أوهام حول الانسحاب الإيراني من سوريا
لا تعدو مسألة الحديث عن الانسحاب الإيراني من سوريا عن كونها نسيجا هشا من الرغبات والأوهام والأمنيات، ولا تتوافر على الحد الأدنى من المعقولية الممكنة واقعيا. وهي تقع في إطار رغبة إسرائيلية جامحة لترتيبات أمنها القومي بالاعتماد على القوتين الأمريكية والروسية. ففي سياق متصل من النفاق والكذب المتبادل بين أمريكا وروسيا، من المنتظر عقد لقاء قمة بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الأمريكي دونالد ترامب في 16 تموز/ يوليو 2018 في مدينة هلسنكي الفنلندية، في سبيل التوصل إلى إنجاز صفقة تمهد الطريق باتجاه ترميم العلاقات بين البلدين، عبر مدخل تثبيت الاستقرار والسلم في سوريا، وإبعاد إيران. وقد أعلن يوري أوشاكوف، مساعد الرئيس الروسي أن الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والأمريكي دونالد ترامب؛ سيناقشان خلال قمتهما الأزمة السورية والوجود الإيراني في سوريا.
إن الهوة بين أمريكا وروسيا كبيرة، لا يمكن أن تجسرها التصريحات المنمقة المتبادلة. ففي الوقت الذي يصف ترامب ورسيا بالمنافسة، يصف بوتين أمريكا بالشريكة، لكن تلك الصفات لا تخرج عن إطار الرطانة البلاغية، ومن المؤكد أن كلا الرئيسين سيخرجان بوعود لن يستطيع أي منهما تحقيقها بخصوص التواجد الإيراني في سوريا. فقد تدخّلت إيران وحليفها "حزب الله" اللبناني للدفاع عن نظام الأسد، الذي كان قاب قوسين أو أدنى من السقوط، وذلك في أعقاب انطلاق الثورة السورية، وعلى مدى سنوات تصاعد الاستثمار الإيراني في سوريا، ووصل إلى مليارات الدولارات، بالإضافة إلى وجود عسكري متعدّد الأشكال.
لا شك أن الحديث عن صفقة أمريكية روسية على حساب إيران في سوريا قد أزعجت القيادة في إيران، مما دفع المرشد الأعلى علي خامنئي إلى إيفاد كبير مستشاريه، علي أكبر ولايتي، لنقل رسالة إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وكانت روسيا قد ألمحت في وقت سابق إلى أن جميع القوات الأجنبية، بما فيها الإيرانية، يجب أن تغادر سوريا في نهاية المطاف، لكن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف قال في الرابع من تموز/ يوليو الجاري إن إيران إحدى القوى الرئيسية في المنطقة، ومن غير الواقعي توقع تخليها عن مصالحها في سوريا.
إن تناقض التصريحات بات سمة بارزة للدبلوماسية الروسية، التي اعتادت على تقديم تعهدات وضمانات لأكثر من طرف في سوريا من دون الالتزام بها، وإيران لن تخرج من سوريا من خلال الضغط الروسي، فقد باتت متجذرة في سوريا والعراق ولبنان بسبب السياسات الأمريكية التي ساهمت بإضعاف السلطات المحلية ونشر الفساد في هذه البلدان. فأمريكا لم تتمكن من الحد من النفوذ الإيراني في العراق التي احتلته وفككت مؤسساته، بل إنها خلصت إيران من حكم صدام حسين عام 2003، وأصبح العراق في دائرة النفوذ الإيراني. ومنذ هجمات أيلول/ سبتمبر 2001، دعمت أمريكا (وبشكل منتظم) المصالح الإيرانية، عندما قامت بالإطاحة بنظام طالبان في أفغانستان. ولم تنته جوائز أمريكا لإيران عند هذا الحد، ففي عام 2014، وبعد اجتياح مقاتلي تنظيم "الدولة الإسلامية" شمال العراق، قامت الولايات المتحدة بتشكيل تحالف من 80 دولة لمواجهة جهاديي تنظيم "الدولة"، وكالعادة كانت إيران هي المستفيدة.
