تعقّدت أزمات سورية، مع سياسة اللبرلة التي اعتمدها النظام، ولا سيما عام 2000، وذلك للتخلص من سياسات القطاع العام القديمة، وليحتكر كبار رجال السلطة، وقد اغتنوا من قبل، نتائج اللبرلة هذه. أي أنّه، وبعد إكمال نهب القطاع العام، كان لا بد من قوانين جديدة، تُسهٍل لأبناء سلطة السبعينيات السيطرة الكاملة على السوق، بعد التسعينيات، وهذا يوازي السيطرة على النظام والسلطة بكل مستوياتها.
السياسة الاقتصادية هذه، وهي سياسة عالمية بدأت منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي، ومن نتائجها رفع أسعار كل المواد في السوق، بعد أن تخلت الدولة السورية عن دعم المواد الأساسية، ولا سيما أسعار المازوت والأعلاف بصفة خاصة؛ وكذلك حينما انفتحت على تركيا، بعد خسارتها لبنان 2005. هذان العاملان بالتحديد أدّيا إلى انهيار الصناعات الأولية والزراعة، فارتفعت أعداد العاطلين من العمل بشكل كبير، وانخفض مستوى دخول الناس، وازدادت طبقة المفقرين، وانخفضت كذلك قيمة العملة؛ هذه من نتائج اللّبرلة، وهي سياساتٌ تماثل ما تمّ في كل العالم العربي قبل 2011، وتسببت بثوراتٍ شعبية عارمة. يختلف الأمر في سورية، بسبب طبيعة النظام الأمني والعسكري؛ حيث لا يقارَن نظاما تونس ومصر به، قمع ومنع كل شكل للعمل السياسي والنقابي والفلاحي والشبابي، بينما الأمر في ذلكما البلدين لم يكن بهذه الصورة أبداً. إذاً لم تأت الثورات من عدم، وإنما هناك أسبابٌ عديدة أدّت إليها.
مشكلات درعا
درعا التي تُحسب تاريخياً على النظام، ومنها قيادات كبرى في الدولة، ولم تتحرّك في أزمة الثمانينيات ضد النظام. درعا هذه تخلو من أية مصانع، تستوعب العاطلين من العمل، وهي مدينة زراعية بامتياز كذلك، والأهم أن فيها نسبة عالية من المهاجرين إلى دول الخليج ومنذ الثمانينيات بشكل أساسي، وهو ما ساهم بنهضةٍ زراعية فيها. الهجرة هذه دلالة أكيدة على غياب التنمية في سورية، وكذلك وجود ملايين السوريين من بقية المدن السورية في كل من لبنان والخليج. على كل حال، هذه أسباب أولية، يضاف إليها العامل العربي 2011؛ فالثورات العربية تُطيح الأنظمة، وبالتالي تشكلت عوامل داخلية وخارجية للبدء بالثورة.
دخلت درعا الثورة كما كل المدن السورية، وهي تكابد أزمات الإفقار والقمع السياسي وافتقاد السوريين أية حقوق وحريات؛ وهناك عامل آخر، حيث مَنعت الدولة حفر الآبار في بعض مناطق درعا، لأنها مناطق حدودية، وهذا جعل وضع الفلاحين كارثياً، حيث يُجبرون على دفع الملايين بين الرشاوى وكُلف الحفر. وقد أدار النظام الأمني الأزمة الثورية 2011، كما كان يفعل طوال مراحل سيطرته على سورية، أي منذ السبعينيات خصوصا، وبشكل متشدّد بعد أزمة الثمانينيات.
وللثورة أسباب عديدة، وقد أشير إليها أعلاه، وبالتالي كانت ستحدث لا محالة. أما شرارتها فقد بدأت في درعا، بعد حكاية الأطفال الذين أرادوا محاكاة ما يحدث في الدول العربية، فكتبوا "خربشاتٍ" على جدران مدرستهم، وفيها تنديد بالنظام الذي مرّر سردية إعلامية سمجة: إن سورية ليست كمصر وتونس. لم ينتبه إلى خطورة الوضع الثوري في سورية، وكان لإجابة أجهزة الأمن بأن ينسوا أطفالهم في المعتقلات، وأن ينجبوا أولاداً غيرهم، أو أن يأتيهم أهل درعا بنسائهم "فيحبّلوهن هم" مفعول السحر! هذا الرد، وعلى خلفية التأزم الشديد، فجّرَ المدينة، ولحقت بها بالتدريج كل بلدات درعا، وكلما كان يزداد القتل والقمع والاعتقال كانت الثورة تشتعل، وتنضم بلدات جديدة، وألوف جدد وعائلات وعشائر بأكملها، ومدن سورية أخرى. التآزر المحلي ومظاهرات بقية مدن سورية، سيما في المناطق الأكثر تهميشاً، والمدن المهمّشة، دفعت بالثورة لتنتقل من المطالبة بالإصلاح، (العرائض إلى رئيس الجمهورية وزيارته من وفود من أغلبية المدن السورية)، والمطالبة بإعفاء المحافظين وكبار رجال الأمن، إلى المطالبة بإسقاط النظام بكل رموزه، ولاحقاً من السلمية إلى العسكرة.
وعمّت المظاهرات السلمية كل بلدات درعا ومدينتها، وتفاوتت من منطقة إلى أخرى، وهذا حال كل بلدات سورية ومدنها. وكانت هناك رغبة في أن لا تتحول هذه السلمية، في الأشهر الأولى، إلى التسليح؛ لكن النظام، وبعد فشله أمنياً في التعامل معها، كان لا بد له من الانتقال إلى استخدام الجيش، ما أدى به إلى تسهيل تمرير السلاح للمتظاهرين. وعلى الرغم من رفض السلاح، في بادئ الأمر، فإن خيار العسكرة كان طبيعياً في سياق القتل اليومي في الشوارع أو المعتقلات. النظام إذاً أراد ذلك، وكذلك الميل الإسلامي الصاعد حينها أيضاً؛ فهما كانا يرغبان بتحويل الصراع إلى مُسلحٍ، وهو ما حصل لاحقاً، وأدى ذلك للقضاء على الثورة السلمية كلية.
تطوّر الثورة متلازمٌ مع شدّة القمع، وهذا أدّى إلى ظهور مجموعاتٍ صغيرةٍ مسلحة، وقد تكونت من عناصر منشقة عن الجيش، أو مدنيين ممن كان يتظاهر. ساد حينها شعورٌ بأن النظام لن يسقط من دون الصراع المسلح. حدث الأمر عينُه في أغلبية مدن سورية وبلداتها. هو سياقٌ طبيعيٌّ إذاً لتطور الأحداث، حيث رفض النظام التصالح مع الشعب، وتلبية حاجاته، والاعتراف بحقوقه وحرياته، وتشدّد في قمعه وقتله.
سمحت الحماية الخفيفة للمظاهرات بتوسعها وبقائها سلمية ووطنية، وترفض كل ميل طائفي. لم يكن هذا الأمر سارّاً، لا للإسلامين ولا للنظام. هنا أفرج النظام عن نحو ألفٍ من الجهاديين من سجونه في الشهر السادس من 2011، وكذلك فُتحت الحدود لدخول أمراء من "القاعدة" من الأردن وتركيا والعراق. ودفعت شدّة القمع الناس إلى أن يتقبلوا الوافدين الجدد للدفاع عنهم، ولم يكن الأمر تعبيراً عن رغبة في أسلمة الثورة، أو تبني مشروعٍ جهادي بأي حال.
التنظيمات الجهادية .. وتطورات نوعية
بدأت جبهة النصرة، مع العام 2012، تشكل خلاياها، وكذا أحرار الشام، وأخيراً منظمات متشددة وجهادية أكثر فأكثر، وقد انضوت ضمن تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) لاحقاً. وكانت فُتحت لجبهة النصرة والتشكيلات المماثلة الحدود والسجون والسلاح والمال. وقبالة ذلك كان الاعتقال والقتل يلاحق شباب التنسيقيات ومجموعات الجيش الحر. وهنا يمكن ملاحظة كيفية تصفية النظام وإيران وروسيا كل فصائل الجيش الحر أو الفصائل الإسلامية، وأخيراً يتم الانتهاء من التنظيمات الجهادية، مثل داعش وجبهة النصرة. فلنلاحظ في درعا أنه لم يتم الاقتراب من جيش خالد بن الوليد (تشكل في 2016، من لواء شهداء اليرموك، وجيش الجهاد، وحركة المثنى الإسلامية) حتى بعد توقيع الاتفاق الأولي لتسليم المدينة في 7-7-2018. وما زالت جبهة النصرة (هيئة تحرير الشام) تتحكم بمدينة إدلب.
وتشكلت في العام 2014 الجبهة الجنوبية، وهي تضم عدداً كبيراً من الفصائل (54-58)، ودُعمت من غرفة الموك التي تشكلت عام 2014 في الأردن، وهي غرفة تمويل وتسليح وتدريب للجبهة، وكذلك غرفة للاستخبارات العالمية، وتشرف عليها بشكل أساسي أميركا والأردن، وهناك ممثلون لدول كثيرة فيها. هي غرفة محسوبة أساسا لصالح الأميركان، وطبعاً هناك تنسيق إسرائيلي أميركي يتعلق بكيفية السيطرة على تلك الفصائل؛ فهي استطاعت السيطرة على الحدود، مع كل من حدود دولة الاحتلال الإسرائيلي والأردن. ولهذا كان لا بد من معرفة كل ما يخص هذه الفصائل وضبط عملياتها وإخضاعها باستمرار، وقد أصبحت في 2015 تتلقى الأوامر من "الموك"، ومن يرفض منها تمنع عنه المساعدات. وكذلك أصبحت "الموك" تتدخل في السماح بشن المعارك أو إيقافها أو تغيير اتجاهها، وهكذا. ما رفضت "الموك" تسليمه، كما حال كل دول "الدعم" للفصائل، هي الصواريخ التي في مقدورها إسقاط الطائرات، وهذا ما سهّل انتقال النظام إلى استخدام الطيران لقصف المدن وتدميرها، وكذلك فعلت روسيا، حيث تدخلت عام 2015 جويا، وحققت الانتصارات بسبب غياب الصواريخ تحديدا.
