جبال من الكذب بات يحتاج إليها ما يسمى محور المقاومة، لتغطية فضيحته في سوريا. فوضع الحرب السورية موضع مقاتلة إسرائيل ما عاد ينطلي حتى على أبسط السذج. سقطت هذه الكذبة مراراً خلال تعرجات الحرب السورية البادئة قبل سبع سنوات؛ لكن سقوطها الأكثر دوياً حصل في درعا.
ففي درعا، وإن لم تتضح تماماً ملامح التفاهمات الكبرى بين أطراف النزاع والمؤثرين فيه والمتأثرين به، فإن اتجاهها العام قليل الالتباس، وفحواه تفاهم أميركي روسي إسرائيلي أردني (وعربي) على إحلال جيش الأسد مكان الميليشيات الإيرانية.
منذ أن سقط الأسبوع الفائت، اتفاق خفض النزاع في جنوب سوريا الذي تم التوصل إليه في أول لقاء مباشر بين الرئيسين الأميركي دونالد ترمب والروسي فلاديمير بوتين قبل عام، على هامش اجتماعات قمة العشرين في هامبورغ، بدا أن هذا التفاهم حل مكانه.
فالتطورات الميدانية في درعا لم تمنع الأميركيين والروس من المضي قدماً في التحضير لقمة بوتين - ترمب، ما يعني أن سقوط اتفاق خفض التوتر في درعا، مأذون أميركياً. زد على ذلك ما تسرب من أن الإدارة الأميركية وعبر سفارتها في الأردن أبلغت المجموعات المسلحة في درعا، عبر رسائل نصية على تطبيق «واتساب» أن تبني خياراتها وفق مصالحها ومصالح عائلاتها، لا وفق افتراض أن القوات الأميركية ستتدخل لنصرتهم؛ لأن ذلك لن يحدث!
إسرائيل من جهتها، وهي الأكثر تشكيكاً في الاتفاق واستعداداً لامتحانه، تصر على منطقة خالية من إيران وميليشياتها تمتد بعمق 40 كيلومتراً من خط وقف إطلاق النار الإسرائيلي السوري المنصوص عليه في اتفاقية فك الاشتباك بين البلدين، الموقعة في 31 مايو (أيار) 1974، كما تصر على حرية الحركة في الأجواء السورية، وحرية شن هجمات على أهداف إيرانية، وهو ما قامت به فعلاً قبل أيام باستهداف قواعد ومخازن في محيط مطار دمشق، من دون أي اعتراض روسي يذكر أو رد فعل سوري أو إيراني.
لا يفعل هذا السياق الحدثي إلا تعرية كذبة المقاومة ومقاتلة إسرائيل، لا سيما متى تعلق الأمر بوظيفة سوريا الأسد، التي قالت إيران منذ اليوم الأول لتدخلها فيها إنها ما تفعل ذلك إلا حماية لظهر المقاومة وواسطة عقدها! فلماذا تقبل إسرائيل حلول جيش الأسد على مقربة منها، وترفض الإيرانيين وميليشياتهم اللبنانية والعراقية والأفغانية والباكستانية وغيرها؟ ولماذا هذا الاطمئنان للأسد المرعي روسياً بالكامل، في مقابل الاستنفار في مواجهة إيران وأدواتها؟ الحقيقة الناصعة التي نحن بإزائها هنا أن عملية تأهيل جدية جارية لنظام الأسد، تعود بموجبها سوريا إلى وظيفتها الأصلية، وهي النظام الحارس لحدود إسرائيل، والضامن لأمنها، مع احتفاظها وقتها بهامش من المناورة والمناوشة ملأته مقاومة «حزب الله»، قبل أن يتحول الحزب إلى واحد من أعقد التنظيمات غير الدولتية على مستوى المنطقة.
منذ الأسابيع الأولى للأزمة السورية، أفصح رامي مخلوف، الركن الاقتصادي السابق لنظام سوريا الأسد، عن هذه الوظيفة، مشدداً في حديث لصحيفة «نيويورك تايمز» على أنه «ما لم يكن هناك استقرار في سوريا فلن يكون استقرار في إسرائيل»، ما يعني أن الترجمة العملية لاستقرار سوريا هو استقرار إسرائيل، وهو ما يشهد له أي مراقب بسيط، إذا ما راجع أحوال الحدود بين البلدين منذ عام 1974، حتى انفجار نظام الأسد عام 2011.
وقد حفلت الصحافة الإسرائيلية في السنتين الأوليين للثورة بمقالات وتحليلات لأرفع المراقبين الإسرائيليين، تعتبر أن سقوط الأسد أو غرق سوريا في الفوضى كارثة استراتيجية لإسرائيل. قبل ذلك، كانت إسرائيل هي من فتح للأسد أبواب الخروج من عزلته التي دخلها بعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري عام 2005، بشهادة موثقة من نائب مساعد وزير الخارجية الأميركي الأسبق جيفري فيلتمان، في إحدى الندوات في واشنطن. فقد ساهمت الاجتماعات التي عقدها سفير الأسد في العاصمة الأميركية عماد مصطفى مع اللوبيات اليهودية منذ عام 2006، في فتح قنوات مباحثات سلام مع إسرائيل برعاية تركية، كشف عنها لاحقاً عام 2008، وهو ما كان سهل دعوة الأسد إلى مؤتمر أنابوليس للسلام قبل ذلك بعام!
لم يتغير الموقف الإسرائيلي من الوظيفة التاريخية لآل الأسد بخصوص أمن إسرائيل، إلا بعد أن بدا أن الأسد نفسه تغير، وصار دمية بيد إيران، وباتت إسرائيل تتعامل مع سوريا باعتبارها قاعدة إيرانية خالية من الأسد ودوره.
ثم ما لبثت أن عادت تل أبيب إلى خيار الأسد بعيد الدخول الروسي إلى الأزمة السورية، وانتزاع الأسد النسبي من يد طهران، ما جعل من بنيامين نتنياهو السياسي الأكثر اتصالاً بفلاديمير بوتين، وإسرائيل الدولة الأكثر تنسيقاً مع موسكو في سوريا.
في درعا، تكتمل الدائرة، ويعود الزمن رويداً إلى الوراء. يُعاد تأهيل الأسد في ذروة الهجوم الأميركي على إيران في إيران، والهجوم الإسرائيلي على إيران في سوريا، وشيئاً فشيئاً يرجع الأسد إلى جلباب أبيه؛ لكن هذه المرة منزوع الأدوار الإقليمية المتوهمة، ومنزوع المكانة المنتفخة، مجرد حارسٍ على أبواب إسرائيل وأنقاض سوريا.
هل ستدفن الثورة التي انطلقت بقوة من درعا عام 2011 في تراب درعا ذاتها؟ وهل الاستيلاء على الأرض يعني استيلاء على عقول الناس وقلوبهم؟ وهل انتصار نظام حكم على شعبه بالقتل والإبادة والتدمير يؤهله لأن يستمر في الحكم ؟ وهل بوسع النظام أن يفيد من الدرس التاريخي الضخم في ثورة الشعب فيعيد النظر في أسباب ما حدث، وأن يقدر أنه محى سوريا من خريطة المنطقة والعالم وجعلها أول دولة تحتلها عدة دول مجتمعة، مقابل أن يبقى الأسد رئيساً؟ وأقول نعم، كل ما حدث يبدو من أجل رجل واحد، والدليل أن المعارضة قبلت بالتشاركية مع النظام حسب بيان جنيف والقرارات الدولية، وقبلت بتشكيل هيئة حكم انتقالي بشراكة متوازنة مع من لم يرتكبوا جرائم من النظام، لكن النظام وروسيا وإيران لم يقبلوا.
ولئن كانت روسيا تبدو شديدة الوضوح في دعمها للأسد ونظامه، فإن الولايات المتحدة شديدة الغموض، لأنها أعلنت منذ البداية أنها تدعم الديموقراطية وتعادي الديكتاتوريات، وتقف ضد الاستبداد، وترفض أن يقتل رئيس شعبه لمجرد أنه طالبه بإصلاح سياسي، وأميركا هي الدولة الأعظم التي وقفت (علانية) إلى جانب ثورة الشعب السوري، وقدمت معونات لوجستية وعسكرية لفصائل من الجيش الحر للدفاع عن الشعب، ووصل بها الأمر في عهد أوباما إلى التهديد بشن حرب دولية ضد النظام بعد مجزرة الغوطة بالكيماوي، وفي عهد ترامب، قامت بهجومين عسكريين رمزيين، لكنني كنت وما زلت أعتقد أنها هي التي حافظت على بقاء النظام لمجرد أنها منعت السوريين من الوصول إلى مضادات الطيران فمنحت النظام وروسيا فضاء سوريا كله، ومن المعروف أن الطيران (وحده) هو الذي مكّن النظام من تدمير المدن وقتل الشعب.
ولقد تم اختصار القضية بين الرئيسين بوتين وترامب بأنها قضية دستور وانتخابات (كما في اتفاقية فيتنام بينهما)، وقد عارضت أميركا مؤتمر «سوتشي» دون أن تعارض قرارته، وقدمت نفسها ضامناً في الجنوب السوري، وقد صمتت حين أبيدت الغوطة، ومنعت الفصائل من (الفزعة) لأهل الغوطة، حفاظاً على اتفاقية خفض التصعيد في الجنوب، ولكن حين جاء الامتحان، وبدأ العدوان على الجنوب حتى بمشاركة إيران، تخلت الولايات المتحدة بوضوح عن فصائل الجنوب وأبلغتهم بأنها لن تناصرهم، وأذكر أنني قلت قبل عامين للصديق السفير مايكل راتني (على شكل دعابة) بعد أن تحدث إلينا مشجعاً في هيئة التفاوض في الرياض، وهو يجيد العربية ( لابد أنك تعرف مطربة لبنانية شهيرة اسمها صباح! قال نعم أعرفها، قلت: كانت لها أغنية شعبية تقول: وصلتونا لنص البير، وقطعتوا الحبلة فينا، إنكم تفعلون ذلك)، ضحك «راتني» وهو يعرف هذه الأغنية وقال (لا، لن يحدث ذلك).. لكن «راتني» عبر بعد عام من هذا الحديث- حين التقينا في باريس- عن أسفه لعدم وجود موقف واضح لبلاده، كان كيري قد عبر قبله عن أسفه قبل أن يغادر منصبه بيوم واحد فقط في حوار حاد بدأه الدكتور رياض حجاب، وبالمناسبة دار مثل هذا الحديث مع السفير الأميركي المبعوث لسوريا عام 2014 فحين عاتبته في واشنطن عن تخلي بلاده عن قضيتنا قال لي (تذكّرْ أننا في الولايات المتحدة لم نقم بهذه الثورة في سوريا) يومها قلت له ممازحاً (ألستم شركاء في المؤامرة الكونية ضد سوريا؟ النظام يتهمكم، بينما أرى أنكم بسياسة التخلي تدعمون النظام). قال (لا ندعمه ولكننا لم نقم بالثورة) وقد ترك الرجل منصبه سريعاً لأنه أدرك خلل موقف بلاده أواخر عهد أوباما.
