لن نفقد الأمل
في الأول جاء الخبر المفجع بوفاة مي سكاف، بلا إنذار مسبق، فلم يعرف أحد عن مرض ما كانت تعانيه، في حين ألمح مقربون منها إلى «ظروف غامضة» قد يكشفون عنها لاحقاً. على أي حال، وقع الخبر وقع الصدمة بين سوريي الشتات، كأن موتها المفاجئ أعادهم إلى حال بلدهم الذي خسروه، ويستمرون في خسارته قطعة وراء قطعة. لم يكد يفيق السوريون من هذه الصدمة، حتى عاجلهم النظام الكيماوي، في اليوم نفسه، بأخرى: خبر مقتل الأخوين يحيى ومعن شربجي تحت التعذيب… منذ خمس سنوات! كأنها رسالة منه إلى كل من له أحبة مغيبين في جحيم معتقلاته، مفادها أن تخلوا عن الأمل بعودتهم.
لكننا لن نتخلى ولن نفقد الأمل، هكذا أوصتنا مي في منشورها الأخير على فيسبوك، بخلاف جملة دانتي الرهيبة على باب الجحيم.
يحيى ومعن من ناشطي درايا الأوائل، لم يغفر لهما نظام البراميل نضالهما السلمي من أجل الحرية والكرامة، مسلحين بزجاجة الماء المعززة بالوردة، في مواجهة الجيش المسلح بالرشاشات والقناصات. جاء خبر الأخوين شربجي في إطار حملة جديدة بدأها النظام، منذ أسابيع، فراح يسجل وفيات من قتلهم في جحيم معتقلاته، في سجلات النفوس! لا حدود لعبقرية النظام في ميدان الجريمة، وفقط في هذا الميدان. أما مي التي هربت، في العام 2013 خارج البلاد، فنجت من مصير مماثل، فقد قتلها المنفى والشوق وأخبار الجنوب.
ففي ذلك الجنوب الذي طالما شكل شوكة في خاصرة دمشق المحتلة، انتهت المعركة، كالعادة، بترحيل السكان، وعودة قوات النظام إلى تنكب مهمتها المألوفة، منذ «الحركة التصحيحية»، ككلب حراسة لحدود إسرائيل. كان على النظام أن يصدر شهادتي وفاة الأخوين شربجي على وقع وصول وفد روسي «رفيع» إلى إسرائيل برئاسة وزير الخارجية لافروف ورئيس أركان الجيش الروسي، للتباحث مع نتنياهو حول مصير الجنوب السوري بما يحفظ أمن إسرائيل، على ما تم الاتفاق عليه بين كل من إسرائيل وروسيا والرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
لا يمكن الحديث، في هذا الإطار، عن «تنازلات» قدمها النظام بنتيجة ضغوط. فهو ليس في وضع المفاوض حتى يقدمها. بل هو في وضع الخاضع لإملاءات ولي أمره الروسي، ينفذ، بلا نقاش، ما يتفق عليه الروسي والإسرائيلي فيما بينهما، ويبصم الرئيس الأمريكي ترامب، من جهته، على الاتفاق. فيكون على العبد المأمور أن ينفذ وحسب. أما تنمره فيظهر في مكان آخر: حين يتعلق الأمر بنجاة عناصر من الدفاع المدني من قبضته، فيُحرَم من قتلهم قصفاً أو تحت التعذيب، ومن إصدار شهادات وفاة لكل منهم. إنه ككلب شرس خسيس منعه سيده الممسك برسنه من الافتراس، كاظماً غيظه، نابحاً على الناجين من أنيابه بكل ما أنتجت «الممانعة» من صديد الشتائم.
يريد النظام لشهادات الوفاة، بحق من قتلهم تحت التعذيب في السنوات السابقة، أن تكون بمثابة شهادة وفاة لثورة السوريين، كما يريدها دستوره للتعامل مع من تبقى منهم تحت قبضته. وللوهلة الأولى، تبدو الشروط الميدانية والدولية مواتية له لتحقيق حلمه بالعودة إلى ما قبل 2011. ولكن فقط للوهلة الأولى. ذلك لأنه لا يملك، اليوم، من أمره شيئاً. مصيره يتحدد في موسكو وتل أبيب وطهران وواشنطن. بل كذلك في مناطق سيطرته بالذات حيث يحكم أمراء حربه من قادة الشبيحة وعصابات القتل والتعفيش. قد يتوهم أنه يخرج من عزلته بمهارات جبران باسيل المستعجل على تطبيع العلاقات معه، أو إيمانويل ماكرون المتلهف على فتح سفارة فرنسية في دمشق، يساهم في إغاثة الغوطة الشرقية المحتلة كبادرة حسن نية، أو جماعة صالح مسلم التي تفاوضه «بلا شروط مسبقة»، استباقاً لانسحاب أمريكي محتمل يسعى إليه ترامب.
كل هذه التطورات لن تنفع النظام في استعادة سوريا، ما دام هناك ملايين من أمثال مي ويحيى ومعن، مشتتين في أرجاء الأرض، بانتظار تغير الأحوال، ليعودوا إلى بلدهم المنكوب، اليوم، بعصابة الإجرام الأسدية والمحتل الروسي الداعم لها. نعم، هم في حالة انتظار، غير قادرين على الفعل ضمن الشروط القائمة الآن. ربما العمل الوحيد المجدي الآن هو الحفاظ على جمرة الأمل. فثمان سنوات من الحرب علمتنا أن الشروط السورية سيالة، متغيرة، لا تستقر على حال لشهرين متتاليين.
سيموت كثير منا، غرقاً في البحر، أو قنصاً على الحدود، أو شوقاً في المنافي. لكننا أكثر مما يمكن للبحر أن يبتلعه، أو للشوق أن يفنيه. مسلحين نحن بوصية مي، لن نفقد الأمل، فبلادنا قد لا تكون عظيمة، كما قالت، لكنها ليست سوريا الأسد.