مشكلات في الفصائل
تكمن مشكلة الفصائل المسلحة في سورية في افتقادها قيادة سياسية تعبر عنها، وتوجهها وتحدّد لها استراتيجيتها؛ فلم يستطع المجلس الوطني السوري، ولا الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، ولا سواهما، أن يكون قيادتها، كما لم يستطع ذلك في مرحلة الثورة السلمية. وهناك غياب مرجعية قانونية ضابطة لكل ممارسات تلك الفصائل (ما سمح للجهاديين بتشكيل محاكمهم الشرعية)، وقد تشكلت على أساس الولاءات العائلية، والدينية من ناحية. ومن ناحية أخرى، على الدعمين، الإقليمي والدولي؛ أي أنها لم تتشكل وفق رؤية وطنية، تضبط علاقتها مع العالم ولخدمة الثورة، فكانت تلك العلاقات لصالح قيادة الفصائل، أو قيادات المعارضة. وهذه سمة عامة للفصائل المعارضة للنظام. وعلى الرغم من محاصرة النظام بلدة داريا سنوات، ولاحقاً الريف الغربي لدمشق، ومن ثم الغوطة الشرقية، فإن فصائل حوران لم تتخذ قراراً بخوض معركة مشتركة معها. وقد عانت من هذه المشكلة كل المدن الثائرة، وكانت نتيجة ذلك إخضاع النظام والروس والإيرانيين لها بالتدريج. طبعاً كانت كل عملية توحيد للفصائل تساهم في خسارة المعارك من النظام والإيرانيين، سيما معركة إخراج النظام من إدلب 2015، ومن درعا ومن أغلب مدن سورية، لكن ذلك تغيّر كليا مع دخول الروس، ولاحقاً مع إنهاء الخلافات بين روسيا وتركيا وتحوّلهما شريكين، وإنشاء مسار أستانة ومناطق التصعيد. وأدت هذه التغيرات والسياسات إلى سقوط حلب، وبعدها سقطت بقية المناطق، وحُوصرت إدلب والغوطة ودرعا بشكل كامل. وبالتالي، إن غياب رؤية وطنية للعمل العسكري، وتنسيق على مستوى سورية، والتدخل الدولي لصالح النظام في حالتي روسيا وأميركا ضد "داعش"، ساعد بشكلٍ حثيث على إسقاط المدن "المتحرّرة" بالتدريج كما ذكر أعلاه.
"تكمن مشكلة الفصائل المسلحة في سورية في افتقادها قيادة سياسية تعبر عنها، وتوجهها وتحدّد لها استراتيجيتها"
أكذوبة المصالحات ومناطق خفض التصعيد
استخدمت فكرة المصالحات، ومن ثم فكرة مناطق خفض التصعيد (انظر "خفض التصعيد.. استراتيجية روسيا في حسم الصراع السوري عسكريًّا"، تقدير موقف للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، "العربي الجديد"، 4-7-2018)، لإيهام الفصائل بأن هناك تدخلاً إقليمياً ودولياً وسيكون الضامن لانتقال سياسي مقبل، سيما أن كل الأوراق السورية أصبحت بيد الخارج. وقد استخدمت روسيا بالتحديد، وبالشراكة مع إيران وتركيا، ويبدو مع كل داعمي غرفة الموك في الأردن، استخدموا كلهم سياسة الخفض تلك، وتقييد الفصائل بها، بغرضٍ وحيد، هو تقييد العمل المسلح المعارض في كل سورية، ومن ثم إنهاؤه، وهو ما تمّ في الغوطة وريف حمص الشمالي وحماة ودرعا، وسهّل ذلك الشعور بالهزيمة التي منيت بها الفصائل بعد خسارة حلب، وسيطرة مسلحي حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) على مناطق واسعة من شرق سورية وشمالها، وكذلك تقدّم النظام في أرياف حماة وحلب وإدلب، وكذلك ما حققته روسيا وحلفهم من هزائم لـ "داعش" في أغلبية مناطق وجوده.
وقد تشكلت منطقة خفض التصعيد في درعا عام 2017، إثر لقاء جمع الرئيسين، الأميركي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين، في فيتنام، وحُيّدت بموجبه المدينة عن مؤازرة هجوم روسيا والنظام على بقية مناطق سورية، وأخيراً على الغوطة، حيث ضمنت "المنطقة"، أكذوبة الحماية من خطط النظام. وحقيقة الاتفاقيات التي تمت عبر أستانة ولقاء الرئيسين أنها تمّت لغاية واحدة، وهي إخضاع قادة الفصائل للسياسة الروسية، وفصلها بعضها عن بعض، ودحرها لاحقاً، والتخلي عن مناطق خفض التصعيد لاحقاً، وهو ما تحقق بالسيطرة أخيرا على درعا، والبدء بالتحضير لإنهاء إدلب، وإيجاد تسوية كاملة لها بالشراكة مع تركيا، أو تحت السيطرة التركية، وبعد إدلب سيتقرّر مصير الشمال السوري.
وتبيّن أن التخلي الأميركي عن اتفاق خفض التصعيد ترافق مع اتفاق إسرائيلي روسي، يسمح بعودة النظام إلى الحدود، وتصفية الفصائل المعارضة، وإبعاد إيران عن حدود دولة الاحتلال الإسرائيلي. وقد خيضت معركة درعا أخيرا بكثافة نيرانية من الطيران الروسي، وكادت أن تدمر درعا وبلداتها، وبالتالي فضَّلت الفصائل فيها الموافقة على تسويةٍ لا تُهجرها، وتعيد أهلها المهجّرين إليها. إذاً هنا عوامل عديدة، ساهمت بإنهاء فصائل حوران والقنيطرة، وقد وصل النظام فعلاً إلى الحدود الأردنية، وسيصل إلى حدود دولة الاحتلال الإسرائيلي، وسيعاود حمايتها كما كان قبل 2011، ووفق اتفاقية إيقاف الاشتباك لعام 1974.
خاتمة
انتهت الثورة في مدينة درعا، لكن أسبابها لم تنتهِ، وأضيفت إليها أسباب جديدة. وأيضاً لم يعد لدى الناس أية ثقة بالعمل العسكري في درعا وفي كل سورية. وبالتالي، هناك ضرورة للعودة إلى العمل السلمي مجدّداً؛ فقد مارست فصائلها تحكّماً وقهراً بالناس وأذلتهم، كما النظام تماماً، ولم تستطع أن تكون بديلاً للنظام وللدولة، وهذا ما دفع بأقسام منها للانحياز لأية تسوية تخرج الفصائل، وتنهي المآسي.
ولكن هل يمكن القول إن الدولة السورية ستستوعب المدن المهزومة وتنهض بها؟ هنا علينا التدقيق؛ فسورية أصبحت دولة محتلة، و"تحرير" واحتلال مدنها تمّ بالطيران الروسي وبالمليشيات الإيرانية وببقايا جيش النظام. وبالتالي أصبحت درعا وسورية أمام جدلية التحرّر والحرية، وهما تختصران آلاف الأزمات التي تكدّست على الأرض السورية.
يحلو لنظام الأسد وحلفائه ومؤيديه، القول إن نظام الأسد انتصر على السوريين، وإن جيشه في طريق استعادة السيطرة على الأراضي السورية، التي خرجت عن سلطته في السنوات الماضية، بعد أن أعلن السوريون ثورتهم على نظام الاستبداد والقتل، وسعياً من أجل الحرية والعدالة والمساواة.
وإذا كان النظام أول أطراف مروجي فكرة «الانتصار»، فلا بد من استعادة شعاره الأول الذي أطلقه عند بدء حركة الاحتجاج الشعبي في مارس (آذار) 2011، والقائل: «الأسد أو نحرق البلد»، كاشفاً عن طبيعته التي تربط بقاء سوريا والشعب السوري ببقاء شخص على رأس نظام، أثبت عدم قدرته على إدارة البلد، وخلق فيها شروطاً وظروفاً وضعتها في مصاف الدول الفاشلة، ودفعت السوريين للخروج في مواجهة القتل والاعتقال والتهجير، الذي تكفلت به أدوات النظام الأمنية والعسكرية وشبيحته، وقد أطلق النظام - بعد أن أعطاهم سلطة خارج القانون - أيديهم في كل ما يصلون إليه، فيقتلون ويعتقلون ويهجرون، دون أي ضابط قانوني أو أخلاقي أو اجتماعي، ودون أي محاسبة في أي مستوى كان. كما أطلق العنان لأطماعهم في أعراض السوريين، ليتم انتهاكها بصورة واسعة، بالتوازي مع أطماعهم في ممتلكات غيرهم، عبر الاستيلاء والمصادرة والسرقة والتدمير، وفتح النظام الباب أمامهم للتلاعب بما تبقى من «المجتمع والدولة» عبر الفساد المالي والإداري والرِّشى وتجارة المخدرات والدعارة، فحولهم إلى طبقة من أصحاب السلطة والمال الذين لا قدرات لهم سوى تمجيد النظام، وارتكاب ما أمكن من جرائم تصب في هدف بقائه.
ويشكل الروس والإيرانيون وميليشياتهم الطرف الثاني في قائمة مروجي فكرة «انتصار الأسد». وطوال سنوات، كانوا قوة دعمه ومساندته في المستويين الخارجي والداخلي، وأعلنوا مرات كثيرة، أن تدخلهم إلى جانب نظام الأسد، شكل قوة حمايته من السقوط في وجه السوريين، ولعب الروس دوراً بارزاً في حماية النظام في مجلس الأمن الدولي، بإعلان «الفيتو» ضد أي قرارات كانت تستهدف سياسات النظام وجرائمه، مما شل الإرادة الدولية عن اتخاذ قرارات حاسمة، ثم جاء تدخلهم العسكري أواخر عام 2015، فشكل انقلاباً في موازين القوى العسكرية والسياسية في الصراع السوري، ووضع النظام (مع عوامل أخرى) على قاعدة استعادة مناطق كانت خارج سيطرته. فيما قامت إيران وميليشياتها بدور الداعم بالقوات، فعززت قوة النظام الميدانية، إضافة إلى أشكال واسعة المجالات من الدعم السياسي والاقتصادي لنظام فقد معظم قدراته.
وبطبيعة الحال، فإن الروس والإيرانيين، لم يقدموا دعمهم الهائل، وسعيهم لـ«انتصار الأسد» خارج حدود مصالحهم، ولم يصبحوا بفعل ذلك أصحاب القرار السوري فقط؛ بل حصلوا على مكاسب مباشرة، بينها قواعد عسكرية، وتأسيس أدوات وبنى اجتماعية حليفة، والحصول على امتيازات اقتصادية وعقود استثمارية. بل الميليشيات التابعة لهم شاركت في عمليات نهب الموارد السورية الفردية والجماعية، عبر إطلاق يدها في الواقع السوري، وجميعه مرهون باستمرار النظام ورئيسه في السلطة. والقول بـ«انتصاره» يعني الحفاظ على ما تحقق لهم من مكاسب، وإمكانية تطويرها في المستقبل، وخاصة في مرحلة إعادة الإعمار المقبلة.
غير أن القول بـ«انتصار الأسد» أو التبشير به، لا يقتصر على أطراف التحالف معه. فثمة مجموعتان تسيران على الخط ذاته: أولهما أنظمة ودول، يوفر لها بقاء النظام مصالحها، كما في المثال الإسرائيلي الذي اختبر على مدار العقود الماضية مصداقية النظام في الحفاظ على أمن إسرائيل، عبر التزامه باتفاقية فصل القوات على الجولان 1974، وجدد النظام أسس تلك العلاقة في عدم رده على هجمات على أهداف سورية وأهداف حليفة من جانب إسرائيل، وانصياعه لشروطها في ذهابه إلى معركة استعادة جنوب سوريا من يد المعارضة المسلحة.
