القطبة المخفية في تسوية الجنوب السوري
اخترق هدوء العاصمة دمشق، في إحدى ليالي خريف عام 2011 صوت رصاص غزير أطلق في الهواء، فرحاً وابتهاجاً، من مختلف مواقع تمركز قوات النظام... بدا الأمر غريباً في ظل تواتر مظاهرات السوريين وتمددها لتشمل مختلف المدن والمناطق، ليشاع في صبيحة اليوم التالي أن السبب هو وصول تأكيدات حاسمة للنظام السوري بأن دولة إسرائيل لا تزال على عهدها، ولم تغير موقفها من دعم بقائه في السلطة، بعد أن بدأت الثورة السلمية تهز أركانه واستقراره.
وبغض النظر عن الغرض من إشاعة ذلك التفسير وقتئذ، فإن ثمة حقيقة قديمة وقوية تقول إن إحدى دعائم استمرار النظام السوري وتسويقه دولياً هو الرضا الإسرائيلي عنه بصفته نظاماً مجرباً حافظ على جبهة الجولان آمنة ومستقرة طيلة عقود، ويسهل التوصل معه إلى تفاهمات بشأن القضايا الأكثر حساسية، وهي حقيقة لم يحجبها تصنع حكومة تل أبيب عدم الاكتراث وادعاء الحياد في الصراع السوري، ولا تصريحات بعض قادتها عن فقدان النظام لشرعيته، وأنه غير قادر على الحكم بعد العنف المفرط الذي مارسه ضد شعبه، مثلما لم تحجبها الاشتباكات والمعارك التي اشتعلت بينهما بالأصالة مرة، في حرب أكتوبر عام 1973 وبالوكالة مرات في جنوب لبنان وغزة، بل تؤكدها إعلانات إسرائيل المعروفة في أزمات سورية كثيرة، عن ضرورة الحفاظ على السلطة القائمة كخيار أفضل، على أن تبقى ضعيفة من أجل لجم اندفاعاتها الإقليمية المؤذية، وتؤكدها أيضاً حالة العداء الأصيل عند حكام تل أبيب لقيام نظام ديمقراطي في دمشق يمكن أن يحدث تبدلاً استراتيجياً في الوضع القائم، ويحمل فرصة النهوض بالبلاد وتعزيز قدرتها ومكانتها، تحدوهم مصلحة عميقة في استمرار الاستبداد والفساد كوسيلة حكم في سوريا تلجم حضور المجتمع الحي وتستنزف طاقاته، وتأخذه نحو التنابذ والتفكك والتفسخ كي يأمنوا جانبه موضوعياً لعشرات قادمة من السنين، ويضمنوا تالياً طي صفحة الجولان المحتل ليغدو مصيره كمصير لواء إسكندرون.
والحال، تغدو الحسابات والأهداف الإسرائيلية أشبه بالقطبة المخفية في ما نشهده من تبادل أدوار وتناغم بين واشنطن وموسكو للتأثير بالصراع السوري، ومؤخراً لفرض تسوية في جنوب البلاد، والقصد أن لقادة تل أبيب كلمة قوية حول مستقبل الأوضاع في بلد يجاورهم ويحتلون جزءاً من أرضه، بل لهم الأولوية، عند الغرب والشرق، في تحديد ما يمكن أن يترتب من أي تطور في سوريا على مصالح دولتهم وأمنها خصوصاً في المناطق الحدودية، وكلنا يتذكر، المواقف المثيرة لمسؤولين إسرائيليين، في تحذير الكرملين من مخاطر إسقاط النظام وانتصار ثورة السوريين، وفي مطالبة البيت الأبيض تقنين دعم المعارضة وتخفيف الضغط على الحكم السوري وتركه لشأنه، والمغزى أن هناك حرصاً دولياً لا يمكنه القفز فوق هموم الأمن الصهيوني وحساباته الاستراتيجية، يحدوه قوة اللوبي اليهودي الحاضر ليس فقط في واشنطن والعواصم الأوروبية والمؤثر على سياساتهم الشرق أوسطية، وإنما الموجود أيضاً في موسكو وقد تنامى وزنه بفعل التشابك مع نحو مليوني يهودي من أصول روسية، هاجروا إلى إسرائيل، وبات دوره مؤثراً على قرارات الكرملين المتعلقة بالمنطقة والحدث السوري.
