الثورة السورية.. ماذا بعد الاحتلال الروسي؟
كل من يتابع المسار العسكري للثورة السورية يدرك أننا أمام المزيد من الخسائر وتآكل المساحات التي كان يسيطر عليها الثوار، أمام غطاء دولي لوحشية الاحتلال الروسي وسياسة غض النظر عن اتباع همجية الأرض المحروقة. ولكن ماذا يعني ذلك في النهاية؟ وبصيغة أخرى هل مجازر الاحتلال الروسي والتوغل في الأرض قادرة حقا على إعادة تأهيل نظام الأسد؟
إن الإجابة الواقعية على ذلك رهن بالنظر إلى إمكانية نظام الأسد بعد السنوات السبع التي استنزف فيها النظام قواه العسكرية والاقتصادية؛ فالمراقب في القوى العسكرية التي تقاتل على الأرض يدرك أنها خليط من المليشيات الأجنبية المرتزقة التي جلبتها قوات الاحتلال الإيراني، وأن الخسائر البشرية قد طالت القسم الأكبر من القوات التي كانت تشكل بنية النظام العسكرية. أما الجانب الاقتصادي فإنه في حالة من الإنهاك لا يستطيع المحتل الروسي ولا الإيراني أن يشكل رافعة له بالمطلق، بل إن الممولين له من أنظمة عربية والتي باتت مكشوفة اليوم، تعاني وستعاني في القريب العاجل من أزمات سياسية واقتصادية نتيجة للمراهقة السياسية التي خاضها أبناء ـ طويلي العمرـ.
على أن الضعف الأكبر اليوم في نظام الأسد هو في القيادات السياسية بدءا برأس الهرم وحتى كافة القيادات الملتفة حوله؛ فمن يستطيع أن ينسى بل أن يسحب من ذاكرة السوريين كيف أن الأسد بات موظفا بدرجة مستخدَم لدى كل من الاحتلال الإيراني والروسي؛ فهذا المستخدَم يستدعيه وزير الدفاع الروسي إلى قاعدة حميميم دون أن يعلم بمن سيلتقي، وليس أقل منها صورة تطعن بكل مظاهر السيادة عندما استدعاه بوتين وتم منعه من قِبَل مرافق بوتين إكمال السير معه على الأرض السورية!
أثبتت الثورة السورية أن الشعوب ونخبها تستطيع تأجيل دفع ثمن قبولها بالاستعباد مقابل بعض المكتسبات التي يغريها بها المستبد؛ سواء على مستوى الأحزاب السياسية أو المفكرين والنخب
لقائل أن يقول: ألم تنتهِ الثورة مع هذه الخسائر العسكرية للثوار السوريين؟ وقبل الإجابة على هذا التساؤل يبدو انه من الواجب علينا أن نقف أمام ما حققته الثورة السورية بعد كل المحاولات للتعتيم عليها، أو غياب هذه الإنجازات تحت ضغط النظر في الواقع الآني. ولنحاول معا الوقوف على أهم ما قدمته الثورة السورية:
* إنها الثورة التي كشفت عن العامل الأهم والأكثر تأثيراً في ارتهان الشعوب لحالة التخلف والدخول في مرحلة التيه المخيفة التي تدخلها الشعوب؛ وهو ما يمكن أن نعبر عنه بثنائية الاستبداد وغياب الحرية.
* إنها بينت أن الشعوب ونخبها تستطيع تأجيل دفع ثمن قبولها بالاستعباد مقابل بعض المكتسبات التي يغريها بها المستبد؛ سواء على مستوى الأحزاب السياسية أو المفكرين والنخب، أو ما يلهي به الجمهور عبر عدة مسالك تتنوع بين الشدة واللين.. العصا والجزرة؛ لكن ذلك التأجيل لن ينجيها أبداً من مضاعفة الفاتورة التي تصبح دموعاً وحسرات تلف الجميع وهم يودعون كل ما بنوه تحت أقدام زلزال هو نتيجة حتمية للخضوع للمستبد وسياساته.
* إن حالة الضبابية التي كان تكسو مواقف الكثير من حكام شعوب المنطقة وأنظمتها عبر التصريحات الإعلامية والتلميع الذي لا يعدموه من قبل الكثير من ـ مطبلاتيةـ الإعلام الرسمي، بل والخاص التابع لمافيات المال التي تدعم وجود هذه الأنظمة لصالحها؛ إن حالة الضبابية تلك انقشعت وأصبح هناك انكشاف تام لمواقف تلك الأنظمة على نحو يرفع عنها أي شرعية سوى شرعية الاغتصاب الآثم للسلطة.
