يتأكد كل يوم في سوريا أن تنظيم «الدولة الإسلامية» هو أحد أكبر استثمارات النظام الحاكم فيها، وأن رهان المجموعة الأمنية ـ العسكرية الحاكمة في دمشق تركز على استغلال هذا التنظيم السلفي المتشدد منذ زمن طويل، وأنه حقق للنظام نتائج كبيرة.
تظهر تفجيرات مدينة السويداء التي وقعت الأربعاء الماضي، وأدت إلى مقتل 250 شخصا بين مدني وعسكري، مثالا مهما على المعادلة المعقدة بين الطرفين، فالمدينة التي تعتبر عاصمة لأقلية الموحدين (الدروز) كانت عملياً خارج إطار عمليات التنظيمات السورية المسلحة (مع محاولة واحدة لـ«جبهة النصرة» للسيطرة على مطار الثعلة العسكري)، ولم يقترب منها تنظيم «الدولة» منذ ظهوره بعد قرابة عامين من الثورة السورية مع انحدار الثورة نحو العسكرة واصطباغها بالطابع السني السلفي المتطرف، وهما العنصران اللذان ركز النظام جل دهائه ووحشيته لتأمين إحلالهما مكان التنظيمات ذات الطابع السلمي والمدني والديمقراطي في الثورة، وكذلك محل ما سمي «الجيش الحر» وفصائله، بقصد جعل البديل الوحيد له هو فصائل إسلامية متشددة ومتنازعة ومرفوضة عالميا.
التحليل الذي قدمته الصحف، اعتمادا، كما هي العادة، على «المرصد السوري لحقوق الإنسان»، لاستهداف السويداء بعد تحييدها كل هذه الأعوام، كان عسكريا محضا، حيث جرى الحديث عن تعرض جيب لـ«جيش خالد بن الوليد» المبايع لـ«الدولة» لقصف مكثف في جنوب غرب درعا، واعتبر هذا التحليل أن تفجيرات السويداء هي لتخفيف الضغط العسكري الكبير على «جيش خالد» المذكور.
في المقابل قام عدد من النشطاء السوريين، وبعضهم من مدينة السويداء نفسها، بتفسير سياسي أكثر عمقا للهجوم، تدخل في معطياته استراتيجية النظام المستمرة منذ الثورة لإخضاع السويداء ومنع حالات المعارضة أو الوقوف على الحياد فيها، وقالت إن التفجيرات جاءت بعد يومين من فشل مفاوضات الضباط الروس مع رجال الكرامة، (وهم ممثلو الطرف المعارض للنظام، والذي سبق للنظام أن اغتال رئيسه الشيخ وحيد البلعوس عام 2015)، موضحة أن في السويداء آلاف المتخلفين عن الخدمة في جيش النظام، وعشرات الألوف من المطلوبين للاحتياط، وكان هؤلاء موضوع المفاوضات وطلب الروس عودتهم للخدمة في جيش الأسد وتم رفض الطلب. في السويداء إضافة لذلك فهناك الكثير من المعارضين المطلوبين للنظام طلب الروس تسليمهم للنظام وتم رفض الطلب.
يمكن الربط، على ضوء المعطيات المذكورة، بين استهداف التنظيم هذه المدينة لأول مرة بذلك الهجوم الإرهابي الكبير، معطوفا على عمل روسيا والنظام السوري للانتهاء من كل حالات المعارضة والعصيان ورفض الخدمة العسكرية وأي شكل من أشكال الاستقلال عن القرار الرسمي السوري، أو حتى أي شكل من أشكال الحياد أو «الكرامة» والتعاطف مع المناطق السورية الأخرى المنكوبة، بما في ذلك ما قام به مشايخ المنطقة من تحريم شراء البضائع المسروقة والمنهوبة من درعا وريفها، وامتناع الناس الحكيم والعفوي عن هذه الأفعال الشائنة التي أصابت جيرانهم في بلدات وقرى ومدن حوران.
تكشف هذه الحادثة، ما يمكن أن نسميه «مقايضات الإخضاع» التي يقوم خلالها النظام بغض النظر، أو فتح باب للتنظيم، للهجوم على مدينة يريد النظام إخضاعها بالكامل، فيقوم التنظيم بكل ما هو مطلوب منه، دافعا بانتحارييه وعناصره للهجوم الوحشي على المدنيين، ثم يأتي النظام لـ«تحرير» المنطقة، لا من التنظيم فحسب بل كذلك من أي جذوة باقية لأي شكل من أشكال المعارضة ورفض المشاركة في المذبحة، عبر الامتناع عن الخدمة العسكرية، أو حتى أشكال الحياد والتعاطف مع المناطق الثائرة.
تنظيما النظام و«الدولة» متكاملان وضروريان لبعضهما ويتقايضان على إخضاع سوريا وسحق كرامة أهلها.
في السياسة، لا وجود لهدايا من أجل الهدايا. إذا كان بشّار الأسد يريد البقاء في دمشق، عليه أن يدفع الثمن. لا بدّ من دفع الثمن بعيدا عن أي نوع من التذاكي مثل دفع “داعش”، الذي يتبيّن كلّ يوم أكثر أنّه أداة لدى النظام السوري وإيران، إلى ارتكاب مجازر في حق دروز سوريا.
الأمل كبير في ألّا يقع دروز سوريا، والدروز عموما، في الفخّ الذي ينصبه لهم الإيرانيون والنظام السوري، عبر “داعش” وأن يتذكروا أن الهدف من مجزرة السويداء الأخيرة هو دفعهم إلى الانضمام إلى القوات التابعة لبشّار والتي تعاني حاليا من نقص كبير في العدد والقوى البشرية.
تكمن قوّة الدروز في أنهم يعرفون دائما الدفاع عن أرضهم بصلابة، وليس في المشاركة في غزوات في مناطق بعيدة مثل إدلب إرضاء لرئيس النظام والإيرانيين والروس.
من المفارقات العجيبة الغريبة أن الوفد الروسي الذي تفاوض مع وُجهاء السويداء أخيرا، وبين هؤلاء “رجال الكرامة”، حذّر من عواقب عدم انضمام الشباب الدرزي إلى الألوية التي لا تزال موالية للنظام.
يُفترض ألّا تغيب الصورة الكبرى لما يدور في سوريا عن أحد، خصوصا بعد الذي حصل في السويداء وذلك الظهور المفاجئ لـ”داعش” كي يستخدم في إخضاع دروز سوريا الذين اتخذوا مواقف في غاية الحكمة منذ اندلاع الثورة في العام 2011. تتلخص هذه المواقف في رفض أكثرية الدروز الخدمة العسكرية خارج المناطق الدرزية. معروف تماما لدى الدروز ماذا يعني الاعتداء على الآخر في بلد الأكثرية الساحقة من مواطنيه من السنّة.
تقول الصورة الكبرى إنه بات واضحا أن الثمن المطلوب من بشّار، كي يبقى في دمشق، صار إسرائيليا. هناك استعداد لدى حكومة بنيامين نتنياهو لتفهّم العجز الروسي عن إخراج إيران من كلّ سوريا.
لذلك هناك قبول بأن يتمركز الإيرانيون وتوابعهم من الميليشيات المذهبية على بعد مئة كيلومتر من خط وقف النار بين سوريا وإسرائيل في الجولان.
مسافة المئة كيلومتر هذه التي تجعل الإيرانيين خارج دمشق، وهذا ما يرضي الروس، ليست كافية لإسرائيل. إذا كان الإيرانيون يريدون البقاء مع ميليشياتهم في الأراضي السورية، عليهم التخلي عن الصواريخ البعيدة المدى وعن مصانع هذه الصواريخ، كما عليهم التخلي عن المعابر التي أقاموها بين سوريا والعراق وسوريا ولبنان.
هناك ترسيم جديد لإطار اللعبة الدائرة في سوريا. وراء ترسيم الإطار، تقف إسرائيل بالتفاهم مع روسيا. ما يظهر بوضوح أنّ الحلف الأقوى والأكثر عمقا في المنطقة هو الحلف الروسي- الإسرائيلي الذي انضمّ إليه الأميركي. ليس سرّا أن إدارة دونالد ترامب غير مستعدة لرفض أيّ طلب إسرائيلي. ما يدلّ على ذلك موقفها من الفلسطينيين ومشروعهم الوطني وإصرارها على نقل السفارة الأميركية إلى القدس ضاربة بالحائط كلّ قرارات الشرعية الدولية.
هل يمكن الرهان على قبول بشّار الأسد بالشروط الإسرائيلية التي تعني، في نهاية المطاف، إقدامه على خيار واضح هو بين أن يكون إسرائيليا أو إيرانيا؟
يكتشف من يتابع مسيرة الأسد الابن منذ ما قبل خلافته لوالده في مثل هذه الأيّام من العام 2000، أن الرجل وضع نفسه في المركب الإيراني. كانت كلّ الرهانات العربية على انتزاع بشّار من إيران رهانات فاشلة.
