بعد قمة هلسنكي وتنصيب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عراب حاضر سورية ومستقبلها بالمشاركة الوثيقة مع اسرائيل، زار وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الدولة العبرية. وقدم عرضاً روسياً لإسرائيل بانسحاب القوات الإيرانية إلى مئة كيلومتر من الحدود السورية الإسرائيلية، ورفضت الدولة العبرية ذلك. فإسرائيل تطالب الروس بسحب القوات الإيرانية من كل الأراضي السورية مقابل بقاء بشار الأسد. مستقبل سورية لم يعد في يد الاسد بل أصبح مرتبطاً بما يريده بوتين. فروسيا تفاوض الولايات المتحدة وإسرائيل وإيران حول المستقبل السوري. صحيح أن الأسد يعتبر أنه كسب الحرب، لكونه بقي على رأس بلده. لكنه أصبح مثل رؤساء أوروبا الشرقية في عهد الاتحاد السوفياتي عندما لم يكن لهم اي دور في تقرير مصيرهم حتى سقط الاتحاد السوفياتي. فالاسد من دون روسيا بوتين سينتهي مثل تشاوشسكو. روسيا اليوم ليست الاتحاد السوفياتي، ولكن بوتين حتى اشعار آخر استعاد دورا اساسيا في سورية ما يجعله يقرر وحده مثلا كيف يوزع السلع الإنسانية على الاماكن المختلفة في الغوطة، حتى وهو يعلن أنه يفعل ذلك بمشاركة فرنسا، ولكن القرار هو روسي .
ليس للامم المتحدة ومبعوثها إلى سورية ستيفان دي مستورا أي دور حقيقي في التحرك لحل سياسي لأن القرار روسي. وروسيا تعقد اجتماعاً قريباً في سوتشي لدول مسار استانة، تركيا وإيران، يحضره المبعوث الأممي. والمبعوث الفرنسي الجديد للرئيس ماكرون لسورية فرانسوا سينيمو توجه لزيارة موسكو قبل تسلم منصبه رسميا في أيلول (سبتمبر) بعد أن غادر العاصمة الإيرانية حيث كان سفيراً لفرنسا. موسكو وسوتشي وسان بيترسبورغ وغيرها من المدن اصبحت قلب الأحداث والتطورات السورية وكل المفاوضات الدائرة حول الملف. ومما لا شك فيه أن الشركات الروسية ستكون المعنية بأولوية إعادة إعمار سورية وكل من يريد حصة بهذا الإعمار عليه أن يمر عبر روسيا. فالفساد المتفشي في القطاع الاقتصادي الروسي سيتعزز بشراكة أوساط مقربة من الأسد كان فسادها اساس الاستياء الشعبي الذي قمعه الأسد وجماعته بالبراميل والقنابل والتعذيب، والادعاء أن المتظاهرين الذين قاموا ضد الفساد ومن اجل الحرية في بداية الحرب كانوا إرهابيين. روسيا بالأمس قررت دفع عدد من اللاجئين السوريين من لبنان إلى سورية ومن الأردن إليها. ما يظهر أن النظام الروسي هو مسوؤل عمن يعود من السوريين إلى بلده. فالهيمنة الروسية هي التي ستبقى من هذه الحرب السورية الكارثية، وليس نظام الأسد الذي أصبح دمية في ايدي روسيا وإسرائيل وإيران. أما القوات الإيرانية في سورية فهي ستواجه حرباً إسرائيلية عنيفة. إسرائيل لن تسمح ببقائها. وروسيا مدركة أن ليس باستطاعتها إخراج إيران من كل سورية. إسرائيل تستمر في ضرب القواعد الايرانية في سورية تحت مراقبة الطيران الروسي الذي لا يتحرك للتصدي لها، لأنه مدرك أن إسرائيل وحدها في النهاية قد تخرج القوات الإيرانية من سورية. ليس لإيران القدرة العسكرية على القيام بحرب ضد إسرائيل. فإسرائيل تعول على بقاء الأسد ضعيفاً تحت وصاية روسية وتهتم بإخراج ايران، و«حزب الله» بدأ يسحب قواته إلى لبنان مدركاً أن الحرب لها تكاليف باهظة عليه وعلى لبنان إذا كانت روسيا تغطي أعمال إسرائيل في سورية.
منذ إعلان البيت الأبيض والكرملين أن الرئيسين دونالد ترامب وفلاديمير بوتين سيعقدان أول قمة بينهما في هلسنكي، توقع المراقبون أن تتصدر إيران والموضوعات المتصلة بها أجندة اللقاء، فجاء حديث البعض عن احتمال أن يتوصل الطرفان إلى صفقة "تاريخية" تصبح طهران ضحيتها وكبش فداء لها.
في ظل شحّ أو بالأحرى انعدام المعلومات الموثوقة عن حقيقة ما دار بين الرجلين حول إيران، وبالذات تواجد قواتها في سوريا في القمة التي وصفها دونالد ترامب بـ"النجاح العظيم"، لا يمكن القطع بوجود مثل هذه الصفقة. أما المعطيات الراهنة، فترجح حصول تفاهمات بين الأمريكيين والروس، قد تنتهي لاحقا إلى صفقة بينهم حال نجح الطرفان في تذليل العقبات.
خلال حملته الانتخابية، قطع دونالد ترامب وعدا على نفسه بتحسين العلاقات مع روسيا، لأسباب غامضة، لعل لدور لعبته الأخيرة في فوزه بالانتخابات الرئاسية الأمريكية من خلال التدخل في سير العملية الانتخابية. بالتالي، قمة هلسنكي (والأخرى المحتملة في البيت الأبيض بالخريف) تأتي في سياق تحمس الرئيس الأمريكي لتنفيذ وعده الانتخابي بالدرجة الأولى، ولا علاقة لها أساسا بالموضوع الإيراني. مع ذلك، ترامب في ظل العراقيل الداخلية التي يواجهها للتقارب مع الروس، منها النظرة السلبية أو العدائية للمؤسسة الأمريكية تجاه موسكو، وكذلك ملف "روسياغيت"؛ بحاجة ماسة إلى عنصر مهم لتسويق هذا التقارب. هذا العنصر ليس إلا الموضوع الإيراني الذي تسعى الإدارة الأمريكية من خلال التوصل إلى شبه اتفاق أو صفقة مع روسيا بشأنه؛ لتسويق فكرة تحسين العلاقات الأمريكية الروسية.
روسيا أيضا متحمسة لأبعد الحدود لتحقيق مثل هذا التقارب، لأسباب كثيرة، أهمها رفع العقوبات عنها، والتي كلفتها كثيرا اقتصاديا، حيث أعرب الرئيس الروسي في حزيران/ يونيو الماضي عن أمله بأن يفي ترامب بوعده الانتخابي الخاص بتحسين علاقات بلاده مع موسكو.
أما على أرض الواقع، فالرغبة المتوفرة لدى ترامب وبوتين لا تكفي وحدها لتحقيق اختراق كبير في العلاقات الثنائية وتطبيعها، فثمة عراقيل كبيرة تعترض ذلك. المشكلة ليست في الجانب الروسي، إذ أن الرئيس بوتين يملك وحده القرار في هذا الخصوص، أما نظيره الأمريكي لا يملك مثل هذا القرار لتنفيذ رغبته ووعده الانتخابي، بسبب معارضة المؤسسة الأمريكية. عليه، يستبعد حصول صفقة تاريخية شاملة بين الجانبين على المدى المنظور؛ لأن أركانها لم تكتمل بعد، حيث أن المؤسسة الأمريكية، ولا سيما الأجهزة الأمنية والتشريعية، تعارض بشدة هذا التوجه الترامبي. فبعد يوم واحد من القمة الأمريكية الروسية تحدث بول رايان، رئيس مجلس النواب الأمريكي، عن استعداد المجلس لدراسة فرض المزيد من العقوبات على روسيا، قائلا: "روسيا حكومة تشكل تهديدا ولا تشترك معنا في المصلحة ولا تشترك معنا في القيم".
هذه المعارضة من قبل بعض أركان المؤسسة الأمريكية تحول دون أن تقدّم واشنطن ما يلزم لإنجاز صفقة شاملة مع موسكو، مثل رفع العقوبات بالكامل، ولا سيما تلك التي فرضها الكونغرس الأمريكي. وعلى ضوء ذلك، روسيا أيضا لا يمكنها الذهاب باتجاه صفقة مجانية.
إذن، اليوم لسنا أمام صفقة تحمل صفة التاريخية والشاملة بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا، فما يمكن أن يحدث في الوقت الحاضر هي صفقات جزئية على شاكلة تفاهمات وتوافقات بين الطرفين، تحت سقف محدد وليس مفتوحا حول بعض القضايا، منها التواجد الإيراني في سوريا.
