ساعة بشار الأسد
من بين أطرف وأظرف وأعمق التعليقات التي راجت على مواقع الإعلام الاجتماعي، بعد إعلان إسرائيل استرداد ساعة جاسوسها الشهير إيلي كوهين الذي أُعدم في دمشق عام 1965 قول ناشطة سورية على موقع "تويتر": "طيب بدل الانتظار 53 سنة كمان، لماذا لا تستعيد (إسرائيل) بشار الأسد شخصياً؟".
وبصرف النظر هنا عن مقدار المبالغة في تشبيه الأسد بكوهين، فإن آخر ما يمكن تصديقه، في قصة الساعة هذه، أن تكون إسرائيل قد اشترتها من بائع مجهول على الإنترنت، كما روج كثيرون، ويظل الاحتمال الأرجح، في تحليل كاتب هذه السطور، أن عرضها للبيع على موقع تسوّق إلكتروني، كان مجرد جزء من خطة تمويه نفذها جهاز "الموساد" الإسرائيلي، للتغطية على باعة حقيقيين آخرين، قبل أن يعلن رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، نجاح ما وصفها بالعملية الخاصة الشجاعة التي أدت إلى استرداد أثر تاريخي لواحد ممن تعتبرهم الدولة اليهودية أبطالها الأسطوريين.
وقد كان من شأن هذا السيناريو أن أدى فعلاً إلى انهماك واسع النطاق في تكذيب رواية البطولة الإسرائيلية، اعتماداَ على إعلان البيع الافتراضي المنشور سابقاً، بينما غابت تقريباً التساؤلات عن دور الجهة التي تحتجز رفات صاحب الساعة، ومعها كل مقتنياته، منذ إعدامه قبل ثلاثة وخمسين عاماً، أي نظام بشار الأسد، الذي التزم من جهته الصمت، ولم يحاول تقديم رواية مضادة، تبرّئه من شبهة مساعدة "الموساد" في إنجاز مهمته.
لكن، لماذا الانشغال بقصةٍ أمنيةٍ قد تبدو تافهة، إذا ما قورنت بأعاصير سياسية تعصف ببلاد العرب، من القدس إلى صنعاء، مروراً بدمشق وبغداد، وصولاً إلى طرابلس، وسواها من العواصم والمدن التي صارت كلها زَبَدَاً، وفق تعبير محمود درويش، عن ماضٍ ما عاد يستدعي سوى الحسرة على أنه لم يَدُم أكثر، كلما نظرنا إليه بمعايير هاوية سحيقة، نهوي الآن نحو قاعها؟
في محاولة تقصّي الجواب، قد يكون مفيداً الاستهلال بخرافةٍ توراتيةٍ تقول إن اليهودي الذي يقتله أعداؤه بعيداً عن أرض الميعاد، يبدأ الحفر بمجرد دفنه، كي يزحف من قبره إليها، وهذا يعني أن إسرائيل، حين تسعى إلى استعادة جثمان كوهين، أو أيٍّ من جنودها المقتولين في بلدان الجوار العربي، فلتريحه من شقاء الزحف تحت الأرض.
ليست ساعة اليد الصدئة، والحال هذه، إلا مجرد رمز أو إشارة إلى أن متغيراً كبيراً قد حدث على الظرف السياسي الذي حال دون استعادة رفات صاحبها، طوال نصف قرن مضى، وهو متغير يمكن الاستدلال على أهم ملامحه، إن دقّقنا في التوقيت، لنرى كيف جاء الكشف عن "عملية الموساد الخاصة والشجاعة"، متزامناً مع حملة عسكرية، غير خاصة، وغير شجاعة، نفذها جيش بشار الأسد، بمشاركة مليشيات مذهبية موالية لإيران، وغطاء جوي روسي، لاستعادة محافظة درعا من سيطرة المعارضة المسلحة، وسط ما اتضح أنه ضوء أخضر إسرائيلي، مشفوع بتراجع رسمي عربي وغربي، لا سيما من رعاة ما تسمّى "صفقة القرن"، عن الدعوات إلى إسقاط النظام الطائفي الدموي الذي دمر سورية، وقتل وشرد نصف شعبها.
إنها ساعة تعويم بشار الأسد، إذن، هذه التي كان بعض عربونها المدفوع مقدّماً إعادة ساعة إيلي كوهين، وقد يظن مؤيدوه، إزاء معطياتها، أنه انتصر ونجا، كما قد يظن معارضوه أنهم هُزموا وانتهوا، لكن القوى الكبرى التي تتوافق الآن على الحاجة إليه بيدقاً في اللعبة الداخلية والإقليمية، لن تستطيع أن تتحمل بقاءه حياً وعلى سدة الحكم، بكل ما يحمل على عاتقه من أطنان الدم. أما حلفاؤه الروس والإيرانيون، فلن يجدوا مفرّاً، عندما تحين ساعته، وفق التوقيت الأميركي الإسرائيلي، من أن يتواطأوا مع فكرة التخلص منه، ليتجنبوا احتمال اقتيادهم معه يوماً إلى المحاكم الدولية؟
ومن يعش ير.