للوهلة الأولى حين تتابع ما يروجه الإعلام الروسي من أكاذيب، تشعر أن أحداً لم يبق في إدلب، وأنهم جميعاً خرجوا بالآلاف باتجاه معابر روسيا "الإنسانية" التي تزعم فتحها أمام المدنيين للعودة لمناطق سيطرة النظام لاسيما مؤخراً باتجاه منطقة شرقي سكة الحديد.
ليست المرة الأولى التي تروج فيها روسيا لإنسانيتها المصطنعة، وليست الرسالة لنا نحن كمدنيين في الداخل السوري، بل هي رسالة سياسية توجهها للمجتمع الدولي بأنها روسيا "حمامة السلام" وبعد أن قضت على "الإرهاب" بحسب مزاعمها، بدأت تعيد المدنيين لديارهم ومنازلهم عبر معابرها "الإنسانية".
هذا ماترمي إليه روسيا من وراء كل هذا الزخم الإعلامي في كل مرة تعلن فيها عن افتتاح معابر إنسانية لعودة المدنيين، وهذه هي الصورة التي يروجها إعلامها دوماً، ولكن الحقيقة على أرض الواقع مخالفة تماماً لما يروج، وكيف يعود من دمر بيته وقتل أبنائه واعتقل أقربائه وذاق الويلات من الموت اليومي تحت حمم قذائف طائرات روسيا وحلفائها.
من عايش المشهد الدموي ومافعلته روسيا بحق مئات الألاف من المدنيين في شرقي سكة الحديد يدرك تماماً أن من خرج من هذه الأرض هارباً من الموت والجحيم الذي مارسته روسيا لايمكن أن يعود إليها إلا بعد رحيل المحتلين الجدد.
ووقوفاً على مزاعم روسيا قام عدد من نشطاء إدلب بالتوجه إلى معبر تل الطوكان القريب من منطقة أبو الظهور، حيث تزعم روسيا عبور الألاف يومياً، كان المشهد واضحاً إذ لا أحد في المعبر، والمنطقة شبه خالية إلا من بضع المدنيين.
حالة الخوف الكبيرة التي عبر عنها قاطنو المنطقة الشرقية من مغبة العودة لمناطق النظام عبر هذه المعابر جراء ما تمارسه ميليشياتها من عمليات اعتقال وتشليح لكل من يرغب بالعودة، حيث تجبر من أراد الدخول لتلك المناطق على دفع مبالغ مالية كبيرة على كل فرد يدخل وعلى السيارات وحتى على رؤوس الماشية في عملية استغلال كبيرة.
عشرات المخيمات باتت تغص بألاف المهجرين من منطقة شرقي سكة الحديد، يرفضون العودة لمناطق سيطرة النظام وروسيا إلا بعد خروج الأخير منها، لإدراكهم المصير الذي سيواجهون هناك من اعتقال وتضييق على يد ميليشياتها، هذا عدا عن منازلهم التي دمرت وممتلكاتهم التي سرقت بكل مافيها، وكيف يعودون وأرضهم محتلة ممن هجرهم وكان سبباً في معاناتهم وتشريدهم.
تحدث العم فيلمون بدر، وهو أحد أساتذتي في هذه الحياة، عن أسباب الذهول. كان جالساً، بمحض المصادفة، أمام شاشة التلفاز، في اليوم الأول من شهر أغسطس (آب)، قبل سنتين، فشاهد وريثَ حافظ الأسد يلقي خطاباً يخاطبُ فيه القوات المسلحة السورية التي تمكّنت، خلال زمن قياسي، من تحويل سورية إلى "خرابة"، فقال، مخاطباً الجنودَ القَتَلة: لقد أذهلتم العالم.
لا يجيد أستاذي، العم فيلمون، استخدام وسائل "السوشيال ميديا". متعتُه الأساسية تتلخص بأن يتسلح بجهاز الـ "روموت كونترول" الذي يسميه (أبو 600 طقة)، لأن جهاز الساتلايت المركّب على تلفزيونه يأتي بـ 600 محطة فضائية، ويبدأ بالتقليب. لذلك أزعجته عبارة الوريث بشار الموجهة إلى الجنود في عيد الجيش، وراح يقلب المحطات، وإذا بالخطبة نفسها منقولة مباشرة على أكثر من قناة، فاغتاظ، وكبس على زر إيقاف التشغيل.. وجلس يفكر.
قال لنفسه إن المرحوم والده قد فوّت عليه فرصة نادرة، فلو أنه سمح له أن يتطوّع في الجيش لكان اليومَ برتبة لواء، ولكان استطاع الآن أن يوجه رسالة "خَصّ نَصّ" إلى الضباط الكبار في جيوش العالم، ويوضح لهم ما يعرفه عن أسباب الذهول التي تحدّث عنها الوريث بشار الأسد.
السبب الأول، أن الجيش المعني بالكلام احتلتْ إسرائيلُ محافظةً كاملةً من بلاده، القنيطرة، وتغاضى عن مواجهة هذا الاحتلال قرابة نصف قرن.. يعني أنه أذهل العالم بـ صَبْرِهِ.
السبب الثاني: إنه جيش محترف، قيل له إن عدوه الأول إسرائيل، وأرسلوه لإبادة البلاد المُلقى عليه عبءُ حمايتها، وهو يظن نفسه أنه يقاتل إسرائيليين متنكّرين. أذهل هذا الجيشُ العالمَ ببصيرته الثاقبة.
السبب الثالث: أنه أطلق على إسرائيل، في حروبٍ ثلاث خاضها ضدها في 1967 و1973 و1982 صاروخاً واحداً (أرض – أرض) لم يُصب هدفه.. بينما يُطلق على مدن بلاده وقراها عشرات الصواريخ ويصيبها. أذهل العالم.. بحنانه على.. إسرائيل.
السبب الرابع: الجيش الذي أذهل العالم، بقيادة الوريث، كان يقوده والدُ الوريث، وخاض به ثلاث حروب ضد إسرائيل، انسحب في أولها 1967 بلا قيد أو شرط. وفي الثانية 1973 هزمته سيدةٌ لا تتفوق على دمامتها إلا براعتُها في القيادة. كما خسر في الثالثة 1982 مائة طائرة مقاتلة خلال أيام قليلة، وهو الطيار الذي كان قائداً للقوى الجوية قبل أن يستولي على وزارة الدفاع، ثم على رئاسة الدولة، ليصبح قائداً عاماً. فكيف لا يذهل العالم بخططه القتالية الجوية المحكمة؟
السبب الخامس: جيش تَعرَّض أكثرُ أهدافه الاستراتيجية أهميةً، الواقع على ضفة الفرات بالقرب من مدينة دير الزور، للتدمير من الجو، ثم تلقَّى غاراتٍ إسرائيليةٍ على أهدافٍ "أقل أهميةً" في الأشهر الأخيرة، فتخاذل لانهماكه بتدمير مدن سورية وبلداتها وقراها. فكيف لا يذهل العالم، بتخاذله وتدميره لمدنه؟
السبب السادس: جيش يرضى ضباطُه وجنودُه، وهم عسكريون محترفون، بأن يقودهم طبيب عيون، بلا بصيرة.. والدليل أنه أخذهم إلى مجموعةٍ من المدن والقرى المنتشرة على ضفتي نهر العاصي بقلب سورية، متوهماً، وموهِماً جيشَهُ أنه يقاتل لاستعادة جسر بنات يعقوب على نهر الأردن الذي احتلته إسرائيل منذ 1967 إلى هذه الساعة. فكيف لا يُذهل العالم ببوصلته السديدة؟
السبب السابع: أما ما أذهل العم فيلمون بدر شخصياً من قدرة جنود الوريث على اجتراح العجائب، فإنه يعود إلى صورةٍ تناقلتها وسائل الإعلام، لجندي من المُذْهِلين، استطاع وضع حمولة شاحنة سوزوكي من اللوازم التي نهبها في حمص، على درّاجةٍ ناريةٍ مسروقة بلا ريب، محققاً إنجازاً ملموساً يُبْرز مقدرة جيش المذهلين على تقليد كبار اللصوص الذين جاء بهم انقلاب السادس عشر من تشرين الثاني 1970، فاستملكوا سورية كلها، من أجل نهبها، بذريعة إعادة توزيع الثروة الوطنية.
لم يعد هناك داعٍ للتمويه، لا أحد يسأل أو يحاسب، والضوء الأخضر الذي كان خافتاً، أصبح ساطعا جلياً يقول: اقتل ما شئت من السوريين، ودمّر ما أردت من القرى والمدن. هذا لسان حال الوضع السوري، بعد التكالب العالمي على الثورة التي كانت يوماً أملاً، وبيعها في سوق النخاسة الدولي، لمصلحة النظام وروسيا وإيران. لم يعد أحد يسأل عن الجريمة المستمرة، والتي يتكشف المزيد من فصولها يوما بعد يوم، الصمت هو سيد الموقف. لا يقف الأمر عند القصف اليومي للمناطق القليلة التي لا تزال خارجةً عن الطاعة، ولا تهديد أخرى بحرائق مدمرة، بل تعداه إلى الإعلان، بوقاحة وفجاجة، عن مزيد من القتلى، سقطوا تحت التعذيب في سجون النظام. إعلان لم يكن ليصدر لو أن النظام ليس مطمئنا بشكل كامل إلى وضعه السياسي، وإلى أن أحداً في ما كان يسمى "المجتمع الدولي" سيكترث للأرقام أو الأسماء التي سيكشف عنها.