ترافقت الرهانات العربية مع رهانات فرنسية قام بها الرئيس جاك شيراك الذي استقبل “وليّ العهد” السوري، كرئيس دولة، في الإليزيه قبل أن يصبح بشّار رئيسا. لم تنفع كلّ المحاولات الفرنسية، لا في تحويل بشّار إلى رجل دولة عصري، ولا في تقديم كلّ الخدمات المطلوبة من أجل تحسين وضع الإدارة السورية وتحديثها.
ليس سرّا أنّ المملكة العربية السعودية لعبت دورا محوريا في إبقاء الاقتصاد السوري على رجليه لدى وفاة حافظ الأسد. دعمت المملكة الليرة السورية ومنعتها من الانهيار.
لم تنجح أي محاولة عربية أو أوروبية من أجل جعل بشّار الأسد رئيسا عربيا طبيعيا يهتمّ ببلده، ويعوّض عن الفرص الضائعة التي لم يعرف والده استغلالها، بما في ذلك فرصة استعادة الجولان المحتلّ.
كانت نقطة التحوّل لدى من كان لا يزال لديه أي وهم بالنسبة إلى إخراج بشّار من الأسر الإيراني، الموقف الذي اتخذه الرجل من القرار 1559 الصادر عن مجلس الأمن خريف العام 2004، والذي يدعو إلى الامتناع عن تمديد ولاية الرئيس اللبناني إميل لحود. تحدّى رئيس النظام السوري المجتمع الدولي وأصرّ على التمديد بعد توجيه تهديد مباشر إلى رفيق الحريري الذي قبل بالتمديد مرغما، وما لبث رفيق الحريري أن دفع ثمن حقد بشّار والإيرانيين عليه.
حتّى بعد اغتيال رفيق الحريري، حصلت محاولات عدة لإعادة تعويم بشّار. كانت هناك محاولة بذلها الملك عبدالله بن عبدالعزيز الذي أتى بسعد الحريري إلى دمشق، ثم اصطحب رئيس النظام السوري إلى بيروت وذلك في إطار مصالحة شاملة على خلفية فكّ الارتباط بين بشّار وإيران.
لم ينفع ذلك كلّه. كلّ ما في الأمر أن قطر دخلت في الوقت ذاته على خط دعم رئيس النظام السوري، نكاية بالسعودية ليس إلا، وفتحت له أبواب باريس عن طريق الرئيس نيكولا ساركوزي الذي كان مساعده كلود غيان على علاقة وثيقة بالدوحة.
ما حدث في السويداء مهمّ جدا. هناك عملية مكشوفة تستهدف تطويع دروز سوريا. تشارك في هذه العملية روسيا وإيران والنظام السوري. أداة عملية التطويع هذه “داعش”.
لكن يبقى الأهمّ من ذلك كلّه، هل في الإمكان الرهان على خروج بشّار الأسد من تحت الوصاية الإيرانية؟ الأكيد أن المعنى الحقيقي لإبعاد الإيرانيين مئة كيلومتر عن خط وقف النار في الجولان يتمثل في جعل دمشق خالية من النفوذ الإيراني.عندئذ يصبح قرار بشّار روسيا صرفا. هذا هو البعد الأساسي للشروط الإسرائيلية التي يستحيل على رئيس النظام السوري تنفيذها. ستظهر الأيّام المقبلة ذلك.
سيتبيّن أن كلّ الكلام عن إحياء اتفاق فك الاشتباك للعام 1974 في الجولان سيستخدم في سياق عملية تغطية للوجود الإيراني في سوريا. سيتبيّن أيضا مع مرور الوقت أن الثابت الآخر في الشرق الأوسط هو الحلف الإسرائيلي- الروسي، والحلف بين النظام السوري وإيران.
ما يمكن أن يتغير مرتبط إلى حدّ كبير بجدّية المواجهة بين إدارة دونالد ترامب وطهران. إلى أي حدّ سيذهب الرئيس الأميركي في مشروعه الهادف إلى تغيير النظام في طهران؟ هذا هو السؤال الكبير الذي يطرح نفسه.
في انتظار الجواب الذي قد يطول الحصول عليه، سيظل بشّار الأسد يناور ويناور متجاهلا أنّه ليس أسير إيران فقط، بل هو أسير دمشق أيضا. لا يمكن له أن يخرجه من أسره هذا اللجوء إلى “داعش” وانتحارييها من أجل إجبار الشباب الدروز على الانضمام إلى المشاركة في حروب خارج أرضهم.
سيكمل هذا النظام في العام المقبل أربعين عاماً على قيامه، وهي فعلياً أربعة عقود من الفشل في تحقيق أهدافها غير الواقعية بالسيطرة على المنطقة وتصدير الثورة، فلا هو نجح في تصدير ثورته، ولا استطاع أن يحافظ عليها في الداخل وبين أبناء الشعب الإيراني الذين أصبحوا يريدون الخلاص من هذا النظام اليوم قبل غد، فقد أصبح عبئاً ثقيلاً على كاهل إيران والإيرانيين، ولم يجلب لهذا البلد إلا العداء والعقوبات الاقتصادية والسياسية، ولم يبق لإيران أصدقاء من الدول المتحضرة، فكل أصدقاء هذا النظام وحلفائه يغردون خارج السرب العالمي، والذين غالباً ما تعاني دولهم وشعوبهم من أزمات اقتصادية أو تراجع حضاري وإنساني!
طهران بحاجة أن تعيد حساباتها بعد النقمة الداخلية والضغوط الخارجية، وبدلاً من أن تهدد الولايات المتحدة والدول العظمى ولا تلتزم بالقوانين والمواثيق والأخلاق الدولية، يجب أن تعيد النظر في حالها وتنظر إلى نفسها في المرآة بتجرد ووضوح، ثم عليها أن تعترف بأن مشروعها الأيديولوجي قد فشل ولن تقوم له قائمة، فزمن الشعارات قد ولى، وزمن خداع الشعوب انتهى، وبدلاً من أن يهدد الشعب الإيراني بتكرار مصير الشعب السوري إذا ما أصر على التغيير فليبدأ النظام نفسه بالتغيير والإصلاح والعودة إلى الواقع، بحيث تكون إيران دولة منضبطة ومسؤولة في الإقليم، وأن تكون شريكاً حقيقياً في حفظ أمن واستقرار المنطقة، وأن تكون يداً تبني مع جيرانها من دول المنطقة، لا أن تستمر بلعب دور اليد العابثة والمخربة التي تزعزع أمن واستقرار جيرانها، وتدعم الإرهاب وتمول الإرهابيين، وتهدد مصالح دول العالم بالتهديد بإغلاق مضيق هرمز، أو التهديد بالقيام بأعمال عدائية!
تلاسن المسؤولين الإيرانيين مع أميركا ليس في صالح طهران، فرد الرئيس الأميركي كان واضحاً على تصريحات روحاني الأخيرة، وتنديد وزير الدفاع الأميركي جيم ماتيس بالأمس بالتصرفات الإيرانية في الشرق الأوسط، ومن بينها دعم الأسد والحوثيين، يجب أخذها بمحمل الجد، والجميع في المنطقة يتفق مع ما قاله ماتيس بأنه «حان الوقت كي تحسن إيران سلوكها وتثبت أنها دولة مسؤولة، ولا يمكن أن تستمر في إظهار عدم المسؤولية كمنظمة ثورية مصممة على تصدير الإرهاب والقلاقل عبر المنطقة».
فهذا ما تريده دول العالم ودول المنطقة بشكل عام والدول العربية بشكل خاص، فمعاناة جيران إيران من النظام الإيراني لم تتوقف طوال العقود الأربعة الماضية، فهذا النظام ما أن تنتهي أزمة حتى يُدخل دول المنطقة في أزمة أخرى، في استنزاف ليس لهذه الدول وإنما للشعب الإيراني أيضاً، إن الأحداث الأخيرة ومرور كل هذه السنوات، يجعلنا نتساءل: هل هناك أمل في أن يغير هذا النظام من سلوكه؟ هل هناك أمل بأن تعود إيران دولة وألا تستمر منظمة ثورية بفكر إرهابي متطرف؟
خرجت الكرة من بين أقدام السوريين وأصبحت روسيا والولايات المتحدة الأمريكية، وقوى الإقليم هم أصحاب الكلمة العليا في بلد الثورة. فلا النظام السوري الذي خسر نخبته العسكرية والأمنية والاقتصادية والفكرية وكل قواه البشرية قادرًا على تغيير الواقع وإيجاد الحل النهائي، ولا المعارضة السياسية والعسكرية التي فقدت الأوراق السياسية والحيز الترابي والمجال الجغرافي، قادرة على الحسم والتغيير الجوهري، وإسقاط النظام كما كانت تخطط سابقًا.