بيدا أن قمة هلسنكي تناولت موضوع سوريا والوجود الإيراني فيها انطلاقا من مقتضيات الأمن الإسرائيلي، حيث قال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في مؤتمر صحفي مشترك عقب لقائه مع نظيره الروسي "تحدث كلانا مع بيبي (بنيامين نتنياهو) وهما يريدان القيام بأمور معينة مع سوريا تتعلق بسلامة إسرائيل"، مؤكدا أن الولايات المتحدة وروسيا ستعملان معا لضمان أمن إسرائيل.
لا شك في أن "الأمور المحددة" التي قال ترامب إن البلدين سيقومان بها في سوريا لضمان أمن إسرائيل؛ تمثل تهديدا للوجود الإيراني في سوريا. أما السؤال الأبرز هنا: إلى أي مدى يمكن أن يضحّي الرئيس الروسي بالعلاقات مع إيران التي خاضت إلى جانب روسيا معارك طاحنة دعما للحليف السوري؟ فهل سيساوم على الوجود الإيراني في كافة الأراضي السورية، أو في مناطق منها؟ لا إجابة دقيقة على هذا السؤال في الوقت الحاضر، لكن عوامل مصلحية كثيرة، منها العلاقات الروسية الإسرائيلية، ورغبة موسكو في دعم المسار التقاربي للعلاقات مع واشنطن، وتحجيم الدور الإيراني للحصول على حصة الأسد في مرحلة إعادة الإعمار.. من شأنها أن تدفع الرئيس بوتين نحو مساومة مع الإسرائيليين والأمريكان على حساب إيران، لكن ليس في كل سوريا.
روسيا ما زالت بحاجة إلى إيران في سوريا، إذ لم تنته بعد عملية درعا، وهنالك معركة كبرى على الأبواب ضد محافظة إدلب التي تحولت بفعل عمليات التسفير إلى أكبر معقل للمعارضة السورية المسلحة. فضلا عن ذلك، من الصعب بمكان، إن لم يكن مستحيلا، العمل على إخراج إيران من كل سوريا، وحتى إن تعهد بوتين بذلك للأمريكيين، فكيف يمكنه أن يحقق ذلك؟ هل ستنزل طهران عند رغبة بوتين بمجرد أن يطلب الأخير منها ذلك؟ طبعا لا. إذن، هل بإمكان روسيا أن تدخل في صراع عسكري مباشر مع إيران في سوريا لإجبارها على ذلك وتنهي بهذه الطريقة كافة الإنجازات الثنائية المشتركة على مدى السنوات المنصرمة؛ فقط لأجل تل أبيب وواشنطن؟ أيضا غير وارد ذلك بتاتا. أقصى ما يمكن أن تفعله روسيا في هذا الإطار أن تطلق اليد الإسرائيلية للقيام بمزيد من الهجمات ضد القوات الإيرانية في سوريا، لكن مثل هذه الهجمات أيضا لن تنهي الوجود الإيراني. ثم من شأن استمرار تلك الهجمات أن يؤدي إلى مواجهة إسرائيلية إيرانية على الأراضي السورية ترتد سلبا على كل الأوضاع الأمنية فيها، وهذا ما لا تريده موسكو أيضا.
يبقى القول إن علاقات روسيا الوطيدة مع القوى والدول التي تعادي إيران ترجّح كفة المصالح الروسية مع هذه الدول. فعلى سبيل المثال، وفيما يتعلق بالمصالح الاقتصادية، حجم التبادل التجاري بين روسيا وكل من الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل والسعودية والإمارات، فيتجاوز 50 مليار دولار، أما مع إيران فقرابة ملياري دولار. وعليه، من الطبيعي أن تتجاوب موسكو أحيانا مع رغبات هذه الأطراف الأربعة على حساب إيران، وخاصة عندما يتعلق الأمربرفع العقوبات الأمريكية عن الاقتصاد الروسي. لكن هذه المعادلة لا تعني أن روسيا مستعدة للقيام بما يطيح بعلاقاتها مع إيران برمتها، مما يخل بالتوازن في علاقاتها الشرق أوسطية أولا، ثم يعيد العلاقات الإيرانية الروسية إلى ما قبل عام 2000 ثانيا، وينهي مسار التطور للعلاقات، الذي بدأ منذ بدء بوتين فترته الرئاسية الجديدة هذا العام. ومن جانب آخر، مهما تحقق من تقارب بين موسكو والغرب، وبالذات الولايات المتحدة الأمريكية، وأيا كانت طبيعة الصفقات المحتملة بين الجانبين حول سوريا وغيرها، لا يمكن أن تشارك روسيا في الجهود الأمريكية والإسرائيلية الرامية إلى تغيير النظام الإيراني؛ لأنها تعلم جيدا أن البديل عنه سيكون نظاما مواليا للغرب يأتي بالناتو إلى الحدود الروسية الجنوبية، وآسيا الوسطى والقفاز، وشواطئ بحر قزوين الغني بموارد الطاقة.
لا يبدو الحديث سهلا حينما تأتي للكتابة عن شخصية عامة من باب التقدير والاحترام، ما دمت لا تعرفها عن قرب، ولم تتتبعها بشكل جيد.. هكذا هو الأمر تماما حينما فضّلتُ - لهذا الأسبوع - الكتابة عن الفنانة السورية المعارضة مي سكاف، والتي توفيت أخيرا في المنفى في باريس.
لا يمكنني الزعم بأنني أعرفها جيدا من أعمالها الفنية، ولا القول إنني استمعت لها جيدا وهي تُعبّر عن مواقفها تجاه النظام السوري، أو الثورة السورية، بيد أنه وبالرغم من ذلك، يمكن لمي سكاف أن تأخذ مكانة بالغة الدلالة على قضايا كبرى، تنفتح بقوّة وكثافة منذ انفجار الثورات العربية.
دون كثير من المقدّمات، يمكن القول ببساطة متناهية إن وجود ميّ سكاف في طليعة الثورة السورية، ودفعها ثمن ذلك منذ بداياتها، سجينة ومعتقلة ثم منفية، يعطي دلالة كافية عن أصل القضية السورية، في وقت استسلم فيه الجميع للوقوف عند عوارض الثورة وصراعها مع النظام.
كأي ثورة مجتمعية عميقة، تنتج عن تراكمات تاريخية واجتماعية وسياسية هائلة، تواجه نظاما من نوع النظام السوري يستحيل إصلاحه، ودائما ما تُنذر طبيعته بالانفجار والعنف حين محاولة المسّ به، كان لا بد وأن يكون للثورة السورية ولصراعها مع هذا النظام أعراض من نوع البطش الوحشي من النظام، وانقسامات المجتمع متعددة المنطلقات والاتجاهات، والصراعات السياسية والأيديولوجية بين فرقاء الثورة والمعارضة، والعمى السياسي، والحروب الأهلية، ودخول القوى الإقليمية والدولية على خطّ الثورة، أو على خطّ الحرب الأهلية.
إنّ ذلك كلّه أعراض لا بدّ منها في أي ثورة بعمق الثورة السورية وأسبابها، لكن هذه الأعراض لم تكن هي الثورة، لم تكن الثورة نتيجة المستوى المرتفع من بطش النظام، إنما هي ثورة عادلة في منطلقاتها ومطالبها، حتى لو كان النظام أكثر رحمة في تعامله معها.
ولا كانت الثورة هي عديد القوى الناجمة عن صراعها مع النظام.. بكلمة أخرى ما كانت الثورة هي داعش، ولا القاعدة ولا النصرة. من جهته، حاول النظام أن يجعل من أعراض صراعه مع الثورة، كظهور هذه القوى أو تدخل بعض القوى الإقليمية والدولية، صورة الثورة.. باختصار أراد النظام القول إن الثورة تساوي داعش. ومن جهة مقابلة، توقف خصوم النظام كثيرا عند بطشه، في كل ذلك تجاوز لأصل المشكلة، التي منحت الثورة عدالة منطلقاتها ومطالبها..
ميّ سكاف تقول إن هذه ليست ثورة طائفية، ولا هي داعش.. يكفي وجود ميّ وصلابتها ودفعها الثمن، وتكفي مقولاتها للتأكيد الدائم على منطلق هذه الثورة، وعلى عدالة الأسباب التي منحتها الشرعية، على الجوهر الذي لا ينبغي أن تطمس حقيقته الأعراض الطارئة.. هذا النظام ما زال مستبدّا، وما زالت العدالة في سياساته غائبة، وهذه أسباب كافية لأيّ ثورة، أسباب على المستوى الأخلاقي والمبدئي، بصرف النظر عن أي نقاش سياسي.
هنا تجدر الإشارة إلى أنه ورغم كل ما قيل عن مآلات الثورة، والحديث عن نهايتها، وعن الإحباط الذي أصاب الجميع، بما في ذلك ميّ كما في ذلك أكثر الكتابات التي ترثيها، فإن ميّ ظلّت على مقولاتها التأسيسية التي تشير دائما إلى أصل القضية ومنشئها، إلى الجوهر الذي يجعل دائما أسباب الثورة قائمة، وتجددها ممكن.