هذا ما اتضح للنظام من التسريب الأول لأسماء المعتقلين القتلى في السجون. كان الأمر يحدث بشكل صامت، من يرد أن يعرف مصير ابنه أو قريبه المعتقل، فما عليه إلا أن يتوجه إلى دائرة الأحوال المدنية، لاستخراج بيان عائلي، يفيد ما إذا كان الشخص حيّا أو ميتاً. عشرات أسماء القتلى خرجت إلى العلن، ورد الفعل كان خافتاً، وهو ما دفع النظام إلى المزيد قبل أيّام، حين عمد إلى تسريب أسماء ألف شاب من داريا، قتلوا تحت التعذيب في السجون. ولَم يكن التسريب اعتباطياً، بل من الواضح أن النظام اختار داريا عن قصد، وهي التي قدّمت النموذج المثالي للسلمية في السنة الأولى من الثورة، غير أنها ووجهت بالقمع والقتل. الرسالة المقصودة من التسريب موجهة للسوريين الذين لا يزال يحدوهم أمل بالتغيير، بالوسائل غير العسكرية، أو الدخول في نشاطات سياسية تحمل نفساً معارضاً في محاولة للإصلاح من الداخل، أو ميل الحد الأدنى من الحقوق. وهؤلاء ليسوا قلة، فسوريون كثيرون انخرطوا في الثورة في أيامها الأولى، باعتبارها أنموذجاً مماثلا لما حدث في مصر وتونس، عادوا وانسحبوا، مع تحوّلها إلى السلاح ودخولها في دوامة الحرب. الرسالة إلى هؤلاء أن هذا المصير هو الذي ينتظركم في حال سوّلت لكم أنفسكم التفكير مجدّدا بإمكان الخروج على النظام، ولو بالكلمة أو الوردة التي كان يحملها غياث مطر ويوزّعها على الجنود في بداية الثورة، قبل أن يُرسَل أشلاءً إلى أهله.
وصلت رسائل المجرم الوقح إلى السوريين، إلى السويداء، والتي حاولت أن تحيّد نفسها عن الأحداث طوال الأزمة، وقلما انخرطت في النشاط المعارض، ورفضت أيضا الوقوف إلى جانب النظام وإيفاد أبنائها إلى الجيش للمشاركة في المقتلة السورية، غير أن ذلك لم يجنبها البطش عبر المجزرة الداعشية، والتي ما كانت لتحصل من دون إخراج النظام معظم قواته من المحافظة، وتغاضيه عن قوافل "داعش" المتوجهة إليها، وربما عبر خطوط تواصل مباشرة وغير مباشرة مع هذا التشكيل الإرهابي. وتقول الرسالة أيضا إنه لا مكان للحياد في الوضع السوري، فإما مع النظام وحلفائه بشكل كامل أو تكون ضده فيكون لك نصيبك من تلقي الإجرام بأشكاله المتعدّدة، وهذا ما حصل مع السويداء.
يسعى النظام في رسائله، بأشكاله المتعدّدة، إلى أن يعلن أنه خرج منتصراً من الحرب السورية، وأن بطشه الجديد سيؤمن له مزيداً من الاستمرارية، وخصوصا أنه ما عاد هناك من يحاسب أو يكترث لما يحصل على الأرض السورية، غير أن هذا قد يكون مؤقتاً، وإلى حين يطول أو يقصر، فكل الجرائم والمآسي التي خلفها في آلاف المنازل السورية ستبقى جمراً تحت الرماد، ليعود إلى الانفجار مجدّداً في وجهه، وربما بأشكال مختلفة.
في مقالة مطوّلةٍ تحت عنوان «مواجهة سلوك إيران العدواني... لا استرضاؤه» نُشِرت في هذه الصحيفة، يوم الاثنين الماضي، تحدَّث سفير المملكة العربية السعودية في واشنطن الأمير خالد بن سلمان عن الفرق الكبير بين محاولات استرضاء النظام الإيراني التي نتج عنها «الاتفاق النووي» المشؤوم، وما تراه السعودية من ضرورة مواجهة إيران، وأنه لا حل حقيقيّاً دون هذه المواجهة.
المقالة الرصينة شرحت الموقف الرسمي للسعودية وحلفائها في المنطقة من سلوك إيران بجميع الأبعاد التاريخية والسياسية والاقتصادية والتنموية، بما لا يدع مجالاً لأي باحثٍ جادٍ في الغرب أو الشرق لتجاوزها وعدم الوقوف على التفاصيل والمعلومات والحقائق والتحليلات التي احتوتها.
نشر هذه المقالة في هذا التوقيت له أهمية خاصة؛ فالإدارة الأميركية الحالية والرئيس ترمب مقتنعون تماماً بسياسة السعودية وتوجهها تجاه إيران، وبعض الدول الأوروبية طوّرت من مواقفها بعد الضغط الأميركي، وتخلَّت عن ممانعتها السابقة، والنظام الإيراني تحت الضغوط والعقوبات التي تتصاعد بدأ يرسل رسائل ودية لدول الخليج.
إيران تعيش أياماً سيئةً، فالسعودية وحلفاؤها في دول الخليج نهجوا سياسةً قويةً تجاه تدخلات إيران في دول المنطقة، وتحديداً الدول العربية الأربع التي تدخلت إيران في شؤونها الداخلية، وزعمت أنها تسيطر عليها، في اليمن والعراق كما في لبنان وسوريا؛ ففي اليمن هناك «عاصفة الحزم» و«إعادة الأمل»، وكمّاشة الجيش اليمني والتحالف العربي الذي تقوده السعودية تضيق شيئاً فشيئاً من جميع الجبهات على ميليشيا الحوثي الإيرانية، والشعب العراقي ينتفض ضد سياسييه الذين يخدمون السياسة الإيرانية، ويضرون بالدولة العراقية ومصالح الشعب العراقي، وبقدر ما تنساق سوريا ولبنان للميليشيات الإيرانية تهوي في التخلف الحضاري السحيق.
أكثر المظلومين من آيديولوجيا الولي الفقيه في إيران هو الشعب الإيراني نفسه، الشعب الذي بدأت انتفاضاته تتكرر، وتتصاعد مع مرور الوقت، ومع التحديات التي تواجه النظام الإيراني فإن هذه الانتفاضات مرشحةٌ للتصاعد بشكل كبيرٍ في المستقبل القريب، وخصوصاً حين توضع العقوبات الأميركية موضع التنفيذ، وحين يشعر النظام بالاختناق.
ذكّر مقال الأمير خالد بالعديد من الأحداث والمعلومات عن استهداف إيران للقوات الأميركية في لبنان الثمانينات، والخبر السعودية في التسعينات، وعراق ما بعد 2003، كما ذكّر برعاية إيران للإرهاب بشقيه السني والشيعي في المنطقة والعالم، بوقائع وأرقام لا تحتمل الجدل، وهو ما درجت عليه السعودية الجديدة في قرارها الصارم لمواجهة شرور النظام الإيراني، وهو ما تجدده المقالة بشكل صارم.
المقارنة بين السعودية وإيران هي لصالح السعودية في جميع المجالات، هذا أمر لا جدال فيه، بل إنه من الخطأ المقارنة من الأساس، فإيران ليست نداً للسعودية بحالٍ، كما صرّح بذلك ولي العهد السعودي أكثر من مرةٍ، ومن المهم تكرار عرض الحقائق أمام الرأي العام الدولي والإقليمي والعربي بشتى الأساليب ومختلف الطرق، حتى تترسخ الحقائق ويعلم الجميع مواضع قراراتهم ومستقبل سياساتهم.
يجدر التنويه في هذا السياق إلى أن لإيران حلفاء كباراً في المنطقة من دولٍ وجماعاتٍ وأحزاب وتياراتٍ تمثل العمق الحقيقي للإرهاب والدمار والفوضى في المنطقة والعالم، ويشملهم جميعاً المشروع الأصولي الإخواني الإرهابي، الذي تدعمه دولتان محددتان هما تركيا وقطر، وتمثله جماعة الإخوان المسلمين الأم وجميع فروعها، وكذلك كل جماعات وتيارات الإسلام السياسي في كل مكانٍ، فهؤلاء يمثلون الجذر الحقيقي للإرهاب، ودون تصنيف جماعة الإخوان المسلمين جماعةً إرهابيةً فإن الإرهاب لن يتوقف ولن ينحسر، ودون توفير بعض الدول الإقليمية ملاذاً آمناً لرموزه وتنظيماته، فإنه سيعاود الانبعاث مراراً وتكراراً.
مواجهة هذا الجذر المؤسس للإرهاب هو أمرٌ ابتدأته السعودية وحلفاؤها في المنطقة، حيث تمّ تصنيف جماعة الإخوان المسلمين جماعةً إرهابيةً في السعودية والإمارات ومصر، قبل سنواتٍ، وهو ما يتم بحثه في أروقة الكونغرس الأميركي، وفي بريطانيا بشكل مختلفٍ عما سبق في هذا الوقت.
صرّح الرئيس ترمب تصريحين مهمين؛ الأول تجاه إيران وتهديداتها الجوفاء ضد أميركا وحلفائها بأم الحروب والتخريب والدمار، محذراً الرئيس روحاني من أن أميركا لن تقبل مثل هذه التهديدات العلنية بعد هذا، ومؤكداً أن إيران إن لم تلتزم فستشهد أحداثاً كبرى لم يشهدها إلا قلة من البشر من قبل، وهو تهديدٌ خطيرٌ سيأخذه صانعو القرار الإيراني مأخذ الجدّ لأنهم لا يريدون سقوط النظام، ولكنهم يسعون للمكابرة وحفظ ماء الوجه، ومن هنا صمت المرشد وصمت الرئيس، واكتفيا بتصريحات «تويترية» لقاسم سليماني.
التصريح الثاني كان باتجاه تركيا، وتهديد ترمب لها بإنهاء قضية القس الأميركي المعتقل بتهمة التعاون مع فتح الله غولن أستاذ إردوغان سابقاً وغريمه لاحقاً، فيما عُرف قبل سنوات قليلة بمحاولة الانقلاب، ومن الطبيعي أن تستجيب تركيا لذلك.