وأما ما يحدث في جنيف من حديث عن الدستور فهو خلط للأوراق بهدف التهرب من تشكيل هيئة حكم انتقالي، ومشكلتنا اليوم ليست في الدستور الذي تشكل من أجله اللجان، (وأنا شخصياً من أنصار الإبقاء على دستور 2012 مع تعديلات عليه بما يتعلق بترسيخ بقاء الأسد) وقضيتنا لا يحلها دستور دون هيئة حكم غير طائفي، ولا مشكلة مستقبلية مع العلويين، فكثير من أهل السنة وسواهم أولياء للنظام مثل الكثرة في العلويين وسواهم، إنها قضية صراع بين الديموقراطية وبين الديكتاتورية، حولها النظام وحلفاؤه إلى مشكلات طائفية حين دخل «حزب الله»يبحث عمن قتل الحسين، وعمن سبى زينب، وحين قال لافروف ( لن نسمح لأهل السنة أن يصلوا للحكم )، وأخيراً كحلت التصريحات «إيرينا ياروفايا» نائبة رئيس الدوما بقولها، «تشن روسيا في سوريا حرباً ضد الإرهاب ليس لمصالحها الخاصة فقط، بل لمصلحة جميع اتباع الأرثوذكسية»، وهدف كل هذه التخاريف هو التعمية على مطلب واضح وحيد أعلنه الشعب من أول مظاهرة (نريد الحرية والكرامة)، وليت النظام قال يومها، (تعالوا ولكم الحرية والكرامة) لقد قال للأسف (تعالوا وقبّلوا البوط العسكري).
حصلت ثلاثة تطورات أخيرا، تفيد بأن ثمة صفقة تمت بشكل مضمر بين موسكو وواشنطن حيال مصير الجنوب السوري. الأول، لجوء النظام إلى سياسة البراميل المتفجرة في الجنوب، بعد توقفه عن ذلك قرابة العام، ما يعني أن ما يجري يتجاوز حدود الضغط العسكري على المعارضة إلى حدود السيطرة الكاملة على ريف درعا الشرقي، ومن ثم الريف الشمالي الغربي. الثاني، الدخول العسكري الروسي في المعركة، حيث شنت روسيا غاراتٍ على مناطق تسيطر عليها فصائل المعارضة، في سابقة هي الأولى منذ إعلان الجنوب ضمن مناطق خفض التوتر في يوليو/ تموز من العام الماضي، وجاء هذا التطور غداة إعلان السفير الروسي في لبنان أن النظام سيستعيد الجنوب، بدعم من روسيا. الثالث، تغير اللهجة الأميركية حيال ما يجري في الجنوب، فبعيد بياني الخارجية الأميركية في 25 مايو/ أيار و14 يونيو/ حزيران الجاري اللذين وجهت فيهما واشنطن تحذيرات للنظام من مغبة خرق اتفاق الجنوب، جاءت الرسالة الأميركية أخيرا إلى فصائل المعارضة، لتعكس تراجعا واضحا، فقد أبلغت واشنطن الفصائل بألا تبني قراراتها على افتراض أو توقع تدخل الولايات المتحدة عسكريا في الجنوب، لمساعدتها على التصدي للهجوم الذي يشنه النظام، وكأن هذه الرسالة بمثابة ضغط أميركي على المعارضة، للقبول بتسوية تحقق جزءا من أهداف المعارضة، بدلا من عمليةٍ عسكريةٍ تقضي نهائيا عليها.
ليس معروفا بعد ما إذا كان قد اتخذ القرار على المستوى الدولي باعتماد صيغة الغوطة الشرقية في كامل الجنوب، أم أن ثمّة ترتيبات تشابه عملية المصالحات التي اتبعها النظام، خصوصا في مدينة درعا وجنوبها، وفقا للطريقة الروسية، بناء على تفاهمات أولية طرحت قبل أسابيع (تسليم فصائل المعارضة الأسلحة الخفيفة والثقيلة، تحويل جزء من الفصائل إلى قوات محلية بإمرة النظام، وانتشار الشرطة العسكرية الروسية في مناطق المصالحة).
وإذا كان القرار الأميركي ـ الروسي قد اتخذ على ضرورة إخراج الجنوب السوري من معادلة الصراع، فإن شكل الترتيبات النهائية غير معروف، بانتظار ظهور نتيجة اللقاء الذي يجريه مستشار الأمن القومي الأميركي، جون بولتون، مع المسؤولين الروس، وبانتظار زيارة وزير الخارجية الأردني، أيمن الصفدي، موسكو، والتي تشير إلى وجود خلافات بين عمّان وواشنطن حيال مصير الجنوب، بعدما وضعت الأخيرة المعارضة، وربما الأردن، في فخ تصريحاتها السابقة في الأشهر الثلاثة الماضية، في ما يبدو محاولة أردنية لممارسة الضغط من أجل تمرير سيناريو المصالحات، خصوصا في مدينة درعا.
الواضح أن النظام سيسيطر على كامل ريف درعا الشرقي، والغربي لاحقا، وعلى كامل مناطق الجنوب الغربي، وإقامة منطقة عازلة موازية لخط الهدنة في الجولان المحتل، وإعادة العمل باتفاقية الفصل بين القوات السورية ـ الإسرائيلية لعام 1974، بما في ذلك إعادة نشر قوات الأمم المتحدة لمراقبة فضّ الاشتباك (أندوف). كما أنه سيسيطر على معبر نصيب الحدودي، وهو هدف يتماشى مع الرغبة الأردنية التي تتأرجح بين مستويين: ضرورة فتح المعبر تحت سيادة دمشق، وعدم حصول معارك كبيرة تحرج عمان التي أقفلت الحدود أمام عمليات النزوح.
في كل الأحوال، تعتبر صفقة الجنوب بين الولايات المتحدة وروسيا جزءا من استراتيجية قديمة متفق عليها، بدأت قبل ولادة مسار أستانة، فقد كان المطلوب أولا وقف القتال بين النظام والمعارضة للتفرغ لقتال تنظيم الدولة الإسلامية، وعندها تنتهي مهمة مناطق خفض التوتر التي لم يبق منها سوى إدلب التي يبدو أنها ستأخذ مصير سابقاتها في الجنوب والغوطة الشرقية، سواء عبر تركيا أو عبر النظام وروسيا.
تبين أحداث الغوطة الشرقية وأحداث الجنوب الجارية أن المقاربة الأميركية ـ الروسية تقوم على إبقاء الجغرافيا السورية ضمن ثلاث قوى، النظام وقوات سورية الديمقراطية (قسد) وفصائل المعارضة، بشرط أن توجد الأخيرة في بقعة جغرافية موحدة، وتخضع لهيمنة تركيا. وتؤكد هذه التطورات ما ذهب إليه التقرير الثاني لمؤسسة راند "خطة سلام من أجل سورية"، في يونيو/ حزيران 2016، أن واشنطن تخلت عن أهدافها المتعدّدة، مثل ضرورة الانتقال إلى نظام ديمقراطي وضرورة إنهاء الوجود الإيراني، لصالح ضرورة إنهاء الحرب ووقف نزيف الدم، وإنهاء عمليات اللجوء، والحد من التطرّف الذي يولده الصراع الدائر.
ووفقا للمسارات العسكرية الحاصلة هذا العام، فإن الصفقة الأميركية الكبرى مع روسيا ستكون على المستوى السياسي، بعد تفريغ المعارضة من قوتها العسكرية، فلم يعد المطلوب إسقاط النظام، وإنما إعادة إنتاجه بشكل جديد، مع ما يتطلبه ذلك من إعادة إنتاج للمعارضة نفسها، كي تكون انعكاسا للوقائع المقبلة.
انتهى بإعلان رسمي من «حميميم» اتفاقُ «خفض التصعيد» في الجبهة الجنوبية لسوريا، بعدما كان الاتفاق الوحيد الذي حمل طابعاً دولياً من خلال مشاركة الولايات المتحدة في وضعه إلى جانب روسيا والأردن. ولعله من الصعب القول اليوم إن تلك الجهات كانت قد اتفقت على إطار دائم لهذه الجبهة منفصل عن وضع سوريا ككل، وعن وضع المنطقة عموماً، سيما أن النظر إلى الوضع في جنوب سوريا لا تمكن رؤيته إلاّ من خلال نظرة أوسع لها خصوصيتها الجيوسياسية. هذا العنوان شكّل محوراً أساسياً من المحاور التي نوقشت تكراراً في القمم الثماني التي جمعت الرئيس الروسي بوتين مع رئيس وزراء إسرائيل نتنياهو، إلى تبادل زيارات مسؤولين آخرين روس وإسرائيليين كانت آخرها زيارة قائد الشرطة الروسية لتل أبيب، وكل ذلك كان يتمُّ بالتوازي مع مباحثات مع الأردن من ناحية، ومن الأخرى بين موسكو وواشنطن وبين تل أبيب وواشنطن، وتوجت بمباحثات موسكو بين لافروف - بولتن وانضم إليها الأردن، لتبرز صيغة أخرى كبديل عن منطقة «خفض التصعيد». والنقاش الفعلي لهذه الصيغة كان قد تقدّم كثيراً بعد الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي، وما تلاه من تصعيد في مضمون المواقف الأميركية التي حمّلت طهران المسؤولية عن زعزعة الاستقرار في المنطقة.
في هذا السياق وتزامناً مع إعلان النظام اعتزامه استعادة المنطقة الجنوبية، كانت لافتةً المواقفُ الروسية المتتالية، فقد حذّرت موسكو من أنها لن تشارك بتوفير غطاء جوي لعملية واسعة في الجنوب تشترك فيها ميليشيات الحرس الثوري ومن ضمنها «حزب الله»... وسبق ذلك قيام الرئيس بوتين بحثِّ الأسد على ضرورة مغادرة كل الميليشيات الأجنبية لسوريا، فيما كانت تل أبيب تتحدث بعد زيارتي نتنياهو وليبرمان إلى موسكو عن تفهم روسي لحاجاتها الأمنية (...)، وتكشف عن توافق مع الروس على انسحاب هذه الميليشيات نحو 60 كلم باتجاه الشمال ولو على مراحل. وعاشت المنطقة على وقع تسريبات أن ميليشيا «حزب الله» وبقية ميليشيات الحرس الثوري غادرت مواقعها في المنطقة، ليخرج الإعلام الروسي ليقول: إن هذه الميليشيات عادت بلباس الحرس الجمهوري السوري والفرقة الرابعة التي يقودها ماهر الأسد، فيما كانت وحدات سورية، قيل إنها من الفيلق الخامس، برفقة الشرطة الروسية تمسك بالحدود في منطقة القصير وتقفل المعابر المعروفة التي تربط بين الداخل السوري ومنطقة الهرمل.
