أزمة النظام، ومفاقمة خسائره السياسية والاقتصادية، ومنعه من التحايل على العقوبات الاقتصادية الأميركية أو الالتفاف عليها.
وبهذا فإن النظام الإيراني سينهك في النهاية، وسيستسلم لا محالة في نهاية المطاف، ويكف عن عبثه وتدخلاته السافرة.
في إحصاءات أخيرة، تبيّن أنّ 40 مليون إيراني «يحتاجون إلى مساعدة»، و«20 مليونا تحت خط الفقر»، أي نسبة 70 بالمئة من الشعب الإيراني في حال العوَز، والقلق، والخوف من المستقبل.
حجم كبير بالنسبة إلى بلد نفطي، ويتمتع بمقومات اجتماعية، واقتصادية، تمَّ إضعافها، أو استلابها، أو مصادرتها أو نهبها. وهذا يقودنا بالمقابل إلى احتكار طبقة من الحكام، وزبائن النظام، وخامنئي بالذات، وبالأخص الحرس الثوري، وكل المقدرات المنتوجة، وجعلها «ملكيات» خاصة لهذه «الأقلية المُتسلطة»: تُقدّر ثروة خامنئي بـ200 مليار دولار، وتقدّر مشاريع الحرس الثوري، ومردودها، بمئات المليارات. إنها الثروة الوطنية والإنتاجية المُحتكرة أقصت وإلى حدّ كبير الممثلين التاريخيين عن المشاركة في استثمارات الاقتصاد على مختلف صُعده. هذا الاحتكار طمس قوى الإنتاج، والاستهلاك، الفردية والجماعية والشركات من أهل السلطة وزبانية النظام.
يضاف إلى ذلك الآثار العميقة التي خلّفتها حروب تصدير الثورة إلى العالم، وخصوصاً العالم الإسلامي والعربي، لتحقيق «حلم» إيديولوجي فاشل يُرمز إليه بـ«الهلال الشيعي»، والذي تمثّل حروباً مذهبية مدمّرة في عدّة بلدان إسلامية عربية كالعراق وسوريا ولبنان واليمن، مما سجّل إهداراً لا مثيل له للمال العام، الموارد والميزانيات، والخسائر والتي تُقدر أيضاً بمئات المليارات.
وكان الشعب الإيراني هو الذي يدفع ثمن فساد النظام، وتدهور الاقتصاد، وتهاوي العملة الوطنية بنسبة 120 بالمئة في أقل من عام.
كان الدولار يساوي في بداية العام الحالي 42 ألف ريال وتجاوز في حزيران 90 ألفاً..
ثورة 2009
والكل يعرف أن ثورة 2009 كانت سياسية رداً على تزوير الانتخابات الرئاسية لصالح أحمدي نجاد، ولهذا لم يكن الوضع الاقتصادي مؤشراً لتحركات، وإذا كانت ثورة 2009 قد قُمعت بالنار والحديد، وسجن بعض مؤسسي الثورة الإيرانية ككروبي وموسوي، واضطهاد منتظري، فإن وضع البلاد اتخذ بعد ذلك منحىً جديداً: تصدير الإيديولوجيا المذهبية بالحروب والدمار والخراب، حتى بدأت معالم نتائج هذا الإهدار لموارد البلاد وأسسها الاقتصادية قبل عدة سنوات. وهنا بالذات اتخذت الحركات الاحتجاجية وجهة مزدوجة: اقتصادية وسياسية.
اقتصادية بسبب ازدياد الفقر والعوَز (مع ازدياد الفساد)، وسياسية متصلة بها وممثلة بالأحلام السياسية الامبراطورية التي تحوّلت كوابيس ضاغطة على مختلف الطبقات الاجتماعية، وهذا ما أدى إلى امتزاج السياسي والاقتصادي والمالي والأخلاقي في منظور أغلبية الشعب الإيراني. فإلى القمع الداخلي، وجنون سياسي في الخارج، عبر إيديولوجيا فارغة، مذهبية، بلا مضامين، سوى ما تقدمه إلى أهل السلطة من مشاعر التفوق، والعظَمَة الباطلة، والتي «تبلورت» في مشاريع حروب منهجية مدمرة. دفع ضحايا جنون النظام من العرب والإسلام أثماناً، ودفع، في التوازي أثمانها الباهظة الشعب الإيراني كلّه. غير أنّ الضحية مزدوجة والانتحار مزدوج. وقد زاد الطين بلّة انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي الذي أبرمه أوباما والنظام، واعتبر لاغياً، وما أعقبه من عقوبات اقتصادية أعلنها ترامب على النظام.
الذروة
هنا بلغت الأزمة ذروتها.. ووجد النظام نفسه وشعبه معزولين وحدهما عن العالم: ويعاني الأول من فقدان أهليّته في قيادة البلاد، والثاني يعاني نتائج هذا التهوّر: فالشعب الإيراني وجد نفسه قريباً قرباً حميمياً من الشعب السوري الذي دمّر بلاده النظام وهجّره. أَوَلم يسبق أن هجر نظام الخميني (وقتل) حلفاءه في الثورة ضد الشاه كحزب تودة ومجاهدي خلق، والليبراليين والقوميين. أَلم يهجّر الخميني نفسه مئات الألوف من الشعب الذين اعتبرهم من إرث نظام الشاه، وها هم مشرّدون في بقاع الأرض؟
البازار
في ثورة 2009 (المتأثرة عميقاً بثورة الأرز) وما تلاها من تحركات شعبية. بقيت سوق العمل البازار وهو أحد المحركات الأساسية للاقتصاد الإيراني على حدة». لكن، وللمرة الأولى منذ ثورة الخميني، نزل إلى ساحة الاحتجاج.
وإذا كانت تحركات 2009 انحصرت في طهران فإن التحركات اللاحقة عمّت العديد من المدن الإيرانية لا سيما الريفية التي كانت تُعتبر الخزان الكبير للنظام. فمنذ تهاوي العملة المحلية، التي وصل فيها الدولار إلى أكثر من 90 ألف ريال، والإجراءات الفاشلة لكبحه، وبات النظام أعزل: تضاعفت الاحتجاجات بدخول البازار في صفوفها، وكذلك بعض قوى النظام، وبات الشعب أمام أبواب جديدة تتجاوز المطالب المطروحة إلى تغيير النظام نفسه. وإذا كانت شعارات مثل «فليسقط الدكتاتور» (أي المرشد الأعلى)، أو «فليسقط نظام الملالي»، قد رُفعت في احتجاجات عدّة سابقة، فإنها تتصاعد اليوم بقوة: ماذا يبقى من شرعية نظام خسر كلّ حروبه الخارجية (التي دفع الشعب أثمانها) في العراق وسوريا واليمن والبحرين، (وخسر الاتفاق النووي الذي كان يعوّل عليه بتعزية هذا الكيان الفاشل).
ماذا تبقى للنظام؟
ماذا تبقى للنظام من شعبه «وارث الثورة الخمينية» الذي هزّته النتائج الكارثية لرعونته. وقلّة تبصراته، واستشعاراته وأميّته، وفساده. الشعب اليوم في ضفة والملالي في ضفّة أخرى، يتصارعان على حلبات كثيرة، حتى وصل الأمر بالقيادات إلى تهديد المحتجّين بالإعدام والسجن والسحق، ليعبّر بعض أركان هذه القيادات بأن هناك مؤامرة أميركية لإطاحته، قافزاً فوق كل المعطيات المادية التي يعانيها الناس.
«هلاله» انكسر. وطموحاته الامبراطورية تهاوَت كعملته الوطنية، كأنما ذابت ثلوج الإيديولوجيا كذريعة للاستبداد وبانت حقيقته البائسة. فهل يعتمد «الملالي» ما اعتمده الأسد في سوريا لقمع ثورة شعبه بقتله وتهجيره وتدمير بلده؟ لقد عاد الخنجر الذي شهره على العالم العربي والإسلامي إلى نحره. فقد بدا واضحاً للناس وللعالم أن كل مشاريع هذا النظام التوسعية مدفوعة بغرور وعماء وصمم كاملة نوعاً من الانتحار المتعدد: للشعب العربي الإسلامي الذي دفع أثماناً باهظاً لغزوه، ولشعبه الذي وجد نفسه معزولاً عن العالم، ومفلساً، ووحيداً، أمام مصائره المجهولة، والنظام نفسه الذي بدأ يحصد ما زرعه.
تأثر الشعب بما حوله
وهل من المستغرب ألا يؤثر في الشعب ما يجري حول النظام من تغيرات في العالم، ومن تحولات، تعزز فيها إرادة الناس، أو تزدهر اقتصاديّاتهم، كالسعودية مثلاً: ففي الوقت الذي يستعد النظام السعودي بطموح ولي العهد محمد بن سلمان إلى مغادرة الكثير من التقاليد التاريخية، وفي مطلعها منع المرأة من قيادة السيارات، بالسماح لها، ليس فقط السيارات الخصوصية، بل العمومية أيضاً والشاحنات والطائرات (أي المرأة العاملة المنتجة) والدراجات النارية وسائر وسائط النقل.
إنه انتصار رمزي للمرأة السعودية وللنظام. أولم يتأثر الشعب الإيراني بخطة السعودية الاقتصادية لما بعد مرحلة النفط والاستعداد لها؟
ألم يتأثر الشعب الإيراني بلبنان الذي يحقّق شعبه (برغم ظروفه القاهرة)، انتصارات «ديموقراطية» وتنامي الحريات الفردية؟ ألم يتأثر الشعب الإيراني بما تحقّقه الإمارات الخليجية من تطور اقتصادي ومن رفاهية لشعبها؟ ألا يتأثر الشعب الإيراني بنجاح الثورة التونسية، لتطوير نظامها نحو مزيد من الحريات وأشكال التنافس السياسي الحر؟ ألم يتأثر الشعب الإيراني بتعافي الاقتصاد المصري بعد أزماته الكبيرة؟ ألا يتأثر الشعب الإيراني بالنمو الاقتصادي والسياحي في المغرب العربي، وبالدستور السياسي القائم على حريات التعبير، وإنشاء الأحزاب الموالية والمعارضة؟
ومن ناحية أخرى، ألم يتأثر الشعب الإيراني أولاً بالانتفاضات الفلسطينية المتعاقبة ضد الاحتلال الصهيوني؟ بل ألم يتأثر بالشعب الأوروبي (وحتى الأميركي) الذي يمتلك ناسه الحرية بالحركة، والاستثمار، والاختيارات السياسية وبوجود أنظمة ودول ترعى حرّياتهم ومصالحهم؟
ينظر الشعب الإيراني حوله إلى العالم القريب (العرب الذين يشيطنهم النظام ويهّجرهم ويقتلهم نظامه) وإلى العالم الأرحب؟ أَوَليس من الطبيعي أن يقارن بين أوضاعه المزرية التي تفتقد كل ما يصنعه الآخرون من حوله؟ وماذا يرى: هناك ثقافة الحياة، والحرية، والتقدم، والسلم الاجتماعي، وعنده ثقافة الموت، وحروب الماضي، وتخيلات توسعية لم ينتج عنها سوى الموت والقتل والعذاب والخراب؟
وماذا يرى: مرشداً بلبوس التقوى، والسلطة المطلقة والجنون المتفلت، وضعف المقدرات العلمية والسياسية.