والمجموعة الثانية من السائرين على درب القول بـ«انتصار الأسد»، تنظيمات وجماعات سياسية وشخصيات عربية وأجنبية، ما زالت أسيرة رؤاها الآيديولوجية والسياسية من مختلف الاتجاهات، منعها العمى الآيديولوجي والسياسي المتأصل من رؤية حقائق الصراع السوري وجرائم النظام وحلفائه، والمواقف الإقليمية والدولية العاجزة والمتساهلة، وما زالت ترى النظام تقدمياً ممانعاً وضد إسرائيل والإمبريالية، وغيرها من المعزوفات التي انكشفت أكاذيبها بصورة فاضحة.
ولعله من المفيد الختام بما نص عليه الدستور السوري، الذي عدله نظام الأسد في عام 2012، لرؤية التناقض بين محتواه وما صارت إليه الوقائع السورية الراهنة التي تكذب كل واحدة من فقراته، حيث يقول إن سوريا «دولة ديمقراطية ذات سيادة تامة، غير قابلة للتجزئة، ولا يجوز التنازل عن أي جزء من أراضيها»، والنظام «في الدولة نظام جمهوري. السيادة للشعب، لا يجوز لفرد أو جماعة ادعاؤها، وتقوم على مبدأ حكم الشعب بالشعب وللشعب»، وأن النظام السياسي، يقوم «على مبدأ التعددية السياسية»، و«تتم ممارسة السلطة ديمقراطياً عبر الاقتراع»، وأن «الحرية حق مقدس، وتكفل الدولة للمواطنين حريتهم الشخصية، وتحافظ على كرامتهم وأمنهم»... وصولاً إلى: «للمواطنين حق الاجتماع والتظاهر سلمياً، والإضراب عن العمل، في إطار مبادئ الدستور»!
كتبت في مقالتي السابقة أن من يعتقد أن المؤامرات على تركيا ستتوقف بعد الانتخابات مخطئ جدا.
إن مشهد احتفالات الأتراك لم يكن سعيدا أبدا لأعداء تركيا، ولم تكن احتفال العرب والسوريين تحديدا في الوطن العربي والعالم بنتائج الانتخابات مرضيا أبدا.
لقد فرح السوريون لأن الرجل الوحيد الذي فتح لهم بلاده وعاملهم بإنسانية وكرامة وساوى بينهم وبين شعبه قد فاز، وأن فوزه يعني لهم الأمان، والعدل، والكرامة، والاستقرار، والحرية، والتعليم، والإنجاز لسنوات قادمة أخرى، ومن يرى متاعب السوريين في البلاد العربية وحتى الأوروبية يعرف تماما أسباب فرحهم وسعادتهم بنتائج الانتخابات.
وعندما ترى أطفال السوريين تقتلهم العقارب في الصحراء على الحدود الأردنية المغلقة في وجوههم بعد هربهم من القصف، ومعاناتهم في لبنان، ستفهم حجم المحبة والولاء والتقدير الذي يشعر به من يقيم في تركيا لحكومتها ورئيسها.
من الطبيعي جدا أن تستهدف المعارضة التركية السوريين في حملات التشويه وتستخدمهم كأداة في صراعها مع الحكومة وقد فعلت هذا من قبل في الانتخابات عندما استخدمتهم كأداة للحصول على الأصوات وأعلنت أن ترحيلهم سيكون الهدية التي يقدمونها للشعب التركي، وفعلت هذا في الانتخابات السابقة أيضا، ولا أتوقع أن الأمر سيتوقف قريبا.
ومن الطبيعي جدا أن يستهدف السوريين من قبل الدول العربية التي دعمت الانقلاب الفاشل في تركيا، وما زالت تدفع الأموال لإفشال حكومتها ورئيسها وإركاعها لاسترضاء حليفهم الأول الولايات المتحدة الأمريكية، وإعادة مفاتيح التحكم والسيطرة إليها بعد أن فقدتها على يد الحكومة التركية ورئيس البلاد.
ولن يترك النظام السوري الذي أعلنت المعارضة أنها ستعيد العلاقات معه حال فوزها فرصة للتنغيص على السوريين في تركيا، والإساءة إليهم ،وتخويفهم، بالتزامن مع دعواته لهم ليعودوا إلى سوريا ليكمل معهم حكاية الذل والقهر والتعذيب والقتل.
لن تهنأ إسرائيل التي سارعت لدعم السوريين على حدودها لتلميع صورتها بأن تبقى صورة تركيا الإنسانية ناصعة في عين العرب والسوريين وضعفاء هذا العالم وهي التي تسعى مع حلفائها بخطى حثيثة للتطبيع وإذابة الحواجز والكراهية بينها وبين الشعوب العربية وتحسين صورتها في العالم.
ولن يسعد الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت تسيطر على تركيا أن تقف من جديد وتعود كدولة قوية حرة مستقلة بعد أن كانت تسيطر عليها عبر حكومات هشة سابقة.
ندرك كسوريين جيدا أن قسما من الأتراك لا يرحب بوجودنا، وانهم يحملون صورة سيئة عنا وعن العرب جميعا.
وندرك جيدا أننا لسنا ملائكة، وأن بيننا من جاء إلى تركيا لحفظ ممتلكاته وليس هربا من ويلات الحرب.
ونعلم تماما أن هناك من رجال النظام هنا بيننا، وأن مهمتهم مراقبتنا وإثارة الفتنة والتخريب.
ونحن من يتمنى أن يتم ترحيل المخربين ومن لا يحترم قوانين وعادات الأتراك، بل ندعو الحكومة التركية لهذا لعلمنا أن هذا لصالح الأغلبية التي تريد العيش بسلام وأمان وحسب.
لا ينتمي السوريون لطبقة اجتماعية واحدة بالتأكيد، وهناك تفاوت كبير بيننا في أسلوب الحياة والثقافة والفكر، وبالتأكيد سيكون هذا موجودا بيننا وبين الأتراك.
نحن ننتمي إلى طبقات اجتماعية وثقافية مختلفة جدا، وهناك فوارق كبيرة بيننا كذلك في مستوى التدين، والوعي الاجتماعي، والسياسي، والديني، وحتى الحالة المادية.
وهذا طبيعي في كل بلد، وليس من الحكمة التعميم مطلقا، كما أنه من غير المعقول أن نصف الشعب التركي بصفة واحدة والاختلافات بينهم موجودة بقوة، وهو الطبيعي والعادي بالتأكيد.
لكننا ندرك جيدا أننا كأمة لم نضعف ولم ينل منا أعداءنا ويسيطروا على بلادنا وثرواتنا ليعمروا بها بلادهم إلا عندما تفرقنا وباتت تركيا وحيدة، وأندنوسيا وحيدة ، والباكستان وحيدة، وقسمت البلاد العربية إلى قطع غاية في الصغر يقود كل تلك البلاد عملاء للغرب وحسب، وأن الولايات المتحدة الأمريكية وصنيعتها إسرائيل بعد انتصارها على إنكلترا وقيادتها للعالم منفردة لن يهدأ لها بال عندما نتجمع من جديد ونعرف و نحب بعضنا وتنهض دولة من دولنا بقوة كما فعلت تركيا.
سيستمر استهداف السوريين لضرب السياحة في تركيا، وإظهار البلاد مضطربة عبر الفيديوهات التي تظهر تكسير محالهم وممتلكاتهم وضربهم.
وسيستمر تحريض الأتراك عليهم من جهة أخرى عبر وسائل إعلام يهمها أن تفعل هذ وإن كان يضر بمصالح بلدها لأن ما يهمها هو الكيد للحكومة وحسب.
وسيستمر تشويه سمعة تركيا عند العرب بكل وسيلة، كما حدث عندما قامت بلدية اسنيورت بإزالة اللافتات العربية التي لا تتبع القانون القائل بأن 70% من اللوحات يجب أن تكتب بلغة البلد فتلقفت الصحف ووسائل الإعلام العربية والغربية الخبر بقولها إن تركيا تحارب اللغة العربية، وبدأت التحليلات والتأويلات.
وسيستمر النظام السوري في إرسال رجاله والأموال لمنع السوريين من الشعور بالأمان والاستقرار وللانتقام من تركيا.
لكننا كسوريين لن ننسى يوما لتركيا وللشعب التركي ما قدموه لنا من أمان وحماية وكرامة وإنسانية.
ونحن نعلم وندرك جيدا كم من الأيدي والأموال الخارجية ستدفع لتفرق بيننا من جديد لكنها لن تفعل لأننا أصبحنا نعرف جيدا من هم الأتراك، وحقيقة أننا حقا أمة واحدة، وقلب واحد، وتاريخ واحد، ومستقبل واحد أيضا.
وأننا نحب وجودنا بينكم.
أعدّت، قبل أيام، شخصياتٌ سياسية وفكرية سورية، وثيقةً سياسية، تهدف إلى إطلاق حوار سوري جاد، لإنضاج ما وصفوه "المشروع الوطني السوري". وشدّدت الوثيقة على "ضرورة إعطاء أولوية مركزية للإطار الفكري/ السياسي الضروري لبناء قيادة وطنية، تستطيع استعادة ثورة الحرية كرهان مجتمعي، من دون التخلي عن واجبنا في التصدّي السياسي اليومي لما يواجه وطننا من أخطار خارجية معادية، وداخلية تنتمي إلى الثورة المضادة، وذلك عبر تمكين قوى التيار الديمقراطي لاحتلال مكانة حقيقية في سورية المقبلة، بحيث تكون له القدرة على تمثيل مصالح قطاعاتٍ وازنةٍ من الشعب، في ساحة السياسة العامة والحزبية".
يقول المثل: أن تصل متأخرًا خيرٌ من ألاّ تصل. فهل يصح هذا القول على الحالة السورية الراهنة، إذا ما اتخذنا من هذه الوثيقة والأفكار التي طرحتها مثالاً على الوصول المتأخر؟
بدأت إرهاصات الثورة المضادة باكرًا جدًا في عمر الحراك الشعبي السوري، وإذا كان الشعب السوري قد انقسم إلى فريقين، أحدهما تمسّك بخطاب المؤامرة منذ البداية، والآخر استنكر مقولة المؤامرة واستخفّ بها، فإن الوقائع أخذت تتكشّف مع تصعيد العنف الذي قوبل به الحراك السلمي، والتحول السريع نحو العسكرة، وصارت الصورة تُظهر أن هناك أطرافًا عديدة ضالعةً في الأزمة السورية التي لم تعد التصنيفات مجديةً بالنسبة إليها، هل هي حربٌ أم ثورةٌ أم مؤامرةٌ أم غيرها.