لقد سبقت السعودية أميركا في الموقف الصحيح من سياسات الشرور الإيرانية لأكثر من سببٍ، من أهمها أن السعودية هي الدولة المركزية القوية في المنطقة الواعية بالخطر الإيراني والقادرة على مواجهته، وكذلك لأن الإدارة الأميركية السابقة كانت تميل إلى استرضاء خصوم أميركا وأعدائها لا لمواجهتهم، والإدارة الحالية أعادت أميركا لنفسها ولمصالحها ولحلفائها، وبالتالي اختلف الوضع تماماً.
ذكّرنا مقال الأمير خالد بتصريحات ولي العهد في فرنسا عن محاولات الدول الأوروبية استرضاء هتلر في 1938، في محاولات الاسترضاء وترك المواجهة المستحقة ما أدى للحرب العالمية الثانية، وكان ثمن تأخير المواجهة ملايين الخسائر في البشر والدول والثقافة والاقتصاد في أسوأ حربٍ خاضتها البشرية، والذي يجري اليوم مع إيران هو نفس ما جرى حينذاك.
قادة النظام الإيراني مؤدلجون يؤمنون بالخرافات ويبنون سياساتهم على أساسها، وخطابهم السياسي خطابٌ توسعي يسعى لبسط الهيمنة والنفوذ على الدول العربية تحديداً تحت اسم «تصدير الثورة» عبر الحرب المباشرة في زمن الخميني، وعبر الميليشيات الإرهابية الشيعية والتنظيمات الإرهابية السنية في زمن خامنئي، والمتطرف المؤدلج لا يفهم إلا لغة القوة سواء كان «نازياً» أم «إخوانياً» أم «ولياً للفقيه».
أخيراً، فـ«مجازر الدروز» في سوريا برعاية النظام و«داعش»، و«التعنت الحوثي» في اليمن، وقطع الكهرباء عن الشعب العراقي، والمواجهة الدموية للشعب الإيراني من نظام الولي الفقيه، كلها مفرداتٌ واقعيةٌ اليوم، لها امتداداتها فيما سبق، ولكنها توضح كيف يمكن أن يكون المستقبل.
وكأن الأمر كان بالأمس رغم كل الجراح التي عصفت بنا في السنوات العجاف، حين كنت عاملاً في إحدى المحلات بالعاصمة عمان عام 2011، وأنا الذي أسكن هذه المدينة منذ أربعة عشر عاماً. قرأت خبراً على شاشة التلفاز عن مظاهرات في مدينة درعا، كان المشهد مغايراً، لم نعتد نحن السوريين رؤيته في بلادنا، أعتقد أن آخر مظاهرة خرج بها الشعب السوري كانت ضد الاحتلال الفرنسي؛ ولكن أن نرى مظاهرات مناوئة لحكم البعث؛ إنها قيامة الساعة.
ومن هول المشهد أصبحت أصيح على العجوز "عمي أبو حسين بدنا نرجع لسوريا"، وهو الذي خرج من مدينته حماة عام 1982 بتهمة الانتماء لجماعة الإخوان المسلمين، على الرغم أنه لم يقرب منها. كان يحدثني ذاك العجوز كثيراً عن حماة وسوريا، فلم يكن يمر يوم دون أن يروي لي قصة من قصصه في سوريا والحنين الذي يأسر المرء. لكني تعجبت يومها من ردة فعله، كنتُ متحمساً وربما متأثراً بما حدث في تونس ومصر، إلا أنه لم يعطي أية أهمية للحدث وقال بالحرف قبل أن يعود إلى عمله: (لك عمي الزلمة قوي). وأدلى مرةً أخرى سطلاً من الماء البارد على أشواقه الهائجة. كنت مثله في الحنين، في آخر زيارة لي إلى سوريا في كانون الأول 2009، وبعد أن وصلت إلى قرار نهائي بعدم العودة إلى الوطن مرةً أخرى حتى لا أخدم في الجيش الذي أبغضه منذ صغري وخرجت ولم أعد إلى اليوم. لكن بعد خروجي أصبحت أفكر بشكلٍ شبه يومي وأسأل نفسي متى سأعود وكيف، فلا مفر سوى أن أسلم نفسي للجيش. حين بدأت الثورة السورية شاركت في غالبية الاعتصامات أمام السفارة السورية، وعاد الحلم يتجدد والأمل يكبر، غداً كلنا سنعود. عملت في الكثير من النشاطات، وكنت شاهداً مثل كل السوريين على مذبحة الوطن، وكان الجرح يكبر ولا يندمل وكنا نكبر معه باليوم عشرات السنين بالعذابات والأسى.
لقد كنتُ شاهداً على أول موجة نزوح قدمت إلى القرى الأردنية المحاذية لسوريا، وكنت أحد الشاهدين على افتتاح مخيم الزعتري، كما كنت شاهداً على زوال حكم الأسد من منطقة تلو الأخرى، حتى بات الوطن كالعشب الأخضر يلمع بريقاً، والجماهير في الصباح والمساء تصدح: (يلا إرحل يا بشار). أنا الذي أدمعت عيناه أمام السفارة السورية عندما صدحت مع المعتصمين: (يا حافظ قوم وشوف صرنا نسبك عل مكشوف). وكان حلم العودة إلى الوطن من المنفى يكبر ويكبر، نعم منفى لا غربة، لأني لم أختر العيش خارج الوطن طواعية. وها أنا اليوم كباقي السوريين شاهدٌ على عودة سلطة النظام إلى "مهد الثورة" وها هو الجامع العمري يعود مجدداً إلى المشهد وكأن أحداثه الأولى كانت يوم أمس حقاً. شهدنا خسارة مدينة تلو الأخرى كما كنا شهود على تحريرها. لقد ذرفنا في الأولى دمعاً من السرور، وفي الثانية ألماً.
ها أنا أعود مجدداً إلى ذاك الشعور قبل سبع سنوات، والسؤال ذاته يراودني، متى سأعود وكيف! وأنا أرى من دمر بلدي يرفع رايته فوق جثامينا، ونرى مرتزقته وحلفائه يرفعون إشارات النصر من فوق ركام حضارتنا، وحتى سمائنا أصابها الجفاف. ويؤسفني القول إن قلوب من كان معنا قد انقلبت علينا، اليوم اكتشفنا أن من كنا نرفعه فوق الأكتاف صارخاً: (واحد واحد واحد الشعب السوري واحد)، كان أول من يعود إلى حضن العبودية، لقد اخطأنا توظيف ثقتنا وكنا عاطفيين لدرجة السذاجة ولم نعترف بأخطائنا منذ اليوم الأول.
المشهد اليوم معقد للغاية بطريقة جنونية، أبكي وبكل ما للكلمة من معنى دماً على الثورة والوطن، ولكن لأني أؤمن بالعدالة الإلهية وأؤمن بأن الثورة حق، وأني كنت على الحق، والخوف الذي نزعناه من قلوبنا لن يعود. لأن الأسد سقط منذ سقط الخوف من قلوبنا. فالصيحة التي تنطلق من الحنجرة لا تعود، ونحن من قلنا: (حرية للأبد غصبن عنك يا أسد). الثورة لا تموت وهناك ثكالى ويتامى وجرحى ومقهورين ومعتقلين ومنفيين، ووطنٌ من بابه حتى محرابه مدمر، كله بسبب الأسد وحلفائه الإيرانيين والروس، ومرتزقته الطائفيين. الثورة لا تموت لأن ما بني على الحق سينتصر به، وإن الباطل كان زهوقا، وما النصر صبر ساعة. الثورة لا تموت إلا إذا عاد مشعل تمو وغياث مطر وهاجر الخطيب وزينب الحمصي وغيرهم من ملايين الشهداء. وقتها سأكتب بنفسي نعوة الثورة.
بعد ثلاث سنوات من الحيرة والضياع للسياسة الأميركية التي أعقبت حرب تقويض نظام صدام حسين في العراق، شكَّل الكونغرس، في العام 2006، لجنة لدراسة الحالة الأميركية في العراق.. تضمنت شخصيتين رئيسيتين من الحزبين، الديمقراطي والجمهوري، جيمس بيكر ولي هاملتون، فاشتهرت بلجنة بيكر هاملتون.. اعترف التقرير القصير الذي قدمته اللجنة بنفوذ إيراني في المنطقة، وقال إن هذا النفوذ لا يجب أن يشكل مانعاً للتنسيق معها بشأن العراق، كما تم التنسيق معها بشأن أفغانستان. مرّ التقرير، ولم يفلح في توليد صيغةٍ سياسيةٍ لإصلاح العطب السياسي الأميركي، فزاد النفوذ الإيراني في العراق، حتى أصبح أكبر من النفوذ الأميركي ذاته، وتغوّلت إيران في المنطقة، حتى أصبحت تهدّد بتقييد حركة النفط العالمية المارّة من المجاري المائية المحلية، ليس الخليج العربي فقط، ولكن عبر مضيق باب المندب أيضاً.
لم ينفذ الرئيس الأميركي في حينه، جورج بوش، توصيات اللجنة بالتنسيق مع إيران، ولكن خلفه باراك أوباما فعل، وحصل على ما اعتبره نصراً يتوّج مرحلتيه الرئاسيتين، ويمكن اعتبار الاتفاق النووي من أشكال الاستيعاب الذي لمح إليه التقرير، فكان النفوذ المتزايد من الأعراض الجانبية لهذا الاتفاق، وساعدت فيه حوادث الربيع العربي.
نحَّى الرئيس التالي، دونالد ترامب، كل هذه الملابسات جانباً، وكشَّر عن أنيابه، فقرّر أن يضع حداً لإيران، وكان قد وعد ناخبيه بأنه سيفعل شيئاً حيالها.. ما يرغب ترامب بتحقيقه حلم لذيذ خال من أي تحرّشات إيرانية، وانكفاءٌ فارسي إلى الداخل، مع تعامل ناعم مع شواطئ الخليج.
