إعادة القضية السورية إلى وضوحها
خسارة تلو خسارة، تستعيد القضية السورية وضوحها الأول. وضوح البدايات والمظاهرات قبل أن تُغرقها جحافل «جند الخلافة» وطوابير الميليشيات العراقية واللبنانية والأفغانية، في بحور الدم والعبث.
تتزامن خسائر الشهور الماضية التي أخرجت المعارضة من المشهد، مع انكشاف الثمن الإنساني الهائل الذي دفعه السوريون، وهم يتلقون لوائح بأسماء المئات من معتقليهم الذين قضوا تحت التعذيب في أقبية أجهزة المخابرات.
انحسار المعارضة بأجنحتها السياسية والعسكرية بعدما تحولت إلى أدوات في صراع الاستراتيجيات المتنافسة، يجب ألا يخفي حقيقة المطالب الواضحة والبسيطة التي خرج ملايين السوريين للمطالبة بها في ربيع 2011.
ويشترك النظام مع المعارضة في ضعف الصلة بتقرير مستقبل سوريا. فهذا ترسمه خرائط يحملها، على سبيل المثال، وزير الخارجية الروسي لافروف إلى تل أبيب، وتحدد عمق الابتعاد الإيراني عن حدود وقف فك الاشتباك في 1974، في إطار توازنات القوى الدولية والإقليمية. يرفض الإسرائيليون العرض أو يقبلونه، ذلك أمر لا علاقة للحكم في دمشق به.
لقد تقلصت مهمات الحكم إلى إدارة القمع الداخلي والاهتمام ببقائه في مكانه؛ بل إنه غير مطلق اليدين في هذه المهمة، إذ يتدخل «المفاوضون الروس» عندما يفرط عناصر الأمن المحليون في إذلال المواطنين. العقد الفاوستي الذي باع النظام فيه روحه إلى مَن أنقذه من السقوط المحتم، سحب منه الحق في المشاركة في إدارة اللعبة الكبيرة التي بدأت ملامحها في الظهور، على شكل مشروعات إعادة إعمار وإحياء الوظيفة الاستراتيجية لسوريا في المنطقة، ذلك أن الرهانات هنا يحسمها الإيرانيون والروس والإسرائيليون.
وبعد استيلاء الخارج على الخريطة السورية، وانهماكه في تقطيعها شرائح نفوذ وسطوة، وبعد انزياح شبح «داعش»، وقبول «هيئة تحرير الشام» (جبهة النصرة) بالوظيفة المرسومة لها كحارس حدود وأداة إقليمية احتياطية للصراعات الخارجية، وبعد فشل الفصائل المسلحة في الإطاحة ببشار الأسد؛ بل وفي تقديم نموذج مقبول لكيفية إدارة المناطق التي سيطرت عليها، يجوز القول إن الغبار الكثيف الذي أثارته سنوات القتال قد بدأ ينجلي، وأن السمات العامة لمشهد ما بعد الحرب راحت تظهر.
ولا نزال في بداية الانفصال بين الجانب الجيو - سياسي والاستراتيجي للصراع في سوريا وعليها، وبين الجانب الداخلي الذي يتناول علاقة النظام والشعب وشكل الحكم ومستقبله. ولا تفيد التقارير الإعلامية الآتية من سوريا في توقع ردود الفعل على لوائح الضحايا المدنيين لحملات الاعتقال الرهيبة التي أدارتها الأجهزة الأمنية، وليس معروفاً كيف سيتجاوب أهالي درعا مع شروط الاستسلام المهينة التي وزعتها السلطات على السكان (نشرتها «الشرق الأوسط» قبل أيام) والقاضية بتحويل الجميع إلى مخبرين لدى الأجهزة أو مواجهة الموت. ذلك أن المجتمع السوري قد أصيب برضّات على درجة من العنف والقسوة؛ بحيث يعسر توقع أي ردّ فعل صادر عن المجتمع حيال القمع المستأنف في المناطق التي عاد النظام إليها، والمستمر في الأنحاء الأخرى. كما أن أحداً لا يملك الحق الأخلاقي أو السياسي ليطلب من السوريين إحياء الثورة والمقاومة، بعد النكبات المتسلسلة التي ما زالوا يعانون منها.
كل ما تقدم يعيد إلى النقطة الأولى، إلى وضوح مطالب المظاهرات الليلية، وهتافات الشبان في الأحياء العشوائية والقرى ذات الطرقات الترابية. القضية لم تبدأ كصراع على موقع استراتيجي ولا على «حق» إيران في إمداد النظام وحليفها اللبناني بالسلاح والصواريخ. القضية في مكان آخر تماماً، خلاصتها كرامة السوريين وحقهم في اختيار من يحكمهم، وكيف يحكمهم. والعودة إلى بداهة المطالب وطبيعتها المباشرة تُعين على تعرية خطاب الحكم من أسلحته الثقيلة، على غرار «المؤامرة الكونية»، و«استهداف النظام التقدمي الوطني»، و«تمرير الهيمنة الإسرائيلية على المنطقة عبر مشاغلة محور الممانعة».
ويبدو أن النظام الذي نجح، بكفاءة عالية، في تحويل الأنظار عن جوهر الصراع ومكونه الداخلي الأساسي، باستغلاله ظواهر مثل «داعش» و«النصرة» ومن يشبههما، ليس في وارد تغيير ما استقر عليه منذ انقلاب نوفمبر (تشرين الثاني) 1970، ليس من ناحية احتكار السلطة وحصرها في جماعة طائفية - سياسية محدودة من الموالين والمنتفعين؛ بل أيضاً لجهة إصراره على احتلال موقع المفسر والشارح لأحداث العالم والتاريخ، وصولاً إلى الظواهر المحلية، على نحو يحيل أي اختلاف في الرأي إلى خيانة، وأي نقاش إلى مشروع تمرد وخروج على الدولة.
والحال أن التسويات ومشروعات الاتفاقيات الإقليمية والإجماعات الدولية على بقاء بشار الأسد في منصبه حتى نهاية ولايته الحالية على الأقل، تترك عملية صوغ مضمون النظام ودور مؤسساته إلى حوار كان من المفترض أن يتولاه السوريون؛ لكنه فشل في الإقلاع حتى الآن بسبب الاختلال الكبير في موازين القوى بين الأطراف، بما يبرر للنظام رفض مجرد الاستماع إلى وجهات نظر مختلفة، معتبراً أن الأمر قد قُضي، وأن الميدان قال كلمته ببقاء السوريين على حالهم في علاقتهم بالسلطة.
هل يعني ذلك أن الآمال التي حملتها الثورة السورية قد وئدت؟ وأن التضحيات الخرافية التي بذلها السوريون من أجل مستقبل أفضل وفي سبيل حريتهم قد انتهت؟ وأن لوائح القتلى تحت التعذيب هي كل ما سيناله أهالي المعتقلين والمخفيين قسراً؟ هل الاعتراف بالأمر الواقع يفترض طي صفحة الديمقراطية وتداول السلطة وحكم القانون في سوريا، والاستسلام إلى قدرية الاختيار بين استبدادين، ديني أو عسكري؟ ربما وحدها الأحلام تجرؤ على الإجابة.