ومن المنصف للحقيقة أن يعترف من تنطّعوا للمسؤولية السياسية بأنهم لم يقدّموا أداء أو تجارب تشعر الشعب بالثقة، وبأن مصيره في درب الحرية مرتهنٌ لأيدٍ لا تجيد اللعب، وإرادات غير مستقلة. كانت الطعنة الأولى في صدر أحلام الشعب هي استدعاء التدخل الخارجي باكرًا، معتبرين أن أميركا وحلف شمال الأطلسي (الناتو) مضمونان في اليد، وهما رهن الإشارة منهم، ولا ضير في استدعاء القوى الخارجية للتدخل بقوةٍ عسكريةٍ من أجل إسقاط النظام الذي كان واضحًا أنه لن يتوانَى عن استعمال القوة في حدّها الأقصى للدفاع عن كيانه، في مقابل الأداء السياسي والعسكري الذي أخذ يبشّر بأن الطرف الآخر الذي يدّعي تمثيله الشعب، والدفاع عنه وعن أهدافه، يسعى بزخم أيضًا في سبيل الاستئثار بالسلطة. راهنت المعارضة السياسية منذ أول هيئة، وهي المجلس الوطني، على سقوط النظام بسرعة، ولم تول اهتمامًا للكيفية التي سيسقط بها النظام، ومن هي الجهات المعوّل عليها، ولا البرنامج الذي تطرحه، فكان أن بدأت العسكرة تفرز فصائل متباينة ذات ولاءات مختلفة، وتمويلٍ متعدّد المصادر. وكان بالنسبة للمجلس الوطني، والائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية بعده، أمرًا مقبولاً أن تشارك الفصائل الإسلامية، من المعتدلة حتى الجهادية المتطرّفة، في الحرب، بل وأن تبتلع الفصائل الأخرى، وأن تكون صانعة الألعاب الحربية في الميادين، كذلك أن يسيطر الإخوان المسلمون على القرار السياسي، وأن يتخذوا من التكتلات العلمانية أو الديمقراطية واجهةً لهم. وفي الواقع، لم يكن لتلك التكتلات ثقل وازن، إن كان لناحية القرارات، أو لناحية الميدان، فكلام الميدان وكلام البندقية كان هو القول الفصل، ومن يسيطر على الساحة في القتال يسيطر على القرار.
ما حدث في سورية في سنوات أزمتها التي طالت، ويبدو أنها ستطول، أن الخراب هو الذي عم، والشروخ في البنيان المجتمعي هي التي تحوّلت إلى صدوعٍ عميقة، يلزمها زمنٌ طويل لردمها. ما حصل أن الفتنة التي هي أشد فتكًا من القتل قد تجذّرت، وأن الثقة بين مكونات الشعب السوري انهارت، وأن إمكانية العيش المشترك صارت بحاجةٍ إلى أساساتٍ أخرى، وأن الحالة المدنية التي هي في الأساس كانت تحبو بعدما بدأت إرهاصاتها في العقد الأول من القرن الحالي، على الرغم من محاصرة النظام القمعي لها، قد تراجعت، وأن وضع المرأة قد تردّى كثيرًا، وأن العلمانية المرتجاة التي ربما هي أفضل الحلول لبناء دولةٍ حديثةٍ في بلد فائق التعدّدية مثل سورية قد صارت حلمًا مستحيلاً لبعضهم، وكابوسًا لآخرين.
أغفلت قوى المعارضة هذه أمرًا أساسيًا، أن تكون الشريحة المستهدفة في خطابهم من أجل تحفيز الوعي العام والوجدان الجمعي، وطرح القضايا والمشكلات التي يعاني منها الشعب، والأهداف التي يرمي إليها أي شعبٍ، يرنو نحو الحرية وصناعة المستقبل، ليست مقتصرةً على الجزء الذي كان في ضفة المناطق المحسوبة على الحراك، أو خارج سيطرة النظام. كان عليهم أن يخاطبوا كل الشعب، طالما أنهم كانوا يبدأون خطابهم بجملة: باسم الشعب السوري، فهل الشعب الموجود في مناطق النظام ليس سوريًا؟ وهل هذا الشعب ليس لديه مشكلات وهموم واهتمامات وطموح؟ وهل هو كتلة صماء صاحبة رؤية واحدة وموقف موحد؟ لم تلتفت تلك المعارضة إلى المشتركات وتبني عليها، ولم تعرف أن تكسب مزيدًا من المؤيدين لصالحها، ليس فقط في الداخل، بل في الخارج، وها هو المشهد يُظهر كم هي الأنظمة العربية والإقليمية والدولية تقف في وجه الشعب السوري، بل لا يخدم موقفها من المعارضات الأخرى التي اختلفت معها في بعض القضايا، أو كان لها رأي مغاير، لا يخدم أي ثورة، فقد اعتبرتها جميعها بأنها من توليفة النظام، أو تحت عباءته، أو في صفه.
لسنا في معرض الحسابات، علمًا بأنه يحق لكل فرد من الشعب السوري أن يحاسب كل الأطراف التي قامرت بمصيره من نظامٍ إلى معارضة، لكن استذكار الماضي واستحضار التجارب لفهمها ونقدها ضرورةٌ لا بد منها، على أمل أن يكون في الأفق إمكانية لعمل إنقاذي.
كل ما يُطرح إن كان مبنيًا على دراسةٍ نقديةٍ أمر إيجابي وضروري، ويجب أن يحصل من أجل تصميم برامج وخطط طويلة الأمد للمستقبل الذي يَعد بكم هائل من القضايا المهمة، وفائقة الحساسية، لكن الملحّ حاليًا هو النضوج السياسي، والمباشرة بوضع تصوراتٍ لحلول ممكنة، واعتماد الواقعية السياسية التي تفرضها المتغيرات الإقليمية والدولية على المشكلة السورية.
لقد أظهرت السنوات الدامية أن الاستثمار الحربي لم يحقق غير الدمار، وانتهاك حياة السوريين، ودفع المدنيون ثمنه الباهظ، وهذا هو الدعم الذي وعدت به الدول التي تدير حروبها وصراعاتها فوق أرضنا، وتدّعي صداقة الشعب وحمايته، ولم تقدّم الهيئات والمنظمات الدولية أي دعم للشعب السوري، ولم تستطع قراراتها الملزمة وغير الملزمة أن تخمد نيران الحرب، أو توقف شلالات الدم، أو تمنع المصير المهين والمذل والغاشم الذي يتلقف السوريين، ويهجّرهم من بيوتهم وأمنهم، ليصبحوا هائمين في العراء، تغلق الحدود في وجوههم، فأي مأساةٍ يمكن أن تكون أفظع؟
ما طرحته الوثيقة الموقعة من تلك الشخصيات السورية أفكار مهمة وضرورية، ولكن الأهم وقف نزيف الدماء ونزيف الشعب، والمهم أيضًا تحديد ثقل هذه الوثيقة ومدى قدرتها على أن يكون لها موطئ قدم راسخة في صنع القرار السوري. خرج أمر السوريين من بين أيديهم منذ فترة طويلة، وكل النيات والطروحات والبرامج لا يمكنها أن تغيّر شيئًا من الواقع، إذا لم تحظَ بدعم خارجي، من دون الإرتهان إلى جهة دون غيرها. الخطوة الواعدة يجب أن تكون منطلقةً من ثوابت، أهمها الحنكة السياسية من جهة، والمصلحة الوطنية قبل كل شيء من جهة أخرى.
لماذا بنيامين نتنياهو، رئيس وزراء إسرائيل «مهتم جداً بقمة ترمب – بوتين»؟ لأنه «يأمل أن يتوصلا إلى صفقة القرن الحقيقية»، صفقة لا علاقة لها بحل القضية الفلسطينية أو صفقة القرن المزعومة، وهي لا تهم إسرائيل.
وما هي صفقة القرن التي يحلم بها نتنياهو؟ أن يقايض ترمب الروس، فيقبل باحتلالهم شبه جزيرة القرم وشرق أوكرانيا، ويرفع العقوبات المفروضة عليهم، ويسمح لبوتين بالسيطرة على سوريا، وفي المقابل يتولى بوتين طرد الإيرانيين وأتباعهم من سوريا ويمنح نتنياهو انتصاراً تاريخياً.
هذا ما يقوله محرر الشؤون السياسية ناحوم برنياع في صحيفة «يديعوت أحرونوت». لكن، ورغم هذه التحولات الكبرى إقليمياً ودولياً، يقول متشككاً: «في إسرائيل يعتمدون على بوتين. وأنا لست واثقاً من أنهم يعتمدون على الرجل الصحيح. بطاقة إسرائيل الحقيقية في سوريا ربما هي الأسد. الآن هو بحاجة إلى المقاتلات الروسية والميليشيات التي تأتمر من إيران، لكن بعد أن يسيطر الأسد على سوريا كلها، ويصبح المنتصر الأكبر في الحرب الأهلية، سيرغب في أن يعود الحاكم الوحيد. فقد قام الإيراني بدوره، وعليه الرحيل، هكذا كان والده سيتصرف. الراحل حافظ الأسد هو العدو الوحيد الذي تشتاق إسرائيل إليه».
هذا رأي برنياع، لكن نزاع القرم وشرق أوكرانيا مسألة استراتيجية للولايات المتحدة، ومن المستبعد أن يتنازل عنهما ترمب فقط من أجل سوريا ما لم تكن هناك تفاهمات أخرى أهم، وإلا فلماذا يتنازل الأميركيون لموسكو عن القرم وشرق أوكرانيا وفوق هذا يكافئونها بسوريا؟ هذه التنازلات الأميركية مقابل استمالة موسكو ضد إيران تبدو «صفقة قرن» كريمة جداً لروسيا، ما لم نرَ ثمناً أفضل!
وطبيعة التزامات روسيا في سوريا أيضاً غير واضحة. رأينا تطوراً مهماً في الأيام الماضية عندما مُنع الإيرانيون، وميليشياتهم، من المشاركة في حرب محافظة درعا والجولان استجابة لاشتراطات إسرائيل. وحلّت الشرطة العسكرية الروسية محل الحرس الثوري الإيراني. هذا التعاون نادر من نوعه (الأميركي الإسرائيلي الروسي السوري بإقصاء إيران من الجنوب)، وماذا بعد؟ هل سيوافق الروس على المرحلة الثانية، بمقاتلة الإيرانيين و«حزب الله» اللبناني والميليشيات العراقية إن رفضوا مغادرة سوريا طوعاً؟ طبعاً، قبل ذلك علينا أن نسمعها من فم الأسد، أن يأمر الإيرانيين بالخروج.
الإسرائيليون يقولون إنه لا يريد، أو لا يستطيع. وسبق لواشنطن واختبرته، عرضت حلاً بإخراج كافة القوات الأجنبية من الأراضي السورية، بما فيها الأميركية والتركية والإيرانية، دمشق أيدت فكرة إخراج الأتراك والأميركيين فقط.
إذن، ما الذي يراه نتنياهو ولا نراه؟ ربما يرى أمامه فرصة نادرة، إنهاء نزاع الجولان مقابل دعم نظام الأسد ليعود حاكماً على كل سوريا.