وماذا يرى: حرسا ثوريا فاسدا، سارقا، قامعا. يعامل شعبه بمثل ما يعامل الشعوب الأخرى التي «استنسبها مع مرشده» عدوا وشيطانا، يجب محوها؟
يفتح الشعب الإيراني يديه فإذا بهما فارغتان. وعيونه فإذا بها مظلمة، وحاضره فإذا به مسدود؟ ومستقبله فإذا به مجهول، وتاريخه فإذا به مزوّر، وحضارته السابقة فإذا بها مدمرة..
ماذا يفعل هذا الشعب عندما يُطالب النظام بحقوق القرن الحادي والعشرين، فيجيبه بعقلية القرن العشرين، ثم يقترح عليه حلولا من القرن التاسع عشر؟
فالتفاوت الزماني والمكاني يتعمّق بين شعب يريد أن ينضم إلى مسار العالم الحديث وبين نظام ما زال متجمّدا في مراحل ألفية عفا عليها الزمن!
وهل يبقى أمامه سوى الثورة الشاملة التي تتجاوز الأوضاع الاقتصادية والإيديولوجية والمطلبية الراهنة.. إلى ما هو شامل. أي إلى مسؤولية النظام الكاملة في وصول الأمور إلى هذه النقطة الفاصلة؟
لم يعد عند النظام ما يقدّمه. وإذا كان لا بدّ أن يقدّم شيئا نافعا للناس... فلن يكون سوى رحيله.
قبل سبع سنوات ونيّف، انطلقت من مدينة درعا السورية شرارة الثورة التي غيرت وجه سورية والمنطقة، حين كتب مجموعة من الأطفال عبارات مستوحاة من الحراك الشعبي الكبير في تونس ومصر. عبارات صبيةٍ كان نصيب كاتبيها القمع والاعتقال، وهو ما أثار حراكاً شعبياً ما لبث أن تمدّد في مختلف الأرجاء السورية، لتنقلب الأوضاع في البلاد رأساً على عقب، وتنحو قصة الثورة المنحى الذي وصلت إليه لاحقاً من تسليحٍ إلى دخول جيوش ومرتزقة من العالم إلى أراضي سورية لاقتسام النفوذ في البلاد.
من درعا قبل سبع سنوات كانت البداية، واليوم تعود درعا إلى الواجهة مع الحرب المدمرة التي يخوضها النظام السوري وروسيا على المدينة وريفها، في إطار محاولة إنهاء ما تبقى من "ثورة" وإعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه سابقاً. تسير الأمور، كما يبدو، وفق ما هو مخطط لها، وخصوصاً في ظل حديثٍ عن "صفقاتٍ" يجري الإعداد لها في الأروقة الأميركية والروسية، بالمشاركة مع الأردن وإسرائيل. تشير الصفقة التي سرّبت أجزاء منها محطة سي إن إن الأميركية، بوضوح، إلى أن ملامح النهاية التي تريدها الأطراف الدولية هي عملياً عودة إلى نقطة البداية، وربما إلى ما قبلها، فالحديث يجري عن إعادة تأهيل رئيس النظام السوري بشار الأسد، ونيله المشروعية الدولية التي حاول الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي، إعطاءه إياها، في مقابل الالتزام بالشروط الغربية الخاصة بالحفاظ على أمن إسرائيل وإخراج إيران وحلفائها من الأراضي السورية. وهذه المرة الضامنون لهذه التسوية/ الصفقة كفيلون بتطبيق بنودها، باعتبارهم الأطراف الأساسية على الساحة الدولية اليوم، والحديث هنا عن الولايات المتحدة وروسيا، بالإضافة إلى إسرائيل ودولٍ أوروبيةٍ تنشط في الساحة السورية.
عبارة "إعادة تأهيل الأسد"، كما هو وارد في التسريبات، تحمل معانٍ كثيرة، ربما أكبر من مجرد ضمان الأخير أمن إسرائيل، إلى الانخراط بشكل كامل في المعسكر الغربي، أو على الأقل مماثلة السياسة الروسية وتجاذباتها مع الولايات المتحدة وأوروبا، والتي لا تصل إلى حد القطيعة. قد يكون مبكرا الحكم على المسار الذي ستأخذه "إعادة التأهيل"، غير أن المؤكد هو أن العمل قائم على إنهاء وجود المعارضة السورية بشقّها المسلح، وضمان سيطرة النظام، بالحد الأدنى، على كامل الأراضي السورية، من دون أن يتداخل ذلك مع القواعد العسكرية الموجودة للقوى الأجنبية، وخصوصاً الروسية، والتي يبدو أن بقاءها سيستمر طويلاً.
في ظل هذه التفاصيل، إن صح بعضها على الأقل، ستأتي الصفقة بشكل أساسي على حساب السوريين الذين انتفضوا ضد النظام، وطالبوا بالإصلاح، فالأمور تتجه إلى العودة إلى المربع الأول مع إغلاق الباب نهائياً أمام أي احتمالاتٍ للتغيير، ولو طفيفة. إذ من الواضح أن الغرب عموماً، والولايات المتحدة خصوصاً، قد ضاق ذرعاً بالأزمة السورية وتداعياتها، وانعكاساتها، ولا سيما في ملف اللاجئين الذي يثير أزمة في أوروبا، وهو يسعى بأي شكل إلى إعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه سابقاً، علّه يتخلص من أعباء اللجوء، خصوصاً أن بعض الدول غيرت قوانين اللجوء لديها، بحيث لم يعد هناك لاجئ دائم، فالبقاء مرتبط بتطور الأوضاع في البلاد الأصلية، وعودة الهدوء تعني عملياً عودة اللاجئ، وهو ما تصبو إليه دول أوروبية عديدة.
لكل من الأطراف حساباته الخاصة، والتي لا تصب في صالح الشعب السوري، وتحديداً الجزء المعارض منه، والذي يترقب تطورات الأوضاع في درعا، وما إذا كانت المدينة ستكون بوابة النهاية، كما كانت شرارة البداية.
الزمن في سورية لا يداوي الجراح، بل يصنعها ويبتكرها يوما بعد يوم، وأكبر عنوان للألم السوري المُتجدد هم أطفال سورية، من يتأمل وجوههم في مخيمات اللجوء البائسة، أو وجوههم وعدسة الكاميرا تلاحقهم، لإعداد برامج عنهم، وهم مادةٌ خصبةٌ للربح، يُصاب بالذهول، إذ على الرغم من هول معاناة هؤلاء الأطفال، فإنهم لا يزالون قادرين على الابتسام وعلى اللعب، وعلى التحدّث عن طفولتهم التي سُرقت منهم، وحل مكانها إحساسٌ دائمٌ بالخوف والذعر. من يتأمل وجوههم بعمق يدرك أنهم أطفال نعمة، كانوا يعيشون تحت سقف، ويلعبون مع رفاقهم في حديقةٍ لم تُحرق أشجارها، ولم تتحول إلى سور من الحواجز، أو كانوا يلعبون في باحة مدرسةٍ، وهم باللباس المدرسي الأنيق النظيف، وفي حقيبتهم المدرسية كتب ودفاتر وقصائد فرح وسندويشات شهية.
من يتأمل وجوه أطفال سورية النازحين المُروعين من هول الإجرام يرى ما لا يُرى، يرى أبعد من الواقع المُخزي الوحشي، يرى طفولةً منطويةً على ذاتها، مختبئة في دهاليز الروح العميقة، تقتات على ذكرياتٍ رائعةٍ، قُصفت بومضة عين. تشعر أن هؤلاء الأطفال يتذكّرون طفولتهم الآمنة كل لحظة، ينطوون على ذاتهم، ويهربون من الواقع الذليل المهين، باستعادة ملامح من طفولةٍ آمنةٍ عاشوها ذات يوم، وصارت بعيدةً عنهم، وكأن دهرا فصلهم عنها، لكنهم لا يزالون يحتفظون بأناقة أرواحهم الطاهرة، وفرح الطفولة الخام النقي.. لا يزالون، على الرغم من الألم الشديد الذي يفوق قدرتهم على الاستيعاب (من حسن حظهم) قادرين على أن يعبروا من عتبة الألم إلى عتبة الحلم، إلى عالمٍ سعيدٍ آمنٍ، عرفوه يوما، حين كانوا لا يزالون يعيشون تحت سقفٍ، ويستحمون بماء ساخن، ويأكلون طعاما لذيذا، ويحلمون بمستقبل ومهنة وموهبة.
تلك الذكريات الأشبه بالوشم لا تزال محفورةً في ذاكرة أطفال سورية، تُقوّيهم، وتمدّهم بقوةٍ سحريةٍ على تحمل ما لا يُحتمل ولا يُطاق. لا يحتاجون دعما من الكبار. إنهم يستخفون بكل من يُعدّ عنهم دراساتٍ وبرامج، ومن يتفاصح لتقديم خطط لدعمهم نفسيا، وتخفيف الآثار الرهيبة للمجازر التي شهدوها!
