سوريا.. الامتحان الصعب
قبل شهور قلت على قناة تلفزيونية، إنني أدعو الله أن تعود سوريا كما كانت دولة واحدة غير ممزقة، وليكن النظام الخصم وحده نقاومه بالسياسة والسلم، دون احتلال روسي أو إيراني، وأن تخرج من سوريا الميليشيات التي تدفقت كطوفان ملأ ساحات سوريا بدماء شعبها وأغرق الجميع، يومها اعترض عليّ كثير ممن كانوا يأملون نصراً شاملاً، لم أكن أراه ممكناً، بعد أن تمزقت المعارضة عسكرياً وسياسياً، وقد خسرت دعمها الدولي.
ولا أحد ينكر أن الصراع مع النظام كان مجرد مطالبة بالحرية وبالكرامة، وكانت الاستجابة سهلة ويسيرة على الطريقة المغربية لو أن النظام اعترف بحق الشعب، لكنه استبد، وحول الصراع السلمي إلى مسلح، ولولا أن «حزب الله» دخل المعركة بشعارات طائفية، لبقيت شعارات الثورة لا تتجاوز حد الكرامة والحرية، ولولا أن النظام أطلق سراح المتشددين من سجونه، وهو يعلم أنهم سيسارعون إلى شعارات دينية، لما ظهرت «النصرة» وأمثالها ممن حاربوا شعار الثورة ورفعوا راياتهم السوداء، ولولا أن خطة جهنمية صنعت «داعش» وشغلت العالم بهذا التنظيم الفاجر لما ظهر تحالف دولي هدفه مكافحة «داعش»، حتى باتت قضية مكافحة الإرهاب هي الشغل الشاغل، بينما ملايين السوريين يقتلون ويشردون ويموتون تحت التعذيب، وقد باتت قضيتهم هامشية، وتحت راية مكافحة الإرهاب دمرت مدن وقرى واستبيحت حرمات، وانتصر الحسم العسكري الذي أعلنه النظام من البداية ونفذته روسيا بكل الوسائل، من الطائرات التي لم تتوقف عن القصف إلى ما سمي بخفض التصعيد الذي انتهى إلى مصالحات وإذعان.
أما وقد عاد النظام إلى جل المناطق التي كانت خارجة عليه، فإن ما تبقى على المجتمع الدولي الذي ادعى لسنوات دعمه لمطالب الشعب بالحرية والكرامة والديموقراطية، هو أمران أمام فداحة التراجيديا الدموية التي عاشتها سورية عبر ثماني سنوات، أولهما قانوني، وثانيهما أخلاقي.
فأما الأمر القانوني، فهو التزام مجلس الأمن والأمم المتحدة بتنفيذ القرار الدولي 2254 وما سبقه من قرارات ذات صلة، فما يجري حالياً هو تجاهل مطلق لهذه القرارات، وأخطرها تجاوز إقامة هيئة حكم انتقالي غير طائفي، فالقفز الحاصل نحو وضع الدستور قبل إنشاء الهيئة مخالفة معلنة للقرار 2254.
كانت روسيا التي أصرت على تنفيذ رؤية النظام بتنفيذ الحل العسكري وإهمال الحل السياسي، قد حظيت بتفويض دولي سراً وعلانية، والواضح أن العالم الذي صمت عامين على قيام «داعش» وميلشيات طائفية أخرى بإنهاء قوة «الجيش الحر»، لم يعد يجد أمامه معارضة مقنعة بأن تكون بديلاً عن النظام، فقد فرغت الساحة أو كادت ضمن خطة محكمة فلم يبق غير التنظيمات التي سمت نفسها بأسماء دينية، وأهمها «النصرة»، مع شتات من الفصائل التي بقيت من «الجيش الحر»، وقد توقف عنها الدعم، فصارت ضعيفة إلا من إيمانها بحقها في الدفاع عن الشعب ومطالبه، لكنها شغلت بمواجهة الإرهاب الذي استهدفها منذ البداية. وقد جاءت اتفاقية ترامب وبوتين (الموقعة في فيتنام) بعيداً عن قرارات مجلس الأمن، لتختصر القضية السورية في دستور وانتخابات، وعبرت الولايات المتحدة عن تخليها الكامل في رسالة وزعتها على الفصائل المعارضة في حوران، فكان السقوط المدوي، واليوم تتوجه الأنظار إلى إدلب أمام سلسلة من الاحتمالات، فالنظام يريد متابعة الحسم العسكري، وروسيا تعد بألا تتسع الحرب في إدلب، وتركيا تبحث عن مخرج سياسي عبر التمسك بخفض التصعيد، ولم يكن في لقاء آستانة الأخير، ما يطمئن ثلاثة ملايين مواطن في إدلب يترقبون الخطر القادم.
والوقائع تشير إلى أن النظام قد يسترد كل المناطق بفضل روسيا وإيران، ولئن كان في هذا الاسترداد حفاظ على وحدة سوريا وصد لأية خطة للتقسيم، إلا أنه يبدو مخيفاً من خطر الانتقام الذي يتوعد النظام به معارضيه، وقد جمعهم في إدلب وهو بالتأكيد لن يقول لهم (اذهبوا فأنتم الطلقاء).