رسائل المجرم الوقح
لم يعد هناك داعٍ للتمويه، لا أحد يسأل أو يحاسب، والضوء الأخضر الذي كان خافتاً، أصبح ساطعا جلياً يقول: اقتل ما شئت من السوريين، ودمّر ما أردت من القرى والمدن. هذا لسان حال الوضع السوري، بعد التكالب العالمي على الثورة التي كانت يوماً أملاً، وبيعها في سوق النخاسة الدولي، لمصلحة النظام وروسيا وإيران. لم يعد أحد يسأل عن الجريمة المستمرة، والتي يتكشف المزيد من فصولها يوما بعد يوم، الصمت هو سيد الموقف. لا يقف الأمر عند القصف اليومي للمناطق القليلة التي لا تزال خارجةً عن الطاعة، ولا تهديد أخرى بحرائق مدمرة، بل تعداه إلى الإعلان، بوقاحة وفجاجة، عن مزيد من القتلى، سقطوا تحت التعذيب في سجون النظام. إعلان لم يكن ليصدر لو أن النظام ليس مطمئنا بشكل كامل إلى وضعه السياسي، وإلى أن أحداً في ما كان يسمى "المجتمع الدولي" سيكترث للأرقام أو الأسماء التي سيكشف عنها.
هذا ما اتضح للنظام من التسريب الأول لأسماء المعتقلين القتلى في السجون. كان الأمر يحدث بشكل صامت، من يرد أن يعرف مصير ابنه أو قريبه المعتقل، فما عليه إلا أن يتوجه إلى دائرة الأحوال المدنية، لاستخراج بيان عائلي، يفيد ما إذا كان الشخص حيّا أو ميتاً. عشرات أسماء القتلى خرجت إلى العلن، ورد الفعل كان خافتاً، وهو ما دفع النظام إلى المزيد قبل أيّام، حين عمد إلى تسريب أسماء ألف شاب من داريا، قتلوا تحت التعذيب في السجون. ولَم يكن التسريب اعتباطياً، بل من الواضح أن النظام اختار داريا عن قصد، وهي التي قدّمت النموذج المثالي للسلمية في السنة الأولى من الثورة، غير أنها ووجهت بالقمع والقتل. الرسالة المقصودة من التسريب موجهة للسوريين الذين لا يزال يحدوهم أمل بالتغيير، بالوسائل غير العسكرية، أو الدخول في نشاطات سياسية تحمل نفساً معارضاً في محاولة للإصلاح من الداخل، أو ميل الحد الأدنى من الحقوق. وهؤلاء ليسوا قلة، فسوريون كثيرون انخرطوا في الثورة في أيامها الأولى، باعتبارها أنموذجاً مماثلا لما حدث في مصر وتونس، عادوا وانسحبوا، مع تحوّلها إلى السلاح ودخولها في دوامة الحرب. الرسالة إلى هؤلاء أن هذا المصير هو الذي ينتظركم في حال سوّلت لكم أنفسكم التفكير مجدّدا بإمكان الخروج على النظام، ولو بالكلمة أو الوردة التي كان يحملها غياث مطر ويوزّعها على الجنود في بداية الثورة، قبل أن يُرسَل أشلاءً إلى أهله.
وصلت رسائل المجرم الوقح إلى السوريين، إلى السويداء، والتي حاولت أن تحيّد نفسها عن الأحداث طوال الأزمة، وقلما انخرطت في النشاط المعارض، ورفضت أيضا الوقوف إلى جانب النظام وإيفاد أبنائها إلى الجيش للمشاركة في المقتلة السورية، غير أن ذلك لم يجنبها البطش عبر المجزرة الداعشية، والتي ما كانت لتحصل من دون إخراج النظام معظم قواته من المحافظة، وتغاضيه عن قوافل "داعش" المتوجهة إليها، وربما عبر خطوط تواصل مباشرة وغير مباشرة مع هذا التشكيل الإرهابي. وتقول الرسالة أيضا إنه لا مكان للحياد في الوضع السوري، فإما مع النظام وحلفائه بشكل كامل أو تكون ضده فيكون لك نصيبك من تلقي الإجرام بأشكاله المتعدّدة، وهذا ما حصل مع السويداء.
يسعى النظام في رسائله، بأشكاله المتعدّدة، إلى أن يعلن أنه خرج منتصراً من الحرب السورية، وأن بطشه الجديد سيؤمن له مزيداً من الاستمرارية، وخصوصا أنه ما عاد هناك من يحاسب أو يكترث لما يحصل على الأرض السورية، غير أن هذا قد يكون مؤقتاً، وإلى حين يطول أو يقصر، فكل الجرائم والمآسي التي خلفها في آلاف المنازل السورية ستبقى جمراً تحت الرماد، ليعود إلى الانفجار مجدّداً في وجهه، وربما بأشكال مختلفة.