على الأرض كانت تتبلور ترتيبات تقسيم مؤقت للنفوذ في المنطقة الجنوبية بين غرب وشرق؛ غرب ملاصق لمنطقة الجولان المحتل وبعض الحدود مع الأردن، يستمر فيه وجود «الجيش الحر» ولا يقلُّ عمق المنطقة عن ثلاثين إلى أربعين كلم، وشرق عبر وصل ريفَي السويداء ودرعا باعتماد طريق كالقوس عبر «أذرع» و«اللجاه» و«بصرى الحرير» باتجاه الحدود مع الأردن لوضع الحدود بعهدة الجيش السوري ولإعادة فتح معبر بين البلدين بديل عن معبر «نصيب» الذي يقع في المنطقة الغربية. وتنفيذاً لهذه الخطة تمّ استقدام وحدات سهيل النمر العسكرية التي أطلقت حملة عسكرية واسعة منسقة مع الروس والشرطة الروسية لتقطيع المناطق الخارجة عن سيطرة النظام السوري، بعدما جرى سحب «الفرقة الرابعة». وقضت الترتيبات الجديدة بأن يتسلم الجيش السوري كل المراكز الرسمية، بينما ستنتشر الشرطة الروسية في درعا مع تسريب معطيات غير مؤكدة عن القبول ببقاء عناصر «الجيش الحر» في المدينة لأنهم من أهلها وأبنائها. وحده الأردن الذي يعاني أزمة اقتصادية خانقة ويدرُّ عليه المعبر الحدودي سنوياً مئات ملايين الدولارات، حذَّر من مخاطر التصعيد العسكري وما سينجم عنه من قتل ودمار وتهجير جديد، مؤكداً أن الحدود الأردنية ستكون مقفلة ويجب إيجاد أمكنة إيواء للنازحين داخل الحدود السورية، كما حذّر من الخطر الكامن إذا استمر وجود ميليشيات متطرفة أو جماعات إرهابية على مقربة من حدوده.
في هذا التوقيت تلقت قيادة الجبهة الجنوبية رسالة أميركية مفادها أن واشنطن تريد أن توضح «ضرورة ألاّ تبنوا قراراتكم على افتراض أو توقع قيام أميركا بتدخل عسكري».. وأن «الأمر يعود إليكم فقط في اتخاذ القرار السليم في شأن كيفية مواجهة الحملة العسكرية للنظام السوري». الموقف الأميركي لم يفاجئ أحداً، واللافت أن الكشف عنه تزامن مع الكشف عن القمة المرتقبة بين الرئيسين ترمب وبوتين التي ستنعقد قبل منتصف يوليو (تموز) في النمسا، وبالتأكيد ما كانت موسكو لتجازف بالسماح بهذه العملية لولا التوافق مع واشنطن التي وضعت على الطاولة موضوع سحب القوات الإيرانية والتابعة لها من المنطقة. هنا نفتح مزدوجين للإشارة إلى أن تثبيت الوضع الجديد للجبهة الجنوبية لم يبلور بعد صيغة كاملة للتعاطي مع النفوذ الإيراني، ومع أدوار مختلفة تقوم بها ميليشيا «فيلق القدس»، ومنها تسريع عمليات التوطين لأعداد كبيرة من عناصر الميليشيات التي تم منح أفرادها الجنسية السورية، أعداد تستفيد - كما يُشاع - من القانون رقم 10 المتعلق بأملاك الغائب لوضع يدها على بيوت وأملاك السوريين لمنعهم من العودة... في المقابل الأحاديث عن أن الحكم السوري يقترب أكثر من الروس وأن الوجود الإيراني لم يعد مريحاً له، ليست مثبتة ولا نهائية.
على نار هادئة تمت حياكة الترتيب الجديد للجبهة الجنوبية؛ ترتيب ميداني وترتيب سياسي، ما يعني من جملة ما يعنيه القبول الإسرائيلي والغربي باستمرار الأسد على رأس النظام السوري، وعلى الدوام كان هذا هو الموقف الإسرائيلي، وتجربة حراسة النظام السوري لحدود الاحتلال في الجولان أكبر دليل. لكن التنفيذ أشعل مواجهات دموية وبسالة كبيرة من جانب المقاومين كانت موسكو توحي عبر المناورات والضغوط بأنها تسعى لتجنبها، بينما هي تشارك فعلياً في أكبر عمليات قصف جوي لانتزاع نصر عسكري شخصي يسعى إليه رأس النظام السوري، باعتبار أن الجبهة الجنوبية ترتدي أهمية استثنائية بعد الغوطتين بالنسبة إلى أمن النظام، الذي يريد القول: إنه طوى كل تهديد عسكري مستقبلي له، مع أنه منذ زمن لم يعد التهديد العسكري وارداً، وفات الكثير من الجهات في الفصائل كما في المعارضة السياسية رؤية أبعاد التحول الكبير الذي غيّر المشهد السوري. رغم ذلك لدرعا رمزية ثورية كبيرة؛ ففي الذاكرة الطرية للسوريين، شكّلت درعا مهد الثورة السورية، ويريد رأس النظام السوري الآن الثأر منها عبر إعادة السيطرة عليها، لكن الصورة راسخة في الداخل والمنافي وبين السوريين وكل الرأي العام الخارجي، إنها صورة الطفل حمزة الخطيب الذي تم التنكيل به والتمثيل بجثته... وراسخة في الذهن كذلك، أنه في درعا وكل الجنوب السوري وحوران التي خرجت سلماً من تحت الديكتاتورية، لم يسجل يوماً على فصائل الجبهة الجنوبية أيّ تطرف أو نزوع إلى التحكم والاستبداد، ولم تحدث فيها تجاوزات على الناس بل استمدت هذه الجبهة كل قوتها من محيطها.
مع محطة درعا، وهي محورية، سيبقى في الذهن أن الثورة السورية بدأت كانتفاضة شعبية يوحِّدها هتاف شهير: واحد واحد واحد الشعب السوري واحد... وطي صفحة العسكرة التي جرى فرضها على السوريين من النظام وحلفائه لتشويه الانتفاضة ووسمها بالإرهاب، لن يُطوى جوع السوريين للخبز والكرامة والحرية.
شعور المرء بالخجل أو الارتباك بعد ارتكاب فعل خاطئ أو العار الذي جلبه على نفسه وأسرته أو وطنه هو شعور طبيعي، ويترافق عادة مع ما يسمى الإحساس بالمسؤولية أو الشرعية الأخلاقية وبالتالي عند فقدانها نتيجة ارتكابه خطأ ما، يشعر المرء أنه غدرَ بالمسؤولية وأنه فقد الشرعية التي أعطيت له على أمل أن يفعل ما كان يتوقع منه وهو الأفضل لنفسه وللناس، كل هذه المفاهيم تقريباً أصبحت جزء رئيساً مما يسمى اليوم تأثير الرأي العام ومحاسبة المسؤولين السياسيين الذين يتبوأون مقاعد رئيسية في الحياة العامة وبالتالي هم عرضة للنقد أكثر من غيرهم كما أن المسؤولية السياسية والأخلاقية التي تتوقع منهم وتنتظر منهم غالباً ما تكون أعلى وأكبر.
ولذلك نسمع باستمرار عن استقالة هذا المسؤول أو الوزير في الديموقراطيات الغربية بعد تصريحه بعبارة ما يشتم منها رائحة العنصرية أو أنه قام بفعل ما مناف لحقوق الإنسان أو حتى الأخلاق العامة أو ما دون التوقعات العامة مما يجب على هذا المسؤول القيام به. لقد تطورت هذه الثقافة وأصبحت جزءاً رئيساً من حملات الشفافية العامة والمحاسبة للمسؤوليين بخاصة مع نمو وثورة وسائل التواصل الاجتماعي التي مكنت المواطنين من أن يُبدوا رأيهم في كل صغيرة وكبيرة وأن يوثقوا المواقف والتصريحات ويعلقون عليها، وبالتالي أصبحت مسألة المحاسبة العلنية أكثر سهولة وهي طوّرت في المقابل الشعور بالمسؤولية. والتقدم بالاستقالة أكثر شيوعاً ودورية كما وجدنا في بريطانيا مؤخراً وإسبانيا وحتى داخل بعض الدول العربية على مستوى الوزراء لكن ليس على مستوى قادة الدول.
أعتقد أن هذه الطريقة من أكثر الوسائل تأثيراً في الرأي العام وتشجيعاً لبناء ثقافة المحاسبة والمسؤولية ويجب تنميتها باطراد وتعزيزها في الحياة العامة، لأنها تلعب دور برلمان الشارع. وفي الديموقراطيات الغربية أصبحت وسيلة مهمة لقياس الشعبية وبالتالي مؤشر إلى الانتخابات المقبلة لاسيما أن فايسبوك وتويتر أصبحا جزءاً لا يتجزأ من الثقافة الشعبية للمواطنين وترتفع مع ارتفاع نسبة التعليم في كل البلدان.
إذا أخذنا كل ذلك وقمنا بتطبيقه على سورية اليوم، بكل تأكيد سورية لم تكن منذ استلام حزب البعث السلطة عام 1963 بلداً ديموقراطياً وتحولت مع الأسد الأب والابن إلى دكتاتورية شمولية شبيهة إلى حد ما بنموذج كوريا الشمالية اقتصادياً وسياسياً، ولذلك لن نتوقع أبداً أن يكون رد فعل السياسيين السوريين على غرار ما نجد في الديموقراطيات العريقة.
ولكن، مع بدء الثورة السورية بدأت الفيديوات من سورية تتزايد وبعضها يحكي قصصاً إنسانية ليست مسيسة بأي حال من الأحوال لكن بغاية التأثير في كل سوري مهما كان موقفه السياسي مؤيداً للنظام أم معارضاً له، بخاصة إذا كانت هذه الفيديوات تتعرض لقصص أطفال سوريين يدفعون ثمن حرب لم يكن لهم قرار في اتخاذها أو إعلانها.
