لعبة المساومة الإيرانية – الإسرائيلية عبر سوريا
إنهاء ما تبقى من قوى معارضة سورية مسلحة وغير مسلحة في الجنوب السوري هو ما يجري اليوم استكماله في درعا وريفها، وصولاً إلى القنيطرة ومحيطها، بعدما وصلت قوات النظام السوري إلى الحدود مع الأردن وسيطرت بدعم من القوات الروسية والميليشيات الإيرانية على معظم المناطق التي كانت تسيطر عليها جماعات المعارضة المسلحة وصولاً إلى المعابر الحدودية مع الأردن التي صارت تحت سلطة النظام.
ورافق هذه العمليات العسكرية نقل الآلاف من المقاتلين وعائلاتهم إلى إدلب، في ظلّ أكبر عملية نهب طالت بيوت ومتاجر السوريين في المناطق التي دخلها الجيش السوري والميليشيات الحليفة، لا سيما في مدينة درعا التي شهدت انطلاقة الثورة السورية قبل سبع سنوات.
الاتفاق على إنهاء المعارضة في الجنوب وفي جنوب غرب سوريا، يبدو أنّه الاتفاق الأكثر ثباتاً، فالعمليات العسكرية التي انطلقت منذ نحو شهر، كان الغطاء الأميركي – الروسي عجلة انطلاقتها، والتأييد الإسرائيلي عنوان نجاحها الميداني، بحيث أكدت المواقف الرسمية الإسرائيلية بلا تردد أنّها تؤيد عودة النظام السوري إلى هذه المناطق، على قاعدة إعادة الاعتبار لاتفاق الهدنة أو فض الاشتباك والذي جرى توقيعه عام 1974؛ إذ لم يعد خافيا أن العمليات العسكرية وسلاسة سيطرة النظام وحلفائه الروس والميليشيات الإيرانية، ما كانت لتتم لولا الغطاء الإسرائيلي لها.
الشروط الإسرائيلية لإعطاء الضوء الأخضر للعمليات العسكرية هذه باتت واضحة، فإلى جانب الالتزام بشروطها الأمنية تجاه ابتعاد القوات الإيرانية لنحو 80 كلم عن حدود الجولان المحتل، كان التزام القوات السورية الرسمية بحماية الاستقرار على هذه الحدود بضمانة روسية، وعلى قاعدة إطلاق يد نظام الأسد في “تأديب” شعبه في مقابل الالتزام الكامل بمقتضيات الأمن الإسرائيلي على الحدود مع سوريا.
وفي إشارة عسكرية واضحة إلى الغطاء الإسرائيلي لعمليات النظام العسكرية في الجنوب السوري، وإلى مدى التزام قوات النظام السوري والميليشيات الحليفة بالشروط الإسرائيلية، فإنّ أيّ موقف إسرائيلي لم يشر إلى قلق لدى قادة إسرائيل من استمرار هذه العمليات وتطورها في المناطق الجنوبية، فيما قامت الطائرات الإسرائيلية قبل يومين (الأحد) بقصف مطار النيرب في الشمال السوري (حلب). هذه الضربة الإسرائيلية إن دلّت على شيء فهي تدل على أنّ إسرائيل راضية عن مسار العمليات العسكرية التي يقوم بها النظام وحلفاؤه في الجنوب، والدليل أنّ طائراتها التي وجهت ضربات عسكرية في مطار يقع في حلب، لم تقم بتوجيه أي ضربة عسكرية في الجنوب، يُشتمُّ منها أي اعتراض إسرائيلي على العمليات العسكرية في الجنوب.
في موازاة كل ذلك تدور الأسئلة حول طبيعة التفاهمات التي جرت في الجنوب السوري، والتي تتم على أساسها العودة الميدانية إلى ما كان عليه الحال ما قبل الثورة السورية، وإذا كان ثمّة تفاهم أميركي وروسي وإسرائيلي على هذه الخطوة التي ينفذها النظام السوري وحلفاؤه من الميليشيات الإيرانية، فإن الاطمئنان الإسرائيلي لتنفيذ هذه العمليات، وصولاً إلى السماح للطائرات السورية الحربية بالاقتراب من حدودها إلى مسافة خمسة كيلومترات، يشير إلى أنّ إسرائيل مطمئنة إلى حدّ كبير لتنفيذ شروطها الأمنية والاستراتيجية في سوريا، وإلا لم تكن لتسمح بتنفيذ خطة سيطرة النظام من دون أي عرقلة، بل وفرت كل شروط النجاح لها، عندما اقتصرت تحذيراتها إعلاميا على عدم المس بالمدنيين السوريين ولا سيما في المناطق القريبة من حدودها.