قد يكون الحديث عن ميّ من جهة كونها امرأة مبتذلا.. فالنساء اللواتي يرين أنّهن يقمن بواجبهن تجاه القضايا العامة، ويدفعن ثمن ذلك، على نحو لا يجعل لتخصيصهن بالإشارة معنى.. هنّ أكثر من أن يحاط بهنّ، وأعظم من أن يُختزلن في نموذج، وإنما كانت ميّ واحدة منهنّ. إلا أنّ الإشارة لمجال اشتغال ميّ الثقافي والفنّي ضرورية، بالنظر إلى تردي غالب مواقف المشتغلين في هذه المجالات، وسقوطهم في أوحال العلاقة مع السلطة، وخيانة مقولاتهم الثقافية والفنية.. ميّ من هذه الناحية شاهدة على تلك الخيانة.. صحيح أنني لست عارفا بطبيعة الأعمال الفنية التي قدمتها، وهل كانت تنطوي على نقد جدّي للسلطة أم لا، إلا أن الذي أعرفه أنها اتخذت موقفا ثوريّا شخصيّا من تلك السلطة، بينما نعرف أن الكثيرين الذين قدّموا أعمالا نقدية لم تكن أعمالهم تلك أكثر من ارتزاق يفتقر في دوافعه لأهداف التنوير المزعومة، على الأقل مواقفهم من الثورة كشفت عن ذلك، وهم بذلك لم يخونوا الجماهير فحسب، وإنما خانوا ادعاءاتهم، وخانوا أعمالهم.
أهمية ميّ من هذه النواحي التي تعالج تلك القضايا الكبرى، وعلى شدّة تعلّقها بالقضية السورية، هي أوسع من ذلك، وتملك طاقة دالة على قضايانا العربية الأخرى التي تندرج في هذا السياق.
يعتصر العالمَ العربيّ، وخصوصاً المشرق، خطران: واحد تمثّله إسرائيل، لا سيّما في ظلّ نتانياهو وحلفائه، والثاني تمثّله إيران في ظلّ آيات الله.
هذان البلدان، بنظاميهما وأيديولوجيّتيهما، يجمع بينهما الميل الداخليّ إلى تعديل طبيعة الأشياء بشراً وأرضاً وعلاقات: نشأة إسرائيل ارتبطت بتهجير السكّان الأصليّين، الفلسطينيّين. الاستيطان، منذ 1967، بات التعبير الأوضح عن هذا الميل إلى مناهضة الطبيعة بسرقات تحميها القوّة والصلف. إيران، من جهتها، لا تتردّد في تغيير وقائع ديموغرافيّة وسكّانيّة حيث يحلّ نفوذها، أو نفوذ أتباعها. وهي لا تكتم العزم على ربط بلدان عربيّة بها، بعضُها مجاورٌ كالعراق وبعضها ناءٍ كغزّة واليمن، فضلاً عن سوريّة ولبنان. وهي بلدان سبق أن عبّر رسميّون في طهران عن الرغبة في إلحاقها إمبراطوريّاً.
بقسمة إجماليّة تبدو إسرائيل، من وجه، أخطر من إيران، وتبدو إيران، من وجهين، أخطر من إسرائيل.
فالقوّة العسكريّة والتقنيّة الإسرائيليّة، التي لا تملك طهران مثلها، تنمّ عن وحش ضامر قد يظهر إلى العلن في هيئته هذه. أنيابها النوويّة وكونها، في الوقت نفسه، سيليكون فالي الشرق الأوسط، يبعثان في جوارها قلقاً مبرّراً. روادع الديموقراطيّة البرلمانيّة لهذا الوحش تتراجع مع استمرار الاحتلال وصعود الزعامات القوميّة– الشعبويّة، فيها وفي العالم، خصوصاً مع العلاقات المميّزة بين نتانياهو ودونالد ترامب. لقد جاء نقل الولايات المتّحدة سفارتها إلى القدس تعبيراً عن المضمون الاحتلاليّ الذي تحمله تلك العلاقات المميّزة. بدورها، تأتي الموافقة على قانون «الدولة الأمّة اليهوديّة»، أو «قانون القوميّة»، لتشكّل تعزيزاً أيديولوجيّاً لهذا النزوع. صحيح أنّ القانون المذكور تنظير متأخّر لواقع سابق، في إسرائيل وفي عموم المنطقة، إلاّ أنّ فعاليّة الدولة العبريّة وحداثيّتها الوظيفيّة تمنحانه فعاليّة قابلة للاستخدام أكثر ممّا في أيّ بلد آخر. بالتالي، فحالة الحرب، التي فقدت جذوتها النضاليّة السابقة، قد تتحوّل طريقة حياة يوميّة تفرضها تلّ أبيب على جوارها، أو يجرّها إليها ذاك الجوار بخفّة معهودة فيه. «حماس»، وربّما «حزب الله»، على أتمّ الاستعداد.
إيران، من جهة أخرى، عشرة أضعاف الدولة العبريّة سكّاناً. هذا يعني أنّ الطاقة البشريّة الإسرائيليّة لا تستطيع أكثر من الاستيطان في الأراضي الفلسطينيّة. مثيلتها الإيرانيّة قادرة على الانتشار في بقعة جغرافيّة أكبر كثيراً. افتراض كهذا ليس تضخيماً للواقع ولا تلفيقاً له، ما دام صراع الهويّات احترافاً مشرقيّاً مشهوداً له. شيء من ذلك يحصل في سوريّة اليوم، ووراءنا تاريخ من التحويل السكّانيّ الذي كان أكراد المنطقة وأرمنها وفلسطينيّوها أبرز ضحاياه.
إيران، كذلك، ترتبط مذهبيّاً بكتل سكانيّة كبرى في العالم العربيّ، وهذا ما لا يصحّ في إسرائيل بعد هجرة اليهود العرب وتهجيرهم. لقد آلت ظروف المنطقة في تاريخنا الحديث إلى تحويل الغنى، الذي ينطوي عليه التعدّد، مصدراً للتنازع والإحتراب. أمّا التجارب فدلّت على أنّ في وسع إيران توظيف الظلم والتهميش اللذين نزلا بالشيعة العرب كأساسٍ تُبنى عليه مشاريع نفوذ وتوسّع. لهذا فالأثر التفتيتيّ على مجتمعاتنا أكبر في حالة الاحتكاك بإيران الخمينيّة ممّا في حالة الاحتكاك بإسرائيل. لبنان، مثلاً، عرف التجربتين: في ظلّ الإسرائيليّين، عاش تنازعنا الأهليّ على هامش التضامن. في ظلّ الإيرانيّين، لم يبق إلاّ التنازع المعلن مرّةً، الضامر مرّات.
المسألة مسؤوليّتنا أصلاً، لا مسؤوليّة إيران أو إسرائيل كما يقول الوعي التآمريّ. لكنّ أسوأ الأسوأ أن تصل بنا اللامسؤوليّة إلى التعويل على واحدتهما في مواجهة الأخرى.
يغلب في هذه الأيام على السوريين الثائرين ضد نظام بشار الأسد إحساس عالٍ بالانكسار، يتبدّى في تدويناتهم السريعة على صفحات التواصل الاجتماعي، وكذلك فيما يسطره بعضهم في المقالات والتحليلات، حيث تتحدث الغالبية عن هزيمة الثورة بعد سلسلة هزائم عسكرية لحقت بالفصائل المسلحة، تمكّن النظام بعدها من استعادة السيطرة على مجمل المناطق التي خرجت عن سيطرته طوال السنوات السبع السابقة.
غير أن السؤال الذي تفرضه تفاصيل ما يجري وما يكتب يقول: هل يستطيع المرء عملياً، ضمن الحالة السورية المضطربة الراهنة، أن يحصل على إثبات فعلي بوقوع هزيمة شاملة، يمنح الشعور بالانكسار والخيبة الصدقية؟
مواجهة الواقع النفسي المتردي لدى الجماعات والأفراد، في مثل هذه اللحظات، قضية مهمة للغاية، إذ لا يمكن أن يتحدّث مدون أو كاتب عن ثورة مهزومة، بينما تقول الوقائع إن هؤلاء الثوار "المهزومين" نظرياً وعملياً، كما تردّد وسائل إعلام الممانعة، لم يرفعوا الراية البيضاء نفسياً أمام عدوهم، وما زالوا يقارعون هذه الموجة العاتية من محاولات تعويم النظام عالمياً. وفي الوقت نفسه، لا يمكن تجاهل أن خسارة هائلة قد وقعت على الأرض، زلزلت نفوس كل من راهن على تحرير الأرض السورية من سيطرة الديكتاتورية، حينما استطاعت القوى المتحالفة مع النظام السوري (روسيا، إيران، مليشيات طائفية، مرتزقة) إحالة هزيمته العسكرية على يد الفصائل الإسلامية بالدرجة الأولى، والجيش الحر بالدرجة الثانية، والتي كادت تكون كاملة بين 2012 و2015 إلى ما يشبه النصر على الأرض في 2018.