فيديو حمزة الخطيب وتعذيبه كان صاعقاً لكل إنسان فما بالك بكل سوري، أظهر بوقت مبكر مدى وحشية الأجهزة الأمنية السورية في تعذيبها للأطفال السوريين، بعدها بدأت تتكاثر الفيديوات لكن بالمقابل وجدنا إنكاراً دائماً لها أو تجاهلاً مطبقاً من قبل الأسد، حتى عندما انتشرت فيديوات لمؤيدين له يدفعون ثمن الحرب وبدأت قصصهم غاية في الألم كقصة حسن محي الدين من حي الرمل بطرطوس حيث تقدم بطلب عمل، وتم إخباره أنه حصل على وظيفة عمل في معمل للأعلاف في حماه وعندما توجه للعمل أعطاه النظام رشاش كلاشنيكوف وبدلة عسكرية وتم أخذه إلى المعارك في اليوم الأول حيث قتل وأرسل إلى أهله في اليوم الأول، كان أهله ينتظرونه ليسمعوا أخباره عن اليوم الأول لعمله فاستلمو جثته، بدت قصة مؤلمة للغاية في الحرب العبثية التي يقودها الأسد ضد شعبه ووقودها السوريين حتى من طائفته ومؤيديه، طبعاً لم يعلق الأسد أو يعتذر أم يغير موقفه.
مقابلة الأسد الأخيرة مع قناة «روسيا اليوم» بدا أنه يكرر العبارات ذاتها التي ما فتئ يرددها على مدار السنوات السبع الماضية: «إرهابيون» و «عملاء» و «السيادة الوطنية». كما بدت ملامح وجهه هي ذاتها، مزيج من البلاهة والإنكار وترديد الأكاذيب على رغم معرفته بأنها ليست سوى ذلك، وهو تقريباً يدفعنا إلى سؤال يتعلق بعلم النفس السياسي: لماذا لا يشعر الأسد بالعار من قراراته التي اتخذها والتي أوصلت سورية إلى ما هي عليه اليوم؟
ربما تكون هناك تفسيرات كثيرة في علم النفس الاجتماعي أو السياسي، لكن القدرة على إنكار الحقيقة وإخفائها سنوات طويلة تحتاج إلى مهارة من نوع خاص، ربما أخبره أحد مستشاريه أنه يجب أن يظهر قوة دائمة وأن يتجنب لحظات الضعف البشرية الطبيعية والتي هي جزء من كل إنسان، ربما هذا المظهر يظهره بقوة أكبر أمام أنصاره ومحازبيه، ربما يدفع به إلى أن يكون مثالاً عن النصر المرتجى وما إلى ذلك.
لكن بكل تأكيد الدمعة والألم باتا جزءاً من كل بيت سوري حيث سقط قتيل أو يوجد معتقل أو لاجئ أو فقير أو يتيم إلى ما لا نهاية لذلك، وبالتالي ربما يبدو أن السوريين يرغبون في رؤية الدمعة أو الألم في عيون وكلمات مسؤوليهم، لكن الأسد ربما يفضل الرأي الأول وهو بكل الأحوال متماش أكثر مع شخصيته.
في الحرب السورية حاول الأسد أن يجعل للحقيقة وجهتي نظر، لكن المحاولة هذه لا يمكن لها أن تصمد كثيراً وهو ما حصل بالفعل ولذلك بالنسبة له لا بد من سياسة الإنكار وهو ما يعتبره الكثيرون من علماء النفس على أنها الوسيلة الوحيدة لتجنب اللوم أو الشعور بالعار، وهو ما ساعد الأسد يومياً على قتل ضميره ببطء رويداً رويداً حتى تحول إلى آلة من الحقد، لا تميز بين معارض ومؤيد وربما يختصر الفيديو المسرب أخيراً من أحد شبيحته في حماة الذي أطعم حصاناً عربياً أصيلاً إلى وحوشه المفترسة من نمور وأسود أمام أعين الكاميرا يختصر هذا الفيديو قصة الشعب السوري الأصيل الذي تفترسه الوحوش على مدى السنوات السبع وصاحبها «الأسد» يتابع المنظر بضحكات ومرح.
في الوقت الذي تخوض فيه المعارضة السورية معارك طاحنة مع النظام السوري والمليشيا المتحالفة معها وتتعرض درعا لقصف عنيف من الطيران الحربي الروسي مخرجا ثلاث مستشفيات ميدانية عن العمل؛ تدور رحى معركة انسانية وسياسية ودبلومسية في الاقليم عنوانها اللاجئون السوريون تزداد شراسة مع تقدم قوات انظام السوري في الريف الشرقي للمدينة.
فمنطقة خفض التصعيد في الجنوب السوري باتت من الماضي والقتال والمواجهات تمثل الحقيقة الثابتة التي جاءت معها موجة جديدة من المهجرين الزاحفين نحو الحدود الاردنية؛ اذ قدر عدد الزاحفين على الحدود الاردنية باكثر من 45 الف مهجر من مناطق القتال.
الاردن في المقابل اعلن حالة الطوارئ على الحدود وصرح وزير خارجيته ايمن الصفدي الذي زار موسكو مؤخرا بان حكومته لن تستقبل مزيد من اللاجئين السوريين؛ موقف عاد رئيس الوزراء عمر الرزاز ليؤكد عليه بالقول " ان الاردن لن يستقبل أي لاجئ سوري جديد عبر الحدود، فالمملكة استوعبت لاجئين سوريين اكثر من طاقتها بكثير"، مشددا على ان "حدودنا منيعة؛ وان قواتنا المسلحة تحميها".
هدير المدافع والطائرات زاحم اصوات المسؤوليين الاردنيين في الرمثا الاردنية قادما من درعا؛ فقوات النظام السوري وحلفاؤها تحاول التقدم نحو منطقة الصوامع في المدينة؛ في المقابل يشعر الاردن بانه غير مؤثر في مجريات ومسار المعركة؛ فروسيا والنظام السوري مصرين على حسم معركة درعا في حين تظهر المعارضة السورية ممانعة قوية لمفاوضات تنتهي بتهجير المقاتلين واسرهم الى ادلب خصوصا بعد التجربة المريرة التي عاني منها مقاتلوا الغوطة الشرقة الذين انتقلوا اليها.
وجدت عمان نفسها في خضم معركة ضروس وحيدة في مواجهة الازمة الانسانية بعد اعلان وزراة الدفاع الامريكية بانها لن تتدخل في مسار المعارك تاركة المعارضة السورية لمواجهة مصيرها؛ اما الكيان الاسرائيلي فهو معني فقط بابعاد المليشيا الايرانية ومليشا حزب الله عن الحدود الجنوبية وغير معني بالازمة الانسانية المتفجرة في المنطقة على وقع انفجار القنابل المنهمرة على درعا.
هيئة الاغاثة الدولية أعلنت بانها ستقدم المعونات والمساعدة للاجئين عبر الحدود الاردنية باتجاه الاراضي السورية المحاذية لتخفيف معاناة اللاجئين وهي خطوة هشة؛ مخلقة حالة لاتقل خطورة عن الحالة التي تخلقت في مخيم الركبان و التنف من قبل؛ والتي ادت الى زيادة الاعباء الامنية على الجانب الاردني.
المخيمات التي ستنشأ على الحدود ستتحول الى بؤر توتر امني و إنساني؛ فالمعارك في الجنوب السوري ستطول على الارجح مادامت المعارضة السورية متمكسة بموقفها المعارض لاجراء تسويات مع النظام السوري ومليشياته؛ فالتخلي الامريكي عن المعارة السورية في الجنوب لم يمنعها من خوض المعركة.
معاناة اللاجئين والضغط على الحدود الاردنية تحول الى معركة اردنية موازية؛ فالنظام السوري معني بتكثيف غاراته ومفاقمة ازمة التهجير واللجوء ضاغطا على الحدود الاردنية؛ على امل ان يدفع ذلك الى ممارسة ضغوط اردنية وغربية على الفصئل السورية للقبول بالتسوية او ما يطلق عليه النظام بالمصالحات التي تفضي لوقف القتال وتسليم المناطق المسيطر عليها للنظام السوري.
التهجير جزء اساسي من معركة الجنوب السوري تعقد المشهد الانساني و السياسي شيئا فشيئا مع تقدم المعارك و تكثيف القصف الذي باتت القوات الروسية جزء مهم منه؛ لذلك يتوقع ان تتعاظم الضغوط على المعارضة السورية للقبول بالتسويات او ما يطلق عليه النظام المصالحات على امل وقف نزيف اللجوء السوري امر لايمكن توفير ضمانات كافية حوله في المستقبل القريب.
مدافع الحرب ان صمتت في الجنوب السوري فان مدافع التهجير وصرخات الاطفال على الحدود لن تتوقف عن القصف على الارجح مثيرة القلق والارق على الجانب الاردني ؛ امر يعول الاردن بشكل كبير على روسيا لضبطه ؛ وهو امر بحد ذاته غير مضمون.
ختاما موجة اللجوء السوري الجديدة تحولت الى ورقة ضغط واستنزاف وابتزاز للاردن من الممكن ان تمتد الى اشهر على الارجح ؛ فالنظام السوري وحلفاؤه سيعمل على استثمارها الى اقصى الحدود كورقة لممارسة الضغوط على عمّان التي تعاني من ازمة اقتصادية خانقة وخذلان دولي كبير.
تطرح معركة درعا مجموعة من الأسئلة، خصوصا في ضوء التغيير في الموقف الأميركي من تقدّم القوات التابعة للنظام من المدينة القريبة من الحدود الأردنية والتي منها انطلقت الثورة السورية. ليس معروفا ما الذي تبدل حتّى يبلغ الأميركيون الفصائل المسلحة المعارضة للنظام في تلك المنطقة رسالة من بين ما جاء فيها “نفهم أنه يجب أن تتخذوا قراركم حسب مصالحكم ومصالح الأهالي والفصائل. ينبغي ألا تستندوا في قراركم إلى افتراض تدخل عسكري من قبلنا أو توقع ذلك”.
الرسالة التي تلقّتها الفصائل التي تدافع عن درعا والمنطقة المحيطة بها، والتي بات الأميركيون يسمّونها الجنوب السوري الغربي للتفريق بينها وبين جبهة الجولان الممنوع الاقتراب منها، أكثر من واضحة. يبدو أن كلّ الكـلام الأميركي عن المحافظة على خفض التوتر في الجنوب السوري صار من الماضي. لم تعد من قيمة تذكر للاتفاقات التي أمكن التوصل إليها في هذا الشأن بين أميركا وروسيا والأردن. كانت هناك من دون شكّ موافقة إسرائيلية ضمنية على هذه الاتفاقات التي يبدو أنّها لم تعد تصلح لأيّامنا هذه.