يحتمي أطفال سورية بمخزون ذاكرتهم من موسيقى، وقراءةٍ ولعبٍ وحلم، ليهربوا من وحشية الواقع والبشر، يستنهضون قوةً مُذهلةً من أرواحهم النقية نقاء نور فجرٍ يبدّد ظلمات كثيفة، يرفعون نظرهم إلى السماء، ويتجاهلون سرب الطائرات التي تقصف، وترمي براميل مُتفجرة، ولا يرون إلا سرب عصافير تزقزق فرحا بالحياة. يتظاهرون بأنهم يحتمون بخيمةٍ، لكن مسكنهم الحقيقي طفولة بكامل بهائها وقوتها، لا تزال في قلوبهم الممتلئة بحب الحياة. القوة الحقيقية هي السعادة.
من يحدّق بدقةٍ في وجوه أطفال سورية يستكشف روحهم الحقيقية، صامدة قوية وأنيقة، تشع من وجوههم نعمة وأملا بالحياة. لستُ واهمة ولا أكتب إنشاءً. ولكن أعترف بكل نزاهة أنه لطالما أذهلتني وجوه أطفال سورية في مُخيمات النزوح، أو وجوههم والعدسة تصورهم كيف يحملون أكياسا وبقايا ألعاب، ويسيرون في طرقاتٍ وعرة تحت القصف، ووسط الجثث وأشلاء بشر. .. كيف لا يزالون يملكون القدرة على الوقوف والمشي، وعلى التحديق في الكاميرا والابتسام، ابتسامة من يتجاوز الكارثة، من يترفع عنها ويحتقرها، ولا يعترف بوجودها. لا يُنسى مشهد طفلة في الثالثة من عمرها تسير خلف والدتها وإخوتها، يذرعون الآفاق سُدى، آملين الوصول إلى مكانٍ لا رصاص فيه، ولا دبابات، ولا براميل مُتفجرة. توقفت تلك الطفلة لحظاتٍ، لتُحكم وضع ربطة شعرها، بعد أن سرحته بأصابعها البضّة. لعلها كانت تتخيل مرآتها الصغيرة في بيتها الآمن، قبل أن ينهار سقفه على من فيه. طفلة في الثالثة من عمرها تملك القوة، لتمشي في طريق الحياة الوعرة، بعد أن شهدت المجازر. لا أنسى هبة الطفلة ذات السنوات العشر، والتي حكت لي كيف شاهدت الصاروخ يهدم بيت جيرانهم في حلب. دمعت عيناها، وهي تصف القطة الجميلة التي كانت تعيش معها في بيت آمن، هبة التي نزحت إلى اللاذقية، وعاشت مع أسرتها في خيمةٍ بائسةٍ، لكنها تقرأ طوال الوقت، وتحلم أن تصير طبيبة.
ترى في وجوه أطفال سورية، خصوصا من في مخيمات النزوح ما لا يُرى، ترى النعمة وأناقة روحٍ طفوليةٍ لم تتشظّ بالرصاص والأحقاد. تدرك أي قوةٍ هي الابتسامة، الابتسامة التي تعني رغبتهم في البقاء على قيد الحياة، وعيش حياة كريمة تليق بهم، واستعادة طفولةٍ ينتهكها العالم أجمع.
أطفال سورية، أطفال النعمة، يفضحون، بوجوههم السمحة الجميلة، انحطاط العالم الأخلاقي، ويؤكدون أن السياسة وعمل رجال العصابات شيء واحد، أو وجهان لعملة واحدة.)
لغتنا العربية من أجمل لغات الأرض وأغناها معاني وبلاغة وتورية.
بمقدور هذه اللغة أن تقدّم الهزائم على أنها انتصارات، والاستسلام على أنه كياسة، والخيانة على أنها بُعد نظر، والالتفاف على الحقائق وخداع الذات والآخرين على أنها من أصول السياسة التي هي «فن الممكن».
بالأمس، في بعض أقطارنا العربية المشرقية الجريح، حصرنا التعصّب والإرهاب بفريق دون آخر لا يقل عنه تعصّباً وميلاً للإرهاب. وفي أقطار مجاورة لها تأقلمنا مع احتلال أجنبي بواجهات محلية تزايد على الوطنيين الحقيقيين... بالوطنية والتحرير!
ومن ثم، في جو إقليمي مكفهر، غامض، رهاناته باهظة الثمن، وخطوط الرجعة فيه مقطوعة أو ممنوعة، اختلط التواطؤ الدولي مع سوء القراءة، وروّجت الأكاذيب على أنها مفاوضات، والمؤامرات على أنها مبادرات سلام، وفي الحصيلة النهائية ها نحن أمام واقع ديمغرافي مختلف.
التوصل إلى هذا الواقع الديمغرافي المختلف لم يفاجئ سوى شارعنا العربي الساذج الذي ما زال مأخوذاً بالشعارات البراقة. بل، أن قطاعاً منه ما زال يحاول الدفاع العبثي حتى بعد انكشاف المواقف، وعقد الصفقات الكبرى فوق أنهار الدماء وأشلاء الأوطان.
في سوريا تشير الأحداث المتسارعة في الجنوب إلى تصفية المجتمع الدولي مقاومة شعب انتفض من أجل كرامته. لقد احتاج المجتمع الدولي إلى سبع سنوات للقضاء على ثورة كرامة ضد نظام درجت دوائر القرار السياسي في الولايات المتحدة – تحديداً – على إدراجه سنوياً كداعم للإرهاب.
هذا النظام «الداعم للإرهاب»، وفق قوائم وزارة الخارجية الأميركية، بات الآن علنياً «الحل». الشريك الأمني «الضامن للاستقرار والاعتدال» في وجه الإرهاب، غدا علنياً ليس فقط «صندوق بريد» بين اللاعبين الإقليميين، بل صلة الوصل بينهم. ومن ثم، ما عاد أمام الشعب، الذي ثار أطفالاً وشباناً وشيباً قبل 7 سنوات، إلا الاستسلام لجلّاديه باسم «المصالحة» في قاموس سياسي جديد قديم.
في عددها بتاريخ الخميس 28 يونيو (حزيران) نشرت مجلة «الإيكونوميست» البريطانية الوقورة تقريراً متميزاً بعنوان «كيف يغير المنتصر بشار الأسد سوريا». وفيه تذكر باختصار أن الحرب «طردت المسلمين السنّة... وأن سوريا الجديدة أصغر حجماً، مدمَّرة، وأشد طائفية».
التقرير تضمّن أرقاماً ومعلومات عن عمليات التدمير والتهجير الطائفي والتبادل السكاني. وانطلاقاً من مدينة حمص، حيث حقق النظام بفضل التواطؤ الدولي أول «انتصاراته» الديمغرافية على شعبه، كتب التقرير: «حمص، مثلها مثل كل المدن التي أعادت الحكومة السيطرة عليها، هي الآن بحوزة أقليات سوريا المنتصرة: المسيحيون والشيعة والعلويون... هذه الجماعات تجمّعت وتكتّلت ضد الثوار، الذين هم بغالبيتهم العظمى من السنّة، وطردتهم من المدن. وبعد هؤلاء ألحقت بهم المدنيين السنّة الذين كانوا غالبية السكان. أكثر من نصف عدد سكان البلاد البالغ 22 مليوناً هُجّر – 6.5 مليون داخل سوريا و6 ملايين خارجها. جلّ هؤلاء من السنة».
هذه مجرّد فقرة من التقرير، وهي وإن كانت تعطي فكرة واضحة عن السياق العام، فإنها تلمح ولا تصرّح بأن المجتمع الدولي مرتاحٌ لما حصل ويحصل في سوريا. على الأقل، قادة أوروبا الغربية، يفضلون التطبيع مع ديكتاتور على أن يواجهوا طوفان لجوء جديد.
غير أنني أعتقد أن الصورة أكبر وأشمل من ذلك. أزعم أن مهمّة نظام حافظ ثم بشار الأسد لم تتغيّر. وأزعم أن الموقف الدولي من الإسلام السياسي السنّي، تحديداً، لم يطرأ عليه تغيير يذكر بين حقبة رئيس الوزراء البريطاني ويليام غلادستون في القرن الـ19... وعهد الرئيس الأميركي باراك أوباما في القرن الـ21.
المشكلة في الإسلام السنّي و«ثقليه» الديمغرافي والسياسي وانتشاره الجغرافي. الإسلام السنّي يشكل نحو 75 في المائة من مجموع مسلمي العالم، وهو الذي يتاخم أتباع الديانات الأخرى. إنه «الفزاعة» في الضمير الديني، وهو الإسلام المقاتل التي شُنّت «حروب الفرنجة» (الحروب الصليبية) لاسترجاع القدس منه. هو الذي غزا أوروبا مرّتين، الأولى في القرن الثامن الميلادي عبر إسبانيا وصولاً إلى فرنسا، والأخرى في القرن الـ15 مع فتح القسطنطينية (إسطنبول)... والتقدم بعد ذلك لـ«حصار فيينا» عام 1529م، وبعدها «معركة فيينا» عام 1683 التي استهلت حرباً عثمانية نمساوية طالت 15 سنة. وهو، أيضاً الإسلام «الانتحاري» – كما يؤمن أوباما – الذي شن هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 في قلب أميركا.
ومن ثَم، فإن «تحالف الأقليات» ليس شعاراً فارغاً. وهذا ما اتفقت على دعمه كل قوى العالم. من الصين التي تحارب توق الويغور السنة للاستقلال بإقليم سنكيانغ (تركستان الشرقية)، والهند التي بنى زعيمها الهندوسي ناريندرا مودي «شرعية» حكمه على مقاومته والتغلب عليه في بلد تسامح غاندي وديمقراطية نهرو... إلى الغرب الأوروبي والأميركي بتاريخه الطويل في مواجهة هذا الإسلام داخل آسيا وأفريقيا. وإن ننسى، فلا يجوز أن ننسى «قياصرة» روسيا القدامى والجدد في حروبهم مع الإسلام السنّي في حوض الفولغا والقوقاز وآسيا الوسطى، وأحدثها حرب الشيشان.
أوباما ليس وحده الذي برّر التحالف مع إيران، مع أن أحداً قبله لم يستخدم حجة أن نظام الملالي «ليس انتحارياً» مثل «القاعديين» و«الدواعش». ذلك أن هذه النظرة موجودة عند كثيرين، وإن كان هؤلاء – باستثناء فلاديمير بوتين – لم يصلوا إلى موقع القرار الدولي الحاسم.