لا يبدو أن ترامب يملك خطةً لتحويل حلمه الحريري إلى حقيقة سياسية، لكنه أشعل فتيل البداية، بخروجه من الاتفاق النووي، مع جملة من الإجراءات العقابية، توجت بتهديد إيران بحرمانها من بيع نفطها.
ليس هناك رغبة جادة بتغيير النظام الإيراني، ويعرف الأميركان أن تكلفة تغيير القيادات السياسية بطريقة درامية، كالتي حدثت في العراق باهظة التكلفة، ولذلك يرغب ترامب بحرب استنزاف اقتصادية متسارعة ومؤثرة، تبدأ بالحصار، ولديه داعم أساسي في الخليج، يمكن أن يلعب دوراً فاعلاً في حرب النفط، إضافة إلى الضربات التي توجهها إسرائيل، بشكل أسبوعي تقريباً، إلى أهدافٍ إيرانية في سورية، وهجمات التحالف العربي الذي يحارب في اليمن مجموعاتٍ تدعمها إيران، يمكن أن تشكّل زعزعةً للنفوذ الذي تحاول إيران ترسيخه، ويتطلب منها مزيداً من الاعتمادات المالية الضخمة، وصولاً إلى لحظةٍ تقف فيها عاجزة عن التمويل.
لا تضمن هذه السياسات نهاية سريعة للحرب، ولدى إيران هامش يمكنها أن تتحرّك ضمنه لتلافي مضايقاتٍ كثيرة يُحدثها ترامب وتحالفاته، فتستطيع أن تردّ على التهديد بتهديد مقابل، وقد رد قائد فيلق القدس، قاسم سليماني، المتجول في المنطقة على تغريدة ترامب التي قال فيها إنه يمكن أن يعاقب إيران بطريقةٍ لم يشهد التاريخ على شاكلتها كثيراً، وهي تغريدةٌ قد تنفع للاستهلاك المحلي، ليمحو بها آثار زيارته فلاديمير بوتين، التي جرَّت عليه انتقادات حارقة، ردَّ سليماني على التغريدة فقال: "نحن مستعدّون وجاهزون وبالانتظار"، ولدى إيران حضن دافئ في الصين والهند، وفي دول بريكس التي يسعدها أن تعد سياساتٍ مخالفةً لترامب، هذا لا يعني أن إيران تستطيع التحرّك بحرية، لكنه يعني أن المنطقة باقية على مرجلٍ غير مستقر، ويمكن أن يدفع هذا الوضع السياسي المستعصي الكونغرسَ الأميركي إلى تشكيل لجنة على غرار لجنة بيكر هاملتون، تقدِّم كاتالوج حل، أو سلسلة خطواتٍ يقوم بها ترامب، ليخرج من مشكلته مع إيران النهمة لمزيد من النفوذ، وهناك قد يكون لإسرائيل موقف لا يستطيع ترامب اتخاذه، وقد لا يكون بوتين أيضاً قادراً على إيقافه، وهو ضرب النقاط داخل إيران التي تغذّي رؤوس الجسور المبنية في المنطقة، بدل الاكتفاء بضرب رؤوس الجسور فقط، كما تفعل حالياً.
بدأ النظام السوري منذ فترة قريبة بإرسال قوائم لدوائر النفوس بأسماء المعتقلين الذين قضوا في المعتقل بسبب التعذيب أو التجويع أو بقصد جرمي بزرع الأمراض الفتاكة بالمعتقلات لقتلهم دون تقديم أي عناية طبية (وهذه السياسة بالقتل الممنهج عبر الأمراض القاتلة، لدينا الكثير من المؤشرات والشهادات عليها وربما تفوق ببشاعتها ووحشيتها ما جرى في أفران الغاز النازية)، وسيأتي قريباً اليوم الذي تنكشف فيه تفاصيل ما جرى في معتقلات النظام السوري، الأكثر بشاعة في التاريخ.
ولدى منظمات حقوق الإنسان ما يكفي من الشهادات والأدلة والوثائق التي تؤكد على الأقل قتل أكثر من ثلاثة عشر ألف معتقل في المعتقلات موثقين بالأسماء، ولدينا ما يؤكد كذلك أن الرقم الحقيقي للمعتقلين الذين تم قتلهم في المعتقلات يتجاوز رقم الخمسين ألف معتقل، وهذه الحقائق معروفة وجميعنا نطالب وننتظر الكشف عن مصير المعتقلين على الأقل لمنع ابتزاز الأهالي من قبل شبيحة النظام وزبانيته الذي أخذوا أموالاً طائلة من أهالي المعتقلين لمجرد الحصول على خبر بسيط عن مصير المعتقل.
الكشف عن مصير المعتقلين هو أول خطوة في مسار العدالة، وهو أول خطوة للبدء بمسار المحاسبة وقد بذلت وما تزال تُبذل جهود جبارة حتى الآن رغم مرور سنوات كثيرة جداً في دول كثيرة مرت بظروف مشابهة للوضع السوري للبحث عن مصير المعتقلين الذين تم إخفاء مصيرهم ولم تعرف الجهة أو المكان الذي كانوا فيه.
أولى الإيجابيات لهذه الخطوة هي إراحة أهالي المعتقلين ووقف الابتزاز والقلق الذي كانوا يعيشون فيه.
ثانياً هي وثيقة رسمية صادرة عن المجرم باعتراف كامل تؤكد مسؤولية النظام السوري الكاملة عن الاعتقال وعن موت المعتقل مهما كان سبب الوفاة حتى لو كان ذبحة قلبية كما تدعي الوثائق التي فبركها وليس من التعذيب أو القتل العمد كما هو الواقع، فالنظام مسؤول عن عدم تقديم العناية الطبية لمعتقل واحد فكيف بآلاف المعتقلين، وهو مسؤول عن جريمة الإخفاء القسري لفترات طويلة ومسؤول عن حياة المعتقل وسلامته وجريمة إخفاء الجثث وطمس معالم الجرائم، كما أن الكشف عن هذه القوائم بهذا العدد الكبير يؤكد المنهجية والنطاق الواسع للجرائم والمسؤولية الجنائية لكل أركان النظام عنها بما فيها المستوى السياسي والوزاري الذي شارك بها، مما يؤكد أنها جريمة ضد الإنسانية مكتملة الأركان لا يمكن دحضها ولا إنكار مسؤولية كل أركان النظام عنها. يُعزز كل ذلك بشهادات الشهود من الضحايا الناجين وصور ملف «قيصر» التي فضحت هذا الملف الأبشع في الوضع السوري، وخاصة أن جميع المعتقلين الذين تم قتلهم في المعتقلات هم من الناشطين السلميين وتم اعتقالهم وقتلهم في بدايات الثورة السورية وقبل وجود السلاح باعتراف رأس النظام نفسه، مما ينفي أي تهمة إرهاب أو حمل سلاح عنهم، كما أن قتلهم كذلك تم باعتراف الوثائق نفسها في فترات مبكرة من عمر الثورة السورية. كما يفضح أن هذه الفئة بالذات (الناشطين السلميين) هم الفئة المستهدفة بالقتل في المعتقلات وليس الإرهابيين وحملة السلاح الذين أصدر رأس النظام أكثر من ثمانية مراسيم للعفو عنهم.
السؤال لماذا الآن يقدم النظام وثيقة اعتراف بجريمة كاملة الأركان؟ ولماذا يلبي مطالب منظمات حقوق الإنسان بالكشف عن مصير المعتقلين؟
أول الأسباب ربما أنها خطأ تورط فيه النظام ويمكننا الاستفادة منه للدرجة القصوى.
وثانياً ربما بدأ تحريك الملفات لدى القضاء الأوروبي وإصدار مذكرات توقيف بحق عدد من المجرمين المتهمين بالمسؤولية عن جرائم الإخفاء القسري والتعذيب والقتل في المعتقلات وعلى رأسهم جميل الحسن، ما دفع النظام لمحاولة إيجاد غطاء قانوني بموتهم لأسباب طبية (حتماً لن يؤخذ به) للرد قانونياً على الملفات المفتوحة، وربما لسحب ملف المعتقلين من التداول السياسي وخاصة مع قرب اجتماع آستانة والضغط باتجاه وضع ملف المعتقلين أولاً على الطاولة، وقبول روسيا بذلك ومحاولة تشكيل لجان للكشف عن مصير المعتقلين فاستبق هذه الخطوة بالبدء بالكشف عن مصيرهم لقطع الطريق على أي محاولة لذلك، وربما محاولة منه لفتح ملف قضائي بسوريا وإلباس التهمة لبعض رموز الإجرام من ضباطه وعناصره الذين استنفدهم وانتهى دورهم، لمحاولة سحب ملف العدالة من يد القضاء الأوروبي أو الدولي. (وحتماً هذه لن تنجح أبداً لأنه لا يمكن الاعتداد بقضاء مستقل ونزيه قادر على القيام بهذه المهمة في سوريا).
وقد تكون هناك أسباب أخرى وتفسيرات مختلفة ولكن وفي كل الأحوال ومهما كانت الأسباب، فهذه الخطوة لن تؤثر إلا إيجابياً في مسار العدالة الذي بدأ ولن يتوقف حتى محاسبة كل المجرمين ورأس الإجرام بينهم.
ولن يفلح النظام في أي طريقة لتفادي الملاحقة عن الجرائم التي ارتكبها بحق سوريا والسوريين، وهي الخطوة الضرورية على مسار العدالة الشاملة للسوريين، كما أنها إشارة إيجابية إلى أن النظام بدأ يحسب حساباته عن البدء بالمحاسبة عن الجرائم التي ارتكبها والتفكير في محاولة التملص منها أو إيجاد أكباش فداء لرميها في المحرقة.
الجرائم التي ارتكبها النظام السوري بكل أركانه هي أبشع وأشنع جرائم حصلت في التاريخ، وتجاهلها والسماح لمرتكبيها بالإفلات من العقاب سيفتح بوابات جهنم على العالم كله.