هناك سياسة أميركية جديدة في ما يخص التعاطي مع سوريا. تقوم هذه السياسة على تلزيم الجنوب السوري إلى روسيا في ظلّ اتفاق أميركي – روسي – إسرائيلي. ليس معروفا هل يستطيع الجانب الروسي الساعي منذ فترة طويلة إلى عقد صفقة مع إدارة دونالد ترامب تنفيذ المطلوب منه سوريا، أي التخلّص من الوجود الإيراني في هذا البلد الذي كان حكامه يزايدون عربيا على كلّ من تسوّل نفسه الكلام عن تسوية ما مع إسرائيل، فيما كانوا يتولون بالفعل المحافظة على أمنها.
في أساس السياسة الأميركية الجديدة التي بدأت تتبلور، ثمّة رهان على روسيا وقدرتها على اقتلاع إيران من سوريا، علما أن الإيرانيين والميليشيات المذهبية التابعة لهم تغلغلوا في الوحدات النظامية لجيش النظام وبدأوا يرتدون بدلاته العسكرية. هل هو رهان أميركي في محلّه أم أن روسيا ستتمكن مرّة أخرى من أخذ الإدارة الأميركية إلى حيث تريد، كما فعل الرئيس فلاديمير بوتين في مثل هذه الأيّام من صيف العام 2013؟
في آب – أغسطس من العام 2013، استخدم النظام السوري السلاح الكيميائي في سياق حربه على شعبه. حدث ذلك في محيط دمشق بعد أيّام من كلام الرئيس باراك أوباما عن “خطوط حمر” رسمها لبشّار الأسد في مقدمها استخدامه السلاح الكيميائي. تدخل الرئيس الروسي ونجح في إقناع أوباما بتفادي توجيه أي ضربة للنظام السوري. أدّى ذلك إلى إنقاذ النظام. كان كافيا توجيه سلسلة ضربات إلى مواقع حساسة، من بينها المطارات العسكرية، كي يذهب رئيس النظام السوري إلى حيث يجب أن يذهب، أي إلى منفى ما خارج سوريا.
لكن بوتين، الذي أظهر مقدارا كبيرا من الحنكة والمعرفة بكيفية تفكير المقيم وقتذاك في البيت الأبيض، عرف كيف يناور. أخرج لأوباما من جيبه فكرة التخلّص من مخزون السلاح الكيميائي بإشراف دولي. هدأ الرئيس الأميركي، لكنه تبيّن مع مرور الوقت أن النظام السوري لم يتخلص من كلّ ما لديه من مخزون كيميائي. صار اللجوء إلى هذا السلاح بين وقت وآخر مسألة أقلّ من عادية. وكي يظهر دونالد ترامب أنّه مختلف عن باراك أوباما وجّه ضربتين إلى النظام السوري إثر لجوئه مجددا إلى السلاح الكيميائي. كان للضربتين طابع فولكلوري، لا أكثر. كشفتا غياب أي جدّية أميركية في إضعاف النظام وكفّ شرّه عن شعبه. هذا لم يمنع الإدارة الأميركية من الإقدام على خطوات أخرى ذات بعد استراتيجي تمثلت في السيطرة على سوريا المفيدة، أي على شرق الفرات، حيث الماء والثروة الزراعية والنفط والغاز، فضلا عن الموقع الاستراتيجي، إنْ من ناحية القرب من الأكراد، أو التحكم بالطريق الذي يربط العراق بسوريا والذي تطمح إيران إلى أن يكون في تصرّفها.
هل يكون دونالد ترامب مختلفا عن باراك أوباما في سوريا؟ هذا ما ستكشفه معركة درعا التي تعني أوّل ما تعني هل ستتمكن إيران من البقاء في سوريا تحت غطاء من النظام وجيشه أم لا؟ ذلك هو بكلّ بساطة ما على المحكّ في هذه الأيّام في ظل كلام عن لقاء قريب بين ترامب وبوتين.
ستظهر معركة درعا هل يمكن الرهان على روسيا في عملية إخراج الإيراني من سوريا. ليس الرهان على روسيا رهانا أميركيا فقط، بل يبدو أنّه رهان إسرائيلي أيضا، ذلك أن إسرائيل تفضّل حصول هذا الانسحاب الإيراني من دون أن تضطر إلى خوض حرب يمكن أن تكلّفها غاليا، خصوصا إذا اتخذت إيران قرارا بفتح جبهة جنوب لبنان عن طريق “حزب الله”.
في كلّ الأحوال، لا يمكن لإيران أن تبقى في سوريا. الثابت أن روسيا أوّل من يفهم هذه المعادلة ويستوعبها. من لا يبدو قادرا على التعاطي مع هذه المعادلة هو النظام السوري الذي يعرف تماما أنّه لن يكون لديه أي هامش للمناورة في حال الانسحاب الإيراني. من دون إيران، لن يكون أمام بشّار الأسـد من خيار آخر غير خيار التلميذ المطيع. هذا الخيار أقرب إلى دور عرف رئيس النظام السوري كيف يلعبه عندما اضطر إلى ذلك في مناسبة إحدى زيارات فلاديمير بوتين لقاعدة حميميم قرب اللاذقية. من يتذكر كيف منع ضابط روسي بشّار من أن يكون إلى جانب الرئيس الروسي حين تفقّد القاعدة؟
يمكن للخيار الأميركي في سوريا أن يكون في محلّه، كما يمكن لروسيا استخدام الرهان عليها من أجل أن تفتح سياسة على حسابها. مثل هذا الأمر يبقى مستبعدا لسببين. الأوّل الحاجة التي لدى الكرملين إلى التفاهم مع واشنطن، والآخر الرغبة في تفادي حرب تبدو من النوع الذي لا مفرّ منه في حال إصرار إيران على البقاء في سوريا.
الأكيد أن إسرائيل ليست الطرف الوحيد الذي لا يستطيع التعايش مع الوجود الإيراني في سوريا. هناك مشكلة أخرى اسمها الأردن الذي يعرف، تماما، معنى أن تكون القوات التابعة للنظام السوري والتي ستقترب من حدوده، في حال سقوط درعا، مخترقة إيرانيا وميليشياويا.
في الواقع، سيكون على روسيا أن تكون للمرّة الأولى في غـاية الوضوح. هل هي قادرة على تنفيذ تعهداتها في الجنوب السوري، أم ستترك إسرائيل تضرب الإيرانيين وغير الإيرانيين حيثما وجدوا في سوريا؟
سيـوفر تغيير السياسة الأميركية بالنسبة إلى ما يحدث في درعا ومحيطها مناسبة لمعرفة المدى الذي بلغه التنسيق الأميركي – الروسي – الإسرائيلي. الأهمّ من ذلك كلّه، سيظهر هل لدى إيران الرغبة في تحمل نتائج الانسحاب من سوريا وما سيترتب على تحول النظام السوري إلى مجرد دمية روسية بعدما أمضى سنوات عدّة يلعب على الإيـراني والروسي في الوقت ذاته؟
اليوم يضج العالم بمونديال روسيا لكرة القدم، الحدث الكروي العالمي مونديال كأس العالم الذي يتابعه العالم بأكمله، جميعنا منهمكين بأوقات المباريات والنتائج بل تجلى الوقت كله أمام الشاشات لمراقبة أحداث الكرة، والبعض حمل نفسه وذهب للمتابعة الحية في روسيا، مونديال كبير خطف أوقات العالم وكسب دعمهم الثمين بالمتابعة والتعليق والنقد والتشجيع، حدث يحظى بأهمية كبيرة لدى العالم العربي بشكل خاص والغرب بشكل عام والذين هم الرابح الأكبر فيه ونحن الخاسر الأول والأكبر.
التفاعل العربي الضخم والكثيف اليوم مع المونديال الكروي يشعرنا بحسرة وبأننا في نكبة ونكسة دائمة لا يمكن النهوض والخروج منها، لأنك لا يمكن أن تسمع هذا التفاعل العربي الكبير بالصوت والقلم وتمتلئ الساحات والأماكن العامة بالناس، ويمتلئ الإنترنت بآلاف بل بملايين الصور والكتابات والهاشتاغات، لا يمكن أن تسمعه مع معاناة الشعوب وآلامها وخيباتها، لأنك بكل بساطة لا يمكن أن ترى هذا التضامن الكروي المؤسف المخزي مع بلادنا العربية المتفتتة من نيران الحروب وشعوبها المتآكلة من كثرة الضحايا، سؤال موجه للشعوب العربية صاحبة الصوت المؤثر إن توحد، جميعنا نشاهد المونديال في روسيا ولكن هل تعرفون المونديال الذي تقوم به روسيا في سوريا؟ هل شاهدتم أحداثه؟ هل ترقبتم أهدافه؟ هل نسيتم أعمالكم وجلستم لتتابعوه؟ هل تجمعتم في الساحات والأماكن العامة بالأصوات الصاخبة والأعلام والشعارات؟ هل أطلقتم الهاشتاغات وكتبتم ونشرتم آلاف الصور؟ لا والله كلها كانت غريبة عليكم ومواقف صماء وعيون عمياء وقلوب كحجر الصوان.
المونديال الروسي في سوريا هو صواريخ من الأرض وصواريخ من الطائرات وقذائف المدافع وصواريخ كاليبر وغيرها من البوارج الروسية من البحر، هو احتلال سوريا وتهجير أهلها منها وتقسيمها، المونديال الروسي هو تغيير جغرافية سوريا بشكل كلي بعد أن ثبتت روسيا قواعدها بها طبعا وليست الوحيدة، بدأ هذا المونديال سنة 2015، أبرز أهدافه هي أكثر من 6000 ضحية من الشعب السوري، منهم 1761طلفة، و661 سيدة سورية، وارتكبت القوات الروسية ما لا يقل عن 317 مجزرة.
عن ماذا نحدثكم يا شعوبنا العربية، عن هذه الأرقام المؤلمة أم عن المساجد التي تدمرت بالصواريخ الروسية أم عن المستشفيات والمنشآت الطبية أم عن عن مجازر الأسواق الشعبية، بمونديالها نفذت روسيا آلاف الهجمات الحارقة وساعدت نظام الأسد بقتل الشعب السوري بكافة أنواع الأسلحة والمحرمة دولياً استخدمت الفيتو لحمايته في مجلس الأمن أكثر من 12 مرة، وما زالت مساندة لأعتى نظام وحشي بربري في العصر الحديث، لم يأخذ هذا المونديال أي أهمية منكم، بل ما زلتم أصحاب ضمائر ميتة مكفنة، لم نشاهد أقل تقدير لهذه الأرقام وأقل تضامن إنساني، كل المآسي التي حصلت في سوريا لم تحرك مشاعر أحد بكم، لم تسقط دمعة من أعينكم لكن خسارة منتخب ما في مونديال روسيا أحبط معنوياتكم الكروية وذرفتم الدموع وحزنتم، لا يمكن التعبير عن الشعور الذي نعيشه بداخلنا عندما نرى هذا التناقض الكبير بين ردة فعلكم اتجاه كرة القدم وبين ردة فعلكم اتجاه المجازر وأرقام الضحايا والمآسي التي خلفتها الحروب.
