روسيا أمام أكاذيبها
يبدو أن روسيا عاقدة العزم على الانتقال من مرحلة الحرب إلى مرحلة السلام في سورية، فبأي فهمٍ قد تنجز ذلك؟ هل ستنجزه بسياسة "عفو يصدره بشار عن الشعب يعيده إلى ما كان فيه من سعادة قبل ثورته "الإرهابية"؟ أم ستذكّرهم بما يمكن أن يحل بهم من بلايا في حال رفضوا يد الصفح الأسدية الممدوة لهم؟ أم ستنجزه باعتبارها قوةً تمسك بمفاتيح الواقع السوري، أنقذت الأسد بذريعة صعوبة إيجاد بديل له بسبب الحرب، وبما أنها ستنتهي قريبا، فإنه سيكون لدى موسكو ما يكفي من وقتٍ للبحث عن بديلٍ للأسد، وربما لنظامه الذي أتعب الاتحاد السوفييتي، بهزائمه المتتالية الباهظة الكلفة، وبسياساته العربية التي لعبت دورا خطيرا في إسقاط مصر الناصرية، وتخريب العالم العربي، وأخيرا بمواقفه الدولية التي تأرجحت بانتهازيةٍ بين الدولتين العظميين، وتحدثت لغةً معاديةً لأميركا وإسرائيل، من دون أن تتوقف يوما عن تقديم الخدمات لهما، وستتعب روسيا أيضا، ليس فقط بتأرجحه بينها وبين بديلها الإيراني، وإنما أيضا لأنه سيكون على موسكو أن تختار بينه وبين الشعب السوري الذي خسرته، وحان الوقت لاستعادة شيء من ثقته بها، فإن راهنت على ردّ بشار الجميل لها، تكون دولةً مارقة، يؤكد رهانها عليه أنها لا تعرف من الذي أنقذته، ونسيت سيرة أبيه في الغدر برفاقه وبالسوريين شعبا، والبطش بهم، وبالفلسطينيين واللبنانيين والعراقيين، وتكون كمن يجعل من نفسه دريئةً تتلقى ضرباتٍ لن تنتهي بنهاية الفصائل الملغومة، وستستمر بآلاف الصيغ، بعد أن يتكشف حجم الجرائم التي ارتكبتها الأسدية ضد العزل والآمنين من أبناء سورية إناثا وذكورا، ممن تعرّضوا للتصفية بعشرات الآلاف في سجونها ومعتقلاتها، وبدأت ترسل سجلات وقوائم بأسمائهم إلى دوائر الأحوال المدنية، لتضاف مأساتهم، وهم سوريون عزّل يحميهم القانون ويبت القضاء في أمرهم، إلى مأساة ملايين السوريين في كل مكان من قراهم ومدنهم، وكانت الصواريخ والقنابل تنهال عليهم من طائراتٍ روسية تقتلهم بصورة جماعية، وهم نيام في أحيان كثيرة، أو تحت رحمة من لا رحمة لديهم من طيّاري جيش الأسدية الذي ليس جيشا، وليس عربيا، وليس سوريا.
ماذا ستختار روسيا عندما سيأتي السلام الموعود، بعد أن اختارت في الماضي الأسدية، شخوصا ونظاما، لرفضها التغيير بواسطة الثورات، وقبوله كإصلاح تقوم به الحكومات بالطرق القانونية والشرعية؟ هل ستتذكّر موسكو أن الحرب انتهت، وحان زمن التغيير بالقانون، وهل ستعمل للخروج من واقع سجنت نفسها فيه، قاتلت خلاله شعبا ليس معاديا لها، وقتلت وجرحت مئات الآلاف منه، دفاعا عن نظام تعلم أن مطالبة شعبه بالحرية كانت محقة، وأن جيشها أسهم في إخماد أنفاسه بقوة السلاح، لإرغامه على الرضوخ لظلم أشد من الظلم الذي كان فيه قبل ثورته.
إذا كانت روسيا صادقةً في ما تدّعيه حول شن الحرب على سورية، لأنها ترفض التغيير بالثورات وتربطه بالحكومات، ألا يجب عليها طرد الأسد من السلطة، لأنه فقد شرعيته، ولن يكون شرعيا لأنه غمس يديه حتى الإبط بدماء شعبه، ولأن احترام الشرعية يُلزمها بإخراجه من سورية، لتسترد حياتها مسارها الطبيعي، وشرعية حكامها هويتها الأصلية التي لا تعني شيئا غير قبول الشعب الطوعي بحكامه؟!
تقف روسيا أمام اختبار سوري لن تستطيع اجتيازه، إن هي تماهت مع النظام الأسدي، لأنها ستكون عندئذ من جنسه: دولة قتلة قوّضوا حرية شعب سورية بالقوة الغاشمة، بعد أن قوّضوا باستبدادهم ومروقهم القدر القليل من الحرية، الذي ناله شعب روسيا بثورته التي أجهضوها.