يتفق متابعو الوضع السوري في الأعوام الماضية على قول إن الوحشية التي يمارسها النظام السوري في تعامله من السوريين غير مسبوقة في التاريخ المعاصر، بالإضافة إلى ما قام به الإيرانيون وميليشياتهم.
ويستند التوافق السابق على أساس معرفي واسع وكثيف، تتضمنه مئات آلاف التقارير الإخبارية ومثلها تقارير صدرت عن منظمات وهيئات وجماعات حقوقية دولية، وأخرى إقليمية ومحلية، وشهادات لشخصيات عامة مختلفة سورية وأجنبية، تابعت ووثّقت في فترات مختلفة، ما قامت به أجهزة ومؤسسات النظام السوري من أعمال قتل وتعذيب ضد السوريين طوال نحو ثمانية أعوام.
وتواصلت الأعمال الوحشية ضد السوريين عبر مسارين، أولهما مسار العمليات العسكرية بما فيها الهجمات بالأسلحة المحرمة دولياً، التي شارك فيها حلفاء النظام في أغلب المناطق السورية، وأنتجت قتلاً واعتقالاً واسعين في صفوف المدنيين بمن فيهم الأطفال والنساء والشيوخ، ومثالها الأخير ما جرى في الجنوب السوري، وشمل أجزاء واسعة من محافظتي درعا والقنيطرة، وقبلها ما جرى في غوطة دمشق الشرقية في أبريل (نيسان) الماضي، وقد حوّل مدنها وقراها إلى ركام وغالبية سكانها إلى قتلى ومعتقلين.
والمسار الثاني، تمثله عمليات الاعتقال الواسعة، التي تتواصل بصورة رئيسة من قبل أجهزة النظام وميليشياته، وتتبعها عمليات تعذيب في معتقلات المخابرات، والوحدات العسكرية والميليشيات التابعة للنظام، وبصورة أقل لدى قوات وميليشيات حلفائه، ويقدّر عدد السوريين الذين كانوا ضحايا المسار الثاني بأكثر من مائتين وخمسين ألف شخص بينهم أعداد كبيرة من النساء والأطفال والشيوخ.
ورغم أن ما يتم في المسارين من أعمال إجرامية، استهدف سوريّي المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، والتي تمت إعادة السيطرة عليها، فإن بين ضحايا المسارين أعداداً كبيرة من غير المعارضين والثائرين على النظام، بعضهم من «الرماديين» الذين يصنفون أنفسهم خارج المعارضة والثورة، وآخرون من مؤيدي النظام، حيث إن أعمال القتل والاعتقال لا تندرج في سياق الأعمال العاقلة، وتقوم بها أجهزة وأشخاص أعماهم الحقد والضغينة والمصالح الضيقة والأنانية المنتمية إلى نهج الفساد والرشوة والسرقة السائدين في أجهزة النظام ولدى غالبية المتنفذين فيها.
لقد حوّلت الأعمال الإجرامية للنظام وأجهزته وحلفائه، سوريا إلى ميدان قتل معمم، ظاهره العام مذابح وحملات اعتقال واسعة ناتجة عن العمليات العسكرية، والخفيّ منه اعتقالات واختفاءات قسرية، وفي الحالتين تتبع الاعتقالات عمليات تعذيب وإهمالات صحية وتجويع للمعتقلين، تؤدي إلى مقتل عشرات الآلاف منهم في سجون المخابرات وسجون الوحدات العسكرية ومقرات الشبيحة والميليشيات الحليفة، بل إن المشافي التابعة للنظام السوري، أخذت حصتها المباشرة وغير المباشرة في عمليات تعذيب المعتقلين وقتلهم، خصوصاً المشافي العسكرية، ومنها المشفيان 600 و601 في دمشق، والتي أثبتت شهادات عشرات الخارجين منها مشاركة كوادرها الطبية والإدارية في عمليات تعذيب المعتقلين حتى الموت، والقيام بإصدار شهادات وفاة مزوَّرة لبعضهم عن أسباب الوفاة.
وتكثف شهادات «قيصر» العسكري المنشق عن النظام، والمكلف تصوير وتوثيق جثث مقتولين تحت التعذيب، تفاصيل عن ميدان القتل المعمم في فروع المخابرات ومشافي النظام، وسرَّب «قيصر» 55 ألف صورة لجثث «تُركت في العراء عرضةً للقوارض والحشرات»، قبل أن يتم «جمعها وأخذها إلى أماكن مجهولة»، وأكد أن «آثار التعذيب بالكهرباء والضرب المبرح، وتكسير العظام، والأمراض المختلفة وبينها الجرب، إلى جانب الغرغرينا والخنق» تظهر بوضوح على جثث القتلى، وفيها جثث «أطفال تتراوح أعمارهم ما بين 12 و14 عاماً، وشيوخ يتجاوز عمر بعضهم 70 عاماً»، وبيّن صاحب الشهادات أن «مصير الجثث الدفن في مقابر جماعية»، أو أنه يتم إحراقها في أفران خاصة وفق مصادر أخرى، ذكرت أن النظام يملك ستة منها.
ويضيف تقرير أصدرته منظمة العفو الدولية، ونشرته عام 2017 تحت عنوان «المسلخ البشري»، توثيقاً لعمليات إعدام جماعية نفّذها مسؤولون في سجن صيدنايا قرب دمشق، شملت قتل ثلاثة عشر ألف معتقل بين عامي 2011 و2015 أغلبيتهم من المدنيين المعارضين، ولاحظ التقرير الذي اعتمد على شهادات لحراس سابقين في السجن، ومسؤولين ومعتقلين وقضاة ومحامين، إضافة إلى خبراء محليين ودوليين، أن الإعدامات كانت «سرّية»، وأنها «جرت أسبوعياً أو ربما مرتين في الأسبوع»، حيث يتم سحب مجموعات يصل عدد أفرادها إلى خمسين معتقلاً إلى خارج زنازينهم، ويُشنقون حتى الموت في قاعة للإعدام في سجن صيدنايا.
وسط كمٍّ هائل من عمليات قتل معتقلين سوريين، تجنب النظام السوري طوال السنوات الماضية الكشف عن مصير المعتقلين، كما رفض بحث ملفهم، وتجاوز السلوكين السابقين إلى إنكار وجود كمٍّ كبير من المعتقلين لديه، واكتفى بتسريبات محدودة لأسماء معتقلين «تُوفُّوا» في السجون، ولجأ في بعض الأحيان إلى إجبار ذوي المعتقلين على التوقيع على أوراق تفيد بأن أبناءهم قتلتهم «جماعات إرهابية»، قبل أن يهتدي مؤخراً إلى طريقة جديدة يتم فيها تسريب أسماء المعتقلين المقتولين عبر سجلات القيد المدني في بعض المناطق هرباً من تحمل مسؤولية مقتلهم وكشف أعدادهم، غير أن هذا النهج أعجز من أن يغطي كارثة سورية بحجم قضية معتقلين جرى قتلهم بدم بارد دون إعلان أو تسليم جثثهم لأهاليهم وسط ظروف غامضة وخاصة لجهة ادعاء النظام أن أغلب من كشف النقاب عن موته إنما مات بسكتة قلبية.
إن قضية المعتقلين في سجون النظام، وموت عشرات آلاف منهم تحت التعذيب أو بفعل الإهمال الصحي والتجويع والشروط البيئية المتردية بين الأبرز في ملفات القضية السورية، والأكثر أثراً في أي حل سوري ممكن أن يتحقق الآن أو في المستقبل بما تحمله القضية من معانٍ سياسية واجتماعية وأخلاقية، ولن يتم تجاوزها دون الكشف عن مصير المعتقلين جميعاً خصوصاً المتوفين منهم، وإطلاق سراح الأحياء منهم بصورة فورية وتعويضهم، وتعويض أهالي المقتولين، وتقديم المسؤولين عن قتلهم للقضاء لينالوا عقاباً يتناسب مع حجم جرائمهم.
السياسة مضادة للعاطفة، وحتى تفهم مسار السياسات، لا بد من البعد عن العواطف. هناك الآن ما يشير إلى تأهيل بشار الأسد في سوريا، هذا ما يتناوله المعلقون في الغرب، الذين حصلوا على شيء من المعلومات المسربة من قمة هلسنكي بين الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين يوم الاثنين 16 يوليو (تموز) الحالي. ولأن الاتفاق حدث بين «الكبار»، فهو أولاً لصالحهم، وعلى حساب جميع اللاعبين الآخرين. واضح من تطور الأحداث أن النظام العالمي يتغير، من تحالف القيم إلى تحالف المصالح. صلب الموضوع هو ما يراه الرئيس ترمب في العلاقة مع روسيا، ليس الآن ولكن منذ الحملة الانتخابية، فهو يسعى «لتحالف الكبار» حتى لو كان على حساب الحلفاء التقليديين. فالعلاقة بين الولايات المتحدة وروسيا يجب أن تكون سوية وفي حالة تعاون وثيق. وعلى الرغم من حالة الارتباك لدى كثير من السياسيين الأميركيين حول «العلاقة بين إدارة ترمب وروسيا» التي يصفها بعضهم بأنها تواطؤ، وآخرون يصلون إلى توصيفها بأنها فعل «خيانة» للمبادئ التي تؤمن بها أميركا، فإن ترمب يعطي الجميع الأذن الصماء، ويعتقد أنه وبوتين يمكن أن ينظما العالم ليرقص على الأنغام التي يختارانها! وقد مهد لذلك في أكثر من مناسبة، آخرها قمة الناتو 11 - 12 يوليو.