انتقل الملف السوري لطاولة الكبار، فقد زجت روسيا بقوتها اللوجستية والمخابراتية والعسكرية والسياسية، ومن ورائها إيران وحزب الله وميليشيا نظام الأسد المحلية، واستخدموا كل وسائل البطش والعنف اللامحدود للسيطرة على المدن الكبرى والأرياف وسط وغرب سورية في دمشق وحمص ودرعا وحلب والساحل. وبالمقابل سيطرت الولايات المتحدة ومعها قوات ypg الكردية على مناطق واسعة شرق في الجزيرة الفراتية والبادية السورية، وكذلك قامت تركيا، وفق تسويات خفض التصعيد في أستانا مع روسيا وإيران، واجتماعاتها السرية مع واشنطن، بعمليتي درع الفرات وغصن الزيتون، ونشرت مؤخرًا اثنا عشر نقطة مراقبة عسكرية في الشمال السوري "إدلب وأرياف حلب واللاذقية وحماة".
وفي إطار التفاهمات الدولية والإقليمية، كانت تجتمع قوى النظام والمعارضة "السوريون" بين الفينة والأخرى في جنيف وأستانا وسوتشي برعاية المبعوث الأممي ديمستورا، ويخوضون مفاوضات عبثية وبلا نتائج واضحة، ولكن أن يصل الضغط على حدود الأردن وإسرائيل، وتقصف طائرات الأسد وميليشيا إيران درعا والقنيطرة، أصبح للمسألة وجهات نظر وحسابات مختلفة.
سارعت واشنطن وموسكو للإعلان عن لقاء بين رئيسا الدولتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي Helsinki، لبحث عدد من القضايا العالقة بين القوتين، وآخرها اقتراب ميليشيا الأسد وإيران من حدود الجولان السوري المحتل من إسرائيل. فقد التقى الرئيسان في منتصف هذا الشهر (يوم الاثنين 16 تموز/ يوليو 2018)، ودار نقاش وصفه محللون وإعلاميون بالطويل والصعب. ورغم ذلك كان السوريون يرقبون ما سينتج عن تلك القمة، وهل ستنعكس سلبًا ام إيجابًا على مستقبل بلادهم؟
اعتبر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن روسيا أدت واجبها في القضاء على ما وصفه الجماعات الإرهابية المسلحة، وأن الكرة باتت بيد واشنطن في سحب قواتها والمساهمة في تأمين الاستقرار وإعمار المناطق المدمرة في سورية، واضعًا كرة قدم بيد ترامب الذي ألقى بها أرضًا. فكيف نقرأ هذا الموقف الروسي على هامش القمة الثنائية الكبرى؟
القمة التي وصفها السيناتور الجمهوري جون ماكين بأنها "أحد أسوأ اللحظات في تاريخ الرئاسة الأمريكية"، كانت كذلك بالنسبة للقضية السورية، التي بحثها الرئيسان وخرجا ليؤكدا تنسيقهما في سورية عسكريًا وسياسيًا، متفقين في النتيجة على أن "حفظ أمن إسرائيل" هو الأولوية المطلقة لكليهما في الأزمة السورية.
وقبل القمة العالمية بيومين، بدأت تتوضح ملامح الصفقة التي يعدها الطرفان لتقرير مستقبل سورية، والتي تتلخص بخروج أمريكي تدريجي، وتسليم ببقاء نظام الأسد وإطلاق يد روسيا في سورية مقابل طرد إيران. وقد استبقت الولايات المتحدة القمة، بإعلان قرب انسحابها من شرق سوريا تدريجيًا، مطالبة حلفاءها بملء الفراغ في تلك المنطقة، وقال المبعوث الأميركي للتحالف الدولي ضد تنظيم الدولة بريت ما غورك لأعضاء التحالف في 14 تموز/ يوليو 2018: "على أعضاء التحالف المشاركة في حمل العبء عسكريًا وماليًا شمال شرقي سورية". أي توفير نحو 300 مليون دولار أميركي، ونشر وحدات من القوات الخاصة لملء الفراغ لدى الانسحاب التدريجي للقوات الأميركية. إذًا: كانت قمة هلسنكي صفقة سياسية وأمنية مفادها:
- ضمان أمن وحدود إسرائيل، وتطبيق صفقة القرن في المشرق العربي دون تأخير.
- تقليص الوجود الإيراني في سورية تدريجيًا، ويتوكل الروس بهذه المهمة.
- خروج تدريجي للقوات الأمريكية من مواقعها، وحلول قوات تركية وأخرى من حلف الناتو مكانها.
بقاء الحال على ما هو عليه في سورية بعد تهجير المعارضين من درعا والقنيطرة "الجنوب السوري". فالدلائل تشير إلا اتفاق مدته خمس سنوات، تصبح لروسيا بعده الكلمة العليا في مناطق سيطرة النظام، ولتركيا الوصاية الكاملة على مناطق المعارضة في الشمال السوري، وتبقى الولايات المتحدة وحلفائها في مناطق شرق الفرات وقاعدة التنف حتى مطلع عام 2020م ليتمكن حلفاء الإقليم من حفظ الاستقرار بها، وإعمار مناطقها. وتجري خلال هذه السنوات عملية تحديد صلاحيات الرئيس وإيجاد دستور يدير المناطق. إذًا، فالنتيجة ستتحول سورية لمناطق نفوذ ترعاها الدول حتى ترتب لها طاولات مفاوضات جديدة.
يشعر بوتين بجسامة "المعضلة" الإسرائيلية إلى درجة إيفاد وزير خارجيته ورئيس أركان جيشه إلى إسرائيل في زيارة عاجلة أُريدَ لها أن تظهر بهذا المظهر الدراماتيكي.
بدا السجال الحاد المندلع بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو طارئا على قضية عنوانها القوانين المتعلقة بقومية الدولة في إسرائيل، لكن لبّها الحقيقي يدور حول مسألة إستراتيجية أخرى عنوانها مستقبل التسوية في سوريا.
فجأة يتقدم العامل الإسرائيلي داخل الجدل حول مستقبل سوريا بصفته أولوية الأولويات. ظهر ذلك جلياً في المؤتمر الصحافي الذي جمع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بنظيره الأميركي دونالد ترامب في أعقاب قمتهما الشهيرة في 16 من يوليو الجاري. سُئل الرئيسان عما توافقا عليه حول سوريا فكان جواب ترامب لافتا: إسرائيل ثم إسرائيل ثم إسرائيل.
ولا يعتبر العامل الإسرائيلي جديدا على مجريات الحدث في سوريا منذ اندلاع اشتعال بركانها عام 2011. يذكرُ المراقبون حين استدعى رامي مخلوف ابن خال بشار الأسد في بدايات تفجّر ذلك البركان السوري العامل الإسرائيلي محذرا من أنه “لن يكون هناك استقرار في إسرائيل إذا لم يكن هناك استقرار في سوريا”. وسواء كان التحذير تهديدا أو تودّدا، فإن تل أبيب راقبت بعناية تطور التدهور في سوريا، مسرّبة شروطا وقواعد لطالما احترمها نظام دمشق كما المعارضة.
لم تخف المنابر الإسرائيلية قلقها من المجهول الذي سينتج عن فرضية سقوط النظام السوري. أقلام إسرائيل أثنت على دور النظام السوري منذ الأسد الأب، انتهاء بالأسد الابن، في شل جبهة الجولان وإخراجها نهائيا من دوائر الخطر الحدودي المحدق بأمن إسرائيل. لم يسجل على الحدود مع سوريا منذ تفاهمات وقواعد فك الاشتباك لعام 1974 أي اختراق يكسر سكينة الجبهات هناك.
وفق ذلك الوعي العام لدى أجهزة إسرائيل السياسية والأمنية لم تسوّق اللوبيات الإسرائيلية في الولايات المتحدة لأي تغيير للنظام السوري لدى الإدارة الأميركية. وينقل عن مسؤولين سابقين في إدارة باراك أوباما أن تيارات الضغط الإسرائيلي مارست ما يشبه حملة علاقات عامة لاستبعاد أي جهد دولي، أميركي خصوصا، لإسقاط النظام. وتتذكر تيارات المعارضة السورية أن السفير الأميركي في دمشق، روبرت فورد، كان قد أكد لها منذ بدايات الحراك السوري أن لا سقوط لنظام الأسد وفق سياسة واشنطن. ومعروف أن فورد جاهر بانتقاداته الشديدة لتلك السياسة بعد أن انتهت مهامه الدبلوماسية وغادر وزارة الخارجية في بلاده.
بيد أن بروز العامل الإسرائيلي في تقرير مسار ومصير سوريا بدا نافرا جلفا بالمعنى الدبلوماسي داخل الظروف التي أسست لبداية التحرك العسكري الروسي عام 2015. لم يبدأ الهجوم الروسي في سبتمبر من ذلك العام إلا بعد اجتماع غامض بين بوتين وأوباما على هامش المؤتمر السنوي العام لمنظمة الأمم المتحدة في نيويورك. وما كان لهذا الاجتماع أن يكون منتجا للرعاية الأميركية الملتبسة للورشة الروسية لولا وجود تفاهمات كاملة كانت قد تمت قبل ذلك بين سيد الكرملين ورئيس الوزراء الإسرائيلي.