صحيح أننا أمام وضع جديد تماماً، فسوريا اليوم غير سوريا ما قبل 2011. يمكن إعادة بناء البلاد مع بناء محاور سياسية تقوم على إخراج إيران من الشام وإضعافها في المنطقة، بما في ذلك في لبنان. لهذا يشكك الكاتب الإسرائيلي في إمكانية الحل، ويقول إنهم يشتاقون إلى الأسد الأب لأنه قادر على اللعب على كل الحبال. فهو من مهّد لنقل وتوطين المقاتلين الفلسطينيين من الأردن إلى لبنان، ثم أدخل قواته السورية لبنان بدعوى وقف الاقتتال اللبناني اللبناني الفلسطيني، ولاحقاً ساهم في التخلص من المقاتلين الفلسطينيين بعد خلافه معهم، وبعد إصرار إسرائيل على طرد منظمة التحرير ورئيسها عرفات. الأسد الأب أبعد الفلسطينيين وأدخل الإيرانيين إلى لبنان، الذي كان تحت حمايته، ثم سيطر على تنظيمهم الوليد، «حزب الله»، واستخدمهم لحفظ التوازن مع إسرائيل.
نتنياهو يعتقد أنه صار بالإمكان الآن صيد العديد من العصافير، الوجود الإيراني، ولبنان، والجولان، وإنهاء حالة الحرب بصفقة عصر حقيقية.
من بين أطرف وأظرف وأعمق التعليقات التي راجت على مواقع الإعلام الاجتماعي، بعد إعلان إسرائيل استرداد ساعة جاسوسها الشهير إيلي كوهين الذي أُعدم في دمشق عام 1965 قول ناشطة سورية على موقع "تويتر": "طيب بدل الانتظار 53 سنة كمان، لماذا لا تستعيد (إسرائيل) بشار الأسد شخصياً؟".
وبصرف النظر هنا عن مقدار المبالغة في تشبيه الأسد بكوهين، فإن آخر ما يمكن تصديقه، في قصة الساعة هذه، أن تكون إسرائيل قد اشترتها من بائع مجهول على الإنترنت، كما روج كثيرون، ويظل الاحتمال الأرجح، في تحليل كاتب هذه السطور، أن عرضها للبيع على موقع تسوّق إلكتروني، كان مجرد جزء من خطة تمويه نفذها جهاز "الموساد" الإسرائيلي، للتغطية على باعة حقيقيين آخرين، قبل أن يعلن رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، نجاح ما وصفها بالعملية الخاصة الشجاعة التي أدت إلى استرداد أثر تاريخي لواحد ممن تعتبرهم الدولة اليهودية أبطالها الأسطوريين.
وقد كان من شأن هذا السيناريو أن أدى فعلاً إلى انهماك واسع النطاق في تكذيب رواية البطولة الإسرائيلية، اعتماداَ على إعلان البيع الافتراضي المنشور سابقاً، بينما غابت تقريباً التساؤلات عن دور الجهة التي تحتجز رفات صاحب الساعة، ومعها كل مقتنياته، منذ إعدامه قبل ثلاثة وخمسين عاماً، أي نظام بشار الأسد، الذي التزم من جهته الصمت، ولم يحاول تقديم رواية مضادة، تبرّئه من شبهة مساعدة "الموساد" في إنجاز مهمته.
لكن، لماذا الانشغال بقصةٍ أمنيةٍ قد تبدو تافهة، إذا ما قورنت بأعاصير سياسية تعصف ببلاد العرب، من القدس إلى صنعاء، مروراً بدمشق وبغداد، وصولاً إلى طرابلس، وسواها من العواصم والمدن التي صارت كلها زَبَدَاً، وفق تعبير محمود درويش، عن ماضٍ ما عاد يستدعي سوى الحسرة على أنه لم يَدُم أكثر، كلما نظرنا إليه بمعايير هاوية سحيقة، نهوي الآن نحو قاعها؟
في محاولة تقصّي الجواب، قد يكون مفيداً الاستهلال بخرافةٍ توراتيةٍ تقول إن اليهودي الذي يقتله أعداؤه بعيداً عن أرض الميعاد، يبدأ الحفر بمجرد دفنه، كي يزحف من قبره إليها، وهذا يعني أن إسرائيل، حين تسعى إلى استعادة جثمان كوهين، أو أيٍّ من جنودها المقتولين في بلدان الجوار العربي، فلتريحه من شقاء الزحف تحت الأرض.
ليست ساعة اليد الصدئة، والحال هذه، إلا مجرد رمز أو إشارة إلى أن متغيراً كبيراً قد حدث على الظرف السياسي الذي حال دون استعادة رفات صاحبها، طوال نصف قرن مضى، وهو متغير يمكن الاستدلال على أهم ملامحه، إن دقّقنا في التوقيت، لنرى كيف جاء الكشف عن "عملية الموساد الخاصة والشجاعة"، متزامناً مع حملة عسكرية، غير خاصة، وغير شجاعة، نفذها جيش بشار الأسد، بمشاركة مليشيات مذهبية موالية لإيران، وغطاء جوي روسي، لاستعادة محافظة درعا من سيطرة المعارضة المسلحة، وسط ما اتضح أنه ضوء أخضر إسرائيلي، مشفوع بتراجع رسمي عربي وغربي، لا سيما من رعاة ما تسمّى "صفقة القرن"، عن الدعوات إلى إسقاط النظام الطائفي الدموي الذي دمر سورية، وقتل وشرد نصف شعبها.
إنها ساعة تعويم بشار الأسد، إذن، هذه التي كان بعض عربونها المدفوع مقدّماً إعادة ساعة إيلي كوهين، وقد يظن مؤيدوه، إزاء معطياتها، أنه انتصر ونجا، كما قد يظن معارضوه أنهم هُزموا وانتهوا، لكن القوى الكبرى التي تتوافق الآن على الحاجة إليه بيدقاً في اللعبة الداخلية والإقليمية، لن تستطيع أن تتحمل بقاءه حياً وعلى سدة الحكم، بكل ما يحمل على عاتقه من أطنان الدم. أما حلفاؤه الروس والإيرانيون، فلن يجدوا مفرّاً، عندما تحين ساعته، وفق التوقيت الأميركي الإسرائيلي، من أن يتواطأوا مع فكرة التخلص منه، ليتجنبوا احتمال اقتيادهم معه يوماً إلى المحاكم الدولية؟
ومن يعش ير.
أثارت وتثير الكثير من النقاش، القمة المرتقبة في 16 يوليو (تموز) في هلسنكي الفنلندية بين الرئيسين الأميركي دونالد ترمب والروسي فلاديمير بوتين.
فلا العلاقات الروسية - الأميركية في أحسن أحوالها منذ طرح مسألة تدخل الكرملين في الانتخابات الأميركية عبر حرب تدخلية إلكترونية لصالح ترمب، ولا تطويرها وتزخيمها مسألة بسيطة في ظل التردي الطارئ على علاقات واشنطن بحلفائها الأوروبيين... فمن غير المفهوم لدى «الاستابلشمنت» الأميركي اندفاع الرئيس نحو علاقات دافئة من روسيا بالتوازي مع حربه التجارية مع أوروبا وتصريحاته الراديكالية المستخفة بمرتكزات الأمن الأوروبي الأميركي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، لا سيما حلف الناتو، والتمسك بوحدة أوروبا!
ثمة انطباع في واشنطن الكلاسيكية، عابر للانقسام الحزبي الديمقراطي الجمهوري، أن ترمب لا يدرك في الواقع الرهانات الحقيقية لفلاديمير بوتين.
ما أسلفت الإشارة إليه يغشي بالتالي، جل ما يصدر عن القمة وحولها، لا سيما ما يعني منطقتنا.
فحين يؤكد مستشار ترمب للأمن القومي جون بولتون في لقاء تلفزيوني إلى أن الرئيس ترمب سيبحث مع بوتين التعاون لإخراج إيران من سوريا، مؤكداً ما كشفته صحيفة «وول ستريت جورنال» في هذا الشأن، تصير تصريحات بولتون دليلاً إضافياً على خطأ سياسات إدارة ترمب.
دانييل شابيرو مثلاً، السفير الأميركي الأسبق لدى إسرائيل والموظف الرفيع السابق في مجلس الأمن القومي في إدارة باراك أوباما، كتب في صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية مطالعة مطولة مضادة لفكرة أن يطلب ترمب من بوتين التعاون لإخراج إيران من سوريا. يرى شابيرو، وهو بالمناسبة من أعلى الأصوات دفاعاً عن الاتفاق النووي مع إيران، أن رهانات ترمب على القمة لن تخدم في المحصلة إلا المصالح الروسية. ويحدد شابيرو هذه المصالح بأربع؛ هي: أولاً، تخفيف العقوبات على روسيا المفروضة ما بعد العدوان الروسي على أوكرانيا. ثانياً، استدراج ترمب إلى تناغم حول فكرة إضعاف أوروبا الموحدة، ويستشهد بتصريحات لترمب مؤيدة لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ومشجعة لأوروبيين آخرين على الخروج أيضاً. ثالثاً، يراهن بوتين على استخدام قمته مع ترمب لتبييض صفحة موسكو فيما خص الاتهامات لها بالتدخل في الانتخابات الرئاسية الأميركية. رابعاً، القبول ببقاء بشار الأسد رئيساً لسوريا. ثم يتوسع شابيرو في النقطة الأخيرة لتأكيد أن الرهان عليها لإخراج إيران من سوريا مجرد وهم، أولاً بسبب تكلفتها وثانياً لاعتمادها على «كلمة شرف من بوتين» وهو مما لا تبنى عليه استراتيجيات.
افتراض محق لو كان صحيحاً. فشابيرو لا يقدم لنا دليلاً على أن ثمن التعاون لإخراج إيران من سوريا هو كل ما حذر منه. كما أن تقليصه لضوابط الاتفاق إلى ضابط واحد هو «كلمة شرف من بوتين» لا يأخذ بعين الاعتبار العامل الإسرائيلي المقرر في سوريا حول مصير وحدود الدور الإيراني. فروسيا تعمل بالفعل على احتواء النفوذ الإيراني في جنوب سوريا قبل قمة بوتين - ترمب وذلك بفعل التفاهمات الإسرائيلية - الروسية وليس الروسية - الأميركية، ما يعني أن ترمب لن يدفع أثماناً لما تقوم به روسيا أصلاً مجاناً حتى الآن، أو تقوم به بفعل مقاصة حسابات استراتيجية روسية إسرائيلية أو حتى حسابات روسية خالصة تريد تخفيض حصة شركائها في الكعكة السورية وعلى رأسهم النظام الإيراني.
في المقابل، تعاونت روسيا مع سياسة ترمب المضادة لإيران حين تفاهمت مع منظمة «أوبك» الأسبوع الفائت، بقيادة السعودية، على حماية المعروض في السوق النفطية وزيادته في الأشهر المقبلة لضبط أسعار النفط حين تبدأ في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل العقوبات النفطية على إيران، وإخراج النفط الإيراني من الأسواق.
سيحرم هذا الإجراء إيران من الدولارات التي باتت تبحث عنها في كل زاوية من زوايا أنشطتها كدولة، إلى حد دفع برئيسها حسن روحاني لدعوة المسؤولين الإيرانيين للسفر على الدرجة السياحية وتقليص عدد الوفود الإيرانية إلى الخارج!!
من الواضح أن التعاون الروسي مع واشنطن أغضب الإيرانيين، إلى حد وصف أحد المسؤولين في طهران له بالطعنة لإيران. كل ذلك حدث قبل القمة المنتظرة.
