معنى المفاوضات بين مجلس سوريا الديمقراطية والنظام
لم يتسرب شيء عن فحوى المباحثات التي جرت في دمشق، بين وفد يمثل «مجلس سوريا الديمقراطية» ووفد استخباري لنظام الأسد، بقيادة علي مملوك، ومن المرجح ألا يتسرب في وقت قريب. «اتفق الجانبان على تشكيل لجان تخصصية للتباحث حول مختلف الجوانب» هذا كل ما لدينا إلى الآن.
بعيداً عما قد يكون دار في ذلك الاجتماع، يمكن الحديث عن معناه أو معانيه، في سياق سيالة الأحداث السورية بأبعادها المحلية والإقليمية والدولية، كما عن مفاعيله في الرأي العام المحلي بانقساماته وانحيازاته.
يمكن القول، قبل كل شيء، إن حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يشكل لب مجلس سوريا الديمقراطية، هو بصدد إعادة تموضع استراتيجية، على ضوء الانسحاب الأمريكي المحتمل من سوريا الذي يضغط الرئيس ترامب على وزارة الدفاع بشأن تنفيذه. واضح أن الأمر أصبح مسألة وقت ربما يقاس بالأشهر لا بالسنوات. ويقال إن تفاهمات قمة هلسنكي بين ترامب وبوتين بشأن سوريا، هي التي سرعت من وتيرة إعادة التموضع المذكورة، فكان اجتماع دمشق تتويجاً لسلسلة اجتماعات سرية سبقته. يقال أيضاً إن الأمريكيين دفعوا باتجاه هذا التقارب من خلال مصارحة حليفهم الكردي بأن «المهمة انتهت» بالنسبة لواشنطن بالقضاء على دولة داعش، ولا مفر من عودة الحزب الكردي إلى علاقته السابقة مع النظام، ربما مع مظلة حماية روسية.
قد تعني إعادة التموضع، بهذا المعنى، تحالفاً روسياً ـ كردياً، لمرحلة ما بعد الانسحاب الأمريكي، لا بد أن ينطوي على أكثر من مجرد إعادة مناطق سيطرة «قسد» إلى سيطرة النظام، أو التوافق مع النظام على شكل من أشكال الإدارة الذاتية لحزب الاتحاد الديمقراطي مع شركائه في مجلس سوريا الديمقراطية أو بدونهم. ذلك أن الروس سبق وعبروا، في مناسبات عدة، عن رؤية لمستقبل سوريا تلاحظ وضعاً خاصاً للمناطق الكردية، يتراوح بين الإدارة الذاتية والكيان الفيدرالي المرتبط بالمركز على مثال ما هو قائم في شمال العراق.
من المحتمل أن روسيا التي حصلت على موافقة ترامب على استفرادها برسم مصير سوريا، قد تعمل على ملء الفراغ الذي يمكن أن يتركه انسحاب ـ جزئي على الأرجح ـ للميليشيات الموالية لإيران، تنفيذاً للرغبة الأمريكية، بقوات «قسد» وعمودها الفقري وحدات حماية الشعب (الكردية). فتكسب روسيا، بهذا الاستبدال، مرتين: تتخلص، من جهة أولى، من عبء الحليف الإيراني ومنَّته كحليف ميداني للطيران الحربي الروسي، وتكسب، من جهة ثانية، حليفاً ميدانياً مجرباً وأكثر طواعية، لا يتبع إيران ولا النظام الكيماوي، وإن كان لا يصطدم مع الأخير. وهذا ما من شأنه أن يمنح السياسة الروسية في سوريا هامش حركة واستقلالية أكبر عن كل من إيران والنظام الذي لا يبدي الخضوع الكامل في جميع الأمور، ولا تملك موسكو أدوات ضغط كافية لإخضاعه، وخاصةً فيما يتعلق بمسائل «الحل السياسي» الذي تريد موسكو فرضه على الأطراف.
هناك تكهنات، نابعة من الهواجس التركية الكلاسيكية، بشأن اتفاق مفترض بين النظام الكيماوي و«الوحدات» لاستخدام قوات الأخيرة في معركة السيطرة على إدلب. مع استبعادي لسيناريو من هذا النوع، بالنظر إلى ما سيخلفه تعاون من هذا القبيل من آثار مدمرة على العلاقات العربية ـ الكردية، تتجاوز كل ما سبق من أحداث مماثلة في الرقة وريفها وريفي الحسكة وحلب، لكن مجرد الابتزاز بهذا الاحتمال من شأنه دفع تركيا إلى ارتكاب حماقات قد تكلفها طرداً روسياً لقواتها من الأراضي التي تسيطر عليها في منطقتي «درع الفرات» وعفرين، إضافة إلى نقاط المراقبة التركية في محافظة إدلب، أي عملياً إخراجها من الصراع السوري والتسوية السورية.
إن «تفعيل» هذا الابتزاز روسياً، يتوقف على مدى استمرار توافق «ثلاثي آستانة»، روسيا وتركيا وإيران، أو تفجره المحتمل من الداخل، بالارتباط مع قدرة روسيا على التخفف من عبء هذين الشريكين بموازاة التفاهم مع واشنطن. ولكن من وجهة نظر حزب الاتحاد الديمقراطي، يستبعد أن يوافق على المشاركة في القتال في معركة إدلب، المؤجلة حالياً حتى إشعار آخر، كما فهمنا من المخرجات المعلنة لاجتماع «آستانة 10» الذي انعقد مؤخراً في سوتشي. فلا بد أن الحزب المذكور قد اتعظ من تجربة تحالفه مع الأمريكيين في الحرب على داعش، وتخلي الأمريكيين عنهم في معركة عفرين، فلا يكرر الخطأ نفسه مرة ثانية مع روسيا والنظام الكيماوي.
لعل أكبر المتوجسين من مباحثات دمشق بين النظام ووفد «مجلس سوريا الديمقراطية» هو تركيا التي بذلت الكثير من الجهود الدبلوماسية لإقناع واشنطن بفك تحالفها مع القوات الكردية، وكانت الثمرة الهزيلة لتلك الجهود، بعد سنوات، هي الدوريات التركية ـ الأمريكية المشتركة حول منبج (العربية!). وها هو كابوس جديد يقض مضجع أنقرة مفاده أن مظلة الحماية التي تتمتع بها القوات الكردية ستنتقل من الأمريكي المنسحب إلى الروسي الباقي الذي يريد، فوق ذلك، إشراك حزب الاتحاد الديموقراطي في مباحثات التسوية السياسية في سوريا.
أما كارهو «الاتحاد الديمقراطي» من البيئة العربية المعارضة في سوريا، ومع وجود أسباب وجيهة كثيرة لتلك الكراهية، فهم ينتقلون بطريقة عجيبة من اتهام الحزب الكردي (وأحياناً الكرد بعامة) بالنزعة الانفصالية، إلى اتهامه بالعمالة للنظام، ولا يرون التناقض بين الاتهامين.