تعميق أزمة نظام الملالي
توصف السياسة الخارجية الأميركية بأنها سياسة الخطط البديلة والسيناريوهات المتزامنة، بينما يُعرف عن النظام الإيراني تفضيله دبلوماسية اللحظة أو الفرصة الأخيرة، وبراعته في عمليات المراوغة والتشتيت والتظليل لإضعاف تركيز الخصوم على طبيعة ومستوى التنازلات، وحصر طموحاتهم في الحصول عليها أولاً. فأي المدرستين ستنجح في تحقيق غاياتها.
من منظور شامل للمسألة الإيرانية، وبحسب تقدير يتَّفق عليه عددٌ كبيرٌ من خبراء الشأن الإيراني، يمكن القول إن سيناريو تغيير النظام الإيراني يبقى وارداً في حدود عمليات الإصلاح أو إعادة التأهيل، لكن إطاحة النظام خيار قد يكون مستبعداً، أو غير وارد في المدى القريب على الأقل؛ إذ لا مصلحة للأطراف الدولية فيه، بل إنه يضيف إلى الأعباء الدولية، ويُعمِّق خسائر المنطقة وأزماتها. ولكن إذا اضطر العالم، نتيجة استهتار النظام الإيراني فسيفعل ذلك.
من جانب آخر، تعيش قوى المعارضة الإيرانية في الخارج حالة نشطة من التحضير والاستعداد لخلافة النظام، وهناك مساعٍ من جانب أطياف المعارضة للوصول إلى جبهة مشتركة وفق تراتبية متفق عليها للأدوار. ويبدو أن هناك من أقنع المعارضة الإيرانية في أميركا بأن الولايات المتحدة لم تعد ترى في النظام الإيراني طرفاً يمكن التفاوض معه، أو الوثوق بالتزاماته أو تنازلاته التي قد تنشأ عن العملية التفاوضية. ويبدو كذلك أن المعارضة الإيرانية واثقة من أن هذه الموجة من التصعيد بين إيران وأميركا، ليست كسابقاتها.
داخلياً، بات من الواضح أن مُحرِّكات الغضب في الشارع الإيراني لا تزال فاعلة. وأن أزمات النظام البنيوية ستبقى تتناسل وتتفاعل في المدى القريب؛ وبالطبع تسهم العقوبات، والضغوط الدولية، إلى جانب الحلول الاقتصادية النيوليبرالية التي تتبناها الحكومة في تعميق الأزمة. وتُمثّل الاحتجاجات التي حدثت مؤخراً استكمالاً لاعتراض «طبقات اجتماعية بعينها» على «السياسات النيوليبرالية» التي يطبقها الفريق الاقتصادي للرئيس روحاني في مساعيهم لإصلاح الاقتصاد، والتي أفرزت موجات من التضخّم، وتسريح أعداد كبيرة من العمال، وتقلبات في سعر العملة الوطنية.
وتؤكد الدروس المستفادة من تجارب الاحتجاجات الشعبية الكثيرة التي شهدتها إيران خلال العقود الماضية، أن النظام ينجح لسبب ما في إخماد الاحتجاجات، ومَنْع انتشارها، أو توسعها بشكل يهدد بقاء النظام. كما ينجح في تفتيت المعارضات وتصفيتها، وتفكيك حواضنها الاجتماعية. ولعله بات من الضروري تحليل أسباب هذا النجاح، وبخاصة في ضوء حقيقة أن النظام الإيراني صدّر هذه الخبرات التخريبية أو استعملها خارج حدوده في كل من العراق وسوريا. وجانب الخبرة هنا مهم جداً، وكذلك مسألة استغلال النظام الإيراني للانقسامات الطبقية أفقياً وعمودياً، وحالة القطيعة السوسيولوجية بين إيران المركز، وإيران الأعراق والأقليات والأطراف.
وعلى سبيل المثال، في احتجاجات ديسمبر (كانون الأول) 2017، ظلت طهران هادئة إلى حدّ كبير، نتيجة إحجام الطبقات المتوسطة والبرجوازية عن المشاركة في الاحتجاجات، في حين تركزت احتجاجات خلال اليومين الماضيين في أسواق العاصمة طهران، حيث تصدّر المشهد تُجّار البازار من الطبقة البرجوازية.
في المقابل، يفيد استقراء المشهد السياسي الإيراني الداخلي حالياً، بأن النظام الإيراني لم يعد قادراً على حشد وتوحيد الجبهة الداخلية كما في السابق، وأن الحديث عن مصالحة وطنية أو تلاحم وطني في مواجهة الضغوط الخارجية صار متأخراً؛ إذ تعاني الأطراف المتصارعة في الداخل من أزمة ثقة، ويعاني النظام ككل من تراجع ثقة الشارع بشكل كبير.
ويبدو خيار الإطاحة بالرئيس حسن روحاني وحكومته أصبح محتملاً في حال أخفق في حماية الاتفاق النووي، أو في حال عدم قدرته على تجاوز الخلافات مع خامنئي والحرس الثوري حول سبل مواجهة الضغوط الأميركية. وفي ضوء الدعوات من جانب قيادات ووسائل إعلام أصولية في طهران إلى ضرورة إطلاق يد الحرس الثوري أكثر، وتفويضه بصلاحيات حكومية واسعة لإنقاذ الوضع الراهن في إيران، يبدو أن النظام بدأ التمهيد لمثل هذه الخطوة، وقد يجد النظام أنه لا مناص من إقالة الحكومة الحالية، وفرض حكومة شبه عسكرية تقود البلاد حتى إشعار آخر.
خلاصة القول، إن دينامية «الأزمات المتناسلة» ستبقى نشطة في إيران، اقتصادياً وسياسياً، لكن ذلك لا يعني أن النظام الإيراني بات على مشارف السقوط، أو أنه قابل للانهيار قريباً. وبناءً على هذه القراءة، لا يبدو من المجدي التركيز على الإجراءات والممارسات الهادفة إلى إطاحة النظام، أو المراهنة على ثورة داخلية ضده. بل إن الأجدى والأهم في الوقت الراهن، هو تعميق أزمة النظام، ومفاقمة خسائره السياسية والاقتصادية، ومنعه من التحايل على العقوبات الاقتصادية الأميركية أو الالتفاف عليها.
وبهذا فإن النظام الإيراني سينهك في النهاية، وسيستسلم لا محالة في نهاية المطاف، ويكف عن عبثه وتدخلاته السافرة.