لا يحتاج متتبع التفاصيل اليومية في الشأن السوري إلى جهد كبير، لكي يخلّص هذه التفاصيل من الأكاذيب التي يكسو بها الإعلام الممانع وقائع الأحداث، فأدوات حرب النظام الراهنة لم تكن موجهةً ضد الجماعات التي رفعت السلاح ضده بشكل رئيسي، بل كانت تغرق المدنيين بالموت الجماعي والتدمير الشامل، وغالبية الإحصائيات التي قدمتها جمعيات حقوق الإنسان كانت تؤشر إلى أن العمليات العسكرية كانت تستمر عبر قصف جوي عنيف فترة طويلة، تتم فيها تسوية المباني السكنية بالأرض، وتجعل الموت احتمالاً حاضراً، حتى لدى الذين كانوا يلجأون إلى الأقبية، لتجنب خطر البراميل والصواريخ المدمرة.
وفي نهاية الخطة، كانت الفصائل المسلحة، إسلامية أو محلية، وما تبقى من كتائب الجيش الحر، تبرم اتفاق تسويةٍ مع النظام عبر الوسيط الروسي، لتخرج من المنطقة المستهدفة. ما يعني أن الانتصارات المزعومة فعلياً لم تكن سوى قدرة القوة العسكرية الغاشمة للنظام وحلفائه على تنفيذ أكبر العمليات الإرهابية ضد المدنيين، لإجبار العسكريين على المغادرة أو التسليم!
ترك الساحة السورية، والالتفات إلى قضايا أخرى، هذا ما فعله العالم وهو يشاهد المذابح اليومية التي ارتكبها النظام وحلفاؤه طوال السنوات السبع السابقة. وبالتأكيد، ليست قدرة الجماعة الإنسانية على التحمل مطلقة. وبالتالي، سيصبح الانكسار أمام هذا الضغط أمراً محتملاً في أي لحظة، طالما أن البشر يقاومون دون وجود الدعم الذي يقويهم ويمنحهم القدرة على الصمود. وعلى الرغم من ذلك، لم ينجح النظام في حربه ضد السوريين الثائرين عليه إلا بعد ثماني سنوات، وعبر استخدام آلة الموت الروسية الجبارة التي جلبت لسورية من أجل تجريبها بالسوريين، فهل ستبقى لمعاني الانتصار التي يروّجها الإعلام الممانع ومن معه، المعاني نفسها المتفق عليها في كتب التاريخ؟ وهل ستصبح الخلخلة النفسية الراهنة لدى السوريين الذين انتقلوا من النزوح إلى اللجوء والشتات في أصقاع الأرض، هزيمة فعلية؟
أراد العالم أن يتخلص من المشكلة السورية، لكن محاولاته كلها كانت تتركّز على معالجة النتائج، لا الأسباب. ولهذا استطاع النظام أن يصدّر لهذا العالم ذاته المشكلة تلو الأخرى، طالما أن أحداً لم يرد أن يقدم على فعل التخلص من النظام. وفي النهاية، كان خيار التخلص من السوريين أنفسهم الواقعة الأشد وضوحاً في السياق. لقد تمت إبادة الجماعة البشرية، تحت سمع ومرأى العالم كله. وعلى الرغم من ذلك، لا يزال الثائرون لا يسلمون بقصة انتصار الأسد، إنهم يعرفون الحقيقة، ولا يكذبون على أنفسهم؛ لقد استباحت روسيا وإيران المدنيين، فهرب العسكريون، ومد النظام رأسه أمام الكاميرات، ملوّحاً بشارة النصر، ولكن من انتصر على من؟ هل يصدّق أحد كل ما يساق من أجوبة؟
وثّقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان وجود أكثر من 118 ألف معتقل سوري بالأسماء، 88% منهم موجودون في معتقلات النظام السوري، لكن التقديرات تفيد بأن العدد يفوق 215 ألف معتقل، كما وثّقت وجود آلاف من المختفين قسريا، ولم يعترف بهم النظام. كما وثقت أيضا مقتل أكثر من 13 ألف شخص تحت التعذيب في سورية، 99% منهم أيضًا على يد النظام.
وبحسب الشبكة، يوجد من مدينة داريا وحدها أكثر من ألفي معتقل موثقين بالاسم في أفرع المخابرات السورية، على ما وثقت مجموعة "معتقلي داريا" التي تضم ناشطين متخصصين بمتابعة قضايا المعتقلين. إذ بين عامي 2011 و2012، اعتلقت أجهزة الأمن عددًا كبيرًا جدا من قيادات الصف الأول في الحراك السلمي الشعبي المدني في داريا، وقتل كثيرون منهم تحت التعذيب، ولم يزل مصير الباقين غير معروف.
واليوم، وفي محاولات فاشلة من نظام متوحش وقاتل لدفن جرائمه، بقتل معتلقي الرأي والمعتقلين السلميين، خلال توثيق وتوزيع شهادات وفاة عبر دوائر النفوس لطمس قضية المعتقلين، ولجعلها تموت بالتقادم ولحماية نفسه وقياداته وأجهزة أمنه من المحمكة العالمية التي بدأت تقام ضده، يأتي خبر استشهاد الناشط السلمي الجميل، إسلام الدباس، صديق غياث مطر الذي جاؤوا لأمه بقلبه، بعد اعتقاله وقتله تحت التعذيب.
إسلام الدباس، الشهيد الجميل الذي تملأ اليوم صوره صفحات التواصل الاجتماعي، والذي يسمى "رجل الورود" أو "رجل الوردة"، قتله النظام السوري تحت التعذيب، لأنه كان صاحب فكرة حمل الورود في مظاهرات داريا الأولى، ولأنه حمل الورود، وقدمها للجيش الذي كان يحاصر المظاهرة، وناداهم: "يا إخوتي، نحنا إخوة وهذه البلاد والأحلام لنا كلنا"، فاعتقله إخوته هؤلاء، ثم عذّبه إخوة آخرون، هو ووروده، حتى الموت.
نعم الوردة التي هي منذ الأزل كشف مخفي للحب والسلام والدهشة والجمال والحياة، نعم في سورية، تقتل الورود حامليها، لأنهم حلموا بوطنٍ تعيش فيه الإنسانية بكرامة، ويعيش العدل والديمقراطية، ولأنهم أرادوا دولة مواطنة، بكل ما فيها من ورود.
حامل الورود، إسلام الدباس، هو نجل المربي المدرس المعروف في داريا، خيري الدباس، من مواليد داريا الصامدة عام 1989. وفي عام 2011، كان طالبًا في كلية الهندسة المعمارية السنة الخامسة. ومنذ بدء ثورة الكرامة، أصبح إسلام وغياث مطر ونبيل شربتجي أعضاء مجموعة قادت النشاط السلمي في داريا، أصرّت على إبقاء الحراك سليما بالمطلق ونظيفا وحضاريا، وأصرت على تنظيف الشوارع، وعلى تنظيم المظاهرات وشعاراتها، لكن إسلام اعتقل في 22 يوليو/ تموز 2011، في جمعة “الوحدة الوطنية”، وهو يحاول أن يقدّم الورود للجنود، بعد أن كان والده أيضا قد اعتقل في بداية يوليو/ تموز، بسبب نشاط إسلام، والذي لا يزال معتقلا في سجن عدرا.
بقي إسلام معتقلًا في سجن صيدنايا، ثم تعرّض بعدها لمحاكمة. وفي سبتمبر/ أيلول 2012، حيث اجتمع الشهيد الجميل، إسلام الدباس، مع والده المعتقل الأستاذ خيري الدباس، ليكون آخر يوم يرى فيه الأب المربي ابنه البكر الذي كان يقول، حسب ما نقله شهود: "لن يقتلونا، يا أبي، سنخرج، وسنحمل الورود من جديد". وطلب من والده أن يسامحه، قبل يديه وذهب.
يأتي خبر استشهاد إسلام الدباس تحت التعذيب مؤكدا من أحد موظفي النفوس في دمشق، ضمن محاولات النظام الفاشلة لتبييض سجونه السوداء. وطبعا من دون حتى أن يسلموه شهادة الوفاة، بحجة أنه ليس من أقاربه من الدرجة الأولى، فالموت تحت التعذيب يجب أن تسلم شهادته لقلب الأم والأب، لكي يموتا ألف مرة تحت التعذيب.