بولتون قال كلاماً يتسم بأعلى درجات الوضوح الاستراتيجي منذ عقود، وهو أن إيران هي المشكلة وليس مصير بشار الأسد، بمعنى أن المواجهة تكون مع إيران وسياساتها وليس مع أعراض هذه السياسات. فبشار الأسد انتهى وإن بقي في قصر المهاجرين، وهو مجرد موظف صغير في الماكينة الروسية، كما أظهرت يوماً صور استدعائه إلى قاعدة حميميم للقاء بوتين! إيران في مواجهة ضغط سياسي وعسكري ودبلوماسي إسرائيلي في سوريا لا تقوى روسيا على تجاهله، وفي مواجهة حرب اقتصادية تشنها واشنطن وروسيا لا تستطيع إلا أن تكون جزءاً منها. إنه زواج عوامل عدة في لحظة قاتلة، لا سيما إذا ما أضيف إليها غليان الداخل الإيراني الذي يذكر بخريف الشاه.
أما تبسيط المواجهة مع إيران وجعلها طلباً أميركياً من بوتين فهو تجاهل للحقائق ونكد سياسي ليس إلا.
وصلت "هيئة تحرير الشام" التي يقودها "أبو محمد الجولاني" إلى مرحلة مفصلية في تاريخ وجودها بعد سلسلة الانشقاقات التي عصفت بها، وتراجع حاضنتها الشعبية بشكل كبير جراء تكشف الغطاء عن سياستها وما مارسته من سياسات عسكرية ومدنية وشعبوية في المحرر، ليبدأ "الجولاني" من جديد العمل على كسب دماء جديدة قد تكون ضرورة للاستمرار في مشروعه ولو بوجه وشكل آخر.
طيلة مسيرة "الجولاني" عرف عنه المراوغة والتفلت من العهود والمواثيق والتقلب بحسب المصالح، وصل به الحد أن واجه كل من وجد فيه خطراً على نفوذه وكيانه الذي تقلب فيه من "جبهة النصرة" وصولاً لـ "هيئة تحرير الشام"، مع الاستمرار في ذات السياسيات وتصدير وجوه شرعية وعسكرية أوغلت في دماء عناصر باقي الفصائل بحسب مراقبين.
اجتماعات عديدة قام بها "الجولاني" في مناطق عدة في ريف إدلب، آخرها الاجتماع مع فعاليات مدينة إدلب التي لم تكن تعلم أثناء دعوتها أن الجولاني من سيقابلها وإلا لرفضت الحضور بحسب ما قالت مصادر عدة، كونهم يرون في مجالسته والإصغاء لوعوده التي قطعها سابقاً ولم ينفذها إعطاءه مزيد من الشرعية للاستمرار.
هذه الاجتماعات تأني في مرحلة مفصلية تضع "الجولاني" والهيئة أمام تحد كبير إما في المواجهة دولياً وهو الفاقد لقوة كبيرة عسكرياً بعد الانشقاقات والخاسر لحاضنة شعبية كبيرة ستنقلب ضده في أي مواجهة وبالتالي لابد من اتباع أسلوب جديد يضمن له الاستمرار والتمكين في المنطقة وفق تفاهمات عقدها مؤخراً وسعي لتغيير سياسيات أدرك أنها غير نافعة، أو أنها حققت أهداف مرحلية معينية.
ولعل ممارسات الهيئة منذ أول تشكيل لها "جبهة النصرة" من تقويض الفصائل العسكرية وإنهاء قوة أكثر من 30 فصيلاً كانت تشكل رقماً صعباً للنظام في مرحلة ما من عمر الثورة، ثم التسلط المدني وسوء الإدارة التي جعلت بيد العسكر، وسلسلة الممارسات التعسفية بحق الحاضنة الشعبية من عمليات اعتقال وتصفية ومحاربة الخصوم وتسليط يد شخصيات عسكرية وشرعية على رقاب المدنيين، وتسليط الحسبة "سواعد الخير"، ثم الانسحابات الأخيرة التي قامت بها وسلسلة الاتفاقيات التي عقدتها مع من تعتبرهم أعداءً سابقين، والتقلب بأوجه ورايات عدة، أوصلها لما هي عليه اليوم من التراجع على كل الأصعدة.
وبالعودة للاجتماعات التي قام بها "الجولاني" ومحاولة استقطاب شخصيات جديدة مؤثرة وفاعلية لكسب "دماء جديد" إلى صفه في هذه المرحلة، في وقت تتصاعد حدة الرفض الشعبية للممارسات الحاصلة ولتقبل الهيئة بأي شكل جديد، بات الحديث عن اقتراب حل الهيئة هو الخيار المطروح والمقبول شعبياً وسوى ذلك بنظر الجميع غير مجدي ولن يكون إلا باب جديد للتسلط والاستمرار في مشروع الهيئة الغير واضح .... فهل ينجح الجولاني في مهامه الجديدة ...!؟
ثمة صلافة لبنانية سافرة في العلاقة مع سورية والسوريين. ضيق يصل إلى حد الاختناق باللاجئين السوريين، في مقابل شهية بدأت تكشف عن وجهها حيال ما توفره مقولة «إعادة إعمار سورية» من احتمالات استثمارية. مطالبة بإلقاء اللاجئين السوريين خلف الحدود، ومطالبة موازية بإنشاء «منطقة تجارة حرة» على الحدود لمساعدة رجال الأعمال اللبنانيين الطامحين في التوجه إلى دمشق للمفاوضة على عقود «إعادة الإعمار»!
والحال أن المطالبين بإلقاء اللاجئين خلف الحدود هم أنفسهم تقريباً من تفتحت شهيتهم على الاستثمار في «سورية الأسد». الشرائح الصاعدة من «رجال أعمال» نظام الفساد اللبناني، ممن قضموا الشواطئ اللبنانية، وهدموا المباني التراثية في بيروت، وأنشأوا شركات استفادت من علاقات زبائنية مع رجال السلطة، هم أنفسهم الطامحون إلى حصة في «إعادة إعمار سورية»، وهؤلاء أيضاً من يملكون أو يمولون وسائل إعلام الخطاب العنصري حيال اللاجئين.
مصارف لبنانية كثيرة بدأت تبحث عن «شركاء سوريين» لاستئناف نشاطها في تمويل مشاريع «إعادة إعمار سورية». شركات إنشاءات وفنادق وحتى مدارس، بدأ مدراؤها بزيارات إلى دمشق. «إعادة إعمار سورية ستكون مخرجاً لحال الركود الكبير في بيئة رجال الأعمال اللبنانيين». هذه عبارة يرددها معظم من نلتقيهم من هؤلاء في بيروت! ومن يعرف من هم «رجال أعمال الجمهورية القوية» ستحضره من دون شك مفارقة الفصام الأخلاقي الذي تمثله الشهية الاستثمارية لفاسدي الاقتصاد اللبناني، في مقابل فائض المشاعر العنصرية حيال أهل سورية، والمتمثلة في الدعوة إلى إلقاء اللاجئين خلف الحدود.
قد تكون المطالبة بأن ينسجم اللبنانيون مع خطابهم حيال سورية والسوريين غير منطقية وغير واقعية، ولكن اعتماد خطاب الفصام على نحو سافر مستفز أيضاً. فاليوم كل الأنظار شاخصة إلى «إعادة إعمار سورية». الانتشار اللبناني كف عن أن يكون رافداً للاقتصاد، والسياحة، في ظل وضع حزب الله يده على البلد، صارت مقتصرة على المصطافين اللبنانيين. حقول النفط والغاز العتيدة مشاريع مؤجلة، وهي أصلاً خارج طموحات من هم من غير أهل السلطة بالمعنى المباشر والعائلي للكلمة. إذاً «إعادة إعمار سورية» هو الوجهة الوحيدة، ولهذه الوجهة شروطها التي تتطلب صياغة علاقة مزدوجة مع أهل السلطة في لبنان وأهل السلطة في سورية، وما بينهما من خطوطٍ لعلاقات بين «العائلات التجارية» كمخلوف وباسيل وجمعة وعرب، وبين ما يربط هذه العائلات من علاقات مصاهرة وخؤولة وعمومة، وهي علاقات تصحبنا دائماً إلى رأس السلطة في كلا البلدين.
السلطة في بلادنا هي الفساد قبل أن تكون أي شيء آخر. الحروب تتوج بفسادٍ، والانتخابات أيضاً هي صورة عن شهية الفاسدين. التسويات تُعقد مدفوعة بحماسة الفاسدين إلى حصة في غلة الحروب. ومن بين ما أفسدناه نحن أهل هذه والبلاد وحكامها، هو حقيقة أن العنصرية البغيضة التي لطالما انبثقت من وجدان قومي أو وطني تطهري وجرائمي، أضيف إليها في حالتنا مزاج فاسد ومراوغ. فالصفقة تعقب الجريمة، وفي أحيانٍ كثيرة الصفقة تُحرك الجريمة.
نمارس عنصرية بحق اللاجئين ونعقد صفقات للاتجار بحقوقهم. نسرق الهبات المُرسلة إليهم ونطالب بإرسالهم إلى جحيم الحرب في بلادهم. والجديد أننا اليوم قد سبقناهم إلى بلادهم بعد أن أقمنا منطقة تجارة حرة على الحدود التي سيعبرونها مرغمين. وها نحن ننتظر قدومهم لنعيد «إعمار بلادهم» على نحو ما أعدنا إعمار بلدنا. ننتظرهم بالشهية ذاتها التي انتظرنا فيها «عودة المهجرين» في بلادنا! هل تذكرون «عودة المهجرين» في لبنان؟ هل تذكرون «وادي الذهب»؟ لقد كانت عائدات الفساد في ذلك المشروع نواة لرأسمال تراكمت فوقه عائدات التربع على السلطة لثلاثة عقود من الزمن. وها هم أصحابه ذاهبون إلى سورية لـ «إعادة الإعمار» هناك، وينتظرهم فيها ضباط الاستخبارات السورية البدلاء، ذاك أن الطاقم القديم من هؤلاء الضباط ممن رعوا «إعادة إعمار لبنان» قد تمت تصفيته كله تقريباً.
أثبتت معركة درعا أنّ هناك تفاهما في العمق بين روسيا وإسرائيل والولايات المتحدة في ما يتعلق بالجنوب السوري. سمح هذا التفاهم لقوات تابعة لإيران بالمشاركة في المعركة التي تستهدف بلوغ الحدود الأردنية وإعادة فتح معبر نصيب. كان ذلك عن طريق ارتداء عناصر من “الحرس الثوري” الإيراني وميليشيات أخرى لبنانية وعراقية تابعة لـ“الحرس الثوري الإيراني” ثياب الجيش السوري النظامي الذي بات يفتقر إلى العناصر البشرية.
