ما خرج السوريون للحرية ليحصدوا العبودية
ما خرج السوريون من أجل حريتهم، ليعودوا إلى العبودية ثانية. تحار بعض الألباب في إطلاق تسميةٍ على ما حدث ويحدث في سورية، وقد يكون من غير المجدي إعمال معايير وقياسات فلسفية وفكرية مشبعة بالدقة العلمية على ما حدث ويحدث؛ فالواقع أقوى وأعمق بكثير من كل فلسفة وعلم قياس أو معايير.
كان الهاجس الأساس لسلطة سورية، ومن يدعمها، نزع صفة "الثورة" عن ذلك. وهي تاريخياً أغرقت السوري ظاهرياً بالقضايا الكبيرة، وحظرت محاكمته المنطقية لهذه القضايا عبر اغتيال الحياة السياسية في سورية، ليتحول السوري، إثر ذلك، إلى حالة انفصام تهتم، كما يريد النظام، بتحرير فلسطين وتقلق على مياه النيل والتضامن العربي، وتخرس تجاه سرقة نفط البلد وهيمنة حيتان العائلة على الاقتصاد، وتنسى الحرية الشخصية والرقابة والمحاسبة. لقد جعل النظام الإنسان السوري يركض والرغيف يركض، من ناحية معدته؛ وفلسطين تركض وهو يركض وراءها من جهة دماغه.
لقد طوّعته سلطة الاحتلال المحلي، وحولته إلى مخلوق يزهق ماء وجهه يومياً، للحصول على حقه الطبيعي، ويعتبر خمسة دولارات زيادةً على مرتبه مكرمة من "القيادة الحكيمة" التي "يفديها بدمه وروحه"، وإلى كائنٍ يكاد يستخدم "وساطة" كي يحصل على حقه، أو حتى لكي ينام في فراشه.
أقنعته قيادته الحكيمة بأن هناك أولويات في "سياسة الدولة"، ففلسطين هي القضية المركزية، وها هو يكتشف حديثاً أن من يحتل فلسطين هو الأكثر حرصاً على بقاء جلاّده؛ ها هو يكتشف أن تلك المليارات التي أنفقتها قيادته الحكيمة في "شراء سلاح يدافع عن شرف الأمة"، وهو، في الوقت نفسه، يعجز عن شراء اللوازم المدرسة لأطفاله. أما الأسلحة فقد تم تبديدها على قتل هذا المواطن السوري، ومن ثم تنازل "قيادته الحكيمة" عن ذلك الاستراتيجي منها، لصالح محتل الأرض. يكتشف هذا السوري الذي وعى وعاش على كره أميركا أن من برمجه على ذلك يقيم علاقة حميمة معها، وأن المساهمة الأميركية في استمرار منظومة الاستبداد أكبر مما تصوّر. يكتشف هذا الذي فتح قلبه، قبل بيته، "لسيد المقاومة" أن استمرار عذابه وقتله ليس إلا على يد ضيوفه. ها هو السوري يكتشف فجأة أنه طائفي وإرهابي وخائن وقاعدي وهابي، لمجرّد أنه طلب قليلاً من الحرية والكرامة.
من هذه الخلفية التاريخية ومجرياتها، وإذا ما انتقلنا إلى اللحظة، التسمية الوحيدة لما حدث ويحدث في سورية، على الرغم من كل التشويهات والتشوّهات لا يمكن أن يكون إلا ثورة.. فريدة من نوعها، فعلى الرغم من التناقض الصارخ الحاصل بين طيف واسع غير منسجم من قوى الثورة، مدنية كانت أم عسكرية، إلا أن حالة الضياع والإحباط والإرباك والتناقض بين هذه القوى ليس إلا أمراً عابراً، وربما طبيعياً، لأن لا عهد لتلك القوى بالفعل الثوري الحقيقي المبرمج والممنهج؛ وهي ثورةٌ بلا فلسفة، وكل من اشترك فيها كان مكتوماً على نفسه من السلطة، ومن قوى قرّرت أن تستثمر بدهاء وتتاجر بفجور بالدم السوري.
مجموع تلك القوى الثائرة وما تحمله من أمراض لا حصر لها حالة زائدة؛ فجهد من انبرى بنيّة طيبةٍ وصدق فعلٍ كي يأخذ بيدها غير متكافئ مع دهاء النظام وقوته المتراكمة عقودا من حنكة سياسية مجرّبة، وأسلحة فتاكة، رُصدت للحظات كهذه. تدخلات قاتلة من الحريصين على بقاء النظام خلخلت الموازين، وسحبت القوى الثورية المقاومة في أحايين كثيرة إلى ساحة النظام والانجرار وراء خطابه، والتماثل مع تصرفاته. مرة أخرى، ذلك "الاستنقاع" في حالة الثورة ليس إلا مسألة عابرة، لا تشبه الثورة، وما هي من خواصها، ولا بد أنها حالة طارئة تزول بزوال المخطط المرسوم لسحبها إلى هذه الحالات الإحباطية المظلمة. ولا يغرنّ النظام سيطرته على الجغرافيا بفعل الاحتلالات؛ فالقضية السورية ما كانت أصلاً عسكرية؛ وما اختار بعض السوريين حمل السلاح إلا مرغمين أو واهمين. والنظام لا يسيطر على منطقةٍ إلا بعد أن يحولها له الروس إلى ركام، بفعل إنزال ما يساوي حجم مبانيها من الصواريخ والقذائف؛ وفي الوقت نفسه، يعيش فقط سريرياً بفعل عصابات قتلةٍ استجلبها من أصقاع الأرض.