داريا، أيتها المدينة الأسطورة التي صمدت ضمن أطول حصار، يا صاحبة الأيادي المحترفة التي صنعت لنا خشب أسرتنا ودفأه، وخزائن كنا نعلق فيها ملابسنا وأحلامنا، داريا المدينة التي تفوح منها رائحة مناشر الخشب ما أن تدخلها، فتتحول روحك إلى شجرة.
داريا مدينة العنب والكرم والطيبة، مدينة الثورة النظيفة الجميلة، المدينة التي هوت شرفاتها على رؤوس ناسها، وعلى قلوبنا. داريا مدينة الشهداء الجميلين التي لم تعد موجودة على الخريطة.
داريا، تودّعين اليوم إسلام الدباس كما ودعت غياث مطر ونبيل شربتجي، وكما ودّعت أبناءك الراحلين عنك، وأنت توجعينا كقلع عيوننا، تودّعينا اليوم بكل شهدائك، بكل شواهد قبورهم، بكل النحيب المفجوع المخذول.. لا تذهبي داريا تعالي كل ليلةٍ إلى حلمنا بكل ورود إسلام وغياث، تعالي لا تنامي، ولا تسامحينا.
أخذ السوريون، مع بداية الثورة عام 2011، فترة قبل أن يمارسوا عمليات فرز واصطفاف وتخندق، جرت وفق معطياتٍ عديدةٍ، لا يمكن اختصارها كلها بعبارة مع "الاحتجاج أو ضده"، ولاحقاً بين "مع الثورة أو مع النظام"، لأن الحدث الذي سبق اشتعال الاحتجاجات في كل المدن السورية انطلاقاً من درعا، وتحول إلى ثورةٍ ويمكن القياس عليه، كان مظاهرة الحريقة في 17 فبراير/ شباط 2011، والتي أطلقت عبارتين، يمكن من خلالهما فهم حجم حالة الاحتقان الكبير التي تعتمر نفوس السوريين "حرامية حرامية"، في إشارة إلى الأجهزة الأمنية، وتحديداً الشرطية التي أهانت أحد شباب دمشق، وهتاف "الشعب السوري ما بينذل".
ولاحقاً بعد قرابة الشهر، كانت هتافات الناشطين، يوم 15 مارس/ آذار، في أحد التفرعات الجانبية لسوق الحميدية "حرية حرية"، في حين كان هدف اعتصام بعض عائلات المعارضين أمام وزارة الداخلية، في اليوم التالي، تقديم عريضةٍ تتضمن شكوى الأهالي ومعاناتهم، مؤكدين أن أقاربهم من المعتقلين "أحبوا سورية وطالبوا بها وطناً للجميع، وتحت سقف القانون"، ما يعني أن التأسيس الحقيقي للمجاهرة بالحقوق جاء بإرادةٍ عفويةٍ من عامة الشعب وعوامه، وليس من الفئة النخبوية منه، كالمعارضين التقليديين، ومجموعات المثقفين، سواء في داخل سورية أو خارجها.
ومن هنا، لا يمكن أن نعتبر أن من ساند الاحتجاجات ضد قمع الأجهزة الأمنية في درعا (18 مارس/ آذار 2011) من مختلف شرائح السوريين، في مختلف المحافظات، كان يعبر عن حالةٍ لحظيةٍ راهنة، بل هي حالةٌ منظمةٌ داخله كفردٍ يعي حجم مشكلة الاستبداد الممارس عليه من النظام وأجهزته القمعية، ووسائل مجابهتها، وحجم التضحيات المرافقة لها، وكان لمشاهد الربيع العربي أن انتزعت مخاوفه منها، على الرغم من أن درجة قياس العنف التي استخدمها النظام مع محافظة درعا أخلّت بموازين حسابات الذين عايروا ما سيحدث في سورية مع ما حدث في بلادٍ أزهر فيها الربيع العربي، وأنتج ثماراً معظمها غير صالح للاستهلاك الحديث في مفهوم الدول الديمقراطية التي تتشكل أنظمتها بعد ثوراتٍ شعبيةٍ ضد أنظمة شمولية. وعلى الرغم من ذلك، استمر الحراك، وتوسعت دائرته، ليتحول خلال أسابيع إلى ثورةٍ عمت أرجاء البلاد، وقلبت مفاهيم الأولويات لدى السوريين من مطالباتٍ معيشيةٍ وتحت سلطوية إلى مطالباتٍ حقوقية سياسية عامة.
الاصطفافات الشعبية السورية منذ بدء حراكات الربيع العربي في ديسمبر/ كانون الأول 2010، وما ساد من تفاعلٍ شعبيٍّ لمساندة حركات التحرّر في تونس وليبيا ومصر واليمن من أنظمتها الاستبدادية، واجهه النظام بموقف رسمي متضامن ظاهرياً، ورافض ضمنياً، عبرت عنه وسائل الاعلام، (وكنت آنذاك في مقدمة واحدةٍ منها) "بحذر" شديد، وتجاهل مجريات الوقائع على الأرض، تخوفاً من انتقال عدوى الثورات التي لم تمهله طويلا، واجتاحت سورية من جنوبها حتى أقصى حدودها الشمالية، إلا أن تمييز الاصطفافات الشعبية خلف احتجاجات درعا لم يظهر بشكله الواضح، إلا بعد أيام من تلقي النظام صفعة انطلقت من أكثر المدن قرباً إلى دمشق العاصمة والنظام الحاكم.
في ذلك الوقت (أي منذ احتجاجات الحريقة) تلقف النظام جرس الإنذار الأول الذي بدأ من خلاله بتحرّي سبل المواجهة المقبلة، ووسائل التصدّي لها وفق سيناريوهاتٍ عديدةٍ عملت عليها خلايا أزماتٍ في مجالات متنوعة، عسكرية وأمنية وإعلامية واقتصادية، إضافة إلى بيوت الاستشارة الدولية التي كانت تستخدم لتجميل صورة العائلة الشابة الحاكمة في المجتمعات الغربية، بينما التزمت في هذا الوقت المعارضة التقليدية بتسوير نفسها داخل عوالمها، داخلياً وخارجياً، وبعيدا عن أي تنسيقٍ لأي حراكٍ شعبي محتمل، ما يؤكد خلو ساحة حركة احتجاجات درعا من أي شبهة أجنداتٍ خارجيةٍ، سبقت صيحات الاحتجاج، والمطالبات بمحاسبة الفاسدين في أعلى سلطةٍ لبلد استبدادي، تحكمه أجهزته الأمنية.
وهنا، يمكن ملاحظة أن انقسام السوريين، بين معارض للثورة أو مؤيد لها، كان بداية نتيجة اصطفاف طوعي مصلحي على جانبي الصراع السلمي، المتمثل بالتظاهر، احتجاجاً على أداء الأجهزة الأمنية الفاسدة، وأدوات الحكومة التنفيذية، أي كان يعبّر عن كامل إرادة الفرد الراغب بالوقوف إلى أيٍّ من الطرفين، نظاماً ومعارضة، إلا أننا يجب أن نتحدّث عن اصطفافاتٍ كانت تحت الضغط السلطوي (مؤيد إجباري) أو المعارض له (ثائر إجباري)، ولعل هذا ما أنتج حالة الرمادية بين هؤلاء والتي تحدث عنها رأس النظام، واعتبر أن الخيار إما معي أو ضدي، وحالة (الضفدعة) التي تعبر عن خونةٍ أو عملاء داخل كيانات المعارضة وفصائلها التي انكشفت خلال عمليات استسلام المدن، وعقد اتفاقات مناطق خفض التصعيد وترويجها، حيث مارس كل طرفٍ منهما عمليات الترغيب والترهيب، والتأثير المباشر، وهو ما أنتج آلاف المعتقلين لدى النظام الذين رفضوا الخضوع لإرادته في عداء الثورة، وأنتج حالة الهجرة من مناطق المعارضة إلى مناطق النظام.
وخلاصة القول إن هذه الثورة أطلقها سوريون من عامة الشعب، بينما استلمت شخصيات وكيانات دخيلة ومدخلة عليها زمام الأمور في عملياتٍ ترمي إلى هدمها، وحرفها، وتحويلها حتى حدود الهزيمة، وأخذ الثورة إلى مراحل فوق قدراتها البشرية والمادية، وصولاً إلى ما تسمى مفاوضاتٍ وتسوياتٍ تقوم بها هذه الكيانات التي تم إنشاؤها من خارج بنية الثورة وإرادتها، وإعطاؤها أدواراً وظيفية، للسير بالثورة في طرق العسكرة المرتهنة، خلافاً لما أرادته نخبها الثورية.