تكاد الرعاية الغربية -الأميركية الأوروبية أساسا- لآلة الحرب الروسية في سوريا مستندة على ما أمّنته تفاهمات موسكو- تل أبيب من ضمانات لأمن إسرائيل. جرى تعايش شيطاني قد يكشف المستقبل خيوطه بين إسرائيل وإيران تحت سقف روسيا. سمح ذلك التعايش بأن تتحرك آلة الحرب الإيرانية من مستشارين وقوات وميليشيات تابعة داخل الجبهات السورية طالما أن ذلك لا يهدد أمن إسرائيل، وأن تتحرك هذه الأخيرة لضرب مواقع وقوافل وقواعد ومخازن تابعة لإيران واغتيال شخصيات موالية لطهران طالما ترى تل أبيب أنها تشكّل خطرا على أمنها. بدا أن طهران كانت تشعر أنها رابحة في هذه الحسبة الخبيثة.
احترمت إيران وحزب الله وبقية الميليشيات الرديفة القواعد الإسرائيلية، ولم يحصل أي رد نوعي يخترق هذه التفاهمات. كان واضحا أن حركة إسرائيل فوق الأراضي السورية لا تحظى فقط بغضّ طرف روسي، بل حتى بتواطؤ كامل ليس أوله توفير الخدمات المخابراتية، وليس آخره “إطفاء” كافة أدوات الردع الروسي الدفاعي داخل سوريا.
والواضح هذه الأيام أن إسرائيل تنتقل في مقاربتها لـ”الحالة” السورية من مرحلة الردّ الموضعي إلى مرحلة ما تريد رسمه داخل خرائط التسوية النهائية في سوريا. انتقلت تل أبيب في إطلالاتها الميدانية على سوريا من مطلب بات متقادماً حول إبعاد أي تواجد للقوات التابعة لإيران عن حدودها لمسافة تكثر تكهنات القياس حولها، إلى مطلب إخراج إيران، عسكرا ونفوذا ووجودا، من كافة الأراضي السورية. وإذا ما كانت قمة هلسنكي لم تفصح عن اتفاق ما حول هذه المسألة ومدى موافقة بوتين على ذلك، إلا أن نتنياهو يقرأ في المشهد الدولي المطل على الشأن السوري ما يجعله متطلبا ذاهبا إلى الحدود القصوى في ما يتوق إليه من إخلاء كامل لسوريا من الحضور الإيراني.
يشعر بوتين بجسامة “المعضلة” الإسرائيلية إلى درجة إيفاد وزير خارجيته ورئيس أركان جيشه إلى إسرائيل في زيارة عاجلة أُريدَ لها أن تظهر بهذا المظهر الدراماتيكي. يعلم رجل روسيا القوي أن ديمومة الرعاية الأميركية الغربية لنهائية النفوذ الروسي في سوريا تشترط الأخذ بعين الاعتبار كافة مواطن القلق الإسرائيلي وهواجس الأمن في تل أبيب. بدا أن إسقاط مقاتلة السوخوي السورية على الحدود مع سوريا قبل أيام يعبّر عن تجاوز إسرائيل لتفاهمات نتنياهو- بوتين السابقة باتجاه التصويب على قوى نظام دمشق العسكرية أيضا، وليس تلك الإيرانية حصرا. قبل ساعات من هذا التطور العسكري كان نتنياهو قد حمَّلَ نظام بشار الأسد مسؤولية الصواريخ الإيرانية الهوى التي تطلق من سوريا باتجاه إسرائيل.
تمتلك إسرائيل أداة الردع المعروفة، لكنها من خلال قضية الخوذ البيضاء، ثم الكلام عن احتمال تحرك دروز الجولان حماية لدروز السويداء، تكشف عن أدوات جديدة كانت غائبة خلال المقتلة السورية.
شكت منابر الولايات المتحدة من جمهوريين وديمقراطيين ومؤسسات أمنية أنها لا تعرف ما دار في هلسنكي، مطالبة باستنطاق المترجمة التي صاحبت ترامب في مداولاته مع بوتين. بالمقابل يكشف الموقف الإسرائيلي المتصلّب هذه المرة ضد بوتين، ثم وزيره سيرجي لافروف وجنراله فاليري غيراسيموف، أن نتنياهو علم بفحوى المحادثات بما تطلب تبدلا دراماتيكيا في الموقف الإسرائيلي. ولن يكون مستبعداً أن يكون موقف تل أبيب مطلوبا في واشنطن كما في موسكو لإضافة جرعات من الضغوط ضد إيران تتكامل مع ما كان ترامب ووزير خارجيته مايك بومبيو قد رفعا في الأيام الأخيرة من منسوبها ضد طهران.
وفق هذا المشهد الجلي يستنتج رجب طيب أردوغان هامشية حضوره في التسوية السورية النهائية مقارنة بذلك الذي يتطور إسرائيليا. ولئن ما زالت “أستانة” التي ستنعقد في سوشي ميدانا نشيطا لمحورية دور تركيا ضمن الثلاثية مع روسيا وإيران، بيد أن تمدد الظلال الإسرائيلية بدا أنه يحظى بغطاء دولي شامل، لا يحظى به أردوغان وجيشه في شمال سوريا.
على ذلك يخرج وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو ليعلن بأن بلاده غير معنية بالعقوبات الأميركية ضد إيران، ذلك أن المزاج الذي يطالب بإجلاء إيران عن سوريا لن يتأخر في طلب جلاء تركيا عنها ولو بعد حين.
نشرت وزارة الدفاع الروسية خلاصة فحواها أن مليوناً و700 ألف لاجئ سوري بإمكانهم العودة إلى بلادهم في وقت قريب. وبحسب معطيات الوزارة فإن المدعوين للعودة يتوزعون على النحو التالي: 890 ألف لاجئ من لبنان. 300 ألف لاجئ من تركيا. 200 ألف لاجئ من أوروبا. 150 ألف لاجئ من الأردن 100 ألف لاجئ من العراق. و100 ألف لاجئ من مصر. وقالت وزارة الدفاع الروسية أنه يمكن استقبال حوالى 336 ألف لاجئ في مراكز لجوء داخل سورية، 134.500 منهم في حلب و73.600 في ريف دمشق، و64 ألفاً في حمص، و45 ألفاً في دير الزور.
الخلاصة المذكورة عممت بعد قمة هلسنكي بين الرئيسين دونالد ترامب وفلاديمير بوتين، وسبقتها في الثالث من تموز (يوليو) دعوة خجولة منسوبة إلى مصدر في وزارة الخارجية السورية إلى اللاجئين السوريين للعودة، بينما لم يتحدث عن العودة أي مسؤول كبير في النظام، بدءاً من الرئيس بشار الأسد. ولم يظهر أي استعجال في دمشق في استرجاع ملايين المشردين إلى "حضن الوطن". وعلى العكس من ذلك تحول القانون رقم 10 إلى سيف مسلط على رقاب الراغبين في الرجوع إلى مساكنهم وأراضيهم. ليس أركان النظام وحدهم من لم يبد حماسة لعودة ملايين السوريين، فالإيرانيون المنشغلون بمحاربة "الإرهاب" وحماية المراقد، يتهمهم كثيرون بممارسة فرز ديموغرافي لا يبدو النظام بعيداً منه. لذلك بدت روسيا، وحدها من بين المدافعين عن النظام، المهتمة بالعودة، في سياق متكامل قوامه السيطرة تحت راية النظام على مختلف المناطق السورية، بدءاً من الجنوب وصولاً إلى إدلب (في أيلول كما أشاع مسؤولون روس)، وضمان الهدوء في الجولان عبر الالتزام بترتيبات 1974 وإبعاد الإيرانيين وميليشياتهم إلى مسافة 100 كلم من إسرائيل أي إلى الشمال من دمشق في مرحلة أولى، ومنع هؤلاء من استعمال القواعد الجوية السورية (وهو ما أشارت إليه صحف روسية) وإطلاق يد إسرائيل في ملاحقتهم حتى خروجهم النهائي من سورية بحسب ما ترغب وتشترط الدولة العبرية التي تلقى دعماً أميركياً وتفهماً روسياً.
هذه التفاصيل عرضت في قمة هلسنكي. طرح بوتين عودة اللاجئين وربطها من دون شروط بإعادة الإعمار، وأبلغ ترامب أنه متفق مع الإيرانيين على ابتعادهم عن إسرائيل مسافة مئة كلم. واستفاض في حديث طيب عن إسرائيل التي يتحدث نصف سكانها اللغة الروسية، الأمر الذي أثار تعاطف وإعجاب ترامب، ما جعل عجلة الأوضاع السورية تتحرك بقيادة الربان الروسي المعترف به.
