"أن تصل متأخرًا".. عن وثيقة سورية
أعدّت، قبل أيام، شخصياتٌ سياسية وفكرية سورية، وثيقةً سياسية، تهدف إلى إطلاق حوار سوري جاد، لإنضاج ما وصفوه "المشروع الوطني السوري". وشدّدت الوثيقة على "ضرورة إعطاء أولوية مركزية للإطار الفكري/ السياسي الضروري لبناء قيادة وطنية، تستطيع استعادة ثورة الحرية كرهان مجتمعي، من دون التخلي عن واجبنا في التصدّي السياسي اليومي لما يواجه وطننا من أخطار خارجية معادية، وداخلية تنتمي إلى الثورة المضادة، وذلك عبر تمكين قوى التيار الديمقراطي لاحتلال مكانة حقيقية في سورية المقبلة، بحيث تكون له القدرة على تمثيل مصالح قطاعاتٍ وازنةٍ من الشعب، في ساحة السياسة العامة والحزبية".
يقول المثل: أن تصل متأخرًا خيرٌ من ألاّ تصل. فهل يصح هذا القول على الحالة السورية الراهنة، إذا ما اتخذنا من هذه الوثيقة والأفكار التي طرحتها مثالاً على الوصول المتأخر؟
بدأت إرهاصات الثورة المضادة باكرًا جدًا في عمر الحراك الشعبي السوري، وإذا كان الشعب السوري قد انقسم إلى فريقين، أحدهما تمسّك بخطاب المؤامرة منذ البداية، والآخر استنكر مقولة المؤامرة واستخفّ بها، فإن الوقائع أخذت تتكشّف مع تصعيد العنف الذي قوبل به الحراك السلمي، والتحول السريع نحو العسكرة، وصارت الصورة تُظهر أن هناك أطرافًا عديدة ضالعةً في الأزمة السورية التي لم تعد التصنيفات مجديةً بالنسبة إليها، هل هي حربٌ أم ثورةٌ أم مؤامرةٌ أم غيرها.
ومن المنصف للحقيقة أن يعترف من تنطّعوا للمسؤولية السياسية بأنهم لم يقدّموا أداء أو تجارب تشعر الشعب بالثقة، وبأن مصيره في درب الحرية مرتهنٌ لأيدٍ لا تجيد اللعب، وإرادات غير مستقلة. كانت الطعنة الأولى في صدر أحلام الشعب هي استدعاء التدخل الخارجي باكرًا، معتبرين أن أميركا وحلف شمال الأطلسي (الناتو) مضمونان في اليد، وهما رهن الإشارة منهم، ولا ضير في استدعاء القوى الخارجية للتدخل بقوةٍ عسكريةٍ من أجل إسقاط النظام الذي كان واضحًا أنه لن يتوانَى عن استعمال القوة في حدّها الأقصى للدفاع عن كيانه، في مقابل الأداء السياسي والعسكري الذي أخذ يبشّر بأن الطرف الآخر الذي يدّعي تمثيله الشعب، والدفاع عنه وعن أهدافه، يسعى بزخم أيضًا في سبيل الاستئثار بالسلطة. راهنت المعارضة السياسية منذ أول هيئة، وهي المجلس الوطني، على سقوط النظام بسرعة، ولم تول اهتمامًا للكيفية التي سيسقط بها النظام، ومن هي الجهات المعوّل عليها، ولا البرنامج الذي تطرحه، فكان أن بدأت العسكرة تفرز فصائل متباينة ذات ولاءات مختلفة، وتمويلٍ متعدّد المصادر. وكان بالنسبة للمجلس الوطني، والائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية بعده، أمرًا مقبولاً أن تشارك الفصائل الإسلامية، من المعتدلة حتى الجهادية المتطرّفة، في الحرب، بل وأن تبتلع الفصائل الأخرى، وأن تكون صانعة الألعاب الحربية في الميادين، كذلك أن يسيطر الإخوان المسلمون على القرار السياسي، وأن يتخذوا من التكتلات العلمانية أو الديمقراطية واجهةً لهم. وفي الواقع، لم يكن لتلك التكتلات ثقل وازن، إن كان لناحية القرارات، أو لناحية الميدان، فكلام الميدان وكلام البندقية كان هو القول الفصل، ومن يسيطر على الساحة في القتال يسيطر على القرار.