وزيرة بريطانية سابقة زارت مكاتب «الشرق الأوسط» قبل سنوات قليلة، وتناقشنا معها حول الأزمة السورية. الوزيرة السابقة كانت في طليعة المتعاطفين مع الأكراد إبّان حملات الجيش العراقي ضدهم، كما كانت من مؤيدي إطاحة حكم الرئيس العراقي السابق وجامعي التبرّعات للعراق أثناء الحصار الذي سبق الغزو. إلا أنها بمجرد الكلام عن سوريا، دافعت عن الأسد، ورفضت أي مقارنة بين الحالتين العراقية والسورية، مكرّرة أن ليس هناك أمام السوريين إلا العودة إلى سوريا والعيش في ظل النظام.
هذا المنطق المقلوب نفسه، ردّده ويردّده كثيرون من القادة السياسيين والدينيين الغربيين.
هؤلاء هم الذين انتصروا في سوريا على شعبها اليوم.
وهؤلاء هم الذين يؤسّسون لراديكاليات خطيرة وهدّامة وحاقدة، العالم كله – وليس العالم الإسلامي فقط – بغنى عنها.
حين غنّى فهد بلّان لحوران لم يكن يدرك أن هذه الأغنية ستصبح ذكرى تجرّ آلاف المآسي والقصص والدموع، لم يكن يعلم أن هناك من سيعيد صياغة كلمات الأغنية لتصبح أكثر مواءمة مع الحدث؛ ليقول: عالبال بعدك يا سهل حوران، شرشف قصف ومطرز بنيران، عرسك شهادة ولمتك أحزان، وآني جريح أسأل عن الرفقة.
حوران مهد الثورة التي انطلقت في 18 آذار للعام 2011، لأول مرةّ منذ عقود طويلة يذوق الشعبب طعم الحريّة المفقود، ولم تكن هذه الحريّة مجانيّة بل دفع الكثير من أهل حوران دماءهم دفاعاً عن حريتهم وكرامتهم الإنسانية، ذلك أنّ صوت الشعب الثائر يزلزل عرش الطاغية الذي يعبد عرشه، وأمّا الزعماء الأحرار يرسّخ صوت الشعب عروشهم ويقويهم.
ربما لم يشهد التاريخ قائداً يشنُّ حرباً على شعبه، وليس هذا فحسب بل يستعين بالغرباء عليه، فيحرقون الأخضر واليابس، لا يراعي بذلك مدنيّاً أو مسلحاً، طفلاً أو عجوزاً، شاباً أو امرأة، الكل مستهدف، والكل إرهابي، والكل متورط ما لم يعلن الولاء! ولكن كيف لشعب جرّب الحرية وطار في سماها ليعود ويصافح قاتله؟ كيف لشعب ذاق ويلات سبع سنين ونيّف أن ينسى الإجرام والانتهاك والاعتقال الذي مارسه القاتل بحقّه؟
كيف يستكين وهو يعلم تماماً أن الحرب ما كنت لتقوم لولا أنّ القاتل يريد ذلك! وأنه بدل أن يحتوي بداية الاحتجاجات عمل على تأجيج نارها وإشعالها، وبدل أن يخرج للناس معتذراً بعد أول اعتداء على الشبان في درعا، خرج للناس ضاحكاً! فأوغلت ضحكته في جراحهم عميقاً، واستفزهم أكثر حين انتهك الأعراض وقام بممارسة التعذيب حتى الموت في السجون مما دفعهم إلى السلاح! ثم ليقول بعد ذلك: جماعات مسلحة! وعصابات إرهابيّة!
فإن كان الدفاع عن الشرف والكرامة إرهاباً فما أجمل الإرهاب! ولكن الدفاع عن الكرسي وقتل وتهجير وإبادة شعب كامل هذا إجرام لم تُحدد له تسمية بعد في اللغات! بعد مجازر حمص وتدمير حلب وتهجير أهالي الغوطة، جاء الهجوم على درعا بنفس الوحشية والناس أمام خيارين: إما الاستسلام والخضوع والذل، وإما الموت! ربما جاءت تسمية "ظالم" من الظلام فهو قابع في عتمة مطبقة لا يرى أي نور فيها، ولكنه سيصبح بصره حديداً حين تأتي ساعة لا يستطيع الفرار منها؛ إنّها ساعة الموت!
قد تتشابه القصص في سورية؛ وكثيراً ما استسلمتُ للدموع حين رأيت المجازر والفظاعات التي ارتكبها المجرم بحقّ شعبي، وكان أكثر ما يدمي قلبي هو قتل الأطفال! ولكني لم أستطع البكاء حين طالت يد القاتل أبناء أخي في قصف على منزلنا في المسيفرة بدرعا، فجرح الأطفال وقتل منهم طفلة لم تكمل شهرها الرابع مع خالتها الطفلة التي تبلغ عشرة أعوام، حاولتُ حينها أن أعبر عن حزني من خلال الكلمات فكتبت: لماذا الأطفال هم أكثر ضحايا الحروب؟ هل لأنّ أجسادهم طرية وغضة؟ أم أن القذائف التي يرميها المجرمون لا تستهدف سوى القلوب الصغيرة بالحجم الكبيرة بالحب؟ في كل حرب تكون الحجة دوماً هي استهداف إرهابيين! ولكن في الواقع يكون الهدف مخلوقات ألطف من أن تستوعب كلمة إرهاب وألطف من أن تدرك بشاعة هؤلاء القتلة!
ترى ماذا شعرت يا حبيبي الصغير حين أصابتك قذيفة حقدهم؟ كم هو حجم الرعب الذي أصاب قلبك وروحك وجسدك الغض؟ وكيف ستستقبل الحياة التي قدمت لك هذا الإجرام البشع الذي لم يوقف أحد طوفانه! أتخيلك وأنت تحتضن أمك وأخوتك وترتجفون جميعاً تحت وطأة القصف، لا تعرفون هل هذه آخر لحظات الدنيا أم أنكم ستنجون! وإن نجوتم... من يرمم الجروح في أرواحكم؟! ولكن أية كلمات تلك تعبّر عن عظيم المصاب!
حوران تواجه الطغيان على قارعة التاريخ المنسي
في حوران تتصافح رائحة الجوري مع رائحة التراب
فتنعش الروح وتمنح للقلب حياة فوق الحياة
تجدُ الحمامة رزقها في أي مكان
تنام العصافير مطمئنة فوق أعشاشها
ويُنثر الورد فوق الرخام
تقبّل قطرات المطر أوراق الشجر
لتتفتح في الربيع جوقة أشجار تغني للحب
ولكن هدم الظالم فيها مئذنة الحياة
فمات الجوري في أوج طلعته
وغادرت الطيور أعشاشها باكراً
وعُلّقت الصلاة..
وبكى المسجدُ روّاده
فأزعج أنينه المجرمين فقتلوه..
كما قتلوا كلّ شيء
إلا عزيمة في النفوس
يشعُّ ضوؤها كلما اشتدّ الظلام
وما هذه الكلمات إلا غيض من فيض لا تفي المحنة حقّها أمام الإبادة بحقّ شعبي، والنزوح الذي ينذر بكارثة إنسانية إن لم يتدخل المجتمع الدولي، ويخرج عن صمته.
العنصرية والشوفينية ليستا ابتداعا لبنانيا، ولا وليدتي الأمس، وانما هما من خصائص الأنظمة الاستبدادية القومية والشعبوية التي عرفتها الشعوب على مر الزمن. غير أن الطاقم الحاكم اليوم في لبنان، وهو مزيج من شعبوية عائلية تسلطية وصبيانية رعناء، يحاول أن يمارس عنصرية وشوفينية لبنانية أقرب إلى نسخةٍ رثةٍ مما كانت تمارسه أنظمة حزب البعث البائد في المحيط، فمشكلة لبنان ليست تحويله إلى حكم العائلة والحاشية، ولا تحويله مزرعةً ينهب منها كل فريق من أفرقاء السلطة ما استطاعت يداه وأزلامه، وليست تقويض السلطة ومؤسساتها وزرع المحاسيب، وليست عقد الصفقات وتقاسم الحصص في قطاعاتٍ حيوية بملايين الدولارات على حساب أموال الخزينة، فيما يبقى اللبنانيون من دون كهرباء، ومن دون شبكة إنترنت فعالة وسريعة تلبي حاجات العصر، مع بنى تحتية مهترئة، وحتى النفايات تبقى في الشوارع.
الأسوأ من ذلك كله ليس الفساد المستشري والمعمّم، وليس انتقال إدارة الحكم من وصاية إلى أخرى، وليس استمرار اختيار تمثيل الناس، وتصنيفهم وشحنهم على أساس طائفي ومذهبي بغيض... مشكلة لبنان وآفته الكبرى بالنسبة للقابضين على السلطة تكمن في الوجود غير اللبناني. وتحديدا النازحين السوريين، وخصوصا مئات آلاف المعدمين المقيمين تحت الخيم كيفما اتفق، والذين يلهو صغارهم حفاةً بين الأوحال، وتحت الشمس الحارقة، يشربون المياه الملوثة، وينتظرون كسرة الخبز من موظفي الأمم المتحدة، وعناية جهود هيئات أهلية تطوعية. هؤلاء هم مشكلة لبنان الكبرى، بالنسبة لمتسلقين وانتهازيين من حديثي النعمة، سلطة ونفوذا ومالا. ويجب أن يرحلوا في أسرع وقت، وبأي طريقة، أي أن يرجعوا إلى تحت سلطة جلادهم ومشرّدهم، وليس العودة الطوعية والآمنة، كما تنص عليها قرارات الأمم المتحدة، وكل مؤتمرات الدول الاوروبية الممولة والراعية للنازحين، والداعمة للدول المضيفة لهم.