بديهي أن يريح المسعى الروسي لإعادة السوريين وإبعاد الإيرانيين ارتياح الكثيرين في المنطقة والعالم، وفي لبنان الذي تعالج الخطة الروسية أوضاع ضيوفه في شكل خاص، يفترض ملاقاة موسكو بجدية كاملة في مسعاها، فالقرار في يدها كما هو واضح والنظام لا يملك غير متعة التدقيق الأمني الذي يسقط إزاء القرارات والتسويات الكبرى.
«على سورية أن تلتزم باتفاق وقف النار الموقع مع إسرائيل سنة 1974 وباتفاق فصل القوات على الحدود معها. يجب العمل على بناء علاقات جيدة بين سورية وإسرائيل والحرص على أمن إسرائيل...». هذا ما صرّح به الرئيس الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في المؤتمر الصحافي مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب في هلسنكي.
قبل لقاء القمّة هذا بين بوتين وترامب كان نتانياهو، رئيس الحكومة الإسرائيلية، قد صرّح لدى زيارته موســكو مؤخراً ولقائه بوتين بأنّ إسرائيل لا تمانع بعودة النظام إلى الحدود مع إسرائيل، فهذا النظام «لم يطلق عياراً نارياً واحداً على الحدود مع إسرائيل منذ أربعين عاماً»، أضاف نتانياهو.
وهكذا نجد لزاماً علينا أن نعود للنظر في ما تعنيه لغة البيانات والخطاب الإعلامي. ففي الجهة الإسرائيلية نقرأ مصطلح «عدم الممانعة» الذي يقابله مصطلح «الممانعة» في الجهة الأخرى.
إنّ عدم الممانعة الإسرائيلية بعودة النظام للحدود، ملتزماً بالاتفاقات المبرمة منذ عقود طويلة، يعني شيئاً واحداً هو الاطمئنان الإسرائيلي إلى طبيعة هذا النظام الرابخ في الشام والذي «لم يُطلق عياراً ناريّاً على الحدود منذ أربعين عاماً». أما من الجهة الأخرى، وطوال عقود طويلة، فقد شنّف هذا النظام آذاننا بخطاب «الممانعة» ومحاربة إسرائيل.
إنّ هذا النظام «الممانع» الذي حقّق أيديولوجيّته القائلة بـ «حرق البلد» طوال السنوات المنصرمة على الهبّة السورية بغية بقاء الأسد لن يُبدّل جلده أو طبعه. إنّ هذا الخراب الكبير العمراني والإنساني الذي تسبّب به نظام الاستبداد هذا هو خراب بشري واجتماعي تاريخي لن تلتئم جراحه طوال عقود، بل ربّما طوال قرون طويلة قادمة. ففي التاريخ العربي الكثير من الشواهد على مثل هذه الخرابات البشرية والاجتماعية التي ما زالت أصداؤها تُسمع حتّى الآن.
عندما وصلت شرارة الانتفاضات العربية التي وُسمت بـ «الربيع» إلى ما يُسمّى بلغة البعث القطر السوري، مضرمة فيه النيران البشرية التي خرجت بمظاهرات سلمية مطالبة بالحرية بعد عقود من حكم الاستبداد البعثي القبلي والفاشي، نشرت مقالة بالعبرية في صحيفة «هآرتس» عنونتها بـ «الأسد ملك إسرائيل»، إذ إنّ الأسدين، الأب والابن، والنّظام الحاكم في سورية، لا يكن لهم همّ سوى تأبيد الحكم القبلي الاستبدادي والتحكّم بمصائر البلاد والعباد لتوريث النظام من شرّ سلف إلى شرّ خلف، بينما يفرضون سيادة الهدوء على الحدود مع إسرائيل.
وها هي إسرائيل «لا تمانع» بعودة هذا النظام «الممانع» الذي، وبأوامر صارمة من فلاديمير بوتين - الباب العالي الحالي - لن يُطلق عياراً ناريّاً واحداً على حدودها في الجولان. إذ إنّ خلاصة «الممانعة» التي كانت دوماً تعنيها هي في نهاية المطاف استعداده التامّ لأن «يحارب إسرائيل» حتّى آخر قطرة دم لبنانية أو فلسطينية، بينما تبقى الحدود مع إسرائيل آمنة تماماً. أمّا كلّ أولئك النفر من اللبنانيين والفلسطينيين الذين عوّلوا في الماضي وما زالوا يعوّلون حتّى الآن على أنظمة من هذا النوع، ضاربين عرض الحائط مصالح شعوبهم، فهم إمّا أغبياء وإمّا شركاء مباشرون في جرائم يرتكبها هذا النوع من الأنظمة بحقّ الحجر والبشر حيثما تطأ قدمه.
ومن يعش ير.
في الأول جاء الخبر المفجع بوفاة مي سكاف، بلا إنذار مسبق، فلم يعرف أحد عن مرض ما كانت تعانيه، في حين ألمح مقربون منها إلى «ظروف غامضة» قد يكشفون عنها لاحقاً. على أي حال، وقع الخبر وقع الصدمة بين سوريي الشتات، كأن موتها المفاجئ أعادهم إلى حال بلدهم الذي خسروه، ويستمرون في خسارته قطعة وراء قطعة. لم يكد يفيق السوريون من هذه الصدمة، حتى عاجلهم النظام الكيماوي، في اليوم نفسه، بأخرى: خبر مقتل الأخوين يحيى ومعن شربجي تحت التعذيب… منذ خمس سنوات! كأنها رسالة منه إلى كل من له أحبة مغيبين في جحيم معتقلاته، مفادها أن تخلوا عن الأمل بعودتهم.
لكننا لن نتخلى ولن نفقد الأمل، هكذا أوصتنا مي في منشورها الأخير على فيسبوك، بخلاف جملة دانتي الرهيبة على باب الجحيم.
يحيى ومعن من ناشطي درايا الأوائل، لم يغفر لهما نظام البراميل نضالهما السلمي من أجل الحرية والكرامة، مسلحين بزجاجة الماء المعززة بالوردة، في مواجهة الجيش المسلح بالرشاشات والقناصات. جاء خبر الأخوين شربجي في إطار حملة جديدة بدأها النظام، منذ أسابيع، فراح يسجل وفيات من قتلهم في جحيم معتقلاته، في سجلات النفوس! لا حدود لعبقرية النظام في ميدان الجريمة، وفقط في هذا الميدان. أما مي التي هربت، في العام 2013 خارج البلاد، فنجت من مصير مماثل، فقد قتلها المنفى والشوق وأخبار الجنوب.
ففي ذلك الجنوب الذي طالما شكل شوكة في خاصرة دمشق المحتلة، انتهت المعركة، كالعادة، بترحيل السكان، وعودة قوات النظام إلى تنكب مهمتها المألوفة، منذ «الحركة التصحيحية»، ككلب حراسة لحدود إسرائيل. كان على النظام أن يصدر شهادتي وفاة الأخوين شربجي على وقع وصول وفد روسي «رفيع» إلى إسرائيل برئاسة وزير الخارجية لافروف ورئيس أركان الجيش الروسي، للتباحث مع نتنياهو حول مصير الجنوب السوري بما يحفظ أمن إسرائيل، على ما تم الاتفاق عليه بين كل من إسرائيل وروسيا والرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
لا يمكن الحديث، في هذا الإطار، عن «تنازلات» قدمها النظام بنتيجة ضغوط. فهو ليس في وضع المفاوض حتى يقدمها. بل هو في وضع الخاضع لإملاءات ولي أمره الروسي، ينفذ، بلا نقاش، ما يتفق عليه الروسي والإسرائيلي فيما بينهما، ويبصم الرئيس الأمريكي ترامب، من جهته، على الاتفاق. فيكون على العبد المأمور أن ينفذ وحسب. أما تنمره فيظهر في مكان آخر: حين يتعلق الأمر بنجاة عناصر من الدفاع المدني من قبضته، فيُحرَم من قتلهم قصفاً أو تحت التعذيب، ومن إصدار شهادات وفاة لكل منهم. إنه ككلب شرس خسيس منعه سيده الممسك برسنه من الافتراس، كاظماً غيظه، نابحاً على الناجين من أنيابه بكل ما أنتجت «الممانعة» من صديد الشتائم.
يريد النظام لشهادات الوفاة، بحق من قتلهم تحت التعذيب في السنوات السابقة، أن تكون بمثابة شهادة وفاة لثورة السوريين، كما يريدها دستوره للتعامل مع من تبقى منهم تحت قبضته. وللوهلة الأولى، تبدو الشروط الميدانية والدولية مواتية له لتحقيق حلمه بالعودة إلى ما قبل 2011. ولكن فقط للوهلة الأولى. ذلك لأنه لا يملك، اليوم، من أمره شيئاً. مصيره يتحدد في موسكو وتل أبيب وطهران وواشنطن. بل كذلك في مناطق سيطرته بالذات حيث يحكم أمراء حربه من قادة الشبيحة وعصابات القتل والتعفيش. قد يتوهم أنه يخرج من عزلته بمهارات جبران باسيل المستعجل على تطبيع العلاقات معه، أو إيمانويل ماكرون المتلهف على فتح سفارة فرنسية في دمشق، يساهم في إغاثة الغوطة الشرقية المحتلة كبادرة حسن نية، أو جماعة صالح مسلم التي تفاوضه «بلا شروط مسبقة»، استباقاً لانسحاب أمريكي محتمل يسعى إليه ترامب.