لذا، في ثورةٍ لا تقبل ذل الشعب السوري (الشعب السوري ما بينذل)، وتنادي بمحاسبة "الحرامية"، وشعارها "حرية، حرية"، فهذا المآل لا يمكن أن يكون لثورة الكرامة نفسها، وبممثلين عنها الذين يفاوضون اليوم على تقاسم سورية، والقبول باحتلالها من قوى روسية وإيرانية وتركية، حيث من ينتفض ضد استهانة حقوقه لا يمكنه أن يقبل بامتهان حدوده واحتلالها، ما يعني أن تفويض هذه الكيانات لتمثيل الثورة انتهى، وصار تمثيلا للدول التي عينتهم، وليس للثورة التي أفرزت بعضهم.
مع اشتعال ثورات الربيع العربي، نهض الشعب السوري بثورته، مطالبًا بتحقيق الكرامة والعدالة، ورفع الظلم، الذي امتد عقودًا، عن كاهله، ولكن بدلًا من أن يستجيب نظام الأسد لمطالب الشعب ويعيد له حقه القانوني والدستوري والشرعي بالاختيار السياسي مارس سياسة القتل الجماعي والتهجير القسري والاعتقال التعسفي، وأظهر كل أنواع الحقد والقسوة ضد شعبه حتى على من يظنون أن النظام يدافع عنهم، ومنهم الطائفة العلوية التي يشكل أبناؤها عماد الجيش والمخابرات في تركيبة النظام السوري، فلم يتوانى الأسد الابن "القاصر" عن توريط الطائفة العلوية والطوائف التي تشكل جزءًا مهمًا من الشعب السوري، في حربه رغبًا ورهبًا.
أما من حيث الهواجس، فقد أوهم الطوائف أن التسلح هو الحصن الوحيد لهم، وعمد خلال حكمه الطويل على تنسيب معظم أبناء الطائفة العلوية لقوى الدولة المسلحة من حرس جمهوري وقوات خاصة، التي ارتبكت عدد من المجازر الطائفية في ثمانينات القرن العشرين في حماة وإدلب وغيرها.
وأما المطامع والمغريات، فقد حوَّل آل الأسد سورية إلى مزرعة وإقطاعات لأقربائهم وحاشيتهم، ومن يلوذ بها. لقد تسلط هؤلاء على مقدرات الدولة وأخذوا ما يحلوا لهم من الامتيازات والخصخصات، وتعدوا ذلك لمال الشعب وموارده، حتى بنوا إمبراطورية ثرية، زادت مدخراتها عمليات التهريب والتشبيح والسطو على الآثار والبنوك والموانئ العامة.
وبذلك، استطاع النظام الأسدي ربط الطوائف بخيار وحيد هو الدفاع عن النظام والموت في سبيله وخوض الحرب، ولو أدى ذلك لمقتلة كبيرة فيهم، وهذا ما رأيناه من استسهالهم لقتل الأبرياء عبر الصواريخ والبراميل، وخنقًا بالغازات السامة، ومن ثم استقدام الدول المحتلة وأساطيلها الجوية والميلشياوية الحاقدة. إذًا، شكل هاجس الخوف من الانتقام عن مجازر الثمانينات في تدمر وصيدنايا وإدلب، وحافز الطمع للحفاظ على الامتيازات الهائلة، ودور الماكينة الإعلامية التي عملت بجانب النظام منذ اللحظة الأولى لاندلاع الثورة، وما تخلله من خطاب التفزيع وشعارات طائفية "العلوي في التابوت والمسيحي على بيروت" مثلًا، تمكن نظام الأسد من استقطاب جلَّ طوائف سورية (20 % من سكان سورية) إلى جانبه عامًا بعد عام، خاصة مع انتشار الجماعات التكفيرية في مناطق سيطرة الثورة "داعش والنصرة."، التي زادت الطينة بلة.
ولذلك من منطلق المبدأ الأخلاقي بأن لا يؤخذ أحدٌ بجريرة غيره، ومن منطلق مصلحي ألا نساعد النظام الأسدي على تكثير جنده وزج الرماديين من طائفته في المعركة ومنعًا لتوارث الأحقاد الهدامة لكل عيشٍ مشترك محتمل، نقول: إن أعظم هدية لأنظمة الظلم والاستبداد أن نجاري روايتها، بأننا نخوض معركة سنة مع شيعة، وذلك لأنها أنظمة فاشلة لا تملك أي مشروع أخلاقي إلا الاعتياش على الطائفية وتجنيد الدين لخدمة الشهوة والسلطة. وكذلك لا بد من تقييد وحش الطائفية وخير وسيلة لذلك هو التعريف الصحيح للثورات وحركات التغيير.
إن الثورة ليست ثورة إسلام على طوائف ومذاهب واثنيات، وإن كان المسلمون حملة رايتها وحاضنيها، فهذا شرف لنا نتفاخر به ولا نحتكره، لأننا نقوم بواجبنا السماوي وهو تحرير العباد من عبودية الظالمين.. إنها ثورة الشعب المظلوم على حكام مستبد ظالم، وثورة العلم على الجهل، والحرية على الاستبداد، وهي ثورة امرأة حرة على نخاس يقايض بكرامتها على ملذاته ومصالح زبانيته ...
ثورة الشعب السوري كبقية ثورات الشعوب الحرة، تعتبر موقف أخلاقي عنوانها الكرامة والعدالة والشرف والمروءة واجتناب للظلم والفساد والاستكبار مهما حشد له من مشايخ يفتون ويباركون تسلطه وظلمه وممارساته الإجرامية.
ومن منظور فقه الثورة السورية السلمية، نقول: إن ثورة سورية هي ثورة المظلوم السني والشيعي والمسيحي والدرزي والإسماعيلي والآشوري والكردي على الظالم العلوي والشيعي والسني والإسلام لا يعطي حصانة للمجرمين كما أن الكفر ليس من أسباب سقوط الحق والعدل بل العدل مع المخالف لديننا أشد وجوبًا. وبالتالي: إنها ثورة ليست لإنهاء الوجود الدرزي أو الشيعي أو المسيحي أو العلوي وإنما ثورة لإنهاء نظام عاهر فاجر يجيير كل الطوائف ويوظف كل المكونات في حماية أركانه وجلاوذته وفجاره.
ووفق هذا المنطلق في تعريف الثورة يجب أن تبقى يدنا ممدودة إلى كل حر بغض النظر عن موقعه المكاني أو انتماءه المذهبي في سبيل بلوغ العدالة وحكم القانون، بما في ذلك الطائفة العلوية، والعمل على إخراج الميليشيات الطائفية التي ساقتها إيران لتكمل سيرة ومنهجية التطييف التي بدأها الأسد الابن لسنوات. فمن هو الطائفي يا ترى؟ الشعب الذي نادى بالحرية أم النظام الذي خط مشاريعه الطائفية كل عام بدواة صلبة وحِبر أسود وأحمر قاتم؟
هدد الرئيس الإيراني حسن روحاني أمس نظيره الأمريكي قائلا: «لا تعبثوا بذيل الأسد فهذا لن يؤدي إلا للندم»، والأسد المقصود هنا هو إيران نفسها، وقد بين روحاني ذلك بوضوح مضيفا أن «الحرب مع إيران هي أم كل الحروب»، في استعادة، غير مقصودة على ما يبدو، لتعبير «أم المعارك»، الذي استخدمته الآلة الدعائية العراقية في ظل الرئيس الراحل صدام حسين خلال الاجتياح الأمريكي للعراق.
تناظر تصريح روحاني مع تصريحين آخرين، الأول لمرشد الجمهورية الإيرانية علي خامنئي، أيد فيه تصريحا ناريا آخر لروحاني قال فيه إنه إذا لم تتمكن إيران من تصدير نفطها «فلن يتمكن أي بلد في المنطقة من تصدير نفطه»، في تهديد كبير بإغلاق مضيق هرمز الذي تصدر منه كل الدول الخليجية نفطها إلى العالم.
التصريح الثاني كان من رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الإيرانية اللواء محمد باقري بأن لديه معلومات دقيقة حول مخطط أعدته الإدارة الأمريكية خلال العام ونصف العام الماضيين لشن هجوم عسكري على إيران، إلا أن قادة الجيش الأمريكي، حسب قوله، رفضوا تنفيذ الهجوم، ولذلك، يضيف باقري: «ينبغي التحلي بالجهوزية لأي احتمال».
تقدم هذه التصريحات تأكيدات على ما نشره موقع «ديبكا» الاستخباراتي الإسرائيلي، بداية الشهر الجاري، عن أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب اتخذ قرارا عسكريا بشأن إسرائيل، وقد نسب ذلك لمصادر عسكرية في واشنطن، لكن حديث الموقع الإسرائيلي لم يكن يشير إلى عام ونصف سابقين بل إلى إقرار ترامب «مؤخرا، خطة شاملة لتعزيز القدرات العسكرية لإسرائيل استعدادا لمواجهة حاسمة محتملة مع إيران بما فيها هجوم صاروخي باليستي» عبر تزويدها بطائرات بوينغ كي سي 46 لتزويد مقاتلاتها بالوقود في الجو للقيام بمهمات قتالية بعيدة، وهو الأمر الذي كان الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، قد رفض فعله، لمنع تل أبيب من مهاجمة إيران.