في الشرق الأوسط، هناك لاعب مهم يعمل الطرفان على عدم إغضابه، إن لم يكن إرضاءه، هو إسرائيل. وقبل أيام من عقد قمة هلسنكي، كان بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي في موسكو للاجتماع ببوتين (الرجلان اجتمعا تسع مرات خلال الثمانية عشر شهراً الماضية). وبعد ذلك الاجتماع صرح نتنياهو: «ليست لدينا مشكلة في التعاون مع نظام الأسد في سوريا في المستقبل»، على العكس تماماً من مطالباته السابقة والمتكررة «بضرورة تغيير النظام».
الاتفاق الأميركي - الروسي حول سوريا هو تقريباً الآتي: لا مانع من وضع سوريا تحت الوصاية الروسية، على أن تضمن ابتعاد قوات الأسد عن الحدود الإسرائيلية، وخروج القوات الإيرانية والميليشيات التابعة لها من سوريا، وتوقيع اتفاق سلام دائم (سوري - إسرائيلي) في المستقبل، برعاية الطرفين (الدولة السورية في حالة حرب معلنة مع إسرائيل منذ عام 1948)، على أن تُقدم ترضية إلى إيران، أولاً معنوية من خلال إعلان أن طهران قد أنهت مهماتها هي و«حزب الله» بـ«انتصار بقاء الأسد»، فلا حاجة لبقاء قواتهم هناك، وثانياً ترضية مادية، حيث أعلنت روسيا أنها سوف تستثمر بشكل مباشر، خمسين مليار دولار في صناعة الغاز والنفط الإيرانية، كما وضعت روسيا على الرف (لعدم إزعاج إسرائيل) خططها المعلنة لتزويد سوريا بمنظومة الدفاع الجوي «إس 400» التي كان من الممكن أن تردع إسرائيل عن استهداف القوات الإيرانية والحليفة لها في الأراضي السورية!
تركيا، اللاعب الآخر في الساحة السورية، تهرول خلف روسيا، لعل بعضاً من النتائج الإيجابية في الاتفاق يصل إليها. همها الكبير تحجيم أي قوة كردية مسلحة تزعج حدودها الجنوبية. ويبدو أن ذلك متاح بالقدر الذي يطمئن تركيا للتعاون في تنفيذ الخطة المقترحة.
الخطوط الحمراء الجديدة لترمب هي «إخراج إيران وحلفائها من سوريا» كما قال في هلسنكي في المؤتمر الصحافي: «لن نسمح لإيران باستثمار انتصارنا على (داعش)». في الوقت نفسه تتمكن الإدارة الأميركية من سحب الألفين أو حولهما من القوات الخاصة في سوريا، ولا مانع من ترك سوريا بجانب أوكرانيا منطقة نفوذ لروسيا؛ لأن سحب القوات يعزز من انتصار الجمهوريين في الانتخابات النصفية في نوفمبر (تشرين الثاني) القادم. فقد قال مستشار الرئيس ترمب، جون بولتون: «إن بقاء الأسد في حكم سوريا لم يعد قضية استراتيجية للولايات المتحدة»، هذه التصريحات في تناقض تام مع سابقاتها، فحتى أبريل (نيسان) الماضي، كان ترمب يصف رئيس النظام السوري بـ«القاتل»، كما شن ضربات جوية، بجانب بريطانيا وفرنسا، في الشهر نفسه، على مناطق سورية عسكرية! تغيير جذري في الموقف الغربي بكامله، وتناسٍ لبحور الدم التي تسبب فيها النظام لشعبه. فمن أجل وقف القتال الذي استمر سبع سنوات في حرب أهلية ضروس، أميركا وروسيا وإسرائيل تتفق على حل في سوريا اسمه «بقاء نظام الأسد»! بعد تجريده من «أوهام المقاومة».
الدعم الأميركي لبعض القوى السورية يتراجع، فالإدارة كما وعدت الناخبين، لن تدخل في حروب، خاصة في الشرق الأوسط، الذي شهد كثيراً من الضحايا من الجنود الأميركيين. كما لم تعد أميركا بحاجة إلى نفط الشرق الأوسط، لتبقى أعينها مفتوحة رصداً للتطورات فيه، الأمر الذي يعني الوصول إلى اتفاق (يقع في خانة الفوز للقطبين الأميركي والروسي)، فروسيا يمكنها أيضاً أن تحتفظ بقوة بحرية في البحر الأبيض الدافئ، كما حلم القياصرة منذ زمن طويل!
على الرغم من الحرب الكلامية المشتعلة بين أميركا وإيران، وتغليظ السباب بينهما، فإن استراتيجية الأولى هي الضغط على الثانية من خلال المقاطعة الاقتصادية، التي سوف تنشط بعد أسابيع من اليوم، وعلى درجات متصاعدة. أما الحديث عن اشتباك عسكري بين الطرفين، فقد ترك ليلهو به السذج من السياسيين. إن المقاطعة الاقتصادية مهما اشتدت، فليس بالضرورة أن تغير النظام الإيراني، يمكن أن تضعفه، ولو أن احتمال التغيير قائم، إلا أن الاحتمال الآخر أن يقوم الإيرانيون بترضية ما لأميركا، كما فعل الكوريون الشماليون، من خلال الموافقة، من خلال طرف ثالث، قد تكون إحدى الدول الأوروبية، على بعض الشروط المعلنة، منها الانسحاب «الانتصاري» من سوريا، والتخلي عن دعم الحوثيين في اليمن، ولن يفقدوا كثيراً من الحجج عند قيامهم بذلك.
في حسابات الربح والخسارة السياسية حتى الآن، نجد أن إسرائيل هي الرابحة، فلها الاحتفاظ بالجولان كأرض إسرائيلية، وسحب الذريعة من كل من إيران و«حزب الله» في التوجه إلى العسكرة والتحشيد ضدها، فلم يعد أحد قادراً على ذلك، كما أن روسيا تحتفظ بأوراق رابحة، بعد كل الاستثمار العسكري الذي بذلته على الأرض السورية، ويستطيع ترمب أن يعلن انتصاره على الإرهاب ونجاحه في دعم إسرائيل، ومنع التوسع في إرسال الجنود الأميركيين إلى الخارج، وكلها أوراق رابحة في الانتخابات النصفية القادمة! الخاسر الكبير هو معسكر إيران وحلفائها، فقد انتزعت ورقة التوت التي كانت تسمى «مقاومة الشيطان الأكبر وإسرائيل»، فلم يعد لها منفذ بعد أن أصبحت سوريا محمية روسية، تضمن روسيا هدوءاً كاملاً للجبهات حولها.
أمام هذا السيناريو الذي وضعت خطوطه العريضة في هلسنكي، يتراجع تدفق المهاجرين إلى الدول المحيطة بسوريا، وإلى الغرب أحياناً الذي يضج من نزوحهم؛ إلا أن القصة لا تنتهي هنا، فبقاء الأسد في السلطة، وإن بدا دائماً، إلا أنه بالضرورة مؤقت، حتى ترتيب البيت السوري، الذي سوف يشهد نشاطاً سياسياً حميماً على وقع المايسترو الروسي من أجل تغيير تدريجي، يضمن لروسيا البقاء، كما يضمن لإسرائيل توطيد الحدود بكاملها، ويؤمن لأميركا مصالحها.
تلك هي الخريطة التي تبين بعض تفاصيلها حتى الآن، والاحتمالات الممكنة في المدى القصير. كل ما يمكن تلخيصه أن الشرق الأوسط بالذات قبل قمة هلسنكي سيكون غيره بعدها!
آخر الكلام: قد تنتج خطة السلام المقترحة في سوريا كما اتفق عليها الطرفان الأميركي والروسي، دينامياتها الخاصة؛ لأن الفواعل الأخرى سوف تتدخل من أجل تغيير في السيناريو المعد، ودون رضاء من شرائح واسعة من الشعب السوري، سوف تبدو الخطة وكأنها عمياء!
ضع فلسطين على لسانك واحكم. هذه كانت حكمة حافظ الأسد. بموجبها أخضع السوريّين واللبنانيّين لعقود قبل أن يورّثهم، عام 2000، لابنه بشّار. الأخير انتمى إلى جيل وعقليّة مختلفين، ولم يعرف البعث ولفظيّته. وصل إلى الحكم متوهّماً أن يمارسه بموجب معادلة أخرى: ضع المال في قلبك واحكم. آنذاك راجت مقارنات مبسّطة مع التجربة الصينيّة، وقُدّمت العلاقة بين نظام بشّار ورفيق الحريري بوصفها البرهان على أنّ دمشق قد تغدو قلب المال النابض. لكنّ الانتفاضة الفلسطينيّة في العام 2000 نفسه، ثمّ 11 أيلول فحرب العراق، في 2001 و2003، كلّها قطعت بأنّ دعاية «قلب العروبة النابض» لم تفقد وظيفتها بعد. في 2005 قُتل رفيق الحريري، ممثّل التحوّل الصينيّ لسوريّة من المدخل الهونكونغيّ اللبنانيّ. النظام السوريّ وحلفاؤه اللبنانيّون كانوا وما زالوا مُتّهَمين بالجريمة. فلسطين أعيدت إلى الصدارة.
اليوم، ثمّة ميل من هذا القبيل الذي حيل من دونه، وإن اختلفت الظروف. الميل هذا يقضي بأن تتقدّم سوريّة– الأسد من نفسها ومن العالم من دون فلسطين ومن دون الصراع مع إسرائيل وأهزوجة «قلب العروبة النابض». شيء كهذا سيمثّل، إذا كُتب له أن يتحقّق، انعطافاً كبيراً، انعطافاً يعيد إلى الذاكرة الحقبة الساداتيّة في مصر، التي تلت الحقبة الناصريّة: انفتاح اقتصاديّ وخروج من النزاع الإقليميّ.