كل هذه التطورات لن تنفع النظام في استعادة سوريا، ما دام هناك ملايين من أمثال مي ويحيى ومعن، مشتتين في أرجاء الأرض، بانتظار تغير الأحوال، ليعودوا إلى بلدهم المنكوب، اليوم، بعصابة الإجرام الأسدية والمحتل الروسي الداعم لها. نعم، هم في حالة انتظار، غير قادرين على الفعل ضمن الشروط القائمة الآن. ربما العمل الوحيد المجدي الآن هو الحفاظ على جمرة الأمل. فثمان سنوات من الحرب علمتنا أن الشروط السورية سيالة، متغيرة، لا تستقر على حال لشهرين متتاليين.
سيموت كثير منا، غرقاً في البحر، أو قنصاً على الحدود، أو شوقاً في المنافي. لكننا أكثر مما يمكن للبحر أن يبتلعه، أو للشوق أن يفنيه. مسلحين نحن بوصية مي، لن نفقد الأمل، فبلادنا قد لا تكون عظيمة، كما قالت، لكنها ليست سوريا الأسد.
خسارة تلو خسارة، تستعيد القضية السورية وضوحها الأول. وضوح البدايات والمظاهرات قبل أن تُغرقها جحافل «جند الخلافة» وطوابير الميليشيات العراقية واللبنانية والأفغانية، في بحور الدم والعبث.
تتزامن خسائر الشهور الماضية التي أخرجت المعارضة من المشهد، مع انكشاف الثمن الإنساني الهائل الذي دفعه السوريون، وهم يتلقون لوائح بأسماء المئات من معتقليهم الذين قضوا تحت التعذيب في أقبية أجهزة المخابرات.
انحسار المعارضة بأجنحتها السياسية والعسكرية بعدما تحولت إلى أدوات في صراع الاستراتيجيات المتنافسة، يجب ألا يخفي حقيقة المطالب الواضحة والبسيطة التي خرج ملايين السوريين للمطالبة بها في ربيع 2011.
ويشترك النظام مع المعارضة في ضعف الصلة بتقرير مستقبل سوريا. فهذا ترسمه خرائط يحملها، على سبيل المثال، وزير الخارجية الروسي لافروف إلى تل أبيب، وتحدد عمق الابتعاد الإيراني عن حدود وقف فك الاشتباك في 1974، في إطار توازنات القوى الدولية والإقليمية. يرفض الإسرائيليون العرض أو يقبلونه، ذلك أمر لا علاقة للحكم في دمشق به.
لقد تقلصت مهمات الحكم إلى إدارة القمع الداخلي والاهتمام ببقائه في مكانه؛ بل إنه غير مطلق اليدين في هذه المهمة، إذ يتدخل «المفاوضون الروس» عندما يفرط عناصر الأمن المحليون في إذلال المواطنين. العقد الفاوستي الذي باع النظام فيه روحه إلى مَن أنقذه من السقوط المحتم، سحب منه الحق في المشاركة في إدارة اللعبة الكبيرة التي بدأت ملامحها في الظهور، على شكل مشروعات إعادة إعمار وإحياء الوظيفة الاستراتيجية لسوريا في المنطقة، ذلك أن الرهانات هنا يحسمها الإيرانيون والروس والإسرائيليون.
وبعد استيلاء الخارج على الخريطة السورية، وانهماكه في تقطيعها شرائح نفوذ وسطوة، وبعد انزياح شبح «داعش»، وقبول «هيئة تحرير الشام» (جبهة النصرة) بالوظيفة المرسومة لها كحارس حدود وأداة إقليمية احتياطية للصراعات الخارجية، وبعد فشل الفصائل المسلحة في الإطاحة ببشار الأسد؛ بل وفي تقديم نموذج مقبول لكيفية إدارة المناطق التي سيطرت عليها، يجوز القول إن الغبار الكثيف الذي أثارته سنوات القتال قد بدأ ينجلي، وأن السمات العامة لمشهد ما بعد الحرب راحت تظهر.
ولا نزال في بداية الانفصال بين الجانب الجيو - سياسي والاستراتيجي للصراع في سوريا وعليها، وبين الجانب الداخلي الذي يتناول علاقة النظام والشعب وشكل الحكم ومستقبله. ولا تفيد التقارير الإعلامية الآتية من سوريا في توقع ردود الفعل على لوائح الضحايا المدنيين لحملات الاعتقال الرهيبة التي أدارتها الأجهزة الأمنية، وليس معروفاً كيف سيتجاوب أهالي درعا مع شروط الاستسلام المهينة التي وزعتها السلطات على السكان (نشرتها «الشرق الأوسط» قبل أيام) والقاضية بتحويل الجميع إلى مخبرين لدى الأجهزة أو مواجهة الموت. ذلك أن المجتمع السوري قد أصيب برضّات على درجة من العنف والقسوة؛ بحيث يعسر توقع أي ردّ فعل صادر عن المجتمع حيال القمع المستأنف في المناطق التي عاد النظام إليها، والمستمر في الأنحاء الأخرى. كما أن أحداً لا يملك الحق الأخلاقي أو السياسي ليطلب من السوريين إحياء الثورة والمقاومة، بعد النكبات المتسلسلة التي ما زالوا يعانون منها.
كل ما تقدم يعيد إلى النقطة الأولى، إلى وضوح مطالب المظاهرات الليلية، وهتافات الشبان في الأحياء العشوائية والقرى ذات الطرقات الترابية. القضية لم تبدأ كصراع على موقع استراتيجي ولا على «حق» إيران في إمداد النظام وحليفها اللبناني بالسلاح والصواريخ. القضية في مكان آخر تماماً، خلاصتها كرامة السوريين وحقهم في اختيار من يحكمهم، وكيف يحكمهم. والعودة إلى بداهة المطالب وطبيعتها المباشرة تُعين على تعرية خطاب الحكم من أسلحته الثقيلة، على غرار «المؤامرة الكونية»، و«استهداف النظام التقدمي الوطني»، و«تمرير الهيمنة الإسرائيلية على المنطقة عبر مشاغلة محور الممانعة».
ويبدو أن النظام الذي نجح، بكفاءة عالية، في تحويل الأنظار عن جوهر الصراع ومكونه الداخلي الأساسي، باستغلاله ظواهر مثل «داعش» و«النصرة» ومن يشبههما، ليس في وارد تغيير ما استقر عليه منذ انقلاب نوفمبر (تشرين الثاني) 1970، ليس من ناحية احتكار السلطة وحصرها في جماعة طائفية - سياسية محدودة من الموالين والمنتفعين؛ بل أيضاً لجهة إصراره على احتلال موقع المفسر والشارح لأحداث العالم والتاريخ، وصولاً إلى الظواهر المحلية، على نحو يحيل أي اختلاف في الرأي إلى خيانة، وأي نقاش إلى مشروع تمرد وخروج على الدولة.
والحال أن التسويات ومشروعات الاتفاقيات الإقليمية والإجماعات الدولية على بقاء بشار الأسد في منصبه حتى نهاية ولايته الحالية على الأقل، تترك عملية صوغ مضمون النظام ودور مؤسساته إلى حوار كان من المفترض أن يتولاه السوريون؛ لكنه فشل في الإقلاع حتى الآن بسبب الاختلال الكبير في موازين القوى بين الأطراف، بما يبرر للنظام رفض مجرد الاستماع إلى وجهات نظر مختلفة، معتبراً أن الأمر قد قُضي، وأن الميدان قال كلمته ببقاء السوريين على حالهم في علاقتهم بالسلطة.
هل يعني ذلك أن الآمال التي حملتها الثورة السورية قد وئدت؟ وأن التضحيات الخرافية التي بذلها السوريون من أجل مستقبل أفضل وفي سبيل حريتهم قد انتهت؟ وأن لوائح القتلى تحت التعذيب هي كل ما سيناله أهالي المعتقلين والمخفيين قسراً؟ هل الاعتراف بالأمر الواقع يفترض طي صفحة الديمقراطية وتداول السلطة وحكم القانون في سوريا، والاستسلام إلى قدرية الاختيار بين استبدادين، ديني أو عسكري؟ ربما وحدها الأحلام تجرؤ على الإجابة.
تتحمّل سلطة الانتداب الروسي والنظام السوري المسؤولية القانونية والأخلاقية عن ترحيل عدة مئات من متطوعي الخوذ البيضاء، مع عائلاتهم من جنوب سورية، نحو الخارج. وسواء تم تطبيق قوانين الحرب أو السلم، فإن حياة هؤلاء المتطوعين الإنسانيين كان يجب احترامها والحفاظ عليها، وهم الذين لم يحملوا السلاح، وأجمع العالم على دورهم في إنقاذ حياة عشرات الآلاف في عموم سورية، ونالوا عليه التكريم من مؤسساتٍ دولية.