إن الفشل الأمريكي في الحد من نفوذ إيران، لا يمكن أن يتحقق عن طريق روسيا، ليس بسبب عدم رغبة بوتين، وإنما لكونها أشد عجزا من الولايات المتحدة في هذا السياق. ويبدو أن القمة المرتقبة بين ترامب وبوتين لن تخرج عن ترتيبات تحقق أمن إسرائيل، ذلك أن أطراف المعادلة في واشنطن وموسكو وتل أبيب متفقون على بقاء بشار الأسد. فأولوية ترامب هي الانسحاب من سوريا، وإسرائيل أعربت عن ارتياحها منذ زمن بعيد من التفاهم مع نظام الأسد، فهي تفضل بقاء الأسد على وصول نظام إسلامي يهدد مصالحها، مع المطالبة برحيل القوات الإيرانية عن سوريا.
رغم الرغبة الإسرائيلية الجامحة بإبعاد إيران عن سوريا، حسب صحيفة "هآرتس"، والإدعاء بأن "الروس يخططون للعمل من أجل انسحاب القوات الإيرانية بمقابل وعد إسرائيلي بعدم إيذاء الأسد أو نظامه"، إلا أن إسرائيل تدرك استحالة ذلك، حيث قالت "هآرتس" (في إشارة إلى القمة المرتقبة بين الرئيسين الروسي والأمريكي)، إنه إذا وافق ترامب على رفع العقوبات التي فرضت على روسيا بعد الحرب في أوكرانيا واحتلال "القرم"، "فإنه سيطلب من روسيا سحب القوات الإيرانية من سوريا، أو على الأقل تحريكها إلى ما وراء 80 كيلومترا من الحدود الإسرائيلية". وتابعت: "على الرغم من تهديدات بعض الوزراء الإسرائيليين بإلحاق الأذى بالنظام، إلا أن إسرائيل مهتمة ببقاء الأسد، وبسيطرته الكاملة على سوريا، وباستئناف اتفاق فك الاشتباك عام 1974 الذي وقعه والده حافظ الأسد". و"وفقا لمصادر دبلوماسية غربية، فإن إسرائيل تريد من روسيا صياغة خطة استراتيجية لما بعد الحرب، والتي ستمنع سوريا من أن تصبح دولة عبور للأسلحة بين إيران وحزب الله".
منذ أن تدخلت روسيا في سوريا في أيلول/ سبتمبر 2015، باتت في شراكة مع إيران لانقاذ نظام الأسد، وهو نطام أصبح مرتهنا لكلا القوتين، وإذا كانت روسيا ترغب بالتفرد فعلا في سوريا، فإنها لن تتمكن من إقناع الأسد بالحد من وجود القوات الإيرانية في سوريا. فعلى مدى سنوات، تجذرت إيران بطرائق عديدة في سوريا عسكريا واقتصاديا. فقد أصبحت المليشيات الإيرانية التي تقاتل في سوريا جزءا لا يتجزأ من الجيش السوري، وذلك من خلال عمليات اندماج تم تنفيذها بتعليمات من إيران. وحسب مجلة "فورين بوليسي"، فإن مسؤولين إيرانيين وغيرهم من الخبراء والمحلّلين قالوا: إن "طهران استثمرت في دمشق المال والرجال"، حيث بلغ حجم ما أنفقته هناك منذ اندلاع الحرب فيها أكثر من 30 مليار دولار، في حين وصل عدد القتلى الإيرانيين في سوريا إلى نحو 2000 قتيل. وحسب منصور فارهنج، وهو باحث إيراني ودبلوماسي سابق مقيم في أمريكا، فإنه "بغضّ النظر عن قيمة المبالغ التي صرفتها إيران، فهي بعد ذلك من الصعب عليها حمل حقائبها والخروج؛ فقواتها تعمل في 11 قاعدة بأنحاء سوريا، فضلاً عن تسع قواعد تابعة للمليشيات الشيعية المدعومة منها في حلب وحمص ودير الزور، و15 قاعدة ونقطة مراقبة تابعة لحزب الله على طول الحدود مع لبنان وفي حلب".