أما "النازحون" من أصحاب الأموال والمشاريع، ومن أصدقاء النظام وعاقدي الصفقات له وعنه، ومنهم من هو مطلوبٌ للعدالة، وملاحقٌ من الإنتربول الدولي، فهؤلاء مرحبٌ بهم، ويُصدر رئيس الجمهورية مراسيم خصيصا من أجل منحهم الجنسية اللبنانية. وقد حاول أحد أركان الحكم النافذين جدا، والممسكين بزمام الأمور، استعمال الوجود الفلسطيني فزّاعة للتهويل على اللبنانيين، مشبها ملف النزوح السوري بمأساة اللجوء الفلسطيني، للقول إن النازحين السوريين سيبقون في النهاية في لبنان، كما بقي مئات آلاف الفلسطينيين. وليس مهما التمييز بين قضية شعبٍ اغتصب وطنه، واقتلع من أرضه، وشعب شرّده وقتله نظامه الاستبدادي. وليس مهما بالتالي الخلط بين الأسباب والظروف والنتائج. المهم إثارة العصبية والشوفينية اللبنانية، للكسب السياسي والانتخابي الرخيص، عبر تغذية النعرات العنصرية والكراهية ضد السوري والفلسطيني الذي ينافس اللبناني على لقمة عيشه، وليس ضد النظام السوري الذي كان يمارس القمع ضد السوريين واللبنانيين على السواء، أو ضد المغتصب والمحتل الإسرائيلي.
لا يمكن لأحد أن ينكر أن النزوح السوري الذي بلغ نحو مليون ونصف المليون (ثلث عدد سكان لبنان) يثقل كاهل لبنان الذي لا قدرة له على تحمل أعباء ومستلزمات إقامة هذا العدد الهائل من البشر. لا اقتصاديا ولا خدماتيا، ولا رعايةً صحية وغذائية، لا حتى ميدانيا. كما أن لا أحد يقبل أن يبقى النازحون في لبنان، ولا هم يقبلوا أن يُقتلعوا من مدنهم وقراهم وديارهم وأرضهم، حيث نشأوا وترعرعوا ليعيشوا عيشة اللاجئ الذي يبقى غريبا، مهما بلغت درجة الاهتمام والرعاية به وتقبله. على الرغم من أن السوري يبقى سورياً، ويحمل جنسية بلده حتى إشعار آخر، وليس كالفلسطيني المقتلع، بلا هوية ولا أرض ولا وطن.
ولكن مأساة سورية تستمر منذ أكثر من سبع سنوات، ولا يمكن التكهن ما إذا كانت هذه الحرب ستنتهي، كيف ومتى. فمنذ اليوم الأول لبداية النزوح، مع انفجار الثورة ضد نظام بشار الأسد في مارس/ آذار 2011، لم تهتم الحكومات اللبنانية المتعاقبة لوضع خطةٍ جديةٍ ومسؤولةٍ وبعيدة النظر لمواجهة تدفق الهاربين من نيران النظام ومجازره وبراميله المتفجرة، وضبط هذا النزوح الهائل وتنظيمه. لا بل حاول كل فريق توظيفه في حساباته السياسية، وبالأخص الفريق "الممانع" حليف الأسد، والذي سعى، منذ البداية، إلى إلصاق صبغة الإرهاب بالنازحين، والتعامل مع المخيمات باعتبارها بؤرا إرهابية. وقد طالب يومها أحد أطراف هذا الفريق (التيار العوني) بإقامة نوعٍ من الحجر عليهم، وحصرهم في مخيماتٍ على الحدود اللبنانية – السورية، لكي يظلوا تحت رقابة النظام السوري، فيما كان رئيس هذا التيار، ميشال عون، يبشر كل أسبوع ومنذ 2013 بالقضاء على الثورة، وقرب عودة السوريين إلى بلادهم.
اليوم، ومع تطورات الميدان، وما أفضت إليه الطبخات الإقليمية والدولية، يعتقد الفريق "الممانع" والمهيمن أن الأسد قد انتصر، وأن السيطرة استتبت له في معظم الأراضي السورية التي أصبحت بنظرهم آمنة، ويجب أن يعود النازحون إليها، وهي محاولةٌ خبيثةٌ لتسويق نظرية أن الأمن والأمان يتوفرا فقط في ظل سلطة الحاكم الظالم والمستبد، وهو ذاته الذي لم يتغير. فما هي الضمانات التي يمكن أن يأمنها نظام طلب أخيرا من السوريين (مرسوم رقم 10) أن يقدّموا أوراقا تثبت أنهم مالكو عقاراتهم، أو منازلهم التي أجبرهم على مغادرتها، خوفا وهربا من جرائمه، ومن رعب أذرع النظام الإيراني، الميليشيات الشيعية المختلفة، وفتكها.
ويسارع وزير الخارجية، جبران باسيل، بماكيافللية بائسة، إلى ملاقاة النظام، معلنا حرباَ دونكيشوتية على المفوضية العليا للاجئين، ويتهمها بتحريض النازحين على عدم العودة، ويتحدّى الدول المانحة والأمم المتحدة، رافضا مقولة "العودة الطوعية والآمنة"، ويقرّر ترهيب موظفيها برفض تجديد إقامتهم في بيروت. ويتضامن معه جمهور واسع من اللبنانيين. وبعدها يتم فجأة الإعلان عن سيناريو بدء عملية إعادة مجموعة من النازحين، ينظمها "رجل كل العهود والمهمات"، مدير الأمن العام، عباس إبراهيم، والتي ينكشف سريعا بؤسها: 300 شخص؟!
المشهد الأكثر إساءة للنازحين ومخجلا للبنان هو وقوف النازحين العائدين على الحدود، يشكرون ويحمدون السلطات اللبنانية التي تستعد لتسليمهم إلى سلطات النظام، وفي يد كل واحدٍ منهم بطاقةُ تعرّف عنه، وكأنهم يساقون إلى مصيرهم المجهول – المعلوم. وذلك كله من أجل التحضير للتطبيع، وإعادة العلاقات الرسمية مع نظام الاستبداد والإبادة، تنفيذا لإرادة من فرض ميشال عون رئيسا للجمهورية.
بدا واضحاً من الأحداث التي جرت أخيراً في غوطة دمشق، وتجري الآن في درعا جنوب سورية، أن الدول التي كانت تساند فصائل المعارضة المسلحة قد تخلت عنها، وتنصلت من وعودها لهذه الفصائل. والواضح أكثر أن هذا التخلي لم يكن لأسباب سياسية، كما قد يرى بعضهم، وإنما يتعلق الأمر بتعب اقتصادي حقيقي لهذه الدول، وفي مقدمتها السعودية، ذلك أن سبع سنواتٍ ونيف من شراء الأسلحة والملابس والرواتب، ناهيك عن الدعم اللوجستي، وكذلك الصرف لشراء مواقف دول وحكومات، أرهق ذلك كله ميزانيات الدول الممولة، إذ تقول الأرقام أن نسبة مستوردات السعودية من السلاح بلغت 225% في السنوات الخمس الماضية، أي حتى عام 2017، وفقاً لأرقام صادرة عن معهد استوكهولم لأبحاث السلام. وبالتأكيد، لم يتم شراء كل تلك الأسلحة لأجل دعم الثورة السورية، فالسعودية تخوض حرباً في اليمن، طال أمدها، وترهق كاهل الخزينة، وتدفع بها نحو كارثة اقتصادية، ويريد ولي العهد، محمد بن سلمان، الانتصار في اليمن، وتحقيق إنجاز هناك، وهذا المطلب عنده أهم بكثير من مشروع إسقاط النظام في دمشق.
قالها الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بكل وضوح، إن على السعودية أن تدفع تكاليف بقاء قوات بلاده في سورية، وذلك رداً على طلب بن سلمان بقاء القوات الأميركية في سورية مدة أطول، ما يعني أن تكاليف الثورة لا تقتصر على تمويل الفصائل، بل مستلزمات البقاء، وإنما يتعدّى الأمر ذلك إلى دفع تكاليف بقاء قوات عسكرية لدول أخرى، ويبدو أن هذا هو الظاهر على السطح، وما خفي قد يكون أعظم بكثير.
وتعاني دول الاتحاد الأوروبي من أزمة اللاجئين، وتتصاعد الخلافات بينها، وكذلك في كل دولة على حدة، فأزمة اللاجئين (معظمهم سوريون) تكاد تعصف بحكومة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل التي وافقت على استقبال مليوني لاجئ سوري خلال أشهر في العام 2016، وهي الآن تدفع ثمن موقفها ذاك، إذ تهدد الأحزاب المتحالفة معها بإنهاء التحالف، وإسقاط الحكومة، كما تواجه ميركل غضبةً شعبيةً ليست قليلة، وما ينطبق على ميركل ألمانيا ينطبق على دول أوروبية أخرى، يتداعى قادتها إلى عقد اللقاءات الثنائية، أو في إطار الاتحاد الأوروبي، بهدف التوصل إلى حلول لأزمة اللاجئين. وما زاد في طين الأوروبيين بلّة ما أعلنه الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، عن نيّته في عدم جعل بلاده مستعمرة للاجئين. وسلوكياته واضحة في عدائها لهم، بحجة حماية الولايات المتحدة، وتلقى تصريحاته في أوروبا آذاناً تصغي إليها.
على الجانب الآخر، يظهر الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، سياسياً محنّكاً يجيد اللعب بكل الأوراق التي في يده، وبطريقة تخدم مصالح بلاده، وتؤثر على أعصاب الأوروبيين، وتثير توترهم، وأحياناً حقدهم على الرجل الذي تستقبل بلاده نحو ثلاثة ملايين لاجئ سوري. وهو لا يوفر فرصة لاستثمار ورقة السوريين في أي مفاوضات مع الجانب الأوروبي، وقد فعلها سابقاً، حين سمح لأفواج اللاجئين في تركيا بركوب البحر، أو عبور الحدود نحو الدول الأوروبية، ما أثار حينها حالة من الاستنفار في الأوساط الأوروبية، وبلغ عدد اللاجئين في موسم الهجرة ذاك ما يزيد عن الثلاثة ملايين.