لا تزال المعلومات متضاربةً بشأن ظروف ترحيل 800 متطوع من درعا والقنيطرة نحو الأردن، برفقة عائلاتهم تحت غطاء الأمم المتحدة، وبقرار من الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا، لكن أبواق الممانعة ارتفعت للتنديد بهم، وتم وصفهم متعاونين مع إسرائيل. وزاد في الأمر أن إسرائيل استغلت عملية تأمين مرورهم نحو الأردن لتبييض صورتها، واستفادت جيدا من الخدمة التي أداها لها النظام السوري.
في هذا الأسبوع، قامت إسرائيل بعدة جرائم، وأرادتها أن تمر من دون أضواء إعلامية. الجريمة الأولى إقرار الكنيست قانون يهودية الدولة التي صارت بموجب ذلك دولة الشعب اليهودي، وبذلك أعطت نفسها الحق لتشطب ربع سكان الدولة العبرية من فلسطينيي 1948، وتلغي حق العودة الفلسطيني. والثانية مواصلة عمليات ترحيل سكان منطقة الخان الأحمر قرب القدس. والثالثة إطباق الحصار على غزة، بإغلاق معبر كفر أبو سالم، ومنع دخول البضائع إلى القطاع ومواصلة القصف يوميا.
وبدلا من أن يركز الإعلام والرأي العام والأمم المتحدة على بلطجة إسرائيل وحكامها الذين بلغوا من العنف والعنصرية مستوىً خطيرا، فإنه أوْلى الاهتمام بترحيل ذوي الخوذ البيضاء، وقدّر لإسرائيل "تدخلها في مناطق العمليات العسكرية لإنقاذ أرواح عائلات سورية".
إنقاذ حياة 800 متطوع سوري مبادرة إنسانية تستحق التقدير، لكنها ناقصة، لأن الولايات المتحدة كانت تستطيع ذلك بإبقائهم في بلدهم من خلال الضغط على سلطات الانتداب الروسي، وكان في وسع القوى العظمى أن توقف عربدة الروس في سورية، وتمنع التهجير نحو إدلب التي تحولت إلى قلعة لجبهة النصرة.
إن استقالة المجتمع الدولي من مسؤوليته في سورية، وتخليه عن السوريين بهذا الشكل، هو بمثابة رميهم إلى "داعش" وجبهة النصرة وبشار الأسد، من دون أي خيار آخر. وذلك في وقت تبقى خرافة أمن إسرائيل أولوية كل الأطراف.
وليس مصادفةً أن إسرائيل بدأت منذ عدة أشهر تحرّكا لدى الأوساط المؤثرة في الإدارة الأميركية من أجل إلحاق الجولان نهائيا بها، وانعقد لهذا الغرض مؤتمر في مجلس النواب الأميركي، الأسبوع الماضي، بمبادرة من رئيس المركز "الأورشليمي" الإسرائيلي لشؤون الدولة والمجتمع، دوري غولد، المقرب من رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وعضو الكونغرس عن الحزب الجمهوري، رون ديسانتس، وطالب المشاركون فيه الإدارة الأميركية بـ"الاعتراف بسيادة إسرائيل على هضبة الجولان". وجاء هذا المؤتمر في إطار النشاطات التي يبذلها اللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة لهذه الغاية، من خلال التأكيد على "ضرورة تعزيز أمن إسرائيل". وقال دوري غولد، في كلمته، إن وجود إدارة في واشنطن تتفهم احتياجات إسرائيل الأمنية، يستدعي توجيه رسالةٍ إلى العرب والعالم، مفادها أن الولايات المتحدة تقف إلى جانب إسرائيل، وتعزيز مكانتها الإقليمية. فيما قال ديسانتس إنه بعد ما جرى في سورية في السنوات السبع الأخيرة "يكون من الجنون تصوّر أن تعود هضبة الجولان إلى سيطرة الرئيس بشار الأسد".
في هذا الوقت، تتوالى أخبار قتل الناشطين السلميين في سجون الأسد. ولا يخلو التوقيت من دلالة، خصوصا أن كل الذين يعلن النظام عنهم هم شباب التنسيقيات السلمية الذين عرفوا باسم ناشطي الورد، مثل يحيى شربجي وشقيقه معن، اللذين تلقت عائلتهما خبر موتهما تحت التعذيب يوم الإثنين الماضي.
يوم هزمت ميليشيا «حزب الله» فصائل «الجيش الحر» و«جبهة النصرة» في بلدة القصير السورية الحدودية مع لبنان، ربيع عام 2013 اشتعلت الاحتفالات في بيئة الحزب في كل أنحاء لبنان. كانت المسيرات السيارة والمفرقعات الكثيفة أمارة على أن «زمن الانتصارات» الذي وعد به الأمين العام للحزب حسن نصر الله، زمن حقيقي وليس نفخاً في الهواء، وأن الدور الإقليمي لهذه الجماعة اللبنانية في تقرير مصير المشرق العربي، وربما أبعد، حقيقي، ويُقزم الأثمان التي تدفعها الجماعة من الأرواح والأموال.
لم تكن الصورة كذلك يوم استرداد درعا خلال الأسبوعين الماضيين. صحيح أن من دخلها هو جيش الأسد برعاية روسية وترحيب إسرائيلي علني، وصحيح أن الجغرافيا السياسية للمنطقة بوصفها خط تماس بين إسرائيل وإيران تمنع الحضور المباشر للحزب في المعركة، لكن ذلك لا يفسر غياب أي احتفالية عن رفع علم سوريا الأسد في مهد الثورة السورية التي أطلقها صبية درعا بكتابات عفوية على الجدران...
انتصار الأسد في درعا مر في بيروت. هو مر بلا أدنى شك على من راهن على انتصار الثورة ثم شاهدها ترتطم بأرض الوقائع الجيوسياسية في المشرق، وعاين كيف يمكن أن تمزق بلاد بأهلها وأرضها، ويحترق البلد ويبقى الأسد؛ بحسب قول شهير في الثقافة الأسدية. خسر الفريق السيادي الرهان على الحرب في سوريا، وعليه الآن أن يتأقلم مع بقاء الأسد، ولو ضمن تركيبة جديدة في سوريا مختلفة عن كل ما خبرناه نحن اللبنانيين منذ مارس (آذار) 1971.
في المقابل خسر، بين اللبنانيين، من راهن على استعادة سوريا الأسد بدورها القديم وتموضعها السابق ضمن محور المقاومة. استعادة درعا مرة على من يعاين التنسيق الإسرائيلي - السوري غير المباشر، ويتأكد كل لحظة من رحابة الصدر الروسية في تفهم هواجس بنيامين نتنياهو، على حساب أحلام طهران في توحيد الجبهة أو خط التماس الإسرائيلي - المشرقي من جنوب لبنان إلى الجولان.
في لبنان خاسران، ولو تلهى كل واحد منهما بحسابات وبهلوانيات رياضية ترجح كفته على الآخر. فأياً كانت حصص كل منهما في سوريا، فهي لا تقارن بحجم استثماراتهما خلال 7 سنوات من عمر الحرب.
الخاسر الأول؛ أي الفريق السيادي اللبناني، سيراهن بلا ضمانات كثيرة على الحماية الروسية له ولمصالحه، وأن يكون فلاديمير بوتين هو الحاجز في وجه أحلام العودة السورية إلى لبنان، وهي بدأت، في مخيلات بعض اللبنانيين قبل السوريين.
أولى علامات هذا المسار الصعب ملف النازحين السوريين في لبنان الذي يستغله حلفاء سوريا لفرض التطبيع بين بيروت ودمشق، ما حدا برئيس الحكومة المكلف سعد الحريري، إلى إيجاد إطار لبناني - روسي مشترك لمعالجة الملف درءاً لإطار لبناني - سوري يضغط باتجاهه خصومه. قريباً سيتحرك الملف الاقتصادي بين البلدين، وسيعمل خصوم الفريق السيادي على التذرع بمصالح حقيقية للمزارعين والتجار اللبنانيين، من أجل فرض التطبيع المنشود، وستزداد صعوبة مقاومة هذا الضغط. سيلي ذلك ملف إعمار سوريا، وهو ما ستلوح به دمشق لأصحاب المصالح الكثيرة والكبيرة في لبنان، لمزيد من تآكل مرتكزات الممانعة للتطبيع مع سوريا الأسد.