* لقد كشفت الترهل الكبير في البنية الجمعية للمثقفين والنخب، فهم في الأغلب فرديون في عملهم، دجنتهم أنظمة الاستبداد في مسار الفردية والأنانية، بل أوهنت قدراتهم عن الإبداع في العمل الجماعي، واغتالت الكثير من العمل الجماعي والمؤسسي عبر مقاييس الولاء للحاكم بأمر الله.
* إن الشعوب العربية لديها القدرات المكنوزة الكبيرة، وهي قدمت الكثير في ثوراتها، بل وكانت سباقة بأشواط عن النخب في تقديم التضحيات العظيمة. وهي أحوج ما تكون إلى نخب مخلصة تستثمر تلك التضحيات وتعرف قدرها وتلامس أشوقها الشرعية في الحرية والكرامة وتقدم لها أنموذجا في العمل الجماعي الذي يتجاوز المصالح الفردية والأنانيات والاحتراب الإيديولوجي.
* أيضا من أعظم ما حققته الثورة السورية أنها قدمت الوعي ـ لمن يريد أن يعي ـ حول الأدوات القذرة التي يستخدمها سدنة المجتمع الدولي في سعيهم لتحقيق أطماعهم ووأد حق الشعوب العربية في التحرر من الاستعمار السياسي وذيوله؛ فالتحريض الطائفي وإثارة النزعات القومية على نحو مشبوه، والمعارك الإيديولوجية المتسترة بلباس العلمية والتحررية، وصناعة الإرهاب المنسوب إلى الإسلام زوراً من خلال ما يسمى بالتنظيمات الجهادية، والتي عانينا منها اشد العناء واغتالت الكثير من طموحات الشعب السوري وعملت على تشويه هويته، كل هذه الأدوات باتت في اشد درجات الوضوح، ومن واجب كل منا محاربتها والتأسيس لوعي جمعي يحارب كل أشكالها. قد لا تكون هذه الإنجازات وليدة الثورة السورية، بل من المؤكد أنها ليست وليدتها، لكنها أسهمت بشكل كبير ومهم في إنضاج الوعي بها، على نحو يجعلها مفخرة للثورة السورية وكل حر ينشد الخير لهذه المجتمعات.
والآن جوابا على التساؤل حول مآل الثورة السورية:
إن الدرس التاريخي يقول لنا أن الثورات الشعبية ضد أنظمة الاستبداد لا يتم القضاء عليها من خلالل الخسائر العسكرية التي تُمنى بها، ولاسيما تلك الثورات التي تقوم في جوهرها على رفض الظلم الأسود الذي تمارسه تلك الأنظمة، والذي لا تستطيع هذه الأنظمة التخلي عنه لأنه إكسير وجودها.
بل أنه على العكس من ذلك تعود تلك الثورات لإعادة التشكل من جديد، وبقدر ما تستفيد من درس أخطائها، بقدر ما تتجاوز رهان الأنظمة المستبدة وداعميها. إن مسارات ثورتنا أبدا لم تنته، والقدرة اليوم على تحديد المسار أو المسارات الأهم الذي ينبغي العمل عليها، والاستفادة من الأوراق التي بين أيدينا هو العمل الأهم -من وجهة نظر الكاتب- والتي تدفع الوهن الذي أصاب الكثير من النفوس أمام هول البشاعات التي يرتكبها الاحتلال الروسي وقرينه الإيراني بانصياع من نظام الأسد. لا شك أن تداعي المخلصين -كل المخلصين- وأصحاب الخبرات ـ ولا سيما الذين هم في الخارج في عمل منظم مؤسساتي ـ للقيام بذلك، هو واجب إنساني ووطني يضع فيه كل منهم بصمة شرف، وحضور همة لا ترهقها التداعيات الراهنة مهما عظمت.
ولعل أكبر رد يمكن أن تقوم به القوى الوطنية والحاضنة الشعبية الرائعة التي بذلت الكثير الكثير هو التأكيد على الثابت الأكبر في ثورتنا؛ وهو رفض النظام المجرم وإزالة أي تشويش، في محاولةٍ لتجميل صورته وتغييب جريمته الكبرى (الخيانة العظمى) من قتل مئات الآلاف وتغييب عشرات الآلاف في السجون القذرة، وتحطيم آمال شعب كامل في حياة كريمة، وتلطيخ سيادته بأبشع ما يمكن وصفه. نعم نظام الأسد مجرم خائن.