من يناصرون بشّار لأسباب أيديولوجيّة ساذجة سيكون من الصعب عليهم إقناع أنفسهم بعكس ذلك. لقد صار معروفاً أنّ الروس فاوضوا الإسرائيليّين على سحب إيران مسافة 100 كيلومتر عن الحدود، وأنّ الإسرائيليّين رفضوا وطلبوا أكثر. وصار معروفاً كذلك أنّ إسرائيل مهتمّة بأن يعيد بشّار الإمساك بالحدود وإعادة الاعتبار لاتّفاق فصل القوّات الموقّع في 1974. فالإسرائيليّون، بالتالي، سيكونون من الأطراف الضامنة للأسد في طوره الجديد. وهي ضمانة لا تُضعفها طائرة سوخوي ضلّت طريقها فأسقطتها تلّ أبيب، أو تحويل الأنظار باتّهام نشطاء «الخُوذ البيضاء» بالعمالة للدولة العبريّة لأنّ الأخيرة أجلتهم إلى الأردن!
وبالطبع فالتتمّة المنطقيّة هي ما يعبّر عنه الضجيج السائد اليوم عن إعادة الإعمار وعودة النازحين والقانون الرقم 10... هكذا وصلت الحماسة بالبعض إلى افتراض حلب أخرى، حلب تعمّرها تركيّا، إذا عزّ تعميرها في ظلّ العلاقة القديمة مع دمشق. وهذا كلّه لا يزال حتّى الآن أقرب إلى الجعجعة منه إلى الطحن، كما لا يزال يفتقر إلى عناصر أساسيّة كثيرة في عدادها توافر المال ورفع العقوبات وموافقة الدول الغنيّة والوضع الأمنيّ وسوى ذلك. إلاّ أنّ الميل الصاعد في البيئة الحاكمة هو ما لا تخطئه العين، وهو يرسم وجهة مثيرة لسوريّة وعنها. وهذا ما يستحقّ الكثير من التأمّل والجهد في التعرّف إلى سوريّة «الجديدة». وأغلب الظنّ، إذا ما أمكن الإقلاع في الوجهة هذه، أن يتّخذ الكذب أشكالاً أخرى مفادها تغيير طبيعة الفردوس الموعود: من تحرير فلسطين إلى التمتّع بغنى غير مسبوق يفيض على الجوار. أمّا النهب والقمع فسوف يتضاعفان حتماً.
الجديد في مأساة المعتقلين السوريين هي التوجيهات الأمنية الممنهجة إلى أمانات السجل المدني في مختلف المحافظات السورية، بإصدار وثائق وفاة لمئات المعتقلين الذين قضوا في سجون النظام، على أن تسرب هذه المعلومات، مع التحذير من السؤال عن الجثامين، إلى عائلات الضحايا، إما مباشرة عبر مخفر الشرطة أو مختار الحي، وإما باتصال هاتفي يأتي من مجهول يحث أهالي المعتقلين على مراجعة دائرة النفوس لمعرفة مصير أبنائهم، وتوقيت موتهم، والسبب؛ الذي يذكر غالباً على أنه أزمة قلبية، والأنكى برصاص قناصة المعارضة، أو انتحاراً بدافع الشعور بالذنب لما ارتكبوه!
وإذ يدرج هذا الإجراء على أنه محاولة من النظام لتخفيف أعباء هذا الملف تمهيداً لطيّه بعد انحسار حدة المعارك، فإن مأساة المعتقلين السوريين تبقى المحنة الأشد إيلاماً منذ ويلات الحرب العالمية الثانية، سواء من حيث الأعداد المخيفة التي تكتظ بها السجون، أو من حيث نوعية التعذيب وهول الآلام التي يكابدها المعتقلون في ظروف يصعب وصفها من شدة قساوتها واستهتارها بحياة البشر وكراماتهم، فضلاً عما يعانيه أهاليهم وأقاربهم وهم في رحلة بحث مضنٍ عنهم محفوفة بالخوف والرعب واللاجدوى.
ورغم صعوبة تحديد أرقام دقيقة لعدد المعتقلين والمغيبين قسراً في سجون النظام السوري خلال السنوات السبع الماضية، فإن تقارير مختلف المنظمات الحقوقية توافقت على أن عدد السجناء الذين انقطعت أخبارهم يتجاوز مائتي ألف معتقل، منهم نحو 3 آلاف طفل، و6 آلاف امرأة، وغالبيتهم من رواد الحراك العفوي السلمي، ولا ينتمون إلى أحزاب سياسية أو جماعة مسلحة... طلاب ثانويات وجامعات، مسعفون ومصورون وصحافيون وكوادر علمية ومهنية... منهم من اعتقل على الشبهة، ومنهم بسبب مشاركتهم في المظاهرات السلمية، ومنهم على حواجز الميليشيا لمجرد انتمائهم إلى إحدى المناطق المناهضة للسلطة، وجميعهم يقبعون في أماكن احتجاز لا تليق بالكائن البشري في ظل إهمال متعمد؛ غذائياً وصحياً، الأمر الذي تسبب، إلى جانب تواتر الإعدامات الفردية والجماعية، بموت كثير منهم يومياً، وهو ما أكدته الصور والفيديوهات والروايات المرعبة عن التعذيب والقتل بدم بارد، أو التمويت البطيء، مرضاً أو جوعاً، وكان أوضحها وأشدها تأثيراً ما عرفت بـ«صور القيصر»؛ ذلك العسكري الهارب والمصور في شرطة النظام، والتي أظهرت آلاف الجثامين المرقمة لمعذبين حتى الموت في أقبية الأمن والسجون... أجسام هزيلة ومهشمة ومشوهة من الجوع ومختلف صنوف القهر والتعذيب.
والحال؛ ما كان لمأساة المعتقلين السوريين أن تتسع وتغدو على هذه الوحشية والفظاعة لولا تضافر عدة عوامل:
أولاً: البنية التكوينية للنظام السوري التي استندت تاريخياً إلى مفهوم الدولة الأمنية لدوام السيطرة، معجونة بعقلية القهر والغلبة وأساليب القوة والقمع لإرهاب الناس وشل دورهم، يحدوها تشبث عنيد بمصالح وفساد ومناصب لا يريد أصحابها التنازل عنها أو عن بعضها حتى لو احترقت البلاد وكان الطوفان، ويعضدها تنوع فريد من الأجهزة الأمنية التي تتسابق في ابتكار وسائل القمع والإذلال لسحق أي رأي أو تحرك معارض!
ومع أن الاعتقال والإخفاء القسري سلاح قديم اعتمده النظام ضد السوريين منذ أن تسلم الحكم في نهاية ستينات القرن الماضي، واشتد في سبعينات وثمانينات القرن ذاته، وكانت أسوأ تجلياته اعتقالات ومجازر مدينة حماة في مطلع الثمانينات، غير أنه استخدم على نطاق معمم وممنهج بعد انطلاق الثورة لسحق حراك الناس وتحطيم إرادة التغيير، وربما ليس من قبيل المبالغة الاستنتاج أن الاعتقالات العشوائية والواسعة وتعذيب السجناء حتى الموت يدخل ضمن مخطط القضاء على نخبة مهمة من الشباب بدأت بالتمرد سلمياً وهزت أركان النظام بشعارات الحرية والكرامة، والتي يعرف النظام جيداً أنه لا يمكن التصالح معها أو المخاطرة بإطلاق سراحها، كما فعل ويفعل مع حملة السلاح حيث ليس لمشروعهم السياسي أي أفق.
ثانياً: خلفية نشوء غالبية قوى المعارضة السورية التي لم تعط تاريخياً حقوق الإنسان وكراماته الأولوية التي تستحقها أمام تقدم حساباتها السياسية والعسكرية في مواجهة النظام، مما أطلق يد القمع وأضعف الاهتمام بملف المعتقلين والمختفين قسراً خلال سنوات الصراع، ولا يغير هذه الحقيقة منح هذا الملف الإنساني اهتماماً خاصاً في مفاوضات جنيف واجتماعات آستانة الأخيرة، لتوظيفه، للأسف، ورقةً للضغط السياسي! وزاد الطين بلّة تقدم وزن الجماعات الإسلاموية المسلحة واستهتارها المزمن بحياة البشر وحقوقهم، عبر تشريع العمليات الإرهابية المقززة في أي مكان وضد أي كان، وما تمارسه لنصرة مشروعها الديني من انتهاكات مروعة لحقوق الإنسان في أماكن سيطرتها.
ثالثاً؛ والأهم: الانتكاسة التي تعرض لها المناخ العالمي المدافع عن حقوق الإنسان؛ إنْ لجهة تقدم استراتيجية لمكافحة الإرهاب الجهادي منحت الأولوية لخطط الحشد الأمني على حساب قيم الحرية والكرامة، وإنْ لجهة تراجع الدور العالمي للولايات المتحدة والغرب عموماً مع تنامي وزن التيارات الانعزالية والشعبوية وانتشار دعايتها العنصرية والأنانية، وإنْ لجهة المكانة التي باتت تحتلها روسيا وإيران في الإقليم بسجليهما المهين في حقوق الإنسان وبإشاعتهما منطق القوة والغلبة لفرض مصالحهما وتمرير أهدافهما السياسية والآيديولوجية.
والنتيجة؛ أن الجلاد لا يزال يسرح ويعيث قتلاً وترويعاً على هواه، وينظر بعين الاستخفاف إلى المنظمات الأممية العاجزة، وإلى عالم ينشغل بهمومه ومصالحه الضيقة، متسائلاً بمكر واستهزاء: ماذا أنتم فاعلون حين ترى عيونكم أن هذه الوحشية في التنكيل والفتك ليست نهاية ابتكاراتي؟ أو حين تدركون أن هدوء المعارك وصمت المدافع لن يوقف ماكينة الاعتقال والتعذيب والقتل، بل سوف تزداد جرعاتها بأبشع صورها لوأد أبسط دوافع الرفض والتمرد، ولتلقين كل مطالب بالحق والحرية والكرامة درس رعب لن ينساه؟!