شكل آخر لتجلي تصوير الثورة كتفصيل في الخارطة العالمية متضاربة الأنواء، أو زائدة دودية ملتهبة في الصراع الدولي، البارد حيناً والساخن أحياناً (قمة هلسنكي)، ليس إلا اعتداء على جوهر ثورة أهل سورية وروحها؛ فما هي عراكٌ عبثي بين مكونات الفسيفساء السوري، ولا هي حارة تتقاتل مع حارة أخرى، ولا مجموعة إثنية مع مجموعة آخرى، ولا معتقد ديني أو سياسي مع معتقد آخر. والأهم من ذلك، ليست ثورة سورية ثورة جياع؛ فالسوريون أحرار بجيناتهم؛ "وتجوع الحرة، ولا تأكل بثدييها". مئات بل آلاف السنين مرّت، وما شهد السوريون أو غيرهم ما يحدث في سورية. هناك بشرٌ بمشاعر وأحاسيس ورؤى وطموح وغضب وكرامة وقهر ودوافع وإحباطات وطغيان وإذلال وفساد وابتزاز وتهميش وضياع وانسداد أفق، فمن حالة السكون والهدوء والاستكانة، وجد أهل سورية أنفسهم منتقلين إلى حالة تاريخية ثائرة فاعلة وفعالة، تنظر بمصيرها ومستقبلها وتحرّرها... لا من أجل كمشة طحين، بل من أجل كمشة كرامة. سورية حُوِّلت، وعن عمد، إلى جسد منهك، سعى الجميع، وفي مقدمتهم، النظام، إلى سحق مناعته، وتحويله إلى ساحة صراعاتٍ، أبطالها دمى، شكلها ديني وسياسي، ثورة أهل سورية براء منه.
ومن هنا أقتبس أقوالاً لناشط ثوري سوري يطلقها بشكل سليقي ودون فلسفة موجِهاً كلامه لهؤلاء الذين يقولون إن الثورة قد سقطت: "الثورة السورية لم تسقط. وها هي تنطلق من جديد؛ فسقوط الأقنعة والفصائل والمكاتب الأمنية والامتيازات والرواتب لآلاف الأسماء الوهمية ليس سقوطاً للثورة. توقفُ الاقتتال بين بعض الفصائل المرتبط باختلاف الداعم ليس سقوطاً للثورة؛ وتوقف الاغتيالات ضد شرفاء الثورة وقادتها الحقيقيين ليس سقوطاً للثورة؛ وسقوط المتورّطين بالخطف والفدية، وتوقف نشاطاتهم ليس سقوطاً للثورة؛ وسقوط تجار الدين وشعاراتهم وإماراتهم ليس سقوطاً للثورة؛ وسقوط أبو قتادة وأبو القعقاع وأبو تالا ولالا؛ واكتشاف جحافل من الضفادع والمخبرين علانيةً ليس سقوطاً للثورة. كل ذلك كان مكابح وألغاماً زرعتها وولّدتها ظروف مريضة، ونظام متمرس بسحق كل من يقف في وجهه بطرقٍ لا يعرفها العالم. سقط الساقط فقط، سقط مَن لم يؤمن بثورة أهل سورية، ومَن لم يكن من أهلها يوماً؛ سقط، وبقيت الثورة بعناوينها النقية الصافية وبمداد وتضحيات مليون شهيد ومليوني معاق وجريح وآلاف المعتقلين.. سقط كل ذل، لكن ثورة الشهداء والمستضعفين هي فكرة وحق؛ والحق لا يسقط، والفكرة قيمة، والقيمة باقية لأنها حقيقة. من قال سقطت الثورة فهو من بين الساقطين مع من سبق لأنه لم يدرك معناها يوماً..".
من هنا أيضاَ، ما نشهد من محاولاتٍ لإعادة تأهيل نظامٍ لم يشهد التاريخ له مثيلا؛ ومن هنا كل تلك التصريحات الإسرائيلية والأميركية والروسية التيئيسية لأهل ثورة سورية بأن النظام هو الخيار الوحيد للإبقاء على سورية. أهل سورية مقتنعون أن من لم يكن مؤتمناً على حياتهم لن يكون مؤتمناً على سورية؛ إنه حريصٌ على مسألة واحدة، وهي بقاؤه حتى لو استلزم ذلك حرق سورية بأهلها؛ وهذا تثبته الممارسات التي يشهدها العالم، ويدعم تلك الممارسات لغاياته المريضة. من هنا، ما خرج أهل سورية من أجل حريتهم وكرامتهم، وضحّوا كل تلك التضحيات؛ ليعودوا إلى نير العبودية.