أسهمت تلك الخسائر في إقناع الممولين والأوربيين بأن تكاليف إسقاط بشار الأسد ونظامه باهظة للغاية، في ظل دعم روسيا وإيران غير المحدود، وإصرارهما على بقائه مهما كانت التكاليف، فالحكومة الإيرانية قد تُسلم باليمن على حساب الانتصار في سورية، ويبدو أن هذا العرض كان مغرياً لبن سلمان الذي أوقف دعم بلاده الفصائل المسلحة في سورية، وركز جهده العسكري على تحقيق إنجاز في اليمن. فإيران تعاني من أزمة اقتصادية خانقة، بسبب تدخلها في سورية، وشهدت إضرابات ومظاهرات واحتجاجات تطالب الحكومة بالانسحاب من سورية، والتركيز على الشأن الداخلي الذي أصبح على شفا الكارثة. وفي المقابل، لا تبدو روسيا بعيدة عن الهزّات الاقتصادية، فهي الأخرى تعاني من ضغوط شعبية كبيرة، بسبب نقلها العتاد الحربي الحديث وجيوشها إلى سورية، مع كل ما يتطلبه ذلك من تكاليف مرتفعة للغاية، يقدرها الخبراء الاقتصاديون بعشرات المليارات.
كان لانخفاض أسعار النفط تأثير بالغ الأهمية على مواقف الجميع، سواء أكانوا في الطرف الداعم للمعارضة، أو الداعم للنظام، ما أوجب على الجميع التداعي لإيجاد مخرج من هذه الأزمة، ويبدو أن الاتفاق كان على حساب دماء السوريين، وكرامتهم.
هل وصل الرئيس الأميركي الخبير بمنطق البيزنس، دونالد ترمب، مع الرئيس الروسي «البراغماتي»، فلاديمير بوتين، إلى نقطة لقاء في المعضلة السورية، على حساب الدور الإيراني المدمر؟
دخان الأخبار ومقدمات الأمور تشي بشيء من ذلك فيما يظهر، وقد نقلت صحيفة «الحياة» عن مصدر دبلوماسي غربي أن الإدارة الأميركية ستفاوض موسكو على انسحاب إيراني كامل من سوريا. وقالت الصحيفة إن هذا الموضوع سيكون من أولويات القمة التي تُعقد منتصف الشهر المقبل بين ترمب وبوتين.
كان الأمر من البداية، من بداية ما ظهر أنه «تحالف» روسي إيراني، ضد مصالح العرب - أو أغلبية العرب! - يوحي بوصول الأمور يوماً ما لمفترق الطرق هذا.
بالنسبة لروسيا البوتينية، ليس ثمة أوهام عقائدية دينية صرفة في التدخل بسوريا، وهو بكل حال كما وصف سابقاً، تدخل صريح، لكنه ليس برداء ديني انتقامي ثأري توسعي، كما هو الشأن مع أمخاخ القائمين على النظام الخميني العجيب.
ربما عبّر عن ذلك تعليق النائب الإيراني بهروز بنيادي مندوب مدينة كاشمر في البرلمان الإيراني الذي حذّر بشدة من مغبة التقارب السوري الروسي على حساب إيران، مؤكداً أن البلدين يضحيان بإيران، على حد تعبيره.
وقال بهروز بنيادي في الجلسة العلنية لمجلس الشورى الإيراني: «اليوم نرى الأسد يزيد من تناغمه مع بوتين بكل وقاحة، ولا يقلل فقط من أهمية وجود شهداء المراقد في سوريا فحسب، بل ينكر ذلك في بعض الأحيان».
وصف «شهداء المراقد» الذي استخدمه هذا النائب الإيراني يلخص طبيعة وتصور الغزو الخميني لسوريا أو العراق أو اليمن.
التاريخ القديم والحديث، يخبرنا عن سجل حافل من العداوات بين إيران وروسيا، بمرحلة روسيا القيصرية أو السوفياتية، وثمة أراض في الشمال ما زال العقل الإيراني السياسي الباطن يعتقد أنها مسلوبة مع الأرض الإيرانية.
سبق أن كتب الأستاذ أمير طاهري، وهو من خلاصة الخبراء بالشأن والتاريخ الإيراني، بهذه الصحيفة، عدة مطالعات ثمينة عن طبيعة العلاقة التاريخية بين روسيا وإيران، يحسن الإلمام بها.
بالعودة للنائب الإيراني الغاضب، بهروز بنيادي، فقد رسم صورة كئيبة عن المشهد الإيراني الحالي، فتحدث عن: «الفساد والدعارة والرياء والكذب والتحرش بالأطفال وضرب الزوجات والاغتصاب في المدارس وفي صفوف القرآن، وبيع الكلى وعشرات الأمور الأخرى المثيرة للخجل».
السؤال، متى تحلّ لحظة الطلاق الكبرى بين إيران وسوريا، على الحلبة السورية، وما أخبار «أشرف الناس... وأطهر الناس» من أتباع حسن نصر الله، حينما يلوّح لهم بشار بتحية الوداع على الطريقة الروسية؟
المأساة السورية ومن أكثر من سبعة أعوام مثال فاقع وبرهان صارخ على الانحدار الأخلاقي الكبير في الساحة السياسية في عالم اليوم، حيث تسود شريعة الغاب وتتم المتاجرة والعبث بمعاناة الأطفال والنساء والضعفاء، وتتقاسم القوى الدولية المكاسب والغنائم وأشلاء الضحايا الأبرياء ولقمة عيشهم. سبع سنوات والجميع يعبث في سوريا وشعبها، منهم من إن لم نقل جميعهم مارس اللعب الاستخباراتي، وآخرون جربوا أسلحتهم بأنواعها وتفاخروا بوقاحة بذلك، ومنهم من تحدث بصفاقة عن تصفية الحسابات والحروب على أرض سوريا حفاظا على بلده ومرابعه من مضار الحروب وتداعياتها.
وآخرون جعلوا من سوريا النازفة والجريحة صندوق بريد يتم من خلاله تبادل جميع أنواع الطرود المفخخة والرسائل الملغمة، وميدانا يتم فيه المواجهة أو التقارب بين الخصوم والتفاوض وعقد الصفقات، والخاسر الأكبر وبشكل مستمر سوريا وشعبها وأجيالها المستقبلية.
تم تأجيج الصراع في سوريا وعسكرة الثورة بتشجيع غربي بشكل عام وأمريكي بشكل خاص، مرة بطريقة مباشرة ومرات عن طريق الوكلاء والسماسرة. ومن أعطوا السلاح من الثوار منعوا من حسم الصراع حين كان النظام يترنح في بدايات الثورة وقبل الانتهاء من صناعة داعش والتدخل الروسي العسكري المباشر، ومن بعد منع أولئك المقاتلين السلاح حين تمكن النظام من التقاط أنفاسه من خلال دعم روسي وإيراني غير محدود. كان المطلوب بشكل واضح تدمير سوريا وإعادة رسم خريطة المنطقة بحيث يكسر عمودها الفقري –العرب السنة- ولا يكون بمقدرة المنطقة النهوض علميا واقتصاديا وعسكريا لعقود وربما لقرون.
كانت الثورة السورية -والتي انتهت من خلال المكر العربي الرسمي والدولي إلى أن تصبح أحداثا وحروبا داخلية- فرصة كبيرة للنظام الدولي وأتباعه ووكلائه من الأنظمة العربية الرسمية، لتحطيم آمال شعوب المنطقة في الحرية والديمقراطية، حتى تبقى أمتنا متخلفة ومنطقتنا أسواقا استهلاكية تتنافس عليها القوى العالمية ويتقاسمونها، ثروات ومقدرات. ومن خلال سيناريو خبيث تحولت جرائم النظام الكبرى ووحشيته إلى أحداث عادية، فتم التعامل مع التعذيب وصوره وكأنها مسرحيات تراجيدية وتم تقنين الحصار والتجويع حتى الموت والتهجير العرقي والمذهبي من خلال إشراف الأمم المتحدة عليه ومباركة المجتمع الدولي له. أمور قد تكون لها صلة وممهدة لصفقة القرن وإسرائيل الكبرى والحديث عن إسرائيل كدولة يهودية وهو أمر محال دون تهجير فلسطيني واسع.
وصل الأمر بتوزيع الأدوار، للوصول بسوريا وشعبها إلى دمار شامل، إلى ما يشبه الأفلام الكوميديا السوداء، فمرة يصرح أوباما بأن الأسد فقد شرعيته وأخرى يرسم له الخطوط الحمراء والتي ما لبثت أن تصبح سوداء تسخر من أطفال سوريا ومعاناتهم. ومرة يتبادل الروس والأمريكان الاتهامات بدعم داعش ثم يعودون للمشادات الكلامية الصاخبة وعلى الملأ، لينتهي الأمر بصفقات فيما بينهم تتضمن كل أشكال الخداع والخلاعة السياسية ونقض العهود والاتفاقيات كما يحصل الآن في درعا وجنوب سوريا وفي ما أسموه مناطق خفض التصعيد منطقة تلو آخرى.
لقد أصبح تدمير مدن السنة وتهجير الملايين واستهداف المستشفيات حدثا اعتياديا وخبرا لا يكاد يذكر، متواريا إن ذكر في الصفحات الخلفية حتى لا يعكر مزاج العالم والعرب ويشوش عليهم متابعة المونديال الكروي في روسيا والتي تقود وبكل وحشية ودموية تدمير سوريا وإباده السنة فيها وتقزيمهم وتحويلهم لمواطنين من الدرجة العاشرة بلا حقوق ولا كرامة إنسانية.
الوكلاء المحليون كانوا العابث الأكبر في الثورة السورية بمؤتمراتهم الداعمة– ظاهريا والهادفة لشراء الذمم والولاءات- وبمنصات المعارضة المختلفة والتي أطلقوها وبشخصيات متواطئة زرعوها في قيادات المعارضة بل جعلوها في الصف الأول. وحتى نكون منصفين، فإن المعارضة السورية فشلت فشلا ذريعا بشقيها السياسي والعسكري وأدت دورا مظلما –مع استثناءات محدودة- فكانت عناصرها إما مخترقة وإما تشتكي سذاجة سياسية وعسكرية بالغة الحماقة. صدقت من أشتهر بغدره وركنت إلى أعداء الحرية في تونس ومصر ليدعموها فيما كانوا يفخخونها من الداخل ويقايضون بدماء السوريين ومعاناتهم القوى الدولية لتعترف بتغييراتهم الداخلية ولتتقبل حماقاتهم ومغامراتهم محليا وإقليميا.
