في أهمية ميّ سكاف
لا يبدو الحديث سهلا حينما تأتي للكتابة عن شخصية عامة من باب التقدير والاحترام، ما دمت لا تعرفها عن قرب، ولم تتتبعها بشكل جيد.. هكذا هو الأمر تماما حينما فضّلتُ - لهذا الأسبوع - الكتابة عن الفنانة السورية المعارضة مي سكاف، والتي توفيت أخيرا في المنفى في باريس.
لا يمكنني الزعم بأنني أعرفها جيدا من أعمالها الفنية، ولا القول إنني استمعت لها جيدا وهي تُعبّر عن مواقفها تجاه النظام السوري، أو الثورة السورية، بيد أنه وبالرغم من ذلك، يمكن لمي سكاف أن تأخذ مكانة بالغة الدلالة على قضايا كبرى، تنفتح بقوّة وكثافة منذ انفجار الثورات العربية.
دون كثير من المقدّمات، يمكن القول ببساطة متناهية إن وجود ميّ سكاف في طليعة الثورة السورية، ودفعها ثمن ذلك منذ بداياتها، سجينة ومعتقلة ثم منفية، يعطي دلالة كافية عن أصل القضية السورية، في وقت استسلم فيه الجميع للوقوف عند عوارض الثورة وصراعها مع النظام.
كأي ثورة مجتمعية عميقة، تنتج عن تراكمات تاريخية واجتماعية وسياسية هائلة، تواجه نظاما من نوع النظام السوري يستحيل إصلاحه، ودائما ما تُنذر طبيعته بالانفجار والعنف حين محاولة المسّ به، كان لا بد وأن يكون للثورة السورية ولصراعها مع هذا النظام أعراض من نوع البطش الوحشي من النظام، وانقسامات المجتمع متعددة المنطلقات والاتجاهات، والصراعات السياسية والأيديولوجية بين فرقاء الثورة والمعارضة، والعمى السياسي، والحروب الأهلية، ودخول القوى الإقليمية والدولية على خطّ الثورة، أو على خطّ الحرب الأهلية.
إنّ ذلك كلّه أعراض لا بدّ منها في أي ثورة بعمق الثورة السورية وأسبابها، لكن هذه الأعراض لم تكن هي الثورة، لم تكن الثورة نتيجة المستوى المرتفع من بطش النظام، إنما هي ثورة عادلة في منطلقاتها ومطالبها، حتى لو كان النظام أكثر رحمة في تعامله معها.
ولا كانت الثورة هي عديد القوى الناجمة عن صراعها مع النظام.. بكلمة أخرى ما كانت الثورة هي داعش، ولا القاعدة ولا النصرة. من جهته، حاول النظام أن يجعل من أعراض صراعه مع الثورة، كظهور هذه القوى أو تدخل بعض القوى الإقليمية والدولية، صورة الثورة.. باختصار أراد النظام القول إن الثورة تساوي داعش. ومن جهة مقابلة، توقف خصوم النظام كثيرا عند بطشه، في كل ذلك تجاوز لأصل المشكلة، التي منحت الثورة عدالة منطلقاتها ومطالبها..
ميّ سكاف تقول إن هذه ليست ثورة طائفية، ولا هي داعش.. يكفي وجود ميّ وصلابتها ودفعها الثمن، وتكفي مقولاتها للتأكيد الدائم على منطلق هذه الثورة، وعلى عدالة الأسباب التي منحتها الشرعية، على الجوهر الذي لا ينبغي أن تطمس حقيقته الأعراض الطارئة.. هذا النظام ما زال مستبدّا، وما زالت العدالة في سياساته غائبة، وهذه أسباب كافية لأيّ ثورة، أسباب على المستوى الأخلاقي والمبدئي، بصرف النظر عن أي نقاش سياسي.
هنا تجدر الإشارة إلى أنه ورغم كل ما قيل عن مآلات الثورة، والحديث عن نهايتها، وعن الإحباط الذي أصاب الجميع، بما في ذلك ميّ كما في ذلك أكثر الكتابات التي ترثيها، فإن ميّ ظلّت على مقولاتها التأسيسية التي تشير دائما إلى أصل القضية ومنشئها، إلى الجوهر الذي يجعل دائما أسباب الثورة قائمة، وتجددها ممكن.
قد يكون الحديث عن ميّ من جهة كونها امرأة مبتذلا.. فالنساء اللواتي يرين أنّهن يقمن بواجبهن تجاه القضايا العامة، ويدفعن ثمن ذلك، على نحو لا يجعل لتخصيصهن بالإشارة معنى.. هنّ أكثر من أن يحاط بهنّ، وأعظم من أن يُختزلن في نموذج، وإنما كانت ميّ واحدة منهنّ. إلا أنّ الإشارة لمجال اشتغال ميّ الثقافي والفنّي ضرورية، بالنظر إلى تردي غالب مواقف المشتغلين في هذه المجالات، وسقوطهم في أوحال العلاقة مع السلطة، وخيانة مقولاتهم الثقافية والفنية.. ميّ من هذه الناحية شاهدة على تلك الخيانة.. صحيح أنني لست عارفا بطبيعة الأعمال الفنية التي قدمتها، وهل كانت تنطوي على نقد جدّي للسلطة أم لا، إلا أن الذي أعرفه أنها اتخذت موقفا ثوريّا شخصيّا من تلك السلطة، بينما نعرف أن الكثيرين الذين قدّموا أعمالا نقدية لم تكن أعمالهم تلك أكثر من ارتزاق يفتقر في دوافعه لأهداف التنوير المزعومة، على الأقل مواقفهم من الثورة كشفت عن ذلك، وهم بذلك لم يخونوا الجماهير فحسب، وإنما خانوا ادعاءاتهم، وخانوا أعمالهم.
أهمية ميّ من هذه النواحي التي تعالج تلك القضايا الكبرى، وعلى شدّة تعلّقها بالقضية السورية، هي أوسع من ذلك، وتملك طاقة دالة على قضايانا العربية الأخرى التي تندرج في هذا السياق.