من هذه القناة يمكن النظر إلى ما أثير منذ شهور في لقاء نتنياهو وبوتين عن قبول الأول عودة قوات النظام السوري إلى الشريط الحدودي، في شرق درعا وغرب القنيطرة، شريطة إبعاد ميليشيا طهران و«حزب الله» إلى مسافة لا تقل عن - 80 - كيلومتراً من خط الاشتباك في الجولان، بما يشمل العاصمة دمشق وريفها، مع تمكين القوات الدولية (أندوف) وتفعيل دورها الرقابي في المنطقة المنزوعة السلاح، ومنح إسرائيل حرية ضرب أي أهداف إيرانية في سوريا تشكل ركيزة خطيرة على أمنها، وإذا أضفنا الحرص الدولي على تجنيب المنطقة تداعيات حرب مباشرة بين تل أبيب وطهران بدأ نذيرها يتضح مع ارتفاع حرارة التوتر بينهما، جراء تعزز حضور الميليشيا الإيرانية وفاعليتها في سوريا، وتواتر الضربات الإسرائيلية التي طاولت غير موقع حساس للحرس الثوري و«حزب الله» في العمق السوري، يمكن أن نفسر توقيت الخرق الروسي المتعمد لاتفاق خفض التوتر، الذي أبرم حول جنوب سوريا، وتالياً دوافع الانسحاب الصريح للراعي الأميركي وتخليه عن دعم المعارضة، ربطاً بما يثار عن صفقة أو تسوية لتلك المنطقة ستتم المصادقة عليها خلال لقاء هلسنكي المرتقب بين ترمب وبوتين، تتوافق مع مصالح إسرائيل وتهدف لإبعاد مختلف التشكيلات الميليشياوية الإيرانية، مقابل رفع الغطاء عن الجماعات السورية المعارضة، وإعادة المشهد الحدودي إلى سابق عهده.
صحيح أن ثمة منفعة، تكللت بالصمت، تجنيها حكومة تل أبيب من سياسة النظام في استجرار الدعم من خصومها، إيران و«حزب الله»، مراهنة على تسعير الاقتتال المذهبي في تفكيك الوطن السوري وإنهاك المجتمع، وفي النيل من أهم كوادر «حزب الله» والإجهاز على ما تبقى من سمعته السياسية كحزب مقاوم، لكن تلك المنفعة ترتبط بخطوط حمراء يفترض عدم تجاوزها، بدأت تحضر وتتضح مع تراجع حدة القتال وميل توازنات القوى لمصلحة النظام وحلفائه، منها التمدد العسكري الإيراني في سوريا، خصوصاً في المنطقة الحدودية، وأهمها وصول أسلحة متطورة إلى «حزب الله» قد تسمح بتعديل الستاتيكو القائم.
لا يوفر النظام السوري، بديماغوجيته العريقة، وسيلة لحشر إسرائيل في كل شاردة وواردة، ولنقل في أي أزمة أو محنة يسببها استبداده وعنفه وفساده، غالباً كي يحرر نفسه من المسؤولية والأهم كي يسوغ مختلف أشكال الفتك والتنكيل ضد معارضيه، وبرغم وضوح أسباب ثورة السوريين ودوافعها الداخلية فقد صنفت سلطوياً كمؤامرة صهيونية للنيل من النهج المقاوم للنظام، واليوم وبرغم معرفة القاصي والداني حقيقة الدور الإسرائيلي المشجع والمتواطئ في صفقة أو تسوية جنوب سوريا يطلع علينا الإعلام الممانع بديباجته المقيتة، بأن تلك التسوية هي ضربة قاصمة للمخطط التآمري الصهيوني راعي المنظمات الإرهابية وداعمها، كذا!