يقوم هذا التفاهم، الذي لا يبدو الأردن الحريص على عدم دخول مزيد من اللاجئين السوريين أراضيه بعيدا عنه، على ترتيبات جديدة تقسّم الجنوب السوري إلى منطقتين. سميت إحدى المنطقتين غرب جنوب سوريا مسموح فيها للميليشيات الإيرانية العمل لدعم ما بقي من قوات تابعة لبشّار الأسد تحت غطاء من سلاح الجو الروسي الذي أبلى البلاء الحسن في تدمير قرى وأحياء على رؤوس من فيها من أطفال ونساء ومدنيين. لم يترك ذلك أمام معظم المعارضين في تلك المنطقة سوى التوصل إلى تسويات صبّت ظاهرا في مصلحة النظام السوري.
باختصار شديد، هناك لعبة تدور في الجنوب السوري. من أصول اللعبة عدم الاقتراب من إسرائيل التي باتت تعتبر قضية الجولان السوري المحتلّ منذ العام 1967 قضية منتهية. ولذلك كان ذلك الفصل بين منطقة وأخرى في الجنوب السوري. هناك غرب الجنوب السوري، وهناك جبهة الجولان غير المسموح بالاقتراب منها. هذه الجبهة كانت في كلّ وقت علة وجود النظام السوري القائم منذ كان حافظ الأسد وزيرا للدفاع إبّان حرب العام 1967.
في انتظار قمة دونالد ترامب – فلاديمير بوتين في السادس عشر من الشهر الجاري، مباشرة بعد انتهاء دورة كأس العالم لكرة القدم التي استضافتها روسيا وعززت بها مكانتها الدولية، تبدو الحقيقة الوحيدة التي طفت على السطح إعلان إسرائيل صراحة أنّها متمسكة بالنظام السوري. هذا لا يعني توقّف الضربات الموجهة إلى المواقع الإيرانية في سوريا.
على العكس من ذلك، استمرّت تلك الضربات في الأسابيع القليلة الماضية في وقت كانت الميليشيات التابعة لإيران تقدم الضحايا خدمة للنظام السوري الذي يعتبر نفسه خرج منتصرا من معركة درعا، فيما أثبت الجانب الروسي أنّه الطرف الوحيد القادر على إدارة لعبة في غاية التعقيد. تقوم هذه اللعبة على تفاهم مع إسرائيل وإدارة ترامب قبل أيّ شيء آخر، وعلى استخدام الميليشيات الإيرانية في تأمين النقص في العنصر البشري الذي يعاني منه ما بقي من الجيش التابع للنظام السوري.
تجمع روسيا في إدارة هذه اللعبة بين المفيد والممتع. يتمثّل المفيد في إيجاد وقود بشرية للنظام عبر الميليشيات المذهبية التابعة لإيران، فيما تجد الممتع في الذهاب بعيدا في التعاون مع إسرائيل والعمل في الوقت ذاته على التوصل إلى صفقة مع إدارة دونالد ترامب التي بات معروفا أنّها لا ترفض طلبا للدولة العبرية.
هل بات في الإمكان القول إنّ هناك مستقبلا للنظام السوري؟ قبل الدخول في موضوع مستقبل النظام السوري الذي أدّى، ومازال يؤدي، المطلوب منه، أي تفتيت سوريا وتهجير أكبر عدد من المواطنين من أرضهم، لا بدّ من الإشارة إلى أن إيران التي سعت إلى أن تكون صاحبة الكلمة الأولى والأخيرة في دمشق ذهبت ضحيّة الاعتقاد أن في استطاعتها استخدام الآخرين لتحقيق مآربها. نعم، تستطيع إيران استخدام ميليشيا مذهبية لبنانية أداة لها.
كذلك تستطيع استخدام ميليشيات عراقية في خدمة طموحاتها. هذا شيء، والاستعانة بروسيا لإنقاذ رأس بشّار الأسد شيء آخر. أنقذ فلاديمير بوتين بشّار الأسد عندما أرسل طائراته إلى حميميم في أواخر أيلول – سبتمبر 2015. لم يُقْدم على هذه الخطوة قبل الحصول على ضوء أخضر من إيران. ليس سرّا أنّه سبق إرسال القاذفات الروسية إلى القاعدة، المقامة في الساحل السوري قرب اللاذقية، زيارة لموسكو قام بها الجنرال قاسم سليماني قائد “فيلق القدس” في الحرس الثوري الإيراني.
لكلّ شيء ثمنه في الحرب السورية. هناك ثمن على إيران دفعه في مقابل التدخل الروسي. يشمل هذا الثمن الاعتراف بمصالح إسرائيل من جهة، والعلاقة العميقة بينها وبين روسيا من جهة أخرى. إسرائيل تمرّ قبل إيران في روسيا. والأهمّ من ذلك كلّه مستقبل العلاقات الروسية – الأميركية. يعرف الروسي قبل غيره أنّه لولا إبلاغ الأميركيين المعارضة مباشرة أن عليها الاستسلام في درعا، وأن لا تتكّل على أي مساعدة من واشنطن لمّا كانت المعركة في غرب الجنوب السوري مجرّد نزهة.
يبقى أن ما يتجاهله الروسي والإيراني، وكذلك النظام، أن منطقة درعا ومحيطها لن تكون في المدى الطويل لقمة يسهل ابتلاعها. فمن درعا انطلقت الثورة السورية، ومن درعا كانت بداية اهتزاز النظام الذي أسسه حافظ الأسد والذي استند، بين أوّل ما استند إليه، على سنّة الأرياف. كان حافظ الأسد يكره كرها شديدا سنّة المدن الكبيرة. كان حريصا كلّ الوقت على تغطية علويّة نظامه بسنّة الأرياف من جهة، وأقليات مثل المسيحيين والإسماعيليين من جهة أخرى.
سيكون صعبا تخيّل أي مستقبل للنظام في منطقة مثل درعا حيث العلاقات العائلية تطغى على كل ما عداها. هناك مجتمع عشائري في درعا ومحيطها. لهذا المجتمع امتدادات في اتجاه الأردن أيضا. معظم العائلات في تلك المنطقة لديها فروعها في الأردن أيضا. هذه العائلات ليست معروفة بالروابط القائمة في ما بينها فحسب، بل ببؤسها وعادات الثأر الذي يبقى حيّا لسنوات طويلة أيضا.
سيرفع النظام علامات النصر في درعا. حقق هذا الانتصار على السوريين بفضل الميليشيات الإيرانية والقصف الجوي الروسي والتواطؤ الأميركي والإسرائيلي.
هناك انتصار تحقق على المواطن في درعا. لا أفق لهذا الانتصار الذي لا يشبه سوى الانتصارات التي كانت تتحقق بواسطة الدبابة السوفياتية أيّام الحرب الباردة على الشعوب في دول أوروبا الشرقية. ماذا بقي من الاحتلال السوفياتي لدول مثل هنغاريا وبولندا وألمانيا الشرقية ورومانيا وبلغاريا وتشيكوسلوفاكيا، التي صارت الآن دولتين؟
من يتذكر أن الدبابات التي أرسلت من موسكو سحقت انتفاضة بودابست في 1956 و”ربيع براغ” في 1968 وقمعت ثورة الشعب البولندي في ثمانينات القرن الماضي. هذه مجرّد أمثلة تعطي فكرة عن أنّ ثمة حدودا لما تستطيع أن تفعله الدبابة أو الطائرة. هناك بكل بساطة نظام انتهى في سوريا. لن تقوم لهذا النظام قيامة في يوم من الأيّام بغض النظر عن كـل الطائـرات الروسية والميليشيات الإيرانية والدعم الأميركي والإسرائيلي الذي توفّر لبشار الأسد في مناسبة معركة درعا.
ثمّة شيء انكسر في سوريا. ما انكسر هو النظام الذي تكمن مشكلته الأساسية في أنّه يستطيع القضاء على سوريا التي عرفناها، لكنّه لا يستطيع القضاء على الشعب السوري كلّه حتّى لو جمعت له إسرائيل كل الأضداد، وأمّنت له كلّ ما يحتاج إليه من تغطية أميركية…
هذه المرة، لا أكتب مقال رأي سياسي، بل أبوح بحجم الهزيمة المرّة التي تعتصر صدورنا، ونحن نكشف الغطاء عن آخر مراحل الخيانة لثورة حرية وكرامة، شعارها الأول: "سلمية، سلمية". ثورة تنازع على طعنها الأصدقاء والأعداء، ووفّر لهم ذلك من ادّعوا حمايتها، من دول، وأدوات هذه الدول من قادة فصائل مسلحة مشبوهة، نبتت على دم الناس، واقتاتت من أجسادهم، ومن نخبة معارضين سياسيين أخذوا الثورة على محمل الانتقام من النظام، لاستلام السلطة منه، بكل ما فيها وعليها، ليكونوا بديلا مشوها عنه، كما حدث في مناطق نفوذهم، وقدّموا سورية كلها قرباناً لهذا الانتقام، وليس التغيير الذي تقوم من أجله الثورات، عندما يتحول النظام الحاكم إلى ذهنيةٍ عاجزةٍ عن أداء دورها المفترض في الإصلاح، فأبعدوا النضال السياسي، ليتقدم الصراع المسلح، ودافعوا عنه، بل وتبنوا كل انحرافاته المتطرّفة، من الفصائل المؤدلجة إلى جبهة النصرة وحتى "داعش"، (راجعوا تصريحات مسؤولين تولوا مناصب في المجلس الوطني السوري والائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية والهيئة العليا للمفاوضات السورية) المشكوك بها بدايةً، وها هي النهاية تؤكد ضلوعهم الكامل بجريمة خطف الثورة، بل نحرها على أبواب دول التمويل لقتل الثورة في مهدها، وفداء لفكرة الانتقام من النظام.
لا تنفع البكائيات اليوم، على الرغم من دموعي التي تحجب عني رؤية شاشة "اللابتوب". هزمتنا الخيانات. والهزيمة هنا ليست عودة المدن والمناطق إلى حكم نظام الأسد، فالثورة لم تبدأ في مساحاتٍ محرّرة من حكمه، بل انطلقت في أكثر مناطق نفوذه، واستقراره، ووجوده العسكري والأمني، وحيث أكثر بنيته التنظيمية من مسؤولين هم من أبناء محافظة درعا، لعلي كنت واحدة منهم، رئيسة تحرير لإحدى صحيفتين فقط تملكهما الدولة، أي بنسبة خمسين بالمئة من إعلام النظام المكتوب، تقوده امرأة قيد نفوسها درعا، على الرغم من قناعاتي بأن سورية، بكل تفاصيلها ومدنها وقراها، هي مرجعيتي، وأقف على المسافة نفسها منها عند أداء واجبي، وأن العمل الإعلامي لم يكن يوما يحدّه منصب، أو ينتزعه منك قرارٌ أمني كما حدث معي، مرتين أولهما إثر تحميلي عبر لقاء مع قناة الجزيرة قوات الأمن مسؤولية قتل المتظاهرين في درعا (8 أبريل/ نيسان 2011)، وثانيهما عندما حاول "الائتلاف" انتزاع حقي بالتعبير عن رأيي في أدائه السيئ، طالباً محاكمتي على طريقة الأجهزة الأمنية السورية. نعم، فالهزيمة الفعلية التي منينا بها اليوم أننا، نحن المدنيين، بين حدّي منشار، يتنازع تمثيلنا نظام مستبد ظالم من جهة، ومقابله تاجر أو متسلق مرتهن لدولةٍ ما من جهة ثانية، وكلاهما لا يحمل الهدف النبيل لمفهوم الثورة والتغيير.
