
فضل عبد الغني: نجاح لجان التحقيق الوطنية في سوريا يتطلب هندسة مؤسسية دقيقة تضمن الاستقلالية والشمولية ووضوح التفويض
أكد فضل عبد الغني، مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، في مقال نشره موقع تلفزيون سوريا، أن لجان التحقيق الوطنية تشكل إحدى الركائز الأساسية في مسارات العدالة الانتقالية والحكم الديمقراطي، حيث يتم اللجوء إليها للتحقيق في الإخفاقات المؤسسية وانتهاكات حقوق الإنسان والقضايا ذات الاهتمام العام.
وأوضح أن هذه اللجان، التي تلتقي فيها الأبعاد القانونية والسياسية والاجتماعية، تواجه ما وصفه بـ "مفارقة الشرعية"، إذ يتم تشكيلها برعاية الدولة لكنها مكلفة في الوقت نفسه بالتحقيق في إخفاقات وانتهاكات قد تكون منسوبة للدولة نفسها.
اللجان الوطنية المشكلة في سوريا عام 2025
استعرض عبد الغني أمثلة حديثة من السياق السوري، مشيراً إلى أنه في عام 2025 تم تشكيل ثلاث لجان وطنية رئيسية استجابة للتطورات الأمنية والاجتماعية في الساحل والسويداء، حيث صدر في آذار قرار رئاسي بتشكيل لجنة وطنية مستقلة للتحقيق في أحداث العنف الطائفي والانتهاكات الجسيمة بمحافظات اللاذقية وطرطوس وحماة، بالتوازي مع إنشاء لجنة عليا للسلم الأهلي لاحتواء التوترات. وفي تموز، ومع تصاعد الأحداث الدامية في السويداء، شُكلت لجنة تحقيق خاصة لمعالجة تداعيات هذه التطورات.
المبادئ الأساسية لتصميم لجان التحقيق
شدد عبد الغني على أن نجاح لجان التحقيق الوطنية يعتمد على الالتزام بثلاثة مبادئ أساسية هي: الاستقلالية، والتمثيل، ووضوح التفويض، موضحاً أن غياب هذه المبادئ يضعف من مصداقية اللجان مهما بلغت مهنيتها.
الاستقلالية المؤسسية والمالية
بيّن عبد الغني أن الاستقلالية تتطلب نصوصاً دستورية أو تشريعية تحصّن اللجنة من التدخل السياسي، إضافة إلى استقلالية تشغيلية تمنحها حرية إدارة التحقيقات وتخصيص الموارد وإصدار النتائج بشفافية.
وأكد أن السيادة المالية، عبر ميزانية مستقلة وصلاحيات إنفاق تقديرية، تعزز الكفاءة والفاعلية، محذراً من أن الاعتماد على التمويل الحكومي الدوري قد يضع اللجنة تحت ضغط سياسي. كما شدد على ضرورة ترسيخ صلاحيات التحقيق في التشريعات، مثل استدعاء الشهود وحمايتهم والوصول إلى الوثائق، ضمن ما سماه "مناطق الاستقلالية".
التعيين التشاركي للأعضاء
أوضح أن طريقة اختيار الأعضاء تشكل تحدياً، إذ تحتاج اللجنة إلى تفويض من الدولة لكنها مطالبة بالاستقلال عنها، مشيراً إلى أن التعيين عبر آليات تشاركية تشمل المجتمع المدني والبرلمان والقوى الاجتماعية والسياسية يعزز الشرعية ويحمي الاستقلالية. كما شدد على أهمية التنوع الجندري والعرقي والمناطقي، ليس فقط كالتزام رمزي، بل كضرورة عملية لضمان فعالية التحقيق والحد من النزاعات.
الشمولية والتنوع المعرفي
أشار عبد الغني إلى أن تكوين اللجان يجب أن يجمع بين الخبرة الفنية والشرعية المجتمعية، مع دمج المعرفة المهنية والتجريبية في آن واحد. واعتبر أن إشراك منظمات المجتمع المدني كمفوضين كاملين يضمن مركزية الضحايا ويوفر ذاكرة مؤسسية تربط بين الإجراءات الرسمية وتجارب المجتمع المحلي.
وضوح التفويض والحدود الزمنية
أكد على أهمية تحديد صلاحيات اللجنة بشكل واضح، مع الحفاظ على مرونة تسمح بمتابعة الأدلة الجديدة، وتحديد جداول زمنية واقعية توازن بين الشمولية والقيود العملية. كما دعا إلى مواءمة الصلاحيات القانونية مع طبيعة التفويض، بما يشمل استدعاء الشهود، والوصول إلى الوثائق، والتفتيش، مع ضمان حماية الحقوق الفردية.
مشاركة الضحايا كنواة معرفية
لفت عبد الغني إلى ضرورة الانتقال من اعتبار شهادة الضحية دليلاً إجرائياً فقط إلى الاعتراف بها كسلطة معرفية، من خلال تمكين الضحايا من المشاركة في تحديد أولويات التحقيق وتفسير نتائجه، وتوفير هياكل تشاركية تراعي الدعم النفسي وتفادي إعادة الصدمة، مع توفير خيارات متعددة للإدلاء بالشهادات وحماية الهوية.
العدالة الإجرائية والشفافية
أوضح أن الطابع شبه القضائي للجان التحقيق يتطلب موازنة بين المرونة وحماية الحقوق القانونية، مشدداً على ضرورة وضع معايير أدلة واضحة ومنهجيات توثيق دقيقة، وتبني استراتيجيات اتصال فعالة مع الجمهور، ونشر المنهجيات والتقارير الدورية مع مراعاة ضرورات السرية.
تعبئة الموارد وتنفيذ التوصيات
أكد عبد الغني أن الموارد الكافية والمستقلة شرط أساسي لنجاح اللجان، داعياً إلى تخطيط مالي شامل يغطي جميع مراحل عملها، وتوظيف كوادر مؤهلة تجمع بين الكفاءة الفنية والحساسية الثقافية. كما اعتبر أن تنفيذ التوصيات يمثل التحدي الأكبر، ويتطلب آليات متابعة مستقلة، ورقابة برلمانية، ودعماً من المجتمع المدني. وأشار إلى أهمية حفظ الذاكرة المؤسسية عبر أرشفة المواد وحمايتها، وإنشاء أرشيفات إلكترونية حيّة تواصل تحديث المعلومات.
اختتم عبد الغني مقاله بالتأكيد على أن نجاح لجان التحقيق الوطنية في سوريا يتطلب هندسة مؤسسية دقيقة تضمن الاستقلالية والشمولية ووضوح التفويض، مع إشراك الضحايا والمجتمع المدني بفاعلية، موضحاً أن هذه اللجان، رغم أنها لا تضمن وحدها تحقيق المصالحة أو المساءلة، قادرة على خلق مساحات حيوية لكشف الحقائق، والاعتراف بالضحايا، وتعزيز التعلم المجتمعي، بما يدفع التحولات السياسية والاجتماعية قدماً ويجعل البحث عن الحقيقة معبّراً عن المصلحة الجماعية للمجتمع.