ما حدث في سورية في سنوات أزمتها التي طالت، ويبدو أنها ستطول، أن الخراب هو الذي عم، والشروخ في البنيان المجتمعي هي التي تحوّلت إلى صدوعٍ عميقة، يلزمها زمنٌ طويل لردمها. ما حصل أن الفتنة التي هي أشد فتكًا من القتل قد تجذّرت، وأن الثقة بين مكونات الشعب السوري انهارت، وأن إمكانية العيش المشترك صارت بحاجةٍ إلى أساساتٍ أخرى، وأن الحالة المدنية التي هي في الأساس كانت تحبو بعدما بدأت إرهاصاتها في العقد الأول من القرن الحالي، على الرغم من محاصرة النظام القمعي لها، قد تراجعت، وأن وضع المرأة قد تردّى كثيرًا، وأن العلمانية المرتجاة التي ربما هي أفضل الحلول لبناء دولةٍ حديثةٍ في بلد فائق التعدّدية مثل سورية قد صارت حلمًا مستحيلاً لبعضهم، وكابوسًا لآخرين.
أغفلت قوى المعارضة هذه أمرًا أساسيًا، أن تكون الشريحة المستهدفة في خطابهم من أجل تحفيز الوعي العام والوجدان الجمعي، وطرح القضايا والمشكلات التي يعاني منها الشعب، والأهداف التي يرمي إليها أي شعبٍ، يرنو نحو الحرية وصناعة المستقبل، ليست مقتصرةً على الجزء الذي كان في ضفة المناطق المحسوبة على الحراك، أو خارج سيطرة النظام. كان عليهم أن يخاطبوا كل الشعب، طالما أنهم كانوا يبدأون خطابهم بجملة: باسم الشعب السوري، فهل الشعب الموجود في مناطق النظام ليس سوريًا؟ وهل هذا الشعب ليس لديه مشكلات وهموم واهتمامات وطموح؟ وهل هو كتلة صماء صاحبة رؤية واحدة وموقف موحد؟ لم تلتفت تلك المعارضة إلى المشتركات وتبني عليها، ولم تعرف أن تكسب مزيدًا من المؤيدين لصالحها، ليس فقط في الداخل، بل في الخارج، وها هو المشهد يُظهر كم هي الأنظمة العربية والإقليمية والدولية تقف في وجه الشعب السوري، بل لا يخدم موقفها من المعارضات الأخرى التي اختلفت معها في بعض القضايا، أو كان لها رأي مغاير، لا يخدم أي ثورة، فقد اعتبرتها جميعها بأنها من توليفة النظام، أو تحت عباءته، أو في صفه.
لسنا في معرض الحسابات، علمًا بأنه يحق لكل فرد من الشعب السوري أن يحاسب كل الأطراف التي قامرت بمصيره من نظامٍ إلى معارضة، لكن استذكار الماضي واستحضار التجارب لفهمها ونقدها ضرورةٌ لا بد منها، على أمل أن يكون في الأفق إمكانية لعمل إنقاذي.
كل ما يُطرح إن كان مبنيًا على دراسةٍ نقديةٍ أمر إيجابي وضروري، ويجب أن يحصل من أجل تصميم برامج وخطط طويلة الأمد للمستقبل الذي يَعد بكم هائل من القضايا المهمة، وفائقة الحساسية، لكن الملحّ حاليًا هو النضوج السياسي، والمباشرة بوضع تصوراتٍ لحلول ممكنة، واعتماد الواقعية السياسية التي تفرضها المتغيرات الإقليمية والدولية على المشكلة السورية.
لقد أظهرت السنوات الدامية أن الاستثمار الحربي لم يحقق غير الدمار، وانتهاك حياة السوريين، ودفع المدنيون ثمنه الباهظ، وهذا هو الدعم الذي وعدت به الدول التي تدير حروبها وصراعاتها فوق أرضنا، وتدّعي صداقة الشعب وحمايته، ولم تقدّم الهيئات والمنظمات الدولية أي دعم للشعب السوري، ولم تستطع قراراتها الملزمة وغير الملزمة أن تخمد نيران الحرب، أو توقف شلالات الدم، أو تمنع المصير المهين والمذل والغاشم الذي يتلقف السوريين، ويهجّرهم من بيوتهم وأمنهم، ليصبحوا هائمين في العراء، تغلق الحدود في وجوههم، فأي مأساةٍ يمكن أن تكون أفظع؟
ما طرحته الوثيقة الموقعة من تلك الشخصيات السورية أفكار مهمة وضرورية، ولكن الأهم وقف نزيف الدماء ونزيف الشعب، والمهم أيضًا تحديد ثقل هذه الوثيقة ومدى قدرتها على أن يكون لها موطئ قدم راسخة في صنع القرار السوري. خرج أمر السوريين من بين أيديهم منذ فترة طويلة، وكل النيات والطروحات والبرامج لا يمكنها أن تغيّر شيئًا من الواقع، إذا لم تحظَ بدعم خارجي، من دون الإرتهان إلى جهة دون غيرها. الخطوة الواعدة يجب أن تكون منطلقةً من ثوابت، أهمها الحنكة السياسية من جهة، والمصلحة الوطنية قبل كل شيء من جهة أخرى.