الانهيار السوري بعد لقاء فنلندا
خرجت الكرة من بين أقدام السوريين وأصبحت روسيا والولايات المتحدة الأمريكية، وقوى الإقليم هم أصحاب الكلمة العليا في بلد الثورة. فلا النظام السوري الذي خسر نخبته العسكرية والأمنية والاقتصادية والفكرية وكل قواه البشرية قادرًا على تغيير الواقع وإيجاد الحل النهائي، ولا المعارضة السياسية والعسكرية التي فقدت الأوراق السياسية والحيز الترابي والمجال الجغرافي، قادرة على الحسم والتغيير الجوهري، وإسقاط النظام كما كانت تخطط سابقًا.
انتقل الملف السوري لطاولة الكبار، فقد زجت روسيا بقوتها اللوجستية والمخابراتية والعسكرية والسياسية، ومن ورائها إيران وحزب الله وميليشيا نظام الأسد المحلية، واستخدموا كل وسائل البطش والعنف اللامحدود للسيطرة على المدن الكبرى والأرياف وسط وغرب سورية في دمشق وحمص ودرعا وحلب والساحل. وبالمقابل سيطرت الولايات المتحدة ومعها قوات ypg الكردية على مناطق واسعة شرق في الجزيرة الفراتية والبادية السورية، وكذلك قامت تركيا، وفق تسويات خفض التصعيد في أستانا مع روسيا وإيران، واجتماعاتها السرية مع واشنطن، بعمليتي درع الفرات وغصن الزيتون، ونشرت مؤخرًا اثنا عشر نقطة مراقبة عسكرية في الشمال السوري "إدلب وأرياف حلب واللاذقية وحماة".
وفي إطار التفاهمات الدولية والإقليمية، كانت تجتمع قوى النظام والمعارضة "السوريون" بين الفينة والأخرى في جنيف وأستانا وسوتشي برعاية المبعوث الأممي ديمستورا، ويخوضون مفاوضات عبثية وبلا نتائج واضحة، ولكن أن يصل الضغط على حدود الأردن وإسرائيل، وتقصف طائرات الأسد وميليشيا إيران درعا والقنيطرة، أصبح للمسألة وجهات نظر وحسابات مختلفة.
سارعت واشنطن وموسكو للإعلان عن لقاء بين رئيسا الدولتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي Helsinki، لبحث عدد من القضايا العالقة بين القوتين، وآخرها اقتراب ميليشيا الأسد وإيران من حدود الجولان السوري المحتل من إسرائيل. فقد التقى الرئيسان في منتصف هذا الشهر (يوم الاثنين 16 تموز/ يوليو 2018)، ودار نقاش وصفه محللون وإعلاميون بالطويل والصعب. ورغم ذلك كان السوريون يرقبون ما سينتج عن تلك القمة، وهل ستنعكس سلبًا ام إيجابًا على مستقبل بلادهم؟
اعتبر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن روسيا أدت واجبها في القضاء على ما وصفه الجماعات الإرهابية المسلحة، وأن الكرة باتت بيد واشنطن في سحب قواتها والمساهمة في تأمين الاستقرار وإعمار المناطق المدمرة في سورية، واضعًا كرة قدم بيد ترامب الذي ألقى بها أرضًا. فكيف نقرأ هذا الموقف الروسي على هامش القمة الثنائية الكبرى؟
القمة التي وصفها السيناتور الجمهوري جون ماكين بأنها "أحد أسوأ اللحظات في تاريخ الرئاسة الأمريكية"، كانت كذلك بالنسبة للقضية السورية، التي بحثها الرئيسان وخرجا ليؤكدا تنسيقهما في سورية عسكريًا وسياسيًا، متفقين في النتيجة على أن "حفظ أمن إسرائيل" هو الأولوية المطلقة لكليهما في الأزمة السورية.
وقبل القمة العالمية بيومين، بدأت تتوضح ملامح الصفقة التي يعدها الطرفان لتقرير مستقبل سورية، والتي تتلخص بخروج أمريكي تدريجي، وتسليم ببقاء نظام الأسد وإطلاق يد روسيا في سورية مقابل طرد إيران. وقد استبقت الولايات المتحدة القمة، بإعلان قرب انسحابها من شرق سوريا تدريجيًا، مطالبة حلفاءها بملء الفراغ في تلك المنطقة، وقال المبعوث الأميركي للتحالف الدولي ضد تنظيم الدولة بريت ما غورك لأعضاء التحالف في 14 تموز/ يوليو 2018: "على أعضاء التحالف المشاركة في حمل العبء عسكريًا وماليًا شمال شرقي سورية". أي توفير نحو 300 مليون دولار أميركي، ونشر وحدات من القوات الخاصة لملء الفراغ لدى الانسحاب التدريجي للقوات الأميركية. إذًا: كانت قمة هلسنكي صفقة سياسية وأمنية مفادها:
- ضمان أمن وحدود إسرائيل، وتطبيق صفقة القرن في المشرق العربي دون تأخير.
- تقليص الوجود الإيراني في سورية تدريجيًا، ويتوكل الروس بهذه المهمة.
- خروج تدريجي للقوات الأمريكية من مواقعها، وحلول قوات تركية وأخرى من حلف الناتو مكانها.
بقاء الحال على ما هو عليه في سورية بعد تهجير المعارضين من درعا والقنيطرة "الجنوب السوري". فالدلائل تشير إلا اتفاق مدته خمس سنوات، تصبح لروسيا بعده الكلمة العليا في مناطق سيطرة النظام، ولتركيا الوصاية الكاملة على مناطق المعارضة في الشمال السوري، وتبقى الولايات المتحدة وحلفائها في مناطق شرق الفرات وقاعدة التنف حتى مطلع عام 2020م ليتمكن حلفاء الإقليم من حفظ الاستقرار بها، وإعمار مناطقها. وتجري خلال هذه السنوات عملية تحديد صلاحيات الرئيس وإيجاد دستور يدير المناطق. إذًا، فالنتيجة ستتحول سورية لمناطق نفوذ ترعاها الدول حتى ترتب لها طاولات مفاوضات جديدة.