كان جزء معتبر من المعارضة السورية والتي أعدت في كواليس الدول وارتبطت بأجهزتها الأمنية وما تزال، الخنجر المسموم والذي طعن آمال السوريين وطموحاتهم طعمة نجلاء في القلب وفي الظهر. فلم نسمع بمسؤول معارض مما تنقلوا بالعواصم العربية والغربية ونال "شرف" مقابلة رموز المجتمع الدولي، يستقيل من منصبه معتذرا عن فشله وحماقاته وسذاجته، بل نراهم يتنقلون هنا وهناك يلتقون لافروف وغيره وهم في كامل الأناقة واللياقة وتظهر على محياهم البهجة والسرور. في الوقت الذي يجافي النوم وراحة البال كل من امتلك ذرة من الإنسانية وهو يري ويتابع معاناة ملايين السوريين من المكلومين والمهجرين والمحاصرين وممن يتعرضون لوابل من قصف البراميل ويستهدفون بكل أشكال الأسلحة وأنواعها.
ما يحدث في سوريا بداية ونموذج سيعمم على دول المنطقة، وكما لم تشفع للمعارضين السوريين سذاجتهم فلن تنفع الأنظمة العربية مجاملة بوتين ومداهنة ترامب، ففي السياسة الدولية الحالية –ومن خلال المثال السوري- كل متاح مباح في سبيل المصالح، أما الغدر ونقض المواثيق والخداع فهو الأصل وليس الاستثناء!!
أطلق نشطاء «الإنترنت» وشبكات التواصل الاجتماعي في لبنان نكتة ظريفة أثناء زيارة المستشارة الألمانية أنغيلا مركل، هذا نصها: مركل واقفة على شرفة القصر الجمهوري في بعبدا، وهي تنظر إلى بيروت وتسأل باستغراب رئيس الحكومة سعد الحريري: «كل شيء ممتع وجميل من هنا، ولكني أتساءل عن سبب ترك مصابيح الكهرباء مضاءة في النهار... وأنتم تقننون ساعات توزيع الكهرباء؟»
وردّ عليها الحريري مطمئناً: «كوني على ثقة أن هذه المصابيح المشتعلة في النهار، ستطفأ في الليل!»
العبرة المستقاة من هذه النكتة المركبة التي توزعت على آلاف الهواتف الجوالة في لبنان والخارج، يسعى مطلقوها إلى إظهار الحكومة بمظهر القوة الجاهلة التي تستخدم الكهرباء لإنارة المنور... أو التي تحجب عن المواطنين ما يحتاجون إليه عند الحاجة!
ويبدو أن الجهة التي أطلقت هذه النكتة الهادفة حرصت على استغلال زيارة مركل للتعبير عن بعض هموم اللبنانيين مع حكومتهم. في حين أن المستشارة الألمانية جاءت إلى لبنان بغرض طلب مساعدة حكومته على حل مشكلتها في ألمانيا، ومع دول الاتحاد ألأوروبي.
وبما أن الوفد المرافق للمستشارة كان يضم اختصاصيين من مختلف قطاعات الاستثمار، فقد اختار مؤلف النكتة قطاع الكهرباء ليجعل منه عرضاً ساخراً يشكك في مبدأ الاستثمار في لبنان.
ويُستدَل من مراجعة وقائع اجتماعات مركل في بيروت أن الوفد الألماني المرافق لها لم يكن أكثر من ستارة تمويه لصرف الأنظار عن الهدف الأساسي المتعلق بمصير مليون وثمانمئة ألف لاجئ سوري في لبنان. وقد تبيّن من محادثاتها أنها تلتقي مع الدولة اللبنانية في الحرص على نقل اللاجئين إلى وطنهم، مع استعدادها لدفع تكاليف الجزء الأكبر من هذه العملية المعقدة. وقد شجعها الرئيس ميشال عون على استعجال تنفيذ تلك الخطة، عندما قال لها: «لا نريد أن نموت قبل أن نرى النازحين عائدين إلى بلادهم.»
وقد أصغت مركل باهتمام إلى التعقيدات السياسية التي ترافق عملية التنفيذ، لأن المال وحده ليس كافياً لتحقيق المرام. ذلك أن مشروع إعادتهم إلى سورية متوقف على مدى استعداد بشار الأسد لاستقبالهم. خصوصاً أنهم ينتمون إلى طائفة السنّة التي يسعى الأسد إلى تفريغ سورية الجديدة منها.
صحيح أن «حزب الله» يفضل إخراجهم من لبنان لأسباب تتعلق بالتوازن الطائفي الداخلي... ولكن الصحيح أيضاً أنه لا يستطيع إعلان موقفه الصريح إلا إذا وافقت الدولة اللبنانية على فتح حوار مباشر مع الأسد ونظامه. وكان زعماء من السنّة والموارنة والدروز قد أعربوا عن تخوفهم من تدخل سورية في شؤون لبنان السياسية، ومن عودة «دولة عنجر» لتحريك الدمى اللبنانية!
وفي محصلة الزيارة لم تحصل مركل على مبتغاها من إبقاء الحصار الأمني مضروباً حول مخيمات لبنان، ومن احتمال تكرار ما حدث في صيف 2015. مطلع تلك السنة كانت مركل قد أنهت سنتها العاشرة في الحكم كمستشارة لألمانيا الموحدة، وكزعيمة للاتحاد الأوروبي الذي استقطب عدداً كبيراً من دول الاتحاد السوفياتي السابق.
ومع أن «اليورو»، العملة التي يتعامل بها الألمان، كادت أن تهدد وحدة الدول الأوروبية بسبب انهيار الوضع المالي في اليونان، إلا أن اقتصاد ألمانيا المزدهر أعان مركل على تسوية تلك الأزمة المكلفة.
الأزمة الثانية التي احتوتها المستشارة باندفاع غير مسبوق كانت أزمة اللاجئين السوريين إلى أوروبا. وقد حدث ذلك الانتشار عقب ارتفاع متفاقم في أعداد الذين يفرون باتجاه البحر هرباً من القصف والدمار والفقر. وكان من الطبيعي أن تعاني إيطاليا واليونان وإسبانيا والبرتغال من تبعات تلك الموجات المتدفقة بمراكب مطاطية أو زوارق صغيرة كثيراً ما تغرق بركابها.
وبدلاً من مواجهة عمليات وصول الأغراب بتنظيم وتفهم، قامت النمسا وتشيخيا وسلوفاكيا والمجر وسلوفينيا بنشر سياج من الأسلاك الشائكة بغرض منع دخول آلاف اللاجئين. وبخلاف أعضاء الاتحاد الأوروبي، قررت المستشارة الألمانية استقبال مليون لاجئ غالبيتهم من السوريين. وكان هذا القرار سبباً في تدني شعبيتها وارتفاع شعبية منافسيها في اليمين المتطرف. وقد دافعت عن موقفها بالادعاء أن بلادها استقبلت آلاف الشبان الأتراك من الذين ساهموا بعد الحرب العالمية الثانية في التعويض عن غياب آلاف الجنود الذين قتِلوا على الجبهات. وكان رد خصومها الحزبيين محصوراً برفض هذا المنطق لأن ألمانيا في نظرهم لم تعد في حاجة إلى غرباء جدد. والسبب أن عملية اندماجهم في المجتمع الألماني تبدو شبه مستحيلة بسبب اللغة والدين وكل ما تفرقه الثقافات المختلفة.
في مؤتمر حزبي أقيم في ميونيخ، قالت مركل إنها كانت في السابعة من عمرها عندما أمرت موسكو ببناء جدار الفصل في برلين. وبما أنها كانت متأثرة بتعاليم القس والدها، فقد اختارت جامعة ليبزيغ لتدرس العلوم التطبيقية، تحاشياً لدروس الإلحاد الشيوعي. كذلك تزوجت عالماً اختصاصياً في علم الطاقة، يدعى أولرخ مركل. ومع أنها طلقته بعد خمس سنوات إلا أنها ظلت تحمل اسمه.
تعترف مركل بأن تدمير جدار برلين (9 تشرين الثاني- نوفمبر 1989) كان المؤشر العملي لنهاية مرحلة وبداية أخرى. وقد استعارت من الأديب التشكيلي الرئيس فاكلاف هافل وصفه لجدار سميك يمثل جرحاً كبيراً في جسد أوروبا (طوله 28 ميلاً) لتتحدث عن سقوط جمهورية استخبارات «ستاسي»، وتتهيأ للعمل السياسي. وقد وجدت الرعاية لدى المستشار هيلموت كول الذي وصلت بفضل إرشاداته ومساندته إلى القمة. وفي 2015 ظهرت صورتها على غلاف مجلة «تايم» الأميركية، مع عنوان بارز يقول: «شخصية العام.»
ويرى المراقبون أن اختيار المجلة لها جاء كاعتراف بالجميل للقرار الذي اتخذته المستشارة باستقبال مليون لاجئ سوري بينهم عراقيون وأفغان. وهو قرار مخالف لموقف غالبية دول الاتحاد الاوروبي التي حذرت من زرع جسم غريب داخل مجتمع لا يرحب بالغرباء.
يزعم أنصار مركل أنها ازدادت قناعة بصواب موقفها بعدما ظهرت في برنامج تلفزيوني بعنوان: «هل تتمتع بالراحة في ألمانيا؟» واستضافت المحطة لاجئات من فلسطين وسورية والعراق. وفجأة، وقفت صبية قدمت نفسها باسم «ريم»، وراحت تستعطف المستشارة بلغة ألمانية سليمة، مؤكدة لها أنه سيتم ترحيلها قريباً إلى مخيم للاجئين في لبنان... وأنها استغلت هذه المناسبة لإظهار اندماجها في مجتمع تتقن لغته. ثم انفجرت بالبكاء. وما كان من مركل إلا أن تقدمت منها وراحت تشاركها البكاء وتربت على كتفها مطمئنة.
وبعد انصرافها من الاستديو، أسرّت المستشارة أمام مرافقيها بأن هذا المشهد العاطفي المؤثر أعاد إلى ذاكرتها كل ما اختزنته من خوف وكوابيس مزعجة كانت تؤرقها أثناء وجودها في ألمانيا الشرقية.