إذا عطفنا كل هذا على التصريحات العنيفة التي أصدرها جون بولتون، خلال مهرجان للمعارضة الإيرانية، يطالب فيها صراحة بإسقاط النظام الإيراني، وما ذكره مسؤولون أمريكيون «مطلعون» أمس لوكالة رويترز من أن إدارة ترامب تشن حملة «هدفها إثارة الاضطرابات والمساعدة في الضغط على إيران لوقف برنامجها النووي، ودعمها لجماعات مسلحة»، وإلغاء الاتفاق النووي، وبدء تطبيق قائمة عقوبات كبيرة ضد الاقتصاد الإيراني لمنع طهران من تصدير النفط، والتزام الأوروبيين بخط العقوبات رغم انتقاداتهم اللفظية له، فإنه يجب أخذ أحاديث الطرفين وتهديداتهما على محمل الجد أكثر من أي مرة سابقة.
إدارة الرئيس ترامب ماضية بقوة نحو تحجيم إيران، ولا يتعلق الأمر بإخراجها من سوريا واليمن، ولا بإضعاف نفوذها الهائل على العراق ولبنان، بل أن كرة الثلج تتدحرج نحو استهداف النظام الإيراني في عقر داره، ومن جهتها، فإن إيران، رغم سيطرتها على آلة النفوذ الهائلة في أربعة بلدان عربية، ورغم تهديداتها العالية السقف، فإنها، على الأغلب، ستتحسب من استخدام أوراقها في سوريا أو لبنان، لأنها بذلك تعطي حجة لضربة أمريكية ـ إسرائيلية كبيرة يمكن أن تتوسع بعد ذلك.
على الأسد الإيراني، بهذا المعنى، أن يخفي ذيله، وعلى آلته الدعائية أن تتوقف عن تكرار استخدام تعبير «أم الحروب»، وأن يعيد تجميع حساباته وتقليص اتساع جبهاته، فربما يصل إلى نتيجة أن الحفاظ على رأس الأسد أهم من الحفاظ على الذيل.
أرسل الجنرال قاسم سليماني قائد الحرس الثوري الإيراني، إلى الرئيس حسن روحاني يقول له: «أقبّل يدك على مثل هذه التصريحات الحكيمة، وأنا في خدمتك لتنفيذ أي سياسة تخدم الجمهورية الإسلامية».
وروحاني، الذي كان يوصف بأنه حمامة إيران، صار يمثل دور الصقر منذ أن تعرض للانتقادات من منظومة الحكم، حيث طالبوا بمحاسبته، متهمين إياه بأنه ورّطهم في الاتفاق النووي، وأن الأميركيين غرروا به وغدروه.
«التصريحات الحكيمة»، التي صرَّح بها روحاني، وأعجبت سليماني، أنه هدد الولايات المتحدة بأن إيران ستردّ بالقوة على حرمانها من بيع نفطها. المرشد الأعلى، أيضاً، صفق لروحاني، وقال إنه معجب بتصريحاته، ويؤيد إغلاق مضيق هرمز. ثم تجرّأ الصقر الجديد، روحاني، وخطب محذراً الرئيس الأميركي بألا يلعب بذيل الأسد!
الأسد العجوز، أي نظام إيران كله وليس ذيله فقط، يتعرض للضرب والإذلال العلني المهين في سوريا من قبل الإسرائيليين ولَم يجرؤ، ولا مرة واحدة، على الرد، وكل تهديداته عنتريات لا قيمة لها.
المسؤولون الإيرانيون في حالة تخبط منذ أن فرض الرئيس الأميركي ترمب العقوبات. لا يعرفون هل يرتضون بنصف اتفاق مع الأوروبيين، أو يلغون الاتفاق كله، أم يتنازلون للأميركيين بالتفاوض من جديد؟ هل يلجأون للقوة لتهديد الغرب وابتزازه، كما كانوا يفعلون في الماضي، أم أن ترمب قد يجده عذراً لإسقاط النظام، كما أسقط جورج بوش نظام صدام؟
بعض المسؤولين في طهران يدعون علانية إلى ضرب المصالح الأميركية وإشعال المنطقة وحتى إغلاق مضيق هرمز، وعلى رأسهم الجنرال سليماني الذي يقول إنه «جاهز لتنفيذ خطة الرئيس روحاني»، معلناً أنه «إما هرمز للجميع أو ليس لأحد».
وسواء قبّل سليماني يد روحاني من أجل شنّ حرب إرهابية واغتيالات، وسد مضيق هرمز، أو داس الأميركيون على ذيل إيران بشكل مباشر وليس من خلال وكيلهم الإقليمي إسرائيل، فإن الضغط سيزيد خلال الأسابيع المقبلة.
هناك تاريخان مهمان علينا أن نراقبهما بشكل تفصيلي؛ الرابع من الشهر المقبل، أغسطس (آب)، ستبدأ عقوبات أميركا على مَن يبيع الذهب والمواد الغذائية لإيران. وبعد ثلاثة أشهر، في مطلع نوفمبر (تشرين الثاني)، يبدأ الحصار الأميركي للنفط الإيراني. حينها سنعرف حدود الحركة عند نظام خامنئي، إن كان فعلاً ينوي التصعيد أم أنه سيتراجع ويلعق جراحه ويتنازل عن كبريائه.
من متابعتي للنظام وسلوكه في منطقتنا، أرجِّح أنه سيتراجع، وفق تكتيكه القديم، حتى يستوعب الأزمة، ناوياً استئناف تصدير الفوضى بعد نهاية فترة رئاسة ترمب، أو ربما قبل ذلك، إن عقد صفقة نووية أخرى. وهذا لا يمنع أن نحذر من الأسد الجريح في سوريا، والذليل بعد إلغاء اتفاقه النووي الذي كان يعتبره قمة انتصاراته. ولا ننسى العامل الجديد، وهو أن الوضع في الداخل صعب وقد يتطور إلى ثورة، مما يدفعه لمحاولة تصدير مشكلته بفتح جبهة في الخليج. لكن هذا احتمال ضعيف آخذين في الاعتبار أسلوبه في إدارة الأزمات الماضية والحفرة العميقة التي وضع نفسه فيها في سوريا وبقية دول المنطقة.
كان حافظ الأسد ينصح من يواجهون التطرّف الأصولي باعتماد النهج الذي طبّقه في حماة وحلب في ثمانينات القرن الماضي، وملخصه إذا أردت القضاء على ثورة أو تمرد، فاقتل أكبر عدد من المدنيين من دون تمييز. وكان يكرّر: حين تمرّد عام 1982 في حماة قرابة مائة وعشرين "أزعر"، قتلنا ستة وأربعين ألف حموي، ومحونا المدينة القديمة وبعض الحديثة عن وجه الأرض، وأبرزنا أخبار القتل وصوره، لردع السوريين لمائتي عام مقبلة، ليس عن التمرّد والثورة، بل عن الاهتمام باي شأن عام.
قديما، كان في دول أوروبية حكام تبنوا شعارا يقول: لا ينفع ضد الديمقراطيين غير العسكر. ونحن في سورية نقول: ليس للإسلاميين غير الصواريخ والقنابل، الطائرات والدبابات والمدافع، كما فعلنا مثلا في حلب، حيث قتل مسلحون أحد جنودنا يوم عيد الفطر، فأمرنا بإنزال مائة شخص من سكان البنايات المجاورة لموقع الاغتيال، وإطلاق النار عليهم. حين تبين أن العدد لم يبلغ المائة، ذهب رجالنا إلى شارع مجاور وأكملوا العدد، وصفينا الجميع. بهذه السياسة، قضينا ليس فقط على الإسلاميين، وإنما أيضا على أي شخص أو طرف تسوّل له نفسه معارضة الأمر القائم، ولو بالكلام.
على من يواجه تحديا داخليا تطبيق قدر لا يرحم من العنف، واستخدام قواته المسلحة وأجهزته السرية والضرب على رأس الشعب بيد من حديد. وعليه إغلاق أذنيه كي لا يسمع أنين الضحايا، وما يقال عن دور الأزمات الاجتماعية والاستبداد السياسي في تحريض الاحتجاج الشعبي ومطالبه العادلة. من يخرج على النظام لا يمكن أن يكون غير متآمر مرتبط بأعداء وطنه، لا يجوز إضاعة الوقت في محاكمته. بالمناسبة، إذا كان الذي يقتل شخصا يُحكم بالإعدام، فهل يجوز أن يُحجم حاكم عن إبادة من يريد قتل وطنه؟
كرّر النظام الأسدي هذا الخطاب طوال الفترة التالية لتدمير مدينة حماة بسكانها عام 1982، والثورة عام 2011، وأكدت مخابراته في أثنائها خلو سورية من تنظيمات التطرّف والأصولية، بفضل "وصفة" "عظيم الأمة وأبو الشعب، الرئيس القائد حافظ الأسد"، التي طبقها في سورية، وساعد بلدانا عربية على تطبيقها ضد المعارضة الداخلية.