الخاسر الثاني؛ أي «حزب الله»، قد يبدو لوهلة أقل خسارة بسبب نجاة الأسد، لكنه فريق يشبه ما حصل له تماماً ما حصل لحافظ الأسد في العلاقة مع الخميني... فخلال اجتياح إسرائيل للبنان صيف 1982، حرص الأسد على ألا يقبل بأي دور لـ«الحرس الثوري» الإيراني في المواجهة، رغم عروض متكررة من الخميني في هذا الاتجاه. ثم عاد وقبل حين تجاوزت إسرائيل خطوطاً متفاهماً عليها ضمناً مع الأسد. دخل «الحرس الثوري» جنوب لبنان، وخلال سنة أثبت عبر تفجيري؛ السفارة الأميركية في بيروت (أبريل/ نيسان 1983)، ومقر المارينز (أكتوبر/ تشرين الأول 1983)، أنه لاعب مختلف بأدواته ومشروعه وقدراته... وما هي إلا سنتان حتى دارت الحرب السورية - الإيرانية غير المباشرة عبر اللبنانيين الشيعة، وانتهت بانتصار إيران في لبنان... استنجد الأسد الأب بالخميني فانتهى وريثه الأسد الابن ورقة بين أوراق إيران. واستنجد وريث الخميني، علي خامنئي بروسيا، وها هو يعاين الحدود الضيقة لتعريف المصالح المشتركة بين طهران وموسكو، والضوابط الضخمة على مشروعه الأوسع في مواجهة إسرائيل. كما الخاسر الأول؛ يراهن الخاسر الثاني على كرم أخلاق بوتين. ستعض إيران وميليشياتها على جراحها وهي تهان يومياً في سوريا عبر الضربات الإسرائيلية المتفاهم عليها مع موسكو، والتي تمتد، بالمناسبة، من شرق سوريا على الحدود مع العراق، إلى وسطها... إلى غربها على الحدود مع لبنان.
وسيدخل الخاسران في لعبة انتظار جديدة؛ الأول ينتظر أن تتبلور ظروف تحيل الأسد إلى التقاعد ليحصل عبر السياسة الدولية على ما لم يحصل عليه عبر ثورة السوريين. وينتظر الثاني في ما تيسر له من بقعة داخل سوريا أملاً باهتزاز المغامرة الروسية، ورهاناً على أن ساعة طهران أبطأ من ساعة موسكو في ما يخص التحديات التي تواجه كلاً من البلدين. بين الانتظارين بلد صغير معلق على حافة الهاوية.
ورقة الإفراج عن الحكومة اللبنانية لم تعد ثمينة، فلا واشنطن راغبة في مكافأة حزب الله على سياسة التعطيل، ولا الدول الأوروبية قادرة على التدخل بين واشنطن وطهران.
منذ الانتخابات النيابية في 6 مايو هذا العام بدأت الاستعدادات لتشكيل الحكومة اللبنانية، فجرى تكليف الرئيس سعد الحريري برئاسة الحكومة على أن يشكلها بالتشاور مع رئيس الجمهورية كما يقرّ الدستور، لكن الحكومة بعد مرور أقل من 3 أشهر على الانتخابات لم يتم تشكيلها وبقيت معلقة من دون أن تتضح فرص الاتفاق عليها في المدى القريب، لا سيما أن الظاهر من العقدة هو اختلاف القوى السياسية على حصص كل فريق فيها، حيث يجري التداول بثلاث عقد هي محل خلاف، هي ما يسمّى العقدة الدرزية والعقدة المسيحية والعقدة السنية.
المتابعون لمراحل تشكيل الحكومات في لبنان خلال العقد الأخير، أي مع مرحلة تعاظم النفوذ الإيراني في لبنان وسيطرة حزب الله على معظم مفاصل الدولة، أقروا بأن لبنان بات يشهد أزمة مع كل الحكومات التي تشكلت خلال هذه المدة، ولم تكن تُحل هذه العقد إلا بعد تدخلات خارجية كانت نتيجتها تقديم إيران من خلال حزب الله عملية الإفراج عن الحكومة، كورقة ترضية في لعبة المساومات الإقليمية والدولية.
ثمة تشابه بين أزمة تشكيل الحكومة في العراق وأزمتها في لبنان. الجوهر الظاهر للعقد هو الخلاف على الحصص ومشاورات مستمرة لا تصل إلى نتيجة، الانتخابات النيابية جرت في توقيت واحد أي مطلع مايو، ونجح حلفاء إيران أو القريبين منها في تحقيق الفوز وحصد الأكثرية، ولم يخف قائد فيلق القدس، قاسم سليماني، مشاعر الانتصار عندما أعلن أن حزب الله حقق الفوز في 74 مقعدا من أصل 128 في لبنان، وهو بذلك كان يصرّح بطريقة مباشرة عمّا يعتقده من حلف سياسي يضم حزب رئيس الجمهورية وحزب رئيس البرلمان وغيرهما من النواب هم من المنضوين في الحلف السياسي الذي يقوده حزب الله وبالتالي إيران.
مقتضى الحال، وفي الشكل على الأقل، أن حزب الله في لبنان قادر على فرض تشكيل الحكومة، إذا ما كان تشكيل الحكومة حاجة ملحة في حساباته السياسية، والتي يشكل البعد الإقليمي العنصر الحيوي في حساباته على هذا الصعيد، لكن من الواضح أنه لا يصب جهوده في هذا المنحى، بل يساهم في فتح البازار الحكومي مدركا، كما الآخرين، أنه هو من يملك صفارة إعلان نهاية البازار أو تمديد الوقت إلى ما يشاء، طالما أن لا مادة في الدستور تحدد وقتا لا يجوز تخطيه في تشكيل الحكومات. وكما أظهرت الحكومات السابقة بأن حزب الله هو كذلك، فإن بقاء لبنان بلا رئيس للجمهورية لمدة عامين ونصف أي منذ منتصف العام 2014 حتى نهاية 2016 هو وقائع تثبتُ أن عملية تعطيل الحكم في البلاد والقدرة على إدارتها هما بيد حزب الله. ولكن ماذا تريد إيران من خلال عدم البتّ في تشكيل الحكومة في لبنان وفي العراق كذلك، وما هي الأهداف التي تتوخاها من تأخير إعلانها بعد حلّ العقد؟
إيران أعلنت أنها تسيطر على أربع عواصم عربية في تصريحات معروفة لدى الجميع، لكن هذه السيطرة باتت عرضة لاهتزازات ومخاطر جدية، تبدأ من اليمن ولا تنتهي في دمشق أو بغداد، فتراجع دور الحوثيين في اليمن وتقدم القوى الشرعية بدعم من التحالف العربي، واكبتهما تحولات في سوريا ليست لصالح إيران على الأقل، فالتفاهم الروسي الأميركي بمشاركة إسرائيلية فاعلة جعل إيران في موقع متراجع في المعادلة السورية لم تتضح معالمه المستقبلية بعد، لكن بات معروفا أن الكلمة الأولى والأخيرة في سوريا هي روسية وشرط استمرار ذلك هو تراجع الدور الإيراني.
ليس هذا حال إيران في دمشق وصنعاء، بل يتعداه إلى بغداد وبيروت وإن كان النفوذ الإيراني في العاصمتين الأخيرتين مازال متماسكا، لكنه عرضة لتراجع مستمر، بعدما اتخذ الرئيس الأميركي دونالد ترامب قرار المواجهة مع النفوذ الإيراني سعيا إلى تحجيمه، منذ أن أعلن عن إلغاء الاتفاق النووي مع إيران من جانب واشنطن، ونجح إلى حد بعيد في تجويفه دوليا، إثر رفع سيف العقوبات على الشركات التي تقيم أي علاقات تجارية مع طهران. المشهد العراقي والذي نجحت إيران في التحكم بمفاصله المؤثرة، يبقى عرضة لتحولات كبيرة في أي لحظة تبدو فيها إيران أمام انتكاسات استراتيجية في عواصم عربية أخرى، ولبنان ليس أفضل حالا من العراق على هذا الصعيد، وإن كانت طهران تملك من الأوراق ما يتيح لها مقايضة إسرائيل على استمرار نفوذها بمزيد من حفظ الاستقرار على الحدود ومنع حصول أي فوضى على هذه الحدود.
تشكيل الحكومة اللبنانية يندرج في السياقات الإقليمية التي تسعى إيران إلى تعديل مساراتها، لكنها تدرك أن ورقة الإفراج عن الحكومة اللبنانية لم تعد ثمينة، فلا واشنطن راغبة في مكافأة حزب الله على سياسة التعطيل، ولا الدول الأوروبية قادرة على أن تدخل كلاعب بشروط فاعلة بين واشنطن وطهران، ولا الدول العربية في وارد شراء هذه الورقة التي أثبتت سابقا أنها ساهمت في تعزيز النفوذ الإيراني في بيروت.
البحث عن مشتر هو ما يعطّل تشكيل الحكومة اللبنانية، لكن لا يبدو أن ما تعرضه إيران يغري الأطراف الإقليمية أو الدولية في الشراء، فيما اللبنانيون الغارقون في أزمات تلامس وجود للدولة يدركون أنهم في قفص حزب الله، وهذا القفص لم يعد الخروج منه ممكنا لمن هم في داخله، لذا يراقبون كيف تسير أحوال “القفص السوري” إذ لم يعد الخروج من القفص هو المبتغى بل إعادة ترتيب شروط العيش فيه بما يحول دون الاختناق أو الموت السريع.