وعلى الرغم من صغر حجم المجتمع الشيعي في سوريا، اضطلعت المليشيات التي يديرها الشيعة أو يسيطرون عليها؛ بدور غير متكافئ في الصراع. فحسب فيليب سميث، من معهد واشنطن، "فقد كان عدد الجماعات الشيعية المحلية محدوداً، حيث بلغ إجمالي عدد المقاتلين حوالي 3500 إلى خمسة آلاف مقاتل خلال الأيام الأولى من الحرب، وحالياً ما بين ثمانية إلى 12 ألفاً. لكن إيران قامت بتعزيز هؤلاء المقاتلين بشكل مطرد بمقاتلين شيعة أجانب، من بينهم أعضاء من "حزب الله" والمليشيات من أفغانستان وباكستان والعراق. ويتراوح عدد هؤلاء الأجانب في الوقت الراهن ما بين 20 إلى 30 ألفَاً، وفقاً لاحتياجات التجنيد والانتشار".
إذا كانت أمريكا ليست مستعدة للمخاطرة بدخول حرب مع إيران، فإنها لن تستطيع إخراج إيران من سوريا عن طريق الضغوطات الروسية، ذلك أن إيران تعتبر وجودها في سوريا والمنطقة مسألة وجودية، كما أن الحرس الثوري الإيراني لديه الدافعية للانخراط في لعبة حافة الهاوية، وحسب باتريك كلاوسون هو مدير الأبحاث في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى. فعلى عكس "الحرس الثوري الإيراني" الأكثر حزما، ليس لإدارة ترامب مصلحة في مواجهة أخرى في الشرق الأوسط. وقد اشتكى الرئيس ترامب من مقدار ما أنفقته الولايات المتحدة في صراعات الشرق الأوسط. ومع انسحابه من "الاتفاق النووي" الإيراني، أوضح ترامب أنه كان يمارس ضغوطات اقتصادية على إيران من أجل الوصول إلى صفقة دبلوماسية جديدة. فقد بذل جهده لتجنب الإشارة إلى أي احتمال لوجود مواجهة عسكرية. وقد تنشب حرب كبيرة تنخرط فيها إيران/ "حزب الله" وإسرائيل، إن لم تشمل بعض دول الخليج أيضاً، لكن السبب هو أن "الحرس الثوري الإيراني" يستمر في ممارسة الضغوطات، وليس لأن إيران تشعر أنها تخضع لأي قيود كبيرة.
خلاصة القول أن الانسحاب الإيراني من سوريا لا يعدو عن كونه وهما، وما لم تستطع أمريكا تحقيقه لمصلحة إسرائيل لن تتمكن روسيا من تنفيذه، فقد باتت إيران اليوم تفرض هيمنتها ونفوذها على القوس الممتد من طهران وحتى البحر الأبيض المتوسط، ومن حدود حلف شمال الأطلسي إلى حدود الأراضي الفلسطينية المحتلة، أيضاً على امتداد الطرف الجنوبي من شبه جزيرة العرب. فلدى إيران اليوم الآلاف من المليشيات المتحالفة معها، والجيوش التي تقاتل وكالة عنها في الخطوط الأمامية في سوريا والعراق واليمن، فضلاً عن آلاف من أعضاء الحرس الثوري الإيراني الذين يشاركون في تلك المعارك. وتدرك أمريكا وروسيا، فضلا عن إسرائيل، أن إيران قادرة على خلق مشاكل عديدةفي المنطقة، وأن كلفة مواجهة إيران باهظة جدا. وبهذا، فإن هدف الضغوطات على إيران لا يعدو عن البحث عن صفقات ممكنة في عالم عربي لا يتمتع بوزن في مجال الحسابات الاستراتيجية.