ومع أن كثيرين انتقدوا معالجة المشكلات والأزمات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بوسائل أمنية وحربية، تدور جميعها حول العنف بديلا للسياسة وحسن التدبير، فإن الأسدية رفضت دوما الصلة بين التطرّف العقدي ووجود مشكلات تتصل بالمجال السياسي، وخصوصا السلطوي منه، وأصرت على كفاية القمع والعنف عند التصدّي لأية مشكلات، وعلى رفض القيام بإصلاحات، بحجة أنها تضعف النظام بينما المطلوب تقويته. بعد هبّة الحرية عام 2011، أصر بشار الأسد على ملاقاتها بأعظم قدر من العنف، تملكه أجهزة دولته العميقة وجيشه، واتهم شعبه الذي طالما أكد أنه موال له، بالإرهاب، بمجرد أن طالب بما وعده نظامه بتحقيقه نصف قرن: الحرية والعدالة والمساواة، وبرّر حجم الحل الحربي غير المسبوق الذي طبقه بحجم التمرّد الشعبي، غير المسبوق.
تتعالى اليوم من جديد الإشادة برد الأسدية الحربي على سلمية الحراك الشعبي الذي رفع شعار الحرية، ليس لأن الشعب بحاجة إليها، بل لتغطية طابع تمرّده الإرهابي.
قال الأسد الأب بعد مجزرة حماة أن أحدا لن ينبس ببنة شفة ضد النظام طوال مائتي عام. ثم، وبعد أقل من ثلاثين عاما تمرّد الشعب السوري، وصمد نيّفا وسبعة أعوام ضد حرب أسدية/ إيرانية/ روسية. إلى كم عام سيحتاج المجتمع قبل أن ينفجر ضد من قتل مليون سوري، ليعيد السوريين إلى العبودية من جديد؟
علمنا التاريخ أن الثورات تمر بمراحل عديدة، وتتعرض لانتكاسات ثم تنهض لأن جذوتها تبقى في النفوس، تتوارثها الأجيال، فلا تنطفئ الجذوة إلا بالعدل الذي يخمد ما في النفوس من لهيب. وأحسب أن النظام السوري الذي يتابع انتصاراته عبر الاستقواء بالروس والإيرانيين وعشرات الميلشيات الطائفية، لم يستفد من درس الثورة، وكانت السنوات السبع التي دمر فيها البلاد، وشرد العباد، كافية كي يستخلص منها عبرة تجعله يعيد النظر في الأسباب التي جعلت الشعب يثور، لكن قادة النظام أخذهم الاستكبار حين وجدوا من يعينهم على مواجهة الشعب بالقوة والعنف، وهم مبتهجون مع أنهم دفعوا تكلفة باهظة لمن أعانهم ومكّنهم، فقد تقاسم حلفاءُ النظام سوريا نفسها، وقسموها إلى مناطق نفوذ وجعلوها إقطاعيات وقواعد عسكرية، وباتوا هم النظام الجديد المختبئ وراء ستار شرعية واهية.
وكان الخطأ الفادح الذي ارتكبه النظام هو رفضه السماع لمطالب الشعب، ولجوؤه الفوري إلى استخدام القوة المفرطة في مواجهة مظاهرات سلمية، وإغراقه الساحة بالدماء، واختراعه حكاية وهمية هي المؤامرة الكونية عليه، فهو لم يعترف بحق الشعب برفض التغول الأمني، لأن أجهزة الأمن هي المسيطرة على كل مناحي الحياة وباتت ترى نفسها فوق الدولة، وكان على النظام أن يبرر استخدامه للعنف الدموي فأوهم نفسه بوجود مؤامرة كونية ضده، واتهم كل أصدقائه القدامى بالمشاركة فيها، مع أنهم ذهبوا للقاء الرئيس ناصحين ومحاولين إنقاذ سوريا، لكنهم وقفوا في النهاية مع حق الشعب في الدفاع عن نفسه، ونهضوا للإغاثة، وسارعوا إلى دعم الحلول السياسية التي رفضها النظام، وقد ظهرت المؤامرة الكونية حقيقة في فصول النهاية، لكنها جاءت ضد الشعب السوري وضد حقه في الحرية والكرامة، لاسيما حين طغت شعارات المتطرفين والإرهابيين الذين دعمتهم إيران وسواها، فاختطفوا شعارات الثورة وحرفوا مساراتها باتجاهات دينية وطائفية، وصارت القضية السورية قضية مكافحة الإرهاب فقط، ولم يعد العالم يهتم بجدية بمقاومة الظلم والاستبداد.
لقد ظهر مؤخراً برنامج وثائقي أوروبي يحمل عنوان «الطاغية المفيد»، ولم يكن مقنعاً أن يكون الطاغية مفيداً للبشرية، لأن الطغيان مرفوض شرعاً وقانوناً ولا مبرر لقبوله حتى لو تحققت معه بعض المصالح. كما قال لافروف مؤخراً في تصريح مريب «إن روسيا تدعم الدكتاتور، وهي تعرف أنه ديكتاتور»!
وكذلك يبدو تراجع الولايات المتحدة حتى عن دعمها النظري لحقوق الشعب السوري بالحرية والديمقراطية مخالفاً لشعاراتها المبدئية، وكان موقفها الأخير في حوران مفاجئاً لكل أصدقائها، حيث منحت روسيا تفويضاً علنياً بالقتل والتدمير، وما سقط على أرض حوران من القذائف خلال أيام يكفي لتدمير دولة كبرى، مما اضطر بعض الفصائل للقبول بما فرضه الروس من شروط، وهي على ما يبدو أفضل المتاح لهم لتجنيب الشعب ويلات استمرار التدمير عبر الطيران الذي لم يتوقف عن القصف. ورغم كل الدمار الذي ألحقته روسيا بسوريا وشعبها، فقد فوضها العالم كله بإيجاد الحل!
والمفارقة أن كثيراً من أبناء الشعب السوري باتوا يفضلون الوجود الروسي المحتل على دخول النظام إلى مناطقهم، وهذه الظاهرة جديرة بأن يدرسها النظام الذي بات مخيفاً لشعبه أكثر من الأجنبي، فالمعارضون وهم الأكثرية يخشون من فتكه بهم ومن انتقامه، ومن حملات الاعتقال التي تعني موتاً مريعاً، ويخشون من اعتداء الشبيحة على أعراضهم وأموالهم فضلاً عن تعرضهم للإهانة والتمييز الطائفي، وهذا سر اشتراط الشعب على الروس ألا يدخل جيش النظام، مع القبول بدخول الشرطة العسكرية الروسية.
والمفارقة الأخرى أن يقبل الشعب (أمام خيارات صعبة) بدخول الروسي على أن تخرج إيران التي تحمل أحقاداً تاريخية، وكثير من أبناء الشعب باتوا يرون روسيا أهون الضررين، لأنها تبحث عن مواقع قوة وقواعد عسكرية ومصالح اقتصادية لكنها لا تبشر بمذهب أو دين ولا تفرض عقائدها على الآخرين، ولن يكون بوسعها البقاء الأبدي في سوريا.
والشعب السوري اليوم يترقب ما سيحدث في إدلب، ويخشون أن يقتحم النظام بدعم روسي مدنهم وقراهم وأن يبيدها بعد أن حشر فيها جلّ خصومه، وهم يتوقعون مذابح خطيرة تهدد نحو أربعة ملايين مواطن سوري. ويبدو أن العالم سيصمت كما صمت أمام مجازر حوران والقنيطرة وما سبقهما، فثمة اتفاق دولي على إنهاء الثورة، مع وعود بتحسين الأوضاع عبر دستور وانتخابات ستكون حتماً لصالح النظام المسيطر، وثمة أمل بأن يتجنب العالم مجازر كبرى في إدلب عبر التزام باتفاق أستانة، فإن أخفق في إيجاد حل سياسي فإن الشعب سيخفي مضطراً جذوة ثورته، لكنها ستبقى مضطرمة في النفوس التي ستواجه القهر بالصبر. ويبقى السؤال: هل يمكن للنظام أن يراجع درس الثورة ويفيد منه، وأن يتحول من نظام أمني ديكتاتوري إلى نظام مدني ديمقراطي؟ تبدو الإجابة صعبة أمام نشوة النظام بانتصاره الساحق على شعبه بفضل روسيا وإيران، ولن يعود نحو 13 مليون سوري إلى وطن يشبه المعتقل ما لم يتدفق هواء الحرية والكرامة الإنسانية.