بعد مرور أكثر من سنتين ونصف سنة على تنفيذ قرار التحدي، تتعرض المستشارة مركل لحملة سياسة شرسة يمكن أن تسقطها من الحكم. وقد باشر في افتتاح الحملة وزير داخلية الحكومة الائتلافية التي ترأسها، معلناً معارضته لطالبي اللجوء إلى ألمانيا. ويُستدَل من نتيجة استطلاع للرأي أجرته شركة «يوغوف» أن ما نسبته 43 في المئة من المشاركين في الاستطلاع يريدون أن تستقيل المستـــشارة من منصبها. وقد وظف وزير الداخلية هورست زيهوفر نتائج الاستطلاع ليطالب باسم «الحزب الاجتماعي المسيحي» الذي يتزعمه بضرورة خروج ألمانيا من الاتحاد الأوروبي الذي يضم 28 دولة. وهو يقدم الخلافات القائمة بين ايطاليا وفرنسا وألمانيا وإسبانيا حول الحلول المطروحة كمَثل على التعاطي مع ملف الهجرات المتدفقة باتجاه أوروبا. وعليه يتبنى موقف مجموعة «فيزغراد» الرافضة لاستقبال المهاجرين من أي جهة، وتأتي في طليعة هذه الدول المجر وبولندا وتشيخيا وسلوفاكيا.
وقد بادر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى مساندة مركل ومنع سقوطها عبر زيارة مفاجئة قام بها لبرلين. كل هذا قبل الاجتماعات الطارئة التي دعت إليها المفوضية الأوروبية في بروكسل هذا الأسبوع، بهدف صوغ حلول عاجلة تمنع تدفق اللاجئين إلى القارة العجوز، وتحول دون تنامي الخلاف الألماني- الألماني. ويرى ماركون أن الفشل لا يحصد ثماره سوى دونالد ترامب وفلاديمير بوتين، الرئيسين اللذين يهمهما انفراط عقد الاتحاد الأوروبي!
لا يمكن تفسير الترتيبات التي تجري في مدينة منبج السورية بين واشنطن وأنقرة وتقضي بانسحاب القوات الكردية وتشارك الطرفين في حفظ الأمن، أو فهم ما يثار عن ضوء أخضر أميركي، ورضا إسرائيلي وأردني، يسمح لقوات النظام وحليفته روسيا بخرق الهدنة في الجنوب السوري وتجديد الحرب تمهيداً لإنجاز تسوية شبيهة بما حصل في الغوطة الشرقية، على أن تتضمن إخراج الميليشيا الإيرانية من مدينتي درعا والقنيطرة، أو تفسير انكشاف التنافس بين موسكو وطهران على المنافع ومنافذ السيطرة الاستراتيجية في سوريا، أو فهم تواتر الخروقات التي تتعرض لها خطوط خفض التصعيد في مدينة إدلب وأرياف حلب وحماة واللاذقية... لا يمكن تفسير ذلك وفهمه إلا على أنه شكل من أشكال الصراع على النفوذ بين مختلف الأطراف المنخرطة في الصراع السوري والمحكومة بمصالح متضاربة وبسعي كل طرف للاستئثار بحصة وازنة من المستقبل السوري، يحدوه عجز مزمن للمجتمع الدولي عن وقف العنف وتمرير حل سياسي يلبي مطالب الناس ويحفظ وحدة الوطن والدولة.
والحال أن التدخل العسكري الروسي، ومن قبله الإيراني، ومن ثم الأميركي والتركي، وحيازة كل منهم مناطق يسيطر عليها وأهدافاً سياسية متباينة، جعل سوريا أرضاً مستباحة وعرضة لتقاسم النفوذ وتالياً للتقسيم. لنقف أمام مشهد يضم 4 كيانات؛ أولها ما سمي «سوريا المفيدة»، ويضم إلى جانب العاصمة دمشق، المنطقتين الوسطى والساحلية، وتسيطر عليه قوات النظام وحلفاؤها الروس والإيرانيون، ويمتد الثاني من شرق نهر الفرات حتى القامشلي محكوماً بـ«قوات سوريا الديمقراطية» وكتائب الحماية الكردية المدعومة من الولايات المتحدة، بينما يخضع الثالث لإرادة تركيا بعد تواطؤ الجميع على تجميع مختلف جماعات المعارضة الإسلاموية المسلحة فيه، ويشمل محافظة إدلب وبعض أرياف حلب وحماة واللاذقية، في حين يضم الرابع أهم البلدات الحدودية لمحافظتي درعا والقنيطرة وتوجد فيه فصائل من الجيش الحر بالتنسيق مع أميركا والأردن، وتضاف إليها الجيوب والإمارات الصغيرة من بقايا «دولة داعش» المزعومة المتنقلة بين البادية وأقصى الشرق السوري، وأيضاً تلك المواقع التي وضعت إيران يدها عليها بحجة حماية المراقد الشيعية أو لضمان طريق برية آمنة بين العراق وسوريا ولبنان.
ومع حفظ المسافة والفوارق بين التقسيم وتقاسم النفوذ الحاصل، لجهة الاستقرار والثبات في الأول وحاجته للشرعية السياسية؛ بنيوياً وخارجياً، فإن مشهد تقاسم النفوذ ما كان ليكتمل لولا استنادات وامتدادات داخلية، تبدأ بنظام يزدري السياسة واستخدمت أركانه، دفاعاً عن مصالحها الأنانية، أشنع وسائل الفتك وأحط الاستفزازات الطائفية، واستجرت مختلف أشكال الدعم الخارجي من دون اعتبار لما يخلفه نهجها من ضحايا ودمار، ومن ارتهانات مذلة، ومن تشوهات وشروخ عميقة في المجتمع، مروراً بتبلور اندفاعات انفصالية ترتبط بأجندة خارجية، انتهاء بتقدم جماعات دينية عابرة للوطن خطفت ثورة السوريين وأنشأت دويلات وإمارات إسلاموية من دون اعتبار للتعدد والتنوع القائم تاريخياً.
وإذ نعترف بأن الدولة السورية لا تزال حديثة العهد، ولم ترسخ في المجتمع هوية قوية جامعة تستند إلى عقد ديمقراطي وتنتج وطناً مستقراً يؤمن الجميع به، ونعترف بأن السلطات الاستبدادية المتعاقبة ساهمت في تشويه اللحمة الوطنية والانتكاس بالمجتمع إلى هويات تفكيكية، متوسلة أساليب القمع والتمييز والروابط المتخلفة، المذهبية والعشائرية، فلا بد من أن نعترف في المقابل، بأن سوريا عريقة في حضارتها وتعايش مكوناتها، وأن هناك أسباباً بنيوية ترجح غلبة مسار الانصهار الوطني في مواجهة نوازع التفرقة والتمييز، منها التفاف الشعب السوري تاريخياً حول مهام عريضة، كقضية فلسطين والوحدة العربية، ومنها أن السوريين، من مختلف مكوناتهم القومية والدينية، لعبوا دوراً متكاملاً في بناء دولتهم وتاريخها الحديث، وغلب انتماؤهم إلى الأحزاب الوطنية على أي انتماء، كما أنهم في ريعانهم هم من أفشل مشروع الاستعمار الفرنسي بتقسيم بلادهم، وحافظوا عليها كياناً واحداً تحت الانتداب، وصولاً إلى الاستقلال، وهم الذين تمكنوا في محن سابقة من الحفاظ على تماسكهم، وسارعوا ما إن مرت السنوات العجاف إلى العض على الجراح وتجاوز ما حصل من عنف ودماء لتأكيد لحمتهم الوطنية، وهم أنفسهم الذين توحدهم اليوم النتائج المأساوية التي خلفها العنف المنفلت ومعاناة قهر مشتركة في أماكن النزوح وبلدان اللجوء، مثلما يوحدهم القلق والخوف من حاضر مؤلم وغامض ومن مستقبل مفتوح على الأسوأ.
يعزز ما سبق إدراك غالبية الأطراف الخارجية خطورة دفع تقاسم النفوذ فيما بينها إلى حدود تقسيم الوطن السوري، تحدوهم حقيقة أن التقسيم لن يفضي إلى التهدئة وإخماد الصراع؛ بل ستكون تكلفته باهظة جراء الأعباء الواجبة من كل طرف لحماية الكيان المرتبط به، والأهم لاستحالة تمرير مشروع للتقسيم على أسس طائفية وإثنية من دون أن ينعكس ويمتد إلى بلدان الجوار بفعل مكونات عرقية ودينية متداخلة، والقصد حصول الأسوأ وألا يفضي التقسيم للسلم والاستقرار، بل لتغذية العداوات الطائفية والإثنية والنزعات الانفصالية، فاتحاً الباب لإعادة رسم خرائط المنطقة وتعريض المصالح الإقليمية والعالمية لأضرار فادحة، ما يفسر رفض المجتمع الدولي محاولات تقسيم بلدان مشرقية بدت سهلة التفكيك في محطات مختلفة، مثل لبنان إبان الحرب الأهلية 1975 - 1990، ثم العراق بعد الحرب الأميركية 2003، فضلاً عن إعاقته المستمرة انفصال الأكراد سياسياً في شمال العراق، فكيف الحال إن ألحق التقسيم العتيد، ضرراً بأمن إسرائيل، وفرض إلى جوارها قطاعات جهادية متطرفة تنظر إلى القضية الفلسطينية من منظار ديني يتعاضد مع رؤية حركة حماس.
هو شرط لازم أن تلجم تراكمات بناء الهوية الوطنية السورية والحسابات الاستراتيجية الخارجية، تفكيك هذا البلد وتقسيمه بصورة نهائية، لكنه يبقى شرطاً غير كافٍ إن لم يقترن بتبلور قوى داخلية؛ سياسية ومدنية، تنتصر لوحدة وطنها وتتطلع لإعادة بنائه على أسس صحية، متوسلة قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، وطريق العدالة الانتقالية بوصفها طريقة مجربة، لتخفيف ما أحدثه العنف المنفلت من شروخ وتصدعات، عبر محاسبة المرتكبين وإنصاف الضحايا، ولعل أهم درس عمدته ثورة السوريين بالدماء، أن الوطن ليس انتماء واجتماعاً مذلين تكرسهما قوى القهر والاستبداد، بل هو وطن الحرية والكرامة.