"هل انهزمت الثورة؟" ربما يكون هذا عنوان سؤال عريض لبسطاء كثيرين اكتووا بنارها، مؤيدين لها كانوا أو معارضين، لكن في الحقيقة يجب أن يكون السؤال: هل كان أمام الثورة طريق للانتصار، واختارت هي الذهاب في طريق الهزيمة؟ أو هل الثورة المهزومة تلك هي الثورة نفسها التي انطلقت من درعا تهلل للحرية، وآمنا بها انتصاراً للحق؟
هذه أسئلة مؤلمة، لكنها جوهر البحث الذي نستخلص منه لماذا نحن هنا، على أبواب درعا نقفل ملف الفصائل المسلحة؟ ونفتح من جديد أبواب مؤسساتنا للنظام العائد إليها، وهو أكثر انكساراً منَا (نحن مجتمع الثورة السلمية). ولا أتحدث عن قادة وتنظيمات وكيانات وروابط (من رابطة)، وما هو مصير شعاراتنا في الحرية والكرامة وحقوق الإنسان؟
نعم، كان أمام الثورة فرصة لاختيار طريق آخر غير طريق الارتهان الذي مارسته الكيانات المحسوبة عليها، من مجلس وطني إلى فصائل مسلحة إلى ائتلاف إلى هيئات تفاوض، وما تفرّع "عنهم" من منظماتٍ تحت مسمى حكومة مؤقتة أو مجالس محلية، أو رابطات، فهذه جميعاً حتى اليوم لم تملك مشروعا وطنياً تدور في فلكه وتدافع عنه، حيث كل كيان أو فصيل أو منظمة تدافع عن مصالح مموليها، أو خلافتها أو دولتها، تحت مسمّى العمل الوطني، وتعطل على بعضها بعضاً فرصة الولوج إلى أي حلٍّ سياسي، ما لم يفصّل على مقاس الدولة التي ترعاها، وهذا ما حدث تباعاً في التشكيلات السياسية والعسكرية، وحتى المجتمعية. سيقول المدافعون: ما كنا نستطيع غير ذلك، ليبرّروا ارتهانهم، وأجندتهم الخارجية التي لا يمكن أن تخدم أجندة وطنية. وهذا ما ينطبق على ما قاله أحمد طعمة، عندما برّر قبوله رئاسة وفد "أستانة"، وهو غير العسكري، والذي "طرد" من هذه الفصائل من على معابرها في سورية، ومنع من دخولها، حين كان يرأس حكومة الائتلاف المؤقتة، في إعلانٍ من هذه الفصائل علناً انقلابها المسلح على أي كيان سياسي، وبرّر قبوله "إذا لم يقبل بالمنصب الجديد فسيكون مصيره الإهمال والجلوس في بيته". ما يعني أننا أمام حالة بيع قضيةٍ مقابل منصب، وهذا ما ينطبق على المعطلين لاتفاق الجنوب، على الرغم مما يشوبه، أنهم لم يجدوا في إتمامه "غنيمتهم المنشودة"، فقرّروا أن يموت المدنيون تحت القصف، حتى يستدرك الروسي المحتل خطأه، ويعيد توزيع الغنائم.
بصراحة، نعم انهزمت ثورة القادة المسلحين المأجورين والأتباع، وانكشفت ارتهانات الكيانات، وضحالتهم الوطنية، لكن تلك الثورة التي تحدت النظام في عقر داره، وبين أجهزته الأمنية، لا تزال ترعب النظام، كما ترعب المعارضة المأجورة، ولا تزال شراراتها قابلةً للاشتعال، فحيث يستطيع مدنيٌّ أن يرفع صوته بوجه الاحتلال الروسي، ويطلب منه ما عجزت بنادق الفصائل وأسلحته عن طلبه، يكمن انتصار ثورة الحرية التي تمضي قدماً، ويظن (وبعض الظن إثم) النظام والمعارضة أنهما أخمداها، بفعل الحرب والقتل والتدمير والتشريد، بينما هي تتمدّد أكثر واكثر، وتطبع سورية الجديدة بملامحها، رغماً عنهم جميعاً، فهذه الثورة التي بدأت سلميةً لا تنتهي بالخيانات العسكرية، بل تستكمل طريقها عبر الصراع السياسي الذي يمكن أن نستعيده حراً مع لحظة إنهاء الصراع المسلح الذي لم تسع إليه الثورة بدايةً، ولا يمكنه أن يكتب بتخاذله النهاية، وانتصار سلاح روسيا لا يمكنه أن يمحي هزيمتها الأخلاقية والسياسية عبر الأجيال القادمة التي لم تلتفت الكيانات المعارضة إلى أهميتها، كحاضنة للثورة، ولم تستشعر أي مسؤولية تجاهها، لتكتب لها وثيقةً تعترف فيها بما صنعته لهزيمة وتعطيل الحريات في كل مناطق نفوذها (حتى في دوائرها السياسية وهيئاتها التفاوضية) في مقابل السلطة والمال.
سيعود النظام ليس فقط إلى درعا، لكنه سيعود حاملاً انكساره أكثر مما تحمله المعارضة من هزيمة، حيث يعود متخلياً عن سيادته الوطنية لروسيا، وحامياً حدود دولةٍ تحتل أرضه، وتتبجح بحمايته، ما يجعل هذا أكثر أنواع السقوط إيلاماً في نظر حاضنته الشعبية الوطنية التي رفضت تصريحات رامي مخلوف بداية الثورة، واستهجنتها، "أن أمن إسرائيل من أمن النظام". وقبل أن يكون سقوطه مدوياً في نفوسنا، نحن الذين ما زلنا نؤمن بقضيتنا فلسطين العربية، وبالجولان أرضاً سوريةً لا تنازل ولا تفريط فيها وبأهلها، شاء النظام أم أبى، هو ومن يتوافق معه.
يبدو أن القرار الذي اضطرّت واشنطن لاتّخاذه في خصوص منبج والذي تسبّب في ضرر كبير لوحدات الحماية الشعبية سيؤدي إلى زعزعة توازن المنطقة بأكملها، إذ بدأ عناصر وحدات الحماية الشعبية بالانسحاب من المنطقة بناء على المسار المحّدد من خلال الاتفاق المعقود قبل شهر من الآن، لكن لا يمكن الاعتقاد بأن أمريكا ستوقف أعمالها الخبيثة وخصوصاً أنها اضطرت لاتخاذ هذا القرار نتيجة الضغوطات السياسية التي مارستها تركيا مؤخراً، لأن احتمال توجّه تركيا لشرق الفرات عقب الانتهاء من منبج بدأ يتسبّب بالقلق للعديد من القوى الدولية.
كما يمكننا رؤية أن القوى المعادية لتركيا والمستاءة من التخلّي عن وحدات الحماية الشعبية بدأت بالسعي لمخططات جديدة في الساحة السورية، وخير دليل على ذلك هو المشروع الذي عرضته أمريكا وإسرائيل على روسيا، علماً أن مضمون هذا الاتفاق يتمثّل في ثلاثة خطوات رئيسة ستعود بالضرر لتركيا وإيران بطرق مباشرة وغير مباشرة، الخطوة الأولى هي تجديد الاتفاقات بين وحدات الحماية الشعبية ونظام الأسد بهدف الوقوف في وجه التقدّم التركي نحو شرق الفرات بعد الانتهاء من منبج، والخطوة الثانية هي السماح لروسيا ونظام الأسد بالنفوذ إلى المناطق التي تقع تحت سيطرة بي كي كي-وحدات الحماية الشعبية، أما الخطوة الثالثة فهي اعتراف أمريكا بمشروعية بشار الأسد مقابل توقّف تركيا عن التقدّم وخروج إيران من سوريا بشكل نهائي.
هذا وقد بدأت المفاوضات بين نظام الأسد ووحدات الحماية الشعبية في إطار المشروع المذكور، وأشارت المعلومات الواردة إلى أنّ محور المفاوضات يدور حول تسليم حقول النفط ومعابر "الدرباسية واليعربية وسيمالكا" الحدودية للنظام السوري مقابل السماح لوحدات الحماية الشعبية بإدارة القسم الشمالي مثل ولايات الرقّة والحسكة، إضافةً إلى إعفاء عناصر وحدات الحماية الشعبية من إلزامية تأدية الخدمة العسكرية في صفوف الجيش السوري "قوات الأسد"، لكن حسب التطورات الأخيرة سيتم تحديد مستقبل سوريا بناء على الاجتماع الذي سيكون بين أردوغان وترامب وبوتين خلال قمة حلف الشمال الأطلسي التي ستعقد في العاصمة البلجيكية بروكسل بتاريخ 11-12 تموز 2018.
يهدف الرئيس الأمريكي ترامب إلى إيقاف تقدّم تركيا وإخراج إيران من المعادلة السورية بشكل نهائي، ولذلك يُشار إلى أن ترامب سيسوق جميع أوراقه الرابحة خلال اجتماع بروكسل لإقناع تركيا بالقسم المتعلّق بإيران من المسألة، ووفقاً للكاتب الأمريكي "ديفيد إيجناتيوس" في صحيفة "واشنطن بوست" لقد اتفقت أمريكا وروسيا في خصوص دفع إيران للخروج من سوريا وبقاء الأسد في السلطة.
من جهة أخرى صرّح وزير الخارجية الروسي "سيرجي لافروف" يأن توقّع خروج إيران من سوريا سيكون ابتعاداً عن واقع الساحة السورية، إضافةً إلى أن الدول الأوروبية الحليفة لأمريكا لديها شكوك كبيرة تجاه هذه السياسة المعادية لإيران، والتي تحاول واشنطن تطبيقها على أرض الواقع من خلال الاتفاق مع روسيا، كما أن بريطانيا وفرنسا قد أعربت عن موقفها من خلال تحذير واشنطن بأن مساهمة روسيا في القضاء على إيران سيكون أمراً غريباً للغاية، أما بالنسبة إلى موقف تركيا من هذه المسألة يمكن القول إن الأخيرة تعارض دعم وحدات الحماية الشعبية وتجاهل الجهات المعارضة في سوريا، كما أنها لا تؤيد أمريكا وإسرائيل في السياسة التي تمارسها تجاه إيران.
الخلاصة هي أن جميع المخطّطات التي تتعلّق بسوريا ستبوء بالفشل إن لم تحصل على موافقة تركيا وروسيا وإيران، ولذلك حان وقت استسلام وزارة الدفاع الأمريكية والتوقّف عن هذه المحاولات، لأنها لن تنجح في إنقاذ وحدات الحماية الشعبية مهما فعلت بعد الآن، وإن نهاية الأخير إضافةً إلى بي كي كي ستكون أسوأ بكثير من نهاية تنظيمات داعش والكيان الموازي التي كانت تخدم مصالح القوى الإمبريالية.