هل كثير على السوريين أن يعضدهم مجتمع دولي لا يهدأ لنصرة حقوق الإنسان ولا يتردد أو يتأخر، حين يرى «صور قيصر» المسربة، في اتخاذ كل ما يمكن من إجراءات كي ينال من الجلادين؟! أو أن تساندهم مظاهرات عفوية تعم مختلف المدن والعواصم تعلي شأن حياة البشر وتدين ما يحدث من انتهاكات وتشدد على إحالة المرتكبين إلى قضاء عادل يقتصّ منهم جراء ما ارتكبته أيديهم من آثام؟! وأليس من أبسط واجبات الحضارة الإنسانية نصرة أبنائها المضطهدين، أو إشعارهم، على الأقل، بأن من يشاركهم العيش على هذا الكوكب، على اختلاف منابتهم وأديانهم وإثنياتهم، يقفون معهم ولن يسمحوا بوجود كائنات تنتحل صفة البشر وتصل إلى هذا الحد من الفتك والتنكيل بحياة الناس وكراماتهم؟!
تلاشت أحلام كثيرة بعد قمة هلسنكي بين الرئيسين، الروسي فلاديمير بوتين والأميركي دونالد ترامب، فقد توافقا على تعويم النظام السوري، وأن يتم ذلك بإعادة تفعيل اتفاقية وقف الاشتباك بين سورية وإسرائيل، وفق ما كان قبل 2011 ومنذ 1974، وسحق ما تبقى من فصائل معارضة في المنطقة الواقعة تحت السيطرة الروسية، وتأكيد أن تلك الحماية تتطلب إخراج إيران من سورية. لم يتم طرح المسألة علانيةً بخصوص إيران في القمة، ولكن حجّ كل من مستشار المرشد الإيراني، علي أكبر ولايتي، ورئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، إلى بوتين، أفضى إلى تثبيت هذه القضية، والتي يتشكل حولها إجماع روسي أميركي إسرائيلي وتركي، وكذلك سوري. إذن، تعيد هلسنكي تعويم الأسد، وتتحدث عن إخراج إيران من كل سورية، وليس من جنوبها فقط!
تزداد إيران ضعفاً، فهي تتعرّض لحصار دولي وإقليمي، وتهدّدها داخلياً تظاهرات شعبية ما تنفكّ تتجدد، وكلما أخمد النظام مدينةً ثارت أخرى، وبشكل متصاعد منذ بداية 2017. إيران التي دفعت المليارات والقتلى، وشكّلت المليشيات، لم تستطع، كما يبدو، شن معركة ضد إدلب، فإدلب برأيها فيها مركز إرهابي كبير، وعكس ذلك، فقد اتفقت كل من روسيا وتركيا على نزع حجته بوجود بلدات "شيعية"، حيث تم تهجير أهاليها لسد الذريعة تلك، ولكن كذلك ليتم فرض سيطرة تركية كاملة على إدلب، بينما يسيطر النظام على بقية سورية، بما فيه المناطق الواقعة تحت سيطرة الأكراد. إذاً هناك مناطق نفوذ تُرسم على وقع التحالف التركي الروسي بشكل خاص؛ تكرّر أميركا مراراً أنها ستخرج من سورية، وهذا يبدو أنه متفق عليه بصفقة مع روسيا، وتتضمن دعم الأخيرة أميركا في العراق، وإخراج إيران من كل المنطقة العربية، وترك أميركا لروسيا حرية التصرف في سورية. أكذوبة دعم الثورة، ثم الحرب على الإرهاب ثم مناطق خفض التوتر وقضمها، كلها ساعدت على إنهاء الثورة والفصائل، وتمكين روسيا وإعادة تعويم النظام، وبالتالي هناك اتفاقيات ستظهر تباعا بين الدولتين، وستُطبق ما ذكرت أعلاه.
إذا روسيا هي المتحكّمة في سورية؛ تركيا المتضرّرة من أوروبا وأميركا، كما حال روسيا، وبالتالي لديهما جملة مصالح، تستدعي تثبيت سيطرة كلتيهما في سورية، مع دور أكبر للروس. تجد إيران التي استدعت روسيا إلى سورية، نفسها بوضعية حرجة كما قلنا، وبالتالي، ستناور لتعويض خسائرها باستثماراتٍ اقتصادية، والحماية لمناطق دينية تخصها، قبالة إخلائها مليشياتها من سورية، وهذا سيكون اضطرارياً؛ فإسرائيل لم تتوقف عن قصفها وقصف مراكز عسكرية لها، ويشكل الدور الروسي المتزايد في الإشراف على معارك الغوطة ودرعا، ومحاولة نشر جنودها في مدينة القصير، وسوى ذلك عناصر واضحة لتقليص كبير للوجود الإيراني. يضاف هنا أن النظام يعلم أن من حَماهُ من السقوط 2015 هي روسيا تحديدا؛ روسيا التي جاءت بمعاهدات واتفاقيات مع النظام، بينما تغطي وجود إيران اتفاقية عامة للتعاون العسكري، وهي اتفاقية أقرب إلى الدبلوماسية.
يتزايد التقارب بين النظام وقوات حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي)، حيث هناك تسريبات تؤكد إعادة النظام إلى مراكزه الأمنية في كل مناطق سيطرة هذا الحزب، وكذلك استعداد هذا الحزب لفتح مراكز له في كل المدن التي يسيطر عليها النظام. ويتعزز هذا التقارب على خلفية الإعلان المتكرّر عن الانسحاب الأميركي، والتخوف من استغلال تركيا الفراغ في حال قرّرت أميركا فعلياً ذلك الانسحاب؛ هذا يعني أن لا معركة ستحصل مع الأكراد. تضاف إلى هذه الفكرة العلاقات التركية الروسية القوية، والتي تشكلت لأكثر من سبب، وبما يخص سورية، فهي بدأت منذ الانقلاب في تركيا 2016، وتعمقت مع إسقاط حلب، وسحب الفصائل منها، للمشاركة في معركة درع الفرات وغصن الزيتون وتشكيل مناطق نفوذ في أكثر من منطقة، وقبالة ذلك تأخذ روسيا الغوطة ودرعا والقلمون ومناطق كثيرة من دون حروب حقيقية؛ وتقول هذه الوقائع إن إدلب لن تتعرّض لحملة عسكرية.
أصبحت عقدة إدلب بيد كل من روسيا وتركيا، وحجة إيران بوجود بلدات شيعية سُحبت، كما ذكرنا، إذًا ما العمل مع هذه المدينة، وقد اكتظت بالسلاح والجهاديين، وتشملها اتفاقية خفض التوتر. نقول: ما العمل، لأن شرق سورية أصبح محسوماً، وبالتالي لا بد من الانتهاء من إدلب، وإعادة تشكيل النظام بعد تعويمه؛ ستتعرّض إدلب هذه، لضغوط كبيرة من الروس والأتراك، وستُجبر على إخراج الجهاديين الأجانب والعرب والآسيويين منها، وهذا سيستدعي بالضرورة تصفياتٍ تشمل القيادات المتشدّدة في كل التنظيمات، ولا سيما في هيئة تحرير الشام؛ المجبرة على حل نفسها، فهي تصنف لدى روسيا وأميركا وتركيا هيئة إرهابية. ولكن، كيف سيتحقق ذلك؟
حاولت هذه الهيئة تسيير اتفاقية خفض التوتر؛ فلم تشارك فعلياً في المعارك التي شنها النظام، ووصلت قواته إلى مطار أبو الضهور، وكذلك استعاد النظام مناطق واسعة من أرياف حماة واللاذقية، وأيضاً حمت طلائع القوات التركية التي نصبت نقاط مراقبة وفقًا لتفاهمات أستانة، أي حاولت أن تقدم نفسها أداة للنفوذ التركي. ليس كل ما فعلته الهيئة كافياً لبقائها وشرعنتها؛ فالممكن الوحيد كما تمّ في مناطق درع الفرات وعفرين، أي تشكيل قيادة موحدة من الفصائل، وربما جيش يجمع الجميع، وتصفية الجهاديين من إدلب، أي أن روسيا وأميركا لن تقبلا بأقل من فرض تركيا نفوذها كاملًا على إدلب. وبالتالي، على هيئة تحرير الشام الرحيل؛ وهذا سيكون مدعوماً ومرغوباً من أهالي إدلب والفصائل، وفي هذا سيتم إلغاء أو إعادة تشكيل كل من حكومتي الإنقاذ والمؤقتة. ستكون المناطق تحت سيطرة تركيا مناطق لوجود المعارضة مستقبلاً.
قلت إن شرق سورية سيتم إيجاد صيغة له، والآن هناك تقارب بين قوات حزب الاتحاد الديمقراطي (البايادي) والنظام. وبالتالي، تبقى منطقة إدلب، فكيف ستعاد إلى النظام مجدّداً؟ هناك تسريبات تؤكد أن جيش النمر وجيش أحمد العودة وقوات سورية الديمقراطية (قسد)، بالإضافة إلى اللواء الخامس الخاص بالروس، ستشكل جيشاً تحت القيادة الروسية، وربما تتشكل أيضاً قوات عسكرية من الفصائل، تحت السيطرة التركية وتكون جزءاً من هذا الجيش.
ما يجري ذكره هنا تكثر حوله التسريبات؛ ويضاف إليه تفكيك روسيا المليشيات التي شكلها النظام منذ 2011، وهو ما حدث أخيرا في كل من اللاذقية وحماة، وسيحدث في دمشق، وبأغلبيتها تابعة لإيران. والسؤال: بعد كل هذه المعطيات، هل سيبقى النظام المُعوّم على حاله؟ تفترض هذه النقطة إعادة تشكيل النظام المعوّم ذاته، فروسيا الآن تحتل سورية، وأمامها إعادة الإعمار وإعادة اللاجئين وتأمين بيئة مستقرة، وهناك إلحاح أميركا وأوروبا بضرورة الاستقرار، أقول إن كل هذه النقاط تستدعي تغييراتٍ كبرى في الجيش والأمن ورجالات النظام الأوائل.