الأرجح أنّ إيران وافقت على الشروط الإسرائيلية المتصلة بمناطق الجنوب السوري، فقد التزمت بوقف أيّ نشاط عسكري لمجموعات سورية أو موالية لها بذريعة تحرير الجولان كما كان عليه الحال قبل سنوات، إذ لم يعد يسمع في سوريا عن أيّ نشاط ولو إعلامي لمجموعات أو هيئات تنشط تحت عنوان تحرير الجولان، وأعلنت إيران بلسان مستشار مرشد الثورة، علي ولايتي، بعد لقائه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قبل أيام أنّ “إيران مستعدة لسحب مستشاريها العسكريين من سوريا فيما لو طلبت الحكومة السورية ذلك”. ولكن يبقى السؤال حول مستقبل الوجود الإيراني العسكري في سوريا قائما، والدور الذي يمكن أن يجعل من وجوده المباشر أو غير المباشر حاجة دولية أو إسرائيلية.
حاول ولايتي وهو يبدي استعداد طهران للخروج العسكري من سوريا، أن يقدم إغراء لبوتين من خلال إبداء إيران استعدادها لعقد صفقات تجارية وعسكرية مع روسيا تفوق قيمتها الخمسين مليار دولار، وهو إغراء سيعزز العلاقة مع موسكو في مرحلة تحتاج إليها إيران لمواجهة العقوبات الأميركية المتنامية ضدها. ويعكس فيما لو تم إقراره دخول إيران مجددا في متاهة الاستنزاف والابتزاز الروسي والصيني، لا سيما لجهة فرض اتفاقات عليها بشروط قاسية.
يبقى أنّ إيران التي استثمرت في تعزيز وجودها الأمني والعسكري على حدود إسرائيل سواء في غزة أو جنوب لبنان أو جنوب سوريا، تمتلك ورقة تتيح لها المساومة مع الإسرائيليين، وهذه الورقة لن توفرها إيران في سياق الدفاع عن وجودها ونفوذها الذي بات أمام مرحلة حصار جديدة، وفي هذا السياق تشير معلومات دبلوماسية من بيروت إلى أن اتصالات غير مباشرة جرت بين الإيرانيين والإسرائيليين، فإلى جانب الاتصالات التي تقوم بها روسيا بين الطرفين فيما يتصل بالشأن السوري، تحدثت هذه المصادر عن اتصالات تمت بوساطة أردنية ومن خلال وفدين رسميين في أحد فنادق عمّان حيث تمركز كل وفد في أحد الطوابق وقام الوسيط الأردني بدور نقل الرسائل بين الطرفين. هذه اللقاءات تمت عشية انطلاق العمليات العسكرية الأخيرة في الجنوب السوري مع تصعيد العقوبات الأميركية ضد إيران، من دون أن تتضح نتائج هذه اللقاءات، لكن بحسب المصادر نفسها فإن الملفات العالقة بين إيران وإسرائيل عديدة ولدى الإيرانيين أوراق كثيرة يمكن أن يقدموها للإسرائيليين، لا سيما وأن دفع الأثمان يتم من كيس اللبنانيين أو السوريين والفلسطينيين.
الغياب العربي ;غياب المعارضة السورية عن هذه التطورات التي تطال الثورة السورية ووجود المعارضة سياسيا وعسكريا، يفتح الباب واسعاً أمام خلق تفاهمات إقليمية ودولية في الجغرافيا السورية بما لا يتناسب مع أدنى حقوق الشعب السوري، وأدنى شروط النظام الإقليمي العربي، وهو ما يفتح المجال أمام معادلة طالما استثمرتها إسرائيل لحساب مصالحها، ونجحت إيران في استغلالها لمقارعة خصومها، وهي معادلة حماية الفوضى وإدارتها في المنطقة العربية، فكلا الطرفين يعتمد استراتيجية العداء اللفظي في مخاطبة الآخر، فيما يوغل في تدمير المنطقة العربية وجعلها منطقة ضعيفة ومنكوبة.
سوريا مثال الثابت فيه تدمير الدولة وإضعافها بتشريد شعبها ودفع من تبقى للاستسلام، وهذا وحده كفيل بتوفير القدرة لدى إسرائيل وإيران على بقاء نفوذهما لا سيما إذا كانت الحاجة مستمرة لاستثمار ذريعة العداء المتبادل من أجل استكمال تعزيز نفوذهما السياسي والأمني على امتداد المنطقة العربية، وهذا ما سيكشف صحته من عدمها حدود التفاهم الأميركي الروسي في سوريا في ظل صمت عربي مريب وغياب أي موقف سياسي للمعارضة السورية بمختلف فصائلها.