"عندما ينتهي كل شيء، لن نذكر ما كان يقوله أعداؤنا، بل صمت الأصدقاء هو ما سنذكره" مقولة للناشط والفيلسوف البوسني علي عزت بيجوفيتش، فلتعلم الشعوب أن كل ما يحصل في سوريا من معاناة ومصائب نحن نعلم فاعله جيداً ونتكلم عنه في كل المنصات والقنوات وشبكات الإنترنت رغم أن ذلك لم يعد يجدي نفعاً في هذا العالم المتخدر، لكن كما قال بيجوفيتش عندما ينتهي كل شيء سنذكر ما فعله الأصدقاء، سنذكر مع الأيام والسنين الأصوات الرنانة والصاخبة المتوحدة في كرة القدم، والبكم الذين لم يعد لهم صوتاً يصدح ولو بتنديد واستنكار في شوارع بلاده وشبكات الإنترنت تعبيراً عن تضامن إنساني مع المونديال الذي تقيمه روسيا في سوريا، لا مونديال روسيا لكرة القدم، لم يعد هناك أي وصف لما تفعله روسيا في سوريا لم يعد هناك كلمات تكفي للتعبير، الحروف انهارت والسطور تمزقت، بالأمس شاهدت تقرير لطفلة سورية اسمها مايا المرعي عمرها 8 سنوات بترت قدماها وتنتعل علب حديدية وبلاستيكية فارغة لتستطيع أن تطأ الأرض وتمشي وتقضي حاجاتها دون أن تتأذى تعيش في أحد المخيمات بعد أن تهجرت من بيتها، ليست هي فقط بل والدها أيضاً مبتور القدمين، مشهد مأساوي محزن ومبكي، يذيب القلب ألماً، هذه واحدة من مصائب الحرب التي لم تحصد زخما كبيراً وتفاعلاً وتعاطفاً، كخسارة ميسي في مباراته في المونديال المقام، لم تدمي القلوب وتدمع العيون كتلك العيون التي ذرفت حتى جفت من أجل ميسي أو رونالدوا أو خسارة منتخب ما في المونديال.
لم ولن ننسى صمت القريب والبعيد عما يحصل في سوريا وعن أصواتهم وخفقات قلوبهم مع مونديال روسيا، بينما كانوا لا يسمعون ولا يرون منشغلون منهمكون في حياتهم الطبيعية أمام معاناة سوريا والشعب السوري في مونديال روسيا بسوريا، لن ننسى أفعالكم اتجاه مشاهد الأطفال وهي تحت الركام بعد القصف الروسي واستهداف المشافي التي تغص بالمصابين والجرحى، ولن ننسى ردة فعلكم وغيرتكم اتجاه قصف روسيا لمساجدنا وتدميرها، ولن ننسى كيف تضامنتم مع لاعبي الغرب لأنهم خسروا في إحدى المباريات، وبين تضامنكم مع قصف روسيا المستمر لمجموعات الخوذ البيضاء الدفاع المدني السوري، ألا تشعروا بالعار أمام هول ما يحدث بينما تجلسون اليوم أمام الشاشات تتابعون بلهفة كرة القدم وبلادنا غارقة بنزيف الدم العربي، كم كنا مخطئين، وكم أسأنا الظن بكم.. نحن آسفون ولا تحملوا علينا في قلوبكم فأنتم إخوتنا في الدين ولكن!.. شتان بين مونديال ومونديال.
يدلّ فتح معركة الجنوب السوري، بعدما كانت أكثر التوقعات والتحليلات تستبعد ذلك، على أن التفاهمات الروسية - الإسرائيلية أشمل وأعمق مما كنا نعتقد بكثير، وأن مفاعيلها تتجاوز بالتأكيد التفاهمات الروسية - الأميركية حول المنطقة، ذلك أن منطقة خفض التصعيد في الجنوب، بخلاف الغوطة الشرقية وريف حمص الشمالي، وحتى إدلب، لم تكن جزءا من مسار أستانة الذي بدأته تركيا وروسيا بعد معركة حلب الشرقية في ديسمبر/ كانون الأول 2016، وانضمت إليه إيران لاحقا، بل كانت محكومةً بتفاهم روسي - أميركي عتيد، تم التوصل إليه في اجتماع الرئيسين الأميركي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين على هامش قمة العشرين في ألمانيا في يوليو/ تموز 2017، والتأكيد عليه في قمة "أبيك" في فيتنام في نوفمبر/ تشرين الثاني 2017، قبل أن توضع تفاصيله في اتفاقٍ ثلاثي شمل الأردن، الطرف المعني مباشرة بمنطقة الجنوب. وكان يُفترض بهذا الاتفاق "الأسمى" من اتفاقات أستانة، كونه تم على المستوى الأعلى في الصراع الدائر في سورية، أن يشكل، من وجهة نظر روسية، مدخلاً لتفاهمات أكبر مع واشنطن بشأن سورية وقضايا أخرى، بما فيها العقوبات الاقتصادية وأوكرانيا واتفاقات خفض الأسلحة الاستراتيجية، وغيرها. أما أميركيًا فكان المأمول أن يفتح هذا الاتفاق الباب أمام تعاونٍ روسي لاحتواء إيران وكبح جماحها في سورية وعموم المنطقة. لكن هذا لم يحصل لأسباب مختلفة، أهمها المعركة السياسية الشرسة التي تجري في واشنطن بين إدارة ترامب و"الاستبلشمنت" بشأن روسيا وقضايا أخرى. من هنا بدأت روسيا وإسرائيل، كل لأسبابه، بالعمل على تطوير تفاهماتهما بشكل مستقل، والتي كان فد بدأ العمل عليها منذ اليوم الأول للتدخل العسكري الروسي في سورية في سبتمبر/ أيلول 2015، وصولا إلى السماح بفتح معركة الجنوب.
تمت التفاهمات الروسية - الإسرائيلية على أساس تهميش الدور الأميركي في اتفاق الجنوب، باعتبار أنه يمثل دور الحامي للمعارضة السورية في المنطقة، والسماح للنظام السوري بالعودة للسيطرة عليها عن طريق مصالحات، وإلا فبالقوة، في مقابل إبعاد روسيا إيران ومليشياتها عن المنطقة، وإلا فعلى روسيا أن تخلي بينها وبين الإسرائيليين، وأن لا تعترض سبيلهم، كما فعلت عندما أسقطت الدفاعات الجوية الروسية طائرة إف 15 الإسرائيلية فوق الجليل، في رحلة العودة من الضربة التي استهدفت مطار تي فور في العاشر من فبراير/ شباط الماضي.
الاتفاق الذي تم التوصل إليه على ما يبدو، خلال زيارة رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو إلى موسكو في التاسع من مايو/ أيار الماضي، تمت ترجمته خلال ساعات، عندما وجهت إسرائيل، في اليوم التالي، ضربة شاملة طالت نحو 40 موقعا إيرانيا في سورية. وقد بدت روسيا في تلك الضربة لإيران متواطئة بالكامل، وكانت كفيلة بإقناع الأخيرة بالموافقة على الاتفاق الروسي – الإسرائيلي، بحسب ما كشف عنه المندوب الروسي الدائم في الأمم المتحدة، وتصريحات سكرتير مجلس الأمن القومي الإيراني، علي شمخاني، الذي قال إن إيران تدعم جهود موسكو الساعية إلى إعادة بسط سلطة النظام على منطقة الجنوب.
بلغ مقدار الثقة بين الإسرائيليين والروس حد نفي وزير الحرب الإسرائيلي المتطرف، أفيغدور ليبرمان، أخبارا مصدرها المعارضة السورية عن تخفي عناصر إيرانية، ومن حزب الله بملابس الجيش السوري النظامي للبقاء في المنطقة، مبديًا ثقته الكاملة بالتعهدات الروسية التي تحدثت عن خلو المنطقة من أي عناصر إيرانية، وعدم مشاركة مليشياتها في المعارك.
ويبدو واضحا من بيان الخارجية الأميركية الذي طلب من المعارضة السورية عدم توقع الحصول على مساعدة عسكرية أميركية، في أي مواجهةٍ مع قوات النظام، أن إسرائيل تمكّنت من تليين المعارضة الأميركية للاتفاق الروسي – الإسرائيلي، باعتبار أنه يخدم أجندتها أيضا، إذ نجحت إسرائيل في الحصول على مساعدة روسيا في احتواء إيران، وهي سياسة أميركية أصلا. ويبدو أن الإسرائيليين لعبوا دورا إضافيا في التقريب بين الروس والأميركيين، خصوصا منهم مستشار الأمن القومي الأميركي، جون بولتون، والذي كان يعد من أصحاب المواقف المتشدّدة تجاه روسيا، ها هو يزور موسكو اليوم للإعداد لأول قمة رسمية روسية - أميركية منذ وصول ترامب إلى الحكم، ولا نستغرب إذا كشفت الأيام المقبلة عن تفاهمات روسية - إسرائيلية أعمق بكثير مما نتحدّث عنه الآن.
أصبحت في حالة "موت سريري" اتفاقية وقف التصعيد التي عمل عليها الأردن، منذ العام الماضي، ودفع باتجاه اتفاقية روسية أميركية، وقبل ذلك الهدنة العسكرية، في الجنوب السوري، بتفاهمات أردنية روسية منذ ثلاثة أعوام تقريباً.
الرهانات الأردنية اليوم على المحكّ في درعا، بعدما تبيّن أنّ استدامة الوضع الحالي غير ممكنة، وبالتالي طوّرت الدبلوماسية الأردنية مفهوم "سيناريو المصالحات" بديلا عن الوضع الراهن، وهو يقوم على عودة "الدولة السورية" إلى الجنوب، وفتح معبر نصيب، وعودة متدرّجة للجنوب الغربي إلى الدولة، بإشرافٍ دولي روسي، وهو مخططٌ أطلق عليه تقريرٌ لمجموعة الأزمات الدولية أخيرا مصطلح "العودة الرقيقة".
في الأثناء، تمّ تسريب رسالة من الخارجية الأميركية إلى المعارضة السورية المسلّحة في درعا، تخبرهم بلغة صريحة، بأنّهم خارج "التغطية الأميركية"، وأنّ أي رهاناتٍ على تدخل عسكري أميركي خاطئة، وعليهم أن يعلموا بأنّهم وحدهم، عليهم أن يقرّروا مصيرهم ومصير عائلاتهم.
أردنيّاً وأميركياً وإسرائيلياً (مصالح الأطراف الإقليمية والدولية)، هنالك شروط مرتبطة بإيران بدرجة رئيسة، تتمثّل بعدم اقترابها من الحدود الدولية، وإخراج المليشيات الطائفية التابعة لها، والاقتصار على الجيش السوري، وهو الأمر الذي يعمل الروس على مراعاته، لأنّهم حريصون على عدم الوصول إلى نقطة تحوّل Tipping Point، تؤدي إلى انفجار صراع إقليمي في الجنوب، بين إيران وإسرائيل، يفتح الباب على سيناريوهاتٍ تتجاوز المعادلة السورية، وتقضي على "الإنجازات" التي يرى الروس أنّها تحققت من خلال سيطرة النظام على مناطق عديدة في سورية.
هذه "الشروط الإقليمية" التي تراعي فقط مصالح الأطراف الدولية والإقليمية، والرسالة الأميركية إلى أهل درعا، تأكيدٌ على مسألةٍ باتت واقعياً في حكم المسلّمات، لكنّها لم تتشكّل بصورتها الحقيقية بعد، وتتمثّل في أنّه لا أحد يكترث بأهل درعا، والسوريين عموماً، وأنّ ما يهتم الجميع من أجله فقط اليوم (أميركا، الغرب، الأردن، إسرائيل) هي فقط المصالح الدولية والإقليمية.
ليس تحقيق الشروط الأميركية الأردنية الإقليمية مسألةً صعبة شكلياً على الروس، فيمكن أن يفرضوا على "المليشيات الطائفية" (المقصود غالباً حزب الله وفصائل محدّدة) عدم الاقتراب من مناطق الحدود، لكن في الوقت نفسه من السذاجة المفرطة أن يُظن أنّ ذلك سيحجّم النفوذ الإيراني عملياً ومنطقياً، لأنّه (النفوذ الإيراني) تجاوز مرحلة المليشيات التابعة مباشرةً لطهران، أولاً، وثانياً إذا وافقت طهران على الابتعاد، المباشر، عن الجنوب، فهي موجودةٌ في قلب المعادلة السورية العسكرية والسياسية والأمنية.
الإصرار الأردني، مثلاً، على وجود الجيش السوري في الجنوب أقرب إلى البعد الشكلي والرسمي منه، كي لا يضطرّ الأردن لأن يتعامل رسمياً مع حزب الله، أو مليشياتٍ تضع علماً إيرانياً على الحدود الأردنية، لكنّ المسؤولين الأردنيين يدركون تماماً أنّ المسألة أعمق من مسألة وجود عناصر حزب الله أو الحرس الثوري على نقاط التفتيش الحدودية.
يبقى الهاجس الأردني الأكبر الذي يتمثّل في حال انفجر الصراع المسلّح، ولم تنجح الأطراف الدولية والإقليمية المعنية باستباق الآلات العسكرية، كيف يمكن التعامل مع عشرات وربما مئات الآلاف من اللاجئين السوريين، الذين حتماً سيلجأون إلى الحدود الأردنية هرباً من الجحيم، وهو سيناريو بدأ بآلافٍ أخذوا يتدفقون حالياً على الحدود؟
رسمياً، أبلغ الأردن الأميركيين والأوروبيين والمجتمع الدولي بأنه لن يسمح بأي حال بأي موجة لجوء إلى أراضيه، وأنه سيغلق الحدود ويدافع عن مصالحه، إذ تحمّل ما يكفي من الأعباء الاقتصادية والإنسانية؟
لكن هل ذلك ممكن فعلاً؟ لا أظن، بالقانون الدولي وبمنطق الإنسانية والأخلاق، يملك الأردن الذي رسم مشهداً حضارياً هائلاً، خلال الأعوام الماضية، أن يغلق الحدود في وجه نساء وأطفال عرايا هاربين من القصف. يمكن أن يضمن تأسيس مخيماتٍ في الأراضي الحدودية السورية مع الروس، خارج نطاق العمل المسلّح. ولكن إذا استمرت الأزمة العسكرية، فإنّ الضغط سيزيد، وسيتم تصدير الأزمة إلى الأردن، وهذا سيناريو كان "مطبخ القرار" يتجنبّه، أو يستبعده، في الأعوام الماضية، بالرهان على "الضمانات الروسية" التي تبخّرت اليوم، مع مشاركة موسكو في الحملة العسكرية الحالية في درعا.
تتنازع أطراف المعارضة السورية على جيفةٍ، اسمها الانتقال السياسي. بعضنا مستعجلٌ على التفاوض بأي ثمن، إفراطا بالتفاؤل، وبعضنا الآخر يسير كما لو كان على جمر، خائفا من التفريط في الحقوق التي أنيط به الدفاع عنها. والواقع أن المعركة الجارية الآن ليست سورية، أو بين السوريين، وإنما هي معركة التسوية الدولية التي تدور، من وراء تحديد مناطق النفوذ ومواقعه، حول تقرير مصير سورية ومستقبلها ودورها في المنطقة والمنظومة الدولية. ولن تكون التسوية السورية، وبالتالي النظام الذي سيولد بموازاتها، سوى ثمرة لها وجزء مكمل لها. وجوهر التحدي الذي يواجهه المتنازعون على اقتسام إرث دولة الأسد البائدة هو العثور على نظام جديد، يضمن المصالح الإسرائيلية والأميركية الأمنية، والتطلعات الروسية التي تستخدم سورية منصةً لإعادة موضعة نفسها في المنظومة العالمية، والتي لا يمكن تحقيقها ضد واشنطن، وإنما بالتفاهم معها من جهة أخرى. وعلى هامش هذا التقاسم الصعب، تقديم جائزة ترضية للشعب السوري، تخفف من شعوره بالخسارة المرّة، وتضمن تعاون بعض قطاعاته المنهكة. وهذا يعني أن أي حل في سورية لن يتقدّم، ما لم يحسم مسبقا الصراع الدولي على سورية. ولن يكون في الظروف الراهنة سوى ملحق بالتسوية الدولية أو زائدتها الدودية.
المشكلة أن هذه التسوية لم تنضج بعد، وليس هناك تأكيد بأنها يمكن أن تنضج، فالمشكلة في الصراع الجاري على أرض سورية اليوم أن ما يطلبه المهاجمون الروس، وما يسعون إليه لا يتحقق حتى بسيطرتهم على سورية كاملة، إنه قائمٌ خارجها، أي في واشنطن ذاتها. والسؤال كيف يمكن للحرب السورية التي تفجرت بسبب هذا الصراع أن تتحول إلى سببٍ في تجاوزه، وتفتح باب التفاهم الروسي الأميركي؟ وما الذي سيدفع واشنطن إلى مكافأة موسكو، وتسهيل خروجها سالمة ورابحة من المحرقة السورية التي كانت أكثر من ساهم في إشعالها؟
لا أحد يعرف اليوم بالضبط الأهداف التي يسعى الأميركيون لتحقيقها في الشرق الأوسط وسورية، وفي ما إذا كانت قد تغيرت، أم لا تزال كما كانت، بعد أن لم يعد هناك خوف على أمن إسرائيل، ولا على سطوتها الإقليمية، ولا سبب للقلق على صادرات النفط، ولا على مصب عائداته وحركة أسواقه. وأعتقد أن الأميركيين أنفسهم لم يصلوا بعد إلى بلورة رؤية نهائية لطبيعة المصالح التي يسعون إلى تثبيتها في المنطقة. ويبدو لي أنها تتبلور أكثر فأكثر حول محاور أمنية استراتيجية، تتجسد في الحفاظ على الموقع الهيمني في المنظومة الدولية والإقليمية، وتتخذ من الحرب ضد الإرهاب شعارا تخفي وراءه مخططاتٍ للسيطرة على مواقع أو تعزيز مواقع دفاعية قائمة، بغرض الإبقاء على نفوذ واشنطن المتعدّد الأبعاد، أطول فترة ممكنة في مواجهة التهديد المتنامي للقوة الصينية، والآسيوية عموما. وربما كان تحجيم إيران وثنيها عن الاستمرار في فرض نفسها القوة الاستراتيجية المهيمنة في المشرق، على حسابها وحساب حلفائها، أحد عناصر تعريف هذه المصالح الجديدة، وتمييزها عن تعريفات الإدارة السابقة للرئيس الأميركي، باراك أوباما، ونظرية الاحتواء التي سبقتها.
يعني هذا أن التسوية السورية لم تنضج بعد. والمقصود بالتسوية ليس التوفيق بين مصالح نظام الأسد وأطراف المعارضة، ولا بين فريقين سوريين خاضا حربا دموية وراء علم النظام أو شعارات الثورة والمعارضة، فلا يمكن، مهما شحذ الدبلوماسيون هممهم، إيجاد الأرضية السياسية والقانونية والفكرية والنفسية الملائمة، كي يخرج من اجتماع الجلاد والضحية توافقٌ في المصالح، أو تسوية قابلة للحياة، ولا أن ينجح الذئب والحمل في إرساء قاعدةٍ التعايش حتى تحت الوصاية الخارجية. ومن المستحيل الاعتقاد أن من الممكن، في إطار هذه المعادلة المستحيلة، مناقشة أي انتقالٍ سياسي جدّي، سواء كان ذلك عن طريق المفاوضات، أي مفاوضات، أو عن طريق الحرب، وقد فشلت الوسيلتان حتى الآن.
التسوية الوحيدة الممكنة والمحتملة، وبالتالي الانتقال بسورية نحو بداية مرحلةٍ من السلام والاستقرار واستعادة الهوية والحياة، لا يمكنان تأتي إلا من الأطراف الدولية التي بسطت وصايتها على الطرفين، وتستطيع وحدها أن تفرض ما تستدعيه من تنازلاتٍ على النظام، بعد أن قضت أو كادت على فصائل عديدة للمقاتلين باسم الثورة، أو لحسابهم الخاص. وهذه الدول الوصية وحدها التي تضمن أن يتخلى الأسد عن أحلامه وأوهامه، أو يحدّ منها، بعد أن ساعدته، سواء أكانت في صف حلفائه أو صف أصدقاء الثورة، في القضاء على معظم القوة المسلحة الشعبية.
هذا يتطلب تفاهم روسيا والولايات المتحدة وحلفائهما المباشرين على طبيعة النظام الجديد واتجاهاته وسياسته والتزاماته تجاه الدول المختلفة، وتمهيد الساحة لقيامه، وتحرير الدولة التي يمارس سلطته عليها من سيطرة القوى الأجنبية، ومن الالتزامات والتفاهمات السابقة التي ارتبطت بالحرب، وكانت جزءا منها. ويتطلب، في السياق نفسه، أيضا، تعريف دور الأسد وحدود صلاحياته السياسية ومدتها الزمنية، بوصفه التجسيد الرمزي والسياسي الوحيد لمصالح الدول التي وظفته في الحرب ضد السوريين، والتعبير عن حضورها واحترام مصالحها، وبالخصوص إيران وروسيا.
ومن المفروض أن يتقدّم هذا التفاهم الدولي بشأن طبيعة النظام المسخ الذي يتم طبخه في مطابخ الدبلوماسية والمخابر الأمنية الدولية، بموازاة النقاش حول الدستور الجديد الذي عرضت أولى مسرحياته الهزلية في مؤتمر سوتشي الذي جمع خليطا من السوريين المخبرين وأنصاف المخبرين والمعارضين وأشباههم وشلة كبيرة ممن ليس له علاقة بالأمر، ولا رأي فيه. وأكثر ما يعبر عن المكانة التي تعطيها الدول الوصية لهذا الدستور هي الطريقة التي تشكّلت بها اللجنة الدستورية، والمحاصصات غير المسبوقة التي قامت عليها. وهي على حق في ذلك، فالدستور هو التعبير الأسمى عن وحدة الشعب وسيادته التي تعكس حريته واستقلاله وإرادته في العيش المشترك. وما يحصل يعكس بالضبط تجريد الشعب السوري من حقه الدستوري، ونزع سيادته عنه، في انتظار تنصيب رجال سلطة عليه، من دون حكمةٍ ولا خبرة ولا أخلاق.
لا ينبغي أن نضحك على أنفسنا. ليس هناك مفاوضات سورية جدية بشأن الدستور، كما لم تكن هناك مفاوضات جدية، لا في أستانة، ولا في سوتشي، حول الانتقال السياسي. هناك مسرحية هزلية، يحاول فيها المصادرون حرية السوريين ودولتهم أن يتوصلوا، عبر السوريين، ومن خلال لي ذراعهم، وكسر إرادتهم، وتنصيب من لا يمثلونهم سادة عليهم، إلى تسويةٍ دوليةٍ، تحقق مصالحهم المتناقضة او المتباينة على حساب السوريين وحقوقهم.
ليس هناك في الأفق، ولا يمكن أن يخرج من هذه المزحة السقيمة أي انتقالٍ سياسي، ولا أي تغيير جوهري في قواعد عمل السلطة والنظام. ما يحصل، وما هو مطلوب مما هو مطروح اليوم، هو محاولة احتواء آثار الحرب التي دمرت الشعب والبلاد، الإنسان والعمران. وتعميم وتطوير ما أصبح يعرف باسم اتفاقات خفض التصعيد التي تم في ظلها القضاء على جميع قوى الثورة المقاتلة، بانتظار أن تسفر الأحداث وديناميات النزاع عن التفاهم الدولي المنتظر الذي يرضي جميع الأطراف. وما يحصل في جنوب سورية من توافقٍ على تصفية جبهة الجنوب، بعد وعودٍ كاذبةٍ بالدعم لم يجفّ حبرها، هو أكبر دليل على ذلك.
الانتقال السياسي أنشودة للتخدير انتهى دورها، والمطروح اليوم إعادة بناء الدولة والمجتمع. والمدخل إلى ذلك جمع الأطراف، أو النخبة الجديدة التي تعد لقيادة المرحلة المقبلة، والتوافق على الدستور الذي تشير طريقة تصنيعه إلى طبيعة الدولة المسخ التي ستتمخض عنه، والتي لا يحسُن أن تكون ديكتاتوريةً ولا ديمقراطية، لا عربية ولا كردية، لا عشائرية ولا طائفية، لا دينية ولا علمانية، أي أن تكون من دون هوية من أي نوع، حيوانا اسطوريا جديدا من دون ذنب ولا رأس، وخروفا يمشي على قوائم خمس.
هل يعني هذا أن كل شيء انتهى، ولم يعد هناك أملٌ بتحقيق شيء؟ بالعكس. إنه يعني أن الحل الذي تسعى إليه دول الوصاية والانتداب لن يحل شيئا، وأن الديمقراطية أصبحت اليوم هدفا ثوريا في سورية، أي أصبحت قضية أكبر من معركة مسلحة أو سياسية، وأنها تفرض على السوريين أن يخوضوا معاركها في كل الميادين والجبهات والمؤسسات، الفكرية والسياسية والإعلامية والدبلوماسية، المحلية والإقليمية والدولية. وكما تقتضي السياسة ألا يتركوا ساحة خاليةً لأحد، تقتضي روح الثورية ألا يحيدوا عن أهدافهم أبدا.
لا يبدو حتى الآن أن الجهود نجحت في نزع فتيل صدام إسرائيلي - إيراني، فيما لو شن نظام الأسد وحلفاؤه حرباً لاستعادة السيطرة على جنوب سوريا، ذلك أن الالتباسات ما زالت تحيط بموضوع وجود إيران وميليشيات «حزب الله» في المنطقة المحاذية لخط وقف إطلاق النار بين سوريا وإسرائيل، وهو ما تصر إسرائيل والولايات المتحدة على رفضه، فيما تسعى إيران و«حزب الله» ونظام الأسد لتحقيقه أو للتحايل عليه في الحد الأدنى.
وسط المشكل في الوصول إلى حل للتعارض القائم بين إسرائيل وإيران، ما زالت موسكو تطمح للتوفيق بين رغبات حليفيها الإيراني والإسرائيلي، وتبذل جهودها لتذليل عقبة وصول حليفها الثالث، نظام الأسد، لاستعادة سيطرته على الجنوب، التي تراها موسكو خطوة مهمة في سياق تحقيق الحل الروسي في سوريا.
غير أنه وبالتوازي مع المسعى الروسي، فإن نظام الأسد وحلفاءه الإيرانيين وميليشياتهم، يواصلون جهودهم لتنفيذ خطة استعادة السيطرة في المناطق الخارجة في درعا والقنيطرة، والتي تبدو ملحّة وضرورية قبل التوجه شمالاً باتجاه إدلب وريف حلب، وغيرها من مناطق ما زالت خارج السيطرة، الأمر الذي كرّس جهوداً مكثفة ومتصاعدة من جانب نظام الأسد، لعل الأبرز فيها أربعة مسارات تواصلت في الأشهر الثلاثة الماضية.
أول المسارات، كان نقل ميليشيات «داعش» من مناطق جنوب دمشق باتجاه الجنوب السوري، حيث احتلت مواقع على تخوم السويداء عبر اتفاقات معلنة مع الأخير، كان فصلها البارز اتفاقاً مع «داعش» لإخراج مقاتليه من مخيم اليرموك قبل اقتحامه من قوات النظام الشهر الماضي.
والمسار الثاني، تمثَّل في تحشيد قوات النظام والميليشيات الموالية لها على المحاور الرئيسية في الجنوب، متجاوزاً الخط الدولي الرابط بين دمشق ودرعا وشاملاً في ذلك منطقة السويداء، حيث نقل إليها قوات وأسلحة، تمهد لفتح جبهة فيها، ليضع قوات المعارضة في درعا بين فكي كماشة لضمان هزيمتها في المعركة المقبلة بدفعها إلى القتال في جبهة واسعة، تشتت قواتها في ظل إمكاناتها المحدودة.
وتضمّن المسار الثالث اللعب على الوضع الأمني في السويداء بالضغط الأمني والإثارة الدعاوية ضد «المسلحين والإرهابيين» بالتوازي مع قصف مدفعي للمدينة من جانب قوات النظام، واتهام قوات المعارضة بالقيام به، فيما شرع بإطلاق عمليات مواجهة محسوبة النتائج لقوات النظام مع «داعش» بالقرب من السويداء، مما يجعل الأخيرة واقعة - وفق طروحات النظام - بين تهديدين «إرهابيين» أحدهما يمثله «داعش» في محيط السويداء وآخر تجسده قوات المعارضة في درعا، الأمر الذي يمكن أن يبدل موقف أهالي السويداء في رفض انخراطهم في معارك، أصروا طوال السنوات الماضية على تجنب الدخول فيها.
ويتمثل المسار الرابع في شن النظام عمليات مزدوجة عسكرية وأخرى دعاوية في الجنوب، هدفها تدمير قوات المعارضة وحاضنتها من جهة وتحريض السكان ضد القوات المدافعة عن الجنوب، خارقاً اتفاق خفض التصعيد الذي كان قد شمل المنطقة في وقت سابق من العام الماضي، وحاز موافقة أردنية وأميركية، وأدى إلى وقف عام للعمليات العسكرية هناك.
وإذا كان الهدف الرئيس للمسارات الأربعة، هو التهيئة لعملية استعادة السيطرة على الجنوب، فإن من المهم التوقف عند أهم ما تمخض عنها من نتائج أولية، وفي مقدمتها إعادة موضوع الجنوب إلى واجهة الأحداث الميدانية والسياسية في سوريا ولدى الأطراف الخارجية سواء المتدخلة أو المهتمة، إضافة إلى تسخين الوضع في الجنوب من الناحيتين العسكرية والسياسية، وتعزيز المخاوف من احتمالات حرب في الجنوب، تؤدي إلى موجة واسعة من عمليات القتل والنزوح والتهجير والتدمير على نحو ما حصل مؤخراً في غوطة دمشق ومناطق سورية أخرى استعاد النظام السيطرة عليها مؤخراً، وقد بدأت بالفعل عمليات النزوح في مناطق درعا والسويداء، التي طالتها عمليات التصعيد أو المواجهات العسكرية.
وكما يظهر في المحصلة، فإن نظام الأسد وحلفاءه بما قاموا به ويواصلونه من خطوات، يخلقون بيئة عامة، تقارب أو تماثل ما كانت عليه البيئة المحيطة بغوطة دمشق عشية الحرب عليها، ويمهدون لحرب شاملة على الجنوب بانتظار اللحظة المناسبة، سواء جاءت في ظل نجاح محتمل للمساعي الروسية بمنع صدام إيراني – الإسرائيلي، أو بفعل متغيرات في مواقف القوى الدولية والإقليمية المؤثرة في موضوع الجنوب السوري، وهي مواقف مصلحية ومؤقتة